دمشق

نائل الطوخي

الحوار المتمدن-العدد: 1091 - 2005 / 1 / 27 - 10:43
المحور: الادب والفن
    

1
زرت دمشق حوالي ألف مرة, و سينتهي بي الأمر إلى أن أموت فيها, و لذلك فقد حفظت كل تفاصيلها كما أحفظ تفاصيل بيتي الصغير, و لست أدري حقاً لماذا هذا فلست متيقناً من حبي لها غير أن الراجح أني قد أبصرتها و أنا فوق السور و كانت هي تشير لي أن أقفز لها, و كنت متأكداً أن تلك الحورية ليست إلا صورة زائفة غير أني أيضاً كنت متأكداً أنه لابد لي من القفز, و قفزت, و ابتلعتني هي.

2

حتى تدخل دمشق لابد لك من اجتياز الباب الضخم الذي يبدو اجتيازه لك سهلاً و لا خطورة فيه, غير أن اختراع حكاية لم تُقَل من قبل هو الشيء الذي لم يخطر على بالك, فعندما تمثل أمام الباب سيطالبك برواية قصة لم يقصها أحد من قبل و تكون هي الأعجب من بين كل ما تمت روايته منذ تأسيس المدينة و حتى اليوم, و نصيحة لك ألا تجهد عقلك في تأليف قصة ذات شعب و أبواب و فروع متباعدة و متداخلة كي تكون هي الأعجب (مثل قصة مزين بغداد مثلاً) فأحياناً ما تكون كلمتان أو حرفان هما المطلوبين منك, و بمجرد اجتياز الباب ستعرف لماذا كان هذا الطقس الغريب, فالمهنة الأساسية لكل من ستلقاهم هي الحكي, و عندما تجلس إلى أي أحد منهم ستفاجئ بحكايات لا تنفد (هل تذكر ذلك العجوز الذي ظللت مسحوراً بحكاياته و أنت جالس بجواره لأسبوع كامل لم تأكل خلاله أي شيء).

جغرافيا:
تطل مدينة دمشق على نهر عظيم يبدأ من أقصى الجنوب و يصب في أقصى الشمال, غير أنه عند المدينة يكتسي بازدهار خاص و يصبح مؤهلاً لقص كل ما صادفه في مدن الجنوب و ما سيصادفه في مدن الشمال, و على شمال النهر توجد خمسة أحياء تم بناؤها في عصور مختلفة, غير أنه و برغم اختلاف الطابع الخاص لكل حي فإن شيئاً ما سرياً يجمع بينهم (يؤكد هذا كل الرحالة الذين زاروا المدينة و كان مقدراً لهم أن تبتلعهم المدينة, مثلي أنا و مثلك), و في جنوب النهر توجد ستة أحياء منهم الحي الأول, ذلك الذي يقف شامخاً فيه قصر الحاكم, و من كل ركن فيه تنبع عيون الحاكم و جواسيسه منتهية إلى الانتشار في سائر أحياء المدينة و متكفلة جميعها بحماية غيبة الحاكم من أيدي السوء و ألسنة السوء و نيات السوء.

3
و في أي مكان ستتواجد فيه ستصادف واحداً من هؤلاء الجواسيس, و ستعرفه بنظراته الضيقة و معطفه الكحلي المغلق و شديد الأناقة, و إذا ما تحدثت معه فحاول أن تعرف أثر حديثك عليه حتى تتحاشى ما لا يروق له, و إلا فالأقبية المظلمة الرطبة تحت قصر الحاكم هي كل ما سيحيط بك لشهور عديدة.

تاريخ:
تعرضت دمشق للغزو عدة مرات, و في كل مرة لم ترفع سلاحاً في وجه الغازي و إنما كانت تضحك ساخرة منه, و عندما كان الغزاة يدخلون المدينة و يعسكرون في الحي الأول كان ثم وباء بشع يجتاحهم بعد ساعة من دخولهم المدينة و لا يبقي على أحد منهم ( و كأن الوباء يفهم أو يعقل, لم يصب دمشقي واحد به خلال الغزوات المتتابعة و كانت أجساد الغزاة تمتلئ بدمامل بيضاء و تنتفخ ثم تنفجر).

4
لن تشعر في دمشق بالرغبة في اقتناء مسكن, بل ستجد نفسك منذ أن تطأ أقدامك المدينة تتجول في شوارعها و لا تتوقف قط, و ستشعر بأن هذه المدينة لا تتوقف عن ابتلاعك متزينة بكل ما تحبه (تسألني إن كانت تعرف ما تحبه, و لكن يا عزيزي ألا تلاحظ أن السؤال شديد السذاجة), و في النهاية سترى نفسك و قد استقررت أخيراً في أحد بيوتها القديمة للغاية و الذي تفوح من أخشابه روائح العطارة, و سترغب في أن تحكي للمرأة العجوز الموجودة في ذلك البيت عن كل شيء, و مع كل لحظة ستزداد كلماتك صدقاً و تزداد أنت انتماء للمدينة و معرفة لحل اللغز الذي صادفك على بابها.

5
و لن تصادف أينما تسير إلا وجوهاً ثائرة و كلمات نارية, و لن يجعلك داء الحكمة الذي قتلك قديماً تفهم هذا, و لكن انتظر قليلاً و سترى أن هذه الثورة (تماماً مثل كل شيء في المدينة) قد ابتلعتك و حولت عينيك لجمرتين (رجاء انظر إلى صورتك قبل مجيئك المدينة و خبرني عن هذا الكهل ذي العينين الكابيتين و النظارة السميكة).

لغة:
ستعاني كثيراً حتى تستطيع قراءة الخط الدمشقي, و لن ترى في البداية إلا خطاً مستديراً و متشابكاً يتميز بانسيابه الشديد, و ستظل لأيام تحدق في ذلك الخط حتى تكتشف يوماً ما أنه فرع من تلك اللغة التي أتقنتها في أحد الأيام (لن تذكر أين و لا متى و لا كيف لم تتذكر ذلك في البداية) أما اللغة المتحدثة فهي أيضاً ليست لغة بلادك و لا أية لغة أخرى تعرفها بالرغم من أنك تفهمها جيداً بل و أكثر من ذلك تتحدث و تفكر بها.

6
و في النهاية (كما خبرتك من قبل) ستبتلعك الثورة و ستجد نفسك متورطاً في تمرد شامل ضد الحاكم و سيسحلك أتباعه و هم في عرباتهم حتى يصلوا بك إلى القصر الأول, و هنالك ستلقى في قبو رطب يتم جلدك فيه في كل يوم عشرة ألاف جلدة – بالإضافة إلى الحمى و الهزال – حتى تتحول إلى ظل باهت, و عندما تخرج من سجنك و يتجلى الحاكم أمام الناس ستهتف له بكل إخلاص, غير أن ذلك و لدهشتك لن يطفئ ثورتك ضده, و ستظل تدور في دائرة النار هذه (الهتاف للحاكم/ الثورة ضده/ السجن) حتى تسقط ذات يوم و قد أخذت في الذوبان على الأرض و على جثتك ستمنو شجرة تستعمل كأخشاب مشققة لبيت قديم تفوح منه روائح العطارة.

#نائل_الطوخي (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل