أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - في فلسفة اللغة















المزيد.....

في فلسفة اللغة


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 3730 - 2012 / 5 / 17 - 11:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الحاجات والضرورات (وفي المقام الأوَّل منها تلك التي لا بدَّ من تلبيتها والتوافُق معها، تفكيراً وممارَسةً، من أجل البقاء) هي (دائماً) المُعَلِّم الأوَّل والأعظم للناس؛ فإنَّها تَدْفَعَهُم إلى "التعلُّم"، وإلى "العمل"، الذي من طريقه يُغَيِّرون بيئتهم الطبيعية بما يَخْدُم أغراضهم ومقاصدهم.

و"الحاجة"، باشتدادها وضَغْطِها،هي التي تَشْحَذ الذِّهن والخيال، فيُوْلَد، من ثمَّ، وأخيراً، "الاختراع (أو الابتكار)"؛ وحاجات الإنسان تختلف وتتغيَّر باختلاف وتَغَيُّر الأمكنة والأزمنة؛ والحاجات (الإنسانية) تشبه "الشجرة"، بأصولها وفروعها؛ وثمَّة حاجات هي لجهة أهميتها، أو أهمية تلبيتها، كـ "أصل" الشجرة.

و"اللغة"، نشأةً وتطوُّراً، لا تَشُذُّ عن هذا "القانون"، قانون "الحاجة هي أُمُّ الاختراع"؛ فـ "اللغة" اختراع اخترعه الإنسان (أيْ "الجماعة" من البشر) إذ اشتدت حاجته إليه.

هل "الوعي" هو الذي اخترع "اللغة"؟

القائلون بـ "المثالية"، وبـ "حُكْم الوعي للعالَم (حُكْماً أُوتوقراطياً مُطْلَقاً)"، يجيبون عن هذا السؤال، وعلى البديهة، قائلين إنَّ "الوعي" هو مُخْتَرِع "اللغة".

لكن إجابتهم "المثالية" هذه تتمخَّض، ويجب أنْ تتمخَّض، عن سؤالٍ آخر، هو: "هل للوعي (الإنساني) من وجود قَبْل اختراع اللغة؟".

كلاَّ، لا وجود له، ولا يُمْكنه أنْ يُوْجَد؛ فلا "وعي" بلا "لغة".

إنَّني كثيراً ما سَمِعْتُ كاتِباً يقول (إذ استعصت عليه، واستغلقت، الكِتابة) إنَّ "الفكرة" موجودة في رأسي؛ لكنِّي لا أستطيع التعبير عنها.

كلاَّ، لا وجود لهذه الفكرة في رأسه؛ فإنَّ "الفكرة" التي لا يُمْكِنكَ (أبداً) التعبير عنها (ولو باللغة العامِّيَّة) هي فكرة لا وجود لها (أبداً) في رأسكَ؛ فالإنسان إنَّما يُفكِّر بـ "الكلمات"، أيْ بواسطتها؛ و"الفكرة" لا تَحْضُر في الذِّهن إلاَّ وهي مرتدية "كلمات"؛ فـ "اللغة" هي "وعاء الفكر"؛ فَمَنْ ضاق وعاؤه اللغوي، أيْ ضَعُفَت لغته، ضاق فكره، أيْ ضَعُف؛ فوسِّع وعاءكَ اللغوي (نَمِّ ثروتك اللفظية) يتَّسِع فكرك ويَثْرى؛ لكنَّ "الثروة اللفظية" كـ "الثروة المادية" لا نَفْع منها إذا لم يُحْسِن صاحبها "استثمارها".

"مُخْتَرِع" اللغة، التي من دونها لا وجود لـ "الوعي"، إنَّما هو "العمل"، الذي هو "اجتماعي"، لا "فردي (شخصي)"، الطابع؛ فـ "الإنسان" لم يَظْهَر على سطح الأرض إلاَّ بصفة كونه "فَرْداً من جماعة"؛ إنَّه "مجتمعٌ (وكائنٌ اجتماعي)" مُذْ ظَهَر.

لقد زاوَلَت الجماعة البشرية البدائية "العمل"، أيْ تغيير "بيئتها الطبيعية" بما يلبِّي حاجاتها الأوَّلية (المأكل والملبس والمسكن والأمن). وقبل أنْ تَخْتَرِع "الأدوات (أدوات العمل)" استعملت "أدوات طبيعية"، أيْ مأخوذة من الطبيعة مباشِرَةً، كالحجر والعصا وعِظام الحيوان؛ ثمَّ أصبح هذا "الكائن الاجتماعي"، أيْ "الإنسان"، "صانع أدوات (للعمل)".

ومع صُنْعِه "أدوات العمل"، وتَوسُّعِه في تغيير "بيئته الطبيعية"، وتأسيسه، من ثمَّ، لـ "البيئة الاصطناعية (أو الطبيعة الثانية)"، تَعاظَمَت "المَدارِك الحِسِّيَّة" للإنسان، ونما وتنوَّع مخزونه من "المعطيات الحِسِّيَّة"، أي ما تعطيه إيَّاه حواسه من أحاسيس مختلفة متنوِّعة.

"الطبيعة" نَمَّت في الإنسان من القوى والأعضاء والخواص ما جَعَلَه مؤهَّلاً لنشاطين متلازمين: "العمل" و"التفكير".

وهذا "التأهيل الطبيعي" ظَهَر، على وجه الخصوص، في "يد" الإنسان، و"انتصاب قامته"، وفي "دماغه (عضو التفكير)".

بفضل "اليد (الإنسانية البدائية)" أمْسَك الإنسان (مُنْتَصِب القامة انتصاباً بدائياً) بـ "أداة العمل (البدائية)"، فشرع يُغيِّر بها "بيئته الطبيعية"، خالِقاً "بيئة اصطناعية"، أو "طبيعة ثانية".

وهذه "القدرة (الطبيعية) على العمل" اقتَرَنت، في الإنسان، بـ "قدرة (طبيعية) على التفكير"؛ فتفاعلتا وتبادلتا التأثير.

"الطبيعة" لم تُنْتِج "وعياً"؛ لكنَّها أنْتَجَت "مادة في مقدورها التفكير"، وهي "الدماغ (البشري الحي)". وهذه "المادة المخصوصة (الدماغ البشري)" تتفاعَل مع "الطبيعة"، عَبْر "الحواس الخمس"، فتنشأ (وتنمو) المعرفة الحِسِّيَّة لدى الإنسان، وانطلاقاً منها تنشأ (وتنمو) المعرفة العقلية (المنطقية).

وفي "العمل"، وبه، اشتدَّت وتعاظَمت الحاجة لدى أفراد الجماعة البشرية البدائية إلى "أداة اتِّصال"، أيْ "لغة". ولقد جاءت "اللغة (المنطوقة أوَّلاً)" من "اللغة الحيوانية البدائية (الأُم)"، والتي قوامها "الصَّوْت (بتنوُّعه واختلافه). و"الصَّوْت (على هيئة صيحة تحذير وإنذار)" اسْتُعْمِل لدرء المخاطر (التي مَصْدَرها الأهم وحوش مفترِسة) عن أمن الجماعة البشرية البدائية.

ومن "الصَّوْت الإنساني"، وبتنوُّعه، نشأت "الكلمات الأولى"؛ وكانت "أسماء الأشياء (التي تهمُّ الجماعة البشرية البدائية)" الجزء الأهم من تلك الكلمات (المنطوقة).

لقد اخترعوا (بتواضُعهم واتِّفاقهم) طائفة (شرعت تتَّسِع وتنمو) من "الأسماء الجامدة"، والتي هي أسماء سُمِّيت بها أشياء من قبيل "رَجُل"، و"امرأة"، و"طفل"، و"نار"، و"كلب"، و"نهر"، و"شجرة"، و"قمح"؛ فـ "العمل"، الذي خَلَق "المجتمع الإنساني"، وَلَّد ونمَّا "الحاجة إلى الاتِّصال اللغوي (الاتِّصال بكلمات وأسماء من طريق النُّطق، قبل اختراع الكتابة والأبجدية)".

وعلى أساس "الكلمات (اللغة)" ينشأ وينمو وعي الإنسان منذ الطفولة؛ فبواسطة "الكلمات" نتبادل الأفكار؛ وأنتَ إذا كنتَ تُفكِّر في صمت فإنَّك تستعمل الكلمات؛ وعندما تتكلَّم مع نفسك، تُلْبِس أفكارك رداء الكلمات.

لكنَّ القول ("بواسطة الكلمات نتبادل الأفكار") يحتاج (معناه) إلى شرح وتوضيح؛ فربَّما يُفْهَم ويُفسَّر بما يخدم أغراض ومقاصد "المثالية اللغوية".

أصحاب التفسير المثالي لـ "اللغة" يقولون إنَّ "الفكرة المجرَّدة العارية من الكلمات (أي من "المادة")" تكون موجودة في رأس الإنسان، في عقله وذهنه؛ لكنَّها تُنْقَل من صاحبها إلى إنسانٍ آخر "بواسطة" ما يشبه "عَرَبة"، أيْ "الكلمة"؛ فعلى مَتْن "الكلمات" تُنْقَل "الفكرة".

كلاَّ، الأمر ليس كذلك؛ فـ "الكلمة (كل كلمة)" هي "حيِّز" مشغولٌ (مملوء) بـ "فكرة"؛ وليس ممكناً أبداً الفصل بين "الشاغِل" و"المشغول"؛ أمَّا "الفكرة المجرَّدة العارية من جِلْدِها اللغوي" فلا وجود لها أبداً في رأس الإنسان؛ فـ "الفكرة" إمَّا أنْ تَحضر "مرتدية" جِلْدها (الكلمات) وإمَّا أنْ تغيب.

واحسبُ أنَّ في مفهوم "القوَّة" Force في الفيزياء ما يَصْلُح لوصف الصِّلة بين "الكلمة" و"الفكرة"؛ فهذا الجسم (مثلاً) يؤثِّر بذاك، عن بَعْد، بواسطة "جسيم (عديم الكتلة)"، ينطلق منه، فيُصيب الآخر، حامِلاً فيه، أو على متنه، "التأثير"، أو "القوَّة"؛ وهذا النوع من الجسيمات يسمَّى "الجسيم الحامِل (الناقِل) للقوَّة (للتأثير)".

و"الكلمة" كمثل هذا الجسيم، تنطلق من إنسان إلى آخر، حاملةً فيها، أو على متنها، "الفكرة (أيْ "القوَّة"، أو "التأثير"، في مثالنا الفيزيائي)"؛ وكما يستحيل الفصل بين "الجسيم (الحامِل)" و"التأثير (المحمول)" يستحيل الفصل بين "الكلمة (الحامِلة)" و"الفكرة (المحمولة)".

وإنَّ من الأهمية بمكان أنْ نَنْظُر في "المعاجِم" لِنَقِف على التطوُّر التاريخي لمعنى الكلمة الواحدة؛ فانْظروا، مثلاً، إلى كلمتيِّ "أَنْف" و"ريح".

المعنى الأقدم والأُم لكلمة "أَنْف" يدلُّ على "عضو (في الوجه)" هو "الأنْف"؛ ولَمَّا رأوا الإنسان "المُتَكبِّر" يَشْمَخ بأنْفِه استحدثوا كلمة "أنَفَه" ليدل معناها على العِزَّة والحَميَّة.

أمَّا "الرِّيح" فهي "الهواء إذا تحرَّك"؛ وكلمة "رَوْح" تؤدِّي معنى مشابهاً. ولَمَّا رأوا من علامات الموت علامة "عدم دخول هواء (أو ريح، أو رَوْح) إلى الرئتين، وعدم خروج هواء منهما" اسْتَحْدثوا كلمة "رُوح (أو نَفْس)"، وأعطوها معنى يشبه كثيراً معنى "الرِّيح".

لقد استهلُّوا تأسيسهم للغة (البدائية) بكلمات أساسية، تُنْطْق نُطْقاً؛ وكانت "أسماء الأشياء (المهمة لهم)" هي جزءها الأهم.

لكنَّ "التسمية"، أو "صناعة الأسماء"، ليست بالأمر اليسير السَّهل؛ فإنَّ "المنطق" هو وحده الطريق إلى "التسمية". إنَّ أفراد الجماعة البشرية البدائية لا يُمْكنهم التواضع والاتِّفاق على تسمية هذا الشيء "شجرة" إلاَّ بعد بَذْلِهم "جهداً ذهنياً مخصوصاً" يسمَّى "التجريد"؛ فَهْم ينبغي لهم أوَّلاً أنْ يعرفوا أنواعاً عدة من الشجَّر (برتقال وتُفَّاح وزيتون..). ثمَّ ينبغي لهم أنْ يُدْرِكوا "المُشْتَرَك" من الصفات والسمات والخواص بين أنواع الشَّجر التي يَعْرِفون.

وكَشْف، أو اكتشاف، هذا "المُشْتَرَك" ليس بالأمر الذي تُنْجِزه "الحواس"، وإنْ كانت "معطيات الحس" شرطاً أوَّلياً لإنجازه. إنَّ أمره يعود إلى "العقل"؛ فـ "العين الثالثة"، وهي كناية عن "العقل"، هي التي في مقدورها رؤية "المُشْتَرَك (وهو الجوهري والأساسي)" من الصفات والسمات والخواص بين أنواع الشَّجر جميعاً.

الحيوان لا يُدْرِك (وليس في مقدوره أنْ يُدْرِك) هذا "المُشْتَرَك"؛ لأنَّ "التجريد (الفكري)" هو خاصية "الدماغ البشري"، أيْ خاصية الإنسان الذي هو، بالضرورة، عضوٌ في جماعة من جنسه، يعيش بينهم ومعهم، ويعمل بالتعاون مع غيره من أعضائها، ويُعبِّر لهم عن "الأشياء (والأفكار)" بـ "كلمات (منطوقة؛ ثمَّ مكتوبة)"، أيْ بـ "لغة".

وللتدليل على أهمية "القدرة على التجريد (الفكري)" أُجْرِيَت التجربة الآتية:

جيء بقرد، وعلَّمه الإنسان كيف يغرف (بمغرفة) ماء من برميل، ليُطْفئ ناراً.

ولَمَّا تعلَّم القرد، وَضَعوا له موزة، مُشْعلين حولها ناراً (فالموزة هي دافِعٌ قوي لقرد جائع).

وعلى مقربة من حلقة النار وَضَعوا له برميل الماء والمغرفة، فشرع القرد يغرف ماء من البرميل، ليُطْفئ به النار؛ فلمَّا أنجز هذه المهمة فاز بالموزة.

ثمَّ عُدِّلت التجربة؛ فالقرد وُضِعَ مع الموزة، التي حولها نار، ومع برميل الماء والمغرفة، فوق لوح خشب يطفو على سطح بركة.

القرد توجَّه فحسب نحو برميل الماء، وشرع يغرف منه الماء، ليطفئ النار، وصولاً إلى الموزة.

لم يذهب القرد إلى البركة ليغرف من مياهها؛ لأنَّ نشاطه الذِّهني لا يَعْرِف "التجريد"؛ وفي مثالنا هذا، لا يَعْرف القرد "الماء العام"، أيْ "المُشْتَرَك من الصفات والسمات والخواص بين ماء البرميل وماء البركة.

وهذا إنَّما يَدُلُّ على أنَّ "اللغة" و"المنطق" شيئان متلازمان، متَّحِدان اتِّحاداً لا انفصام فيه؛ فلا "لغة" بلا "منطق"، ولا "منطق" بلا "لغة".

الإنسان فحسب (وبصفة كونه كائناً اجتماعياً خَلَقَه "العمل") يستطيع وعي وإدراك الخواص المشترَكة (ومنها خاصية إطفاء النار) بين ماء البرميل والنهر والبئر والبحر..؛ ويستطيع، من ثمَّ، خَلْق "الماء العام"، أيْ "فكرة (أو مفهوم)" الماء.

ليس "الدماغ البشري"، وعلى أهميته، هو الذي يُنْتِج "الإنسان" و"الوعي" و"اللغة"؛ وإنَّما "العمل"، الذي مهما بدا بعضه فردي الطابع لا يمكن إلاَّ أنْ يكون اجتماعي الطابع؛ ولو قُيِّض لطفل بشري أنْ يعيش وسط جماعة من الذئاب (مثلاً) لَمَا أصبح "إنساناً"، ولَمَا تكوَّن لديه، وظَهَر فيه، شيء من "الوعي الإنساني"؛ فهذا الوعي كالعمل لا يكون، ولا يمكن أنْ يكون، إلاَّ اجتماعي الطابع.

قُلْنا إنَّ "اللغة" و"المنطق" شيئان مندمجان متداخلان، لا يمكن فَصْل أحدهما عن الآخر؛ لكن، ما هو "المنطق"؟

من طريق "التجربة" و"الخطأ"، تعلَّم البشر (أو اكتسبوا) مهارات مختلفة (متنوعة) تعيَّن عليهم نقلها من جيل إلى جيل (وهذا النقل مشروط بوجود لغة).

ومن التجربة العملية، ليس إلاَّ، تَعلَّم الإنسان أمراً في منتهى الأهمية، وهو أنَّه لا يمكنه فعل أي شيء يرغب في فعله، أيْ لكونه يرغب، فحسب، في فعله؛ فثمَّة قوانين مادية موضوعية ينبغي للإنسان موافَقَة فكره معها إذا ما أراد لفعله النجاح.

الإنسان، في سعيه المعرفي، إنَّما يستهدف الوصول إلى "الحقيقة"، أيْ إلى فهم الأمور فهماً يمْكن، عبر الممارسة والتجربة العملية، إقامة الدليل على صحَّته.

وتوصُّلا إلى "الحقيقة" لا بدَّ من إنشاء وتطوير منهج، يتأكَّد، عبر الممارسة والتجربة العملية، أنَّ أخْذَنا به يُوْصلنا إلى "الحقيقة"، التي ليس من ميزان نزنها به سوى ميزان الممارسة والتجربة العملية.

وهذا المنهج هو ما تواضع الفلاسفة على تسميته "المنطق"، متوفِّرين على إنشاء وتطوير قواعد ومبادئ له.

و"الفكر"، أو "التفكير"، ينبغي له أنْ يراعي، تلك القواعد والمبادئ، وأنْ يستمسك بها ويتقيَّد، إذا ما أراد صاحبه الوصول إلى "الحقيقة"؛ فمِنْ أين جاء "المنطق"، بقواعده ومبادئه، إلى رأس الإنسان؟

لم يجئ إلاَّ من مَصْدَرٍ واحد هو "التجربة العملية (الممارسة)" للإنسان في سياق صراعه ضدَّ الطبيعة؛ فـ "النجاح" و"الفشل" في التجارب العملية للإنسان هما ما فرضا عليه أنْ يكون "منطقيا في تفكيره". "والمنطقية في التفكير" لم تنشأ لدى البشر إلا بصفة كونها "شرط بقاء".

إنَّ "العمل" هو وحده الطريق إلى إنشاء وتطوير "البيئة الاصطناعية (أو "الطبيعة الثانية)"؛ وفي هذه البيئة، وبها، يَظْهَر "الإنسان"، و"الوعي"، و"المنطق"، و"اللغة"، ويشرع الإنسان ينفصل ويستقل عن "المملكة الحيوانية"، ويتحرَّر من سطوة قوى الطبيعة الغاشمة العمياء، ويتطوَّر في استقلال نسبي، لكنْ متزايد، عن قانون "الاصطفاء (الانتخاب) الطبيعي"؛ فتعرُّضه للبرد الشديد (مثلاً) لا يُنمِّي فيه الشَّعْر الحيواني؛ لأنَّه يقي نفسه شرور هذا البرد بثياب يصنعها.

الإنسان، في أوَّل ظهوره على سطح الأرض، وَجَد نفسه وجهاً لوجه أمام الطبيعة وقواها العاتية، يَسْتَهْلِك مِمَّا تُنْتِج من تلقاء نفسها، متوفِّراً (مع أفراد الجماعة التي إليها ينتمي) على جَمْع الثمار مثلاً.

لكنَّه ما أنْ أمسكَ بيده بأداة العمل البدائية حتى شرع يُغيِّر بيئته الطبيعية، مؤسِّساً، من ثمَّ، لبيئته الاصطناعية (والتي نراها الآن على هيئة مُدُن وقرى ومنازل وشبكة مواصلات ووسائل نَقْل وسدود ومصانع ومنتجات وآلات وأجهزة ومعدات وشبكة كهرباء ونظام للرَّيِّ..).

الإنسان يخضع، أوَّلاً، لتأثير الوسط الطبيعي؛ ثم يقوم هو نفسه بتغيير الوسط؛ ثمَّ يتغيَّر هو نفسه؛ فالإنسان يتغيَّر بالوسط (الطبيعي) الذي غيَّره.

و"البيئة الاصطناعية"، بكل مكوِّناتها وعناصرها، هي ثمرة التفاعُل بين "الذَّات" و"الموضوع". وفي المقارَنة بين "البيئة الطبيعية (أيْ الطبيعة)" و"البيئة الاصطناعية"، نرى أنَّ ثمَّة أشياء في الطبيعة لا يمكن أنْ يخلقها البشر (فهل يستطيع البشر خَلْق شمسٍ مثلاً؟!) وأنَّ مكوِّنات وعناصر "البيئة الاصطناعية" لا يمكن أنْ تخلقها الطبيعة (فهل تستطيع الطبيعة خَلْق "سيَّارة" مثلاً؟!).

وفي الصِّلة بين "البيئة الاصطناعية" و"الوعي (الإنساني)"، نرى أنَّ هذه البيئة (أو الطبيعة الثانية) لا تُوْجَد، ولا يمكنها أنْ تُوْجَد، من دون "الوعي"، الذي هو أيضاً لا يُوْجَد، ولا يمكن أنْ يُوْجَد، من دون "الطبيعة الثانية"؛ فهل وُجِد وعيٌ إنساني قبل (ومن دون) وجود "البيئة الاصطناعية"، ولو في هيئتها الأولى البدائية؟!

إنَّ "الذِّهن" هو "حيِّز معنوي (ذاتي) تَشْغُله الأفكار والأحاسيس"؛ ويمكننا تسميته "الواقع الذاتي"؛ وإنَّ كل ما يُوْجَد في خارج هذا "الحيِّز"، أيْ في خارج "الذِّهن"، يجب أنْ يكون، في الوقت نفسه، مستقلاًّ عنه؛ وهذا الموجود في خارج الذِّهن (وفي استقلال عنه من ثمَّ) هو وحده ما يُمْكِننا إدراكه بالحواس؛ فـ "المادي" من الواقع هو وحده المُدْرك، أو القابل للإدراك، حسِّيَّاً.

و"المادة"، في خاصية جوهرية لها، لا تتأثَّر، ولا يمكنها أنْ تتأثَّر، إلاَّ بـ "جنسها"، أيْ بـ "مادة"؛ فـ "الفكرة"، وغيرها مِمَّا يشتمل عليه الذِّهن، لا تؤثِّر بـ "المادة" إلاَّ من خلال "مادة"؛ فـ "الذَّات" لا تؤثِّر بـ "الموضوع" إلاَّ عبر قوى ووسائل وأدوات مادية. إنَّ أيَّ فكرة في رأسكَ لن تؤثِّر أبداً في العالم المادي إلاَّ عَبْر مادة، عَبْر قوى مادية، عَبْر "يدكَ" مثلاً.

إنَّ "مادة (شجرة ما مثلاً)" تؤثِّر بـ "مادة (مخصوصة)" هي "الدماغ"، فتَظْهَر في المادة المتأثِّرة أفكار وأحاسيس؛ وهذه الأفكار والأحاسيس لا يمكنها أبداً أنْ تؤثِّر بـ "المادة الأولى (أيْ الشجرة)" إلاَّ من خلال "مادة (اليد مثلاً)"؛ و"المادة الأولى" يمكن أنْ تكون على هيئة "كلمة" نُطِقَت، فسُمِعَت، فأنْتَجَت في سامعها إحساساً ما (إحساس بالغضب مثلاً). وهي، أيْ تلك "الكلمة المسموعة" تُنْتِج تغييراً ما في الواقع المادي الداخلي للسامع، فيَظْهَر، من ثمَّ، الإحساس (بالغضب مثلاً).

ضَعْ يدكَ في نارٍ، فتحترق يدكَ، وتشعر بالألم؛ وهذا "تأثير مادي مباشِر"؛ والآن افْتَرِض أنَّ أحداً من الناطقين بـ "لغتكَ"، أو بـ "لغة" تفهمها، قد "شتمكَ" قائلاً "أنتَ كلب"، فهذا هو "التأثير المادي (الصوتي، أو الصوتي ـ المرئي) الرمزي"؛ إنَّكَ "تغضب"، و"تشتمه"، وقد "تضربه"، فـ "رموز المادة، أو الرموز المادية، أو المادة الرمزية" تؤثِّر هي أيضاً؛ وهذه "الرموز" هي "اللغة".

لقد وُلِدَت "اللغة" على هيئة "أصوات"، أو "كلمات صوتية"؛ وقد خالطتها "إشارات (يدوية)"؛ وكان "اللسان" عضو اللغة، أو أداة (وسيلة) الاتِّصال (تبادل الأفكار والمشاعر) بين أفراد الجماعة البشرية؛ ثمَّ انضمَّت "اليد"، بـ "الإبهام" و"السبابة" و"الوسطى"، إلى "اللسان"، فتحوَّل "المنطوق" من الكلمات إلى "مرسوم" و"مكتوب"؛ لكنَّ "المكتوب"، أيْ "الكتابة" و"الأبجدية"، تَفَوَّق كثيراً على "المرسوم"، أيْ "اللغة التصويرية"، ومَثَّل "التفكير في درجته العليا".

حتى "الجسم كله" أصبح "لغةً (لغة الجسد)"؛ فإنَّ كثيراً من المعاني نَقِف عليها في إيماءات وأوضاع الجسم، وتعابير الوجه اللاإرادية.



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فساد الكِتَابة!
- لويس السادس عشر يُبْعَثُ عربياً!
- فكرة -الرُّوح- وكيف شَقَّت طريقها إلى رأس الإنسان
- مرَّة أخرى وأخيرة في محاورة -أعداء ماركس-!
- أعداء ماركس.. على هذه الشاكلة!
- -موتى- يَنْعُون -الماركسية-!
- في -حُرِّيَّة التعبير-
- دَعْهُمْ يَخْتَبِرون أوهامهم!
- -المجلس العسكري- يخوض -معركة الرئيس-!
- -الحياة- فلسفة!
- -الإحساس- من وجهة نظر -مادية جدلية-
- في هذا يكمن -سِرُّ قوَّته-!
- -أزمة- مصر تكمن في عدم اكتمال ثورتها!
- ما لَمْ يُقَلْ في -القرية العالمية-!
- -سادات- يلبس عمامة!
- عندما يُحْظَر قيام أحزاب -على أساسٍ ديني- في الأردن!
- معنى أنْ يزور نجاد -أبو موسى- الآن!
- الديمقراطية -الفَرْدية-.. الأردن مثالاً!
- -خُطَّة عنان-.. من -القبول النَّظري- إلى -الرَّفض العملي-!
- -قضية اللاجئين- في مناخ -الربيع العربي-!


المزيد.....




- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...
- جهاز كشف الكذب وإجابة -ولي عهد السعودية-.. رد أحد أشهر لاعبي ...
- السعودية.. فيديو ادعاء فتاة تعرضها لتهديد وضرب في الرياض يثي ...
- قيادي في حماس يوضح لـCNN موقف الحركة بشأن -نزع السلاح مقابل ...
- -يسرقون بيوت الله-.. غضب في السعودية بعد اكتشاف اختلاسات في ...
- -تايمز أوف إسرائيل-: تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن ...
- الحرب الإسرائيلية على غزة في يومها الـ203.. تحذيرات عربية ود ...
- -بلومبيرغ-: السعودية تستعد لاستضافة اجتماع لمناقشة مستقبل غز ...
- هل تشيخ المجتمعات وتصبح عرضة للانهيار بمرور الوقت؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - في فلسفة اللغة