أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مصر















المزيد.....



أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مصر


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3724 - 2012 / 5 / 11 - 09:16
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


أسطورة الفترة الانتقالية
وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مصر
1: تعيش مصر النظام الحاكم والشعب المحكوم، مصر الثورة والثورة المضادة، فى حالة اسم شهرتها رسميًّا وشعبيًّا هو الفترة الانتقالية. ومن المفترض أن تمتد هذه الفترة الانتقالية من 11 فبراير 2011، يوم الانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس مبارك تحت ضغط الثورة، ولإنقاذ النظام وحمايته، إلى اليوم الذى يقوم فيه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتسليم السلطة لرئيس الجمهورية المنتخب وهو ما يُفترض حدوثه فى موعد لا يتجاوز 30 يونيو 2012. ورغم مواعيد متعددة وأشكال متعددة جرى إقرارها أو اقتراحها لتسليم السلطة من العسكريِّين إلى المدنيِّين فقد صار 30 يونيو القادم هو الموعد الذى تم إقراره بصورة نهائية لا تشترط إلا إجراء الانتخابات الرئاسية قبل ذلك التاريخ. والمحتوى الذى ينطوى عليه هذا الحديث عن الفترة الانتقالية هو أن فترة ستمرّ بين إسقاط نظام مبارك بمختلف مؤسساته وقيام نظام جديد يستند إلى مؤسسات جديدة، تُوصف بأنها مؤسسات الثورة. ومن مضامين الفترة الانتقالية كما يوحى أولئك الذين صاغوا عبارة الفترة الانتقالية وفرضوها كإطار عام للتطورات الجارية فى الفترة المعنية إحلال نظام ثورة 25 يناير 2011 محل نظام العهد البائد، الاستبدادى الفاسد. غير أن النظام القادم (تماما مثل النظام الحالى) لن يكون نظام الثورة بل سيكون استمرارا لنظام مبارك البائد ولنظام المجلس العسكرى الحالى، لأن نظام الثورة يعنى ببساطة أن تحل الثورة بطبقاتها الشعبية وقيادتها وطليعتها الفكرية والسياسية محل نظام مبارك ونظام طنطاوى. غير أن المسار الفعلى للتطورات ترشِّح بوجه عام سيطرة إحدى القوتين الكبيرتين المتنافستين على السلطة: المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية أو الإخوان المسلمون على رأس الإسلام السياسى، دولة المجلس الأعلى والمخابرات من خلال السيطرة من وراء الكواليس على سلطات رئيس جمهورية يكون ألعوبة فى يد هذا المجلس، أو الدولة الدينية تحت أىّ عناوين تجميلية. ويتمثل الاتجاه الأساسى للتطورات فى استمرار حكم المجلس العسكرى من خلال سيطرته الفعلية على رئيس الجمهورية القادم بكل سلطاته الاستبدادية الواسعة. وتتراجع مخاوف سيطرة الإسلام السياسى على مؤسسات الدولة جميعا بما فيها رئاسة الجمهورية من خلال فوز عبد المنعم أبو الفتوح أو محمد مرسى، حيث يميل ميزان القوى بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى بصورة حاسمة لصالح المجلس العسكرى، كما تدل المشاجرات الناشبة منذ فترة بين الطرفيْن. وبالطبع فإن المجلس العسكرى هو الذى ينظم الانتخابات الرئاسية الوشيكة وبالتالى فإن معجزة فوز المعارضة الإخوانية بالرئاسة لا تمثل احتمالا كبيرا، ولا مبرر لافتراض نزاهة الانتخابات فى مصر التى لم تشهد مطلقا منذ انقلاب 1952 العسكرى انتخابات نزيهة، بالإضافة إلى تراجع شعبية الإخوان المسلمين والإسلام السياسى طوال ما يسمَّى بالفترة الانتقالية بحكم سياساتهم ومواقفهم المضادة للثورة الشعبية على طول الخط، وكذلك بحكم الانقسامات الحادة التى تجتاح فصائل الإسلام السياسى فيما بينها وداخل كل فصيل منها. والحقيقة أن رهانات الإسلام السياسى باءت بالفشل لأن سياسته اعتمدت على التحالف الذيلى مع المجلس العسكرى ضد الثورة فلم يكسب سوى پرلمان عاجز وخسر قلب الشعب، كما خسر من جديد ثقة القطاعات غير الإسلامية من الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية، وسرعان ما اتضح لكل من يهمه الأمر أن المجلس العسكرى إنما كان يتعامل معهم فى إطار استخدامهم خلال الفترة الانتقالية ليس إلا، إلى أن يتم إحراق ورقتهم فى لحظة ملائمة تأتى بصورة طبيعية أو يتم افتعالها افتعالا. ويكاد الفوز أن ينحصر فى عمرو موسى و عبد المنعم أبو الفتوح و محمد مرسى. وفى حالة فوز المرشح عمرو موسى يكون المجلس العسكرى قد ضمن سيطرة حديدية على الرئيس بكل سلطاته، أما فى حالة فوز أحد المرشحيْن الآخريْن والتفاف الإخوان والإسلام السياسى بوجه عام حوله فإنه سيكون بدوره مُجْبَرا على الخضوع لسيطرة المجلس العسكرى رغم مشكلات وأزمات ومشاجرات محتملة. وبالطبع فإن هذا الاحتمال ينطوى على مخاطر لأننا سنكون إزاء قوى سياسية إسلامية تعمل من أجل إقامة الدولة الدينية "الإسلامية" بل دولة الخلافة الإسلامية، وإزاء صراع بينها وبين النظام العسكرى من ناحية وبينها وبين القوى السياسية المدنية والديمقراطية والعلمانية من ناحية أخرى. ويبدو أن الاحتمال الأكبر هو إنجاح عمرو موسى والاعتماد على ولائه للنظام.
2: وإذا كان الاحتمال الكبير هو سيطرة المجلس العسكرى الأعلى من خلال الرئيس الأكثر احتمالا فإن هذا يعنى أن نَقْل السلطة من العسكر إلى المدنيِّين لا يمثل فى محتواه الفعلى سوى استمرار نفس النظام أىْ استقرار السلطة خالصةً للقطاع الأكثر قوة من قطاعات الثورة المضادة أىْ القيادة الحالية للجيش كرأس حربة لذات الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية مع تراجع الإسلام السياسى إلى موقع المعارضة رغم أنه تعبير سياسى عن قطاع من قطاعات ذات الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية. ومعنى هذا هو الانتقال فى نهاية الفترة الانتقالية من النظام الرأسمالى التابع برئاسة مبارك إلى نفس النظام بدون مبارك (كما هو الحال الآن أيضا قبل تسليم السلطة المزعوم للرئيس المدنى المنتخب). ولكى نرى بوضوح الطبيعة الزائفة لنقل السلطة إلى الرئيس القادم، يمكن أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال: ماذا ستكون شعاراتنا منذ اليوم الأول لتسليم السلطة للرئيس العتيد؟ ستكون بالطبع نفس الشعارات: الشعب يريد إسقاط النظام، لا لحكم العسكر من وراء الكواليس، لا للدولة الدينية، دستور جديد ديمقراطى يقوم على المواطنة دون تمييز بدلا من الدستور الذى يجرى إعداده الآن، الحريات السياسية، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الأجور العادلة المربوطة بالتضخم وتطوُّر الأسعار، الرعاية الصحية المجانية للمواطنين، استقلال القضاء، استقلال الصحافة، التعليم الجيد المتطور المجانى للجميع! فماذا يعنى هذا سوى أن النظام البائد هو الذى سيستمر متنكِّرا فى زىّ النظام الجديد، نظام الثورة المزعوم؟! على أن الوضع الذى يبدأ بما يسمَّى بتسليم السلطة سيكون أسوأ أضعافا مضاعفة بفضل استخدام المجلس العسكرى لسلطات الرئيس وتضاعُف سيطرته الفعلية بالتالى، ومعنى هذا أن المجلس سوف يتمتع بمزايا السلطات الرئاسية دون أن يكابد ويلاتها التى سيكون على الرئيس الجديد وحده أن يكابدها. ولا غرابة فى كل هذا. فجميع رؤساء الجمهورية منذ انقلاب 1952 العسكرى ظلوا يعتمدون على المؤسسة العسكرية والمخابرات والأمن وكان الفرق يتمثل فى أيهما يسيطر على الآخر: الرئيس أم الجيش؟ ولكنهم جميعا كانوا يحسبون ألف حساب للجيش الذى كان ينبغى دائما إغراقه فى المزايا والامتيازات حيث لم تكن تكفى شعبية أو إنجازات هذا الرئيس أو ذاك لموازنة قوة الجيش؛ خاصةً إذا كان الرئيس مجرَّدا من الإنجازات الحقيقية، أو عندما كانت كوارثه تقلِّل من وزن إنجازاته أو تؤدى إلى تحييدها.
3: وعند تسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب، يمكن أن نتصور انتقال الإخوان المسلمين وبقية قوى الإسلام السياسى إلى عقد الصفقات الصغيرة مع النظام الجديد القديم بعد أن يتضح تماما أن "نقبهم على شونة"، كما يقال، وبعد أن يكون حلمهم قد استحال إلى كابوس. ذلك أن الثورة الشعبية منحتهم حلما كبيرا أقاموه على أساسيْن هما، من ناحية، انضمامهم إلى الثورة خلال أيامٍ فى يناير وفبراير 2011 حيث اعتبروا أنفسهم الممثل الرئيسى إنْ لم يكن الوحيد للثورة إذ يروِّجون لأكذوبة أنه ما كان للثورة أن تنجح بدونهم، كما يفعل المجلس العسكرى أيضا، ومن الناحية الأخرى، حقهم الطبيعى، فيما يتصورون، فى الحصول على المكافأة والتعويض من الدولة التى اضطهدتهم طوال ستين سنة. وصحيح أن الدولة اضطهدت الإخوان المسلمين واضطهدت غيرهم واضطهدتهم أكثر من غيرهم كخط عام فى سياق الحل الأمنى ضد الإخوان والشيوعيِّين وغيرهم بدلا من الصراع الفكرى والحرية والتعددية؛ رغم فترات من التهادن والتعاون مع الإخوان المسلمين من خلال صفقات مشينة فى بعض الفترات خاصةً فى عهدىْ السادات و مبارك. غير أن الاضطهاد قد يرتِّب حقوقا أخرى ولكنه لا يرتِّب الحق فى الحكم لا للإخوان ولا لغيرهم. ويتجاهل الإخوان المسلمون ومختلف فصائل الإسلام السياسى أنهم انضموا إلى الثورة بروح الانتهازية للحصول على مغانمها بدليل أنهم كانوا يمثلون قطاعا أساسيا من قطاعات الثورة المضادة طوال الفترة المسماة بالانتقالية. وعندما نشبت خلافات أدت إلى مشاجرات بينهم وبين المجلس العسكرى يحاولون الآن أن يربطوا قوى الثورة بعجلتهم لاستخدامها فى تحركاتهم فى سياق مشاجراتهم ضد العسكر، تماما كما استخدمهم العسكر فى الفترة السابقة، مع الاستعداد لبيع هذه القوى عند أول منعطف سياسى أو عند أول صفقة متواضعة مع النظام الحاكم.
4: وقد تمثَّل حلم الإخوان والإسلام السياسى فى حكم مصر وتحويلها إلى دولة دينية (بل إلى دولة الخلافة الإسلامية وإنْ بعد 500 سنة كما يصرِّح محمود غزلان، الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين، دون مواربة) من خلال السيطرة على النظام والطبقة الرأسمالية والشعب فى سياق "مذاهب" هى فى حقيقتها "أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء"، كما يقول أبو العلاء! ومن الجلى أن هذا الحلم ينكسر فى الوقت الحالى، وسيكون عليهم أن ينتقلوا بسرعة من الحلم إلى العِلْم، عِلْم موازين القوى فى الواقع الفعلى وليس فى أحلام اليقظة، وسيكون عليهم بالتالى أن يتراجعوا بصورة منظَّمة مع إثارة سحابة كثيفة من الإيحاء بأجواء معركة لم يستعدوا لها ولا يريدون خوضها.
5: ومع هذا ظل معظم الثوار يسيئون فَهْم العلاقة التى بدتْ ملتبسة بين المجلس العسكرى والدين السياسى، فقد تصوروا أحيانا أن الإخوان مع الشعب ضد العسكر فذهبوا إلى حد المطالبة بتسليم سلطات رئيس الجمهورية إلى الپرلمان الإخوانى الوهابى أو رئيسه أو لجنة يقوم بتعيينها، وهذا بحجة أنه المجلس الذى جاءت به انتخابات نزيهة؛ مع أنها لم تكن انتخابات نزيهة ولا يحزنون. وتصوَّر الثوار فى أحيان أخرى أن المحتوى الفعلى لهذه العلاقة الملتبسة يتمثل فى تحالف مقدَّس بين أطراف داخلية وخارجية تريد أن تحكم مصر بالإخوان المسلمين، ومن هنا كان من السهل أن ينظر الثوار إلى أىّ مشاجرة بين الطرفيْن على أنها تجرى فى إطار توزيعٍ للأدوار يقوم به تحالف جرانيتى أو فولاذى بين العسكر والإخوان. وبالطبع فقد قاد افتضاح أمر السلوك السياسى المُعادى للثورة لدى الإسلام السياسى بكل وضوح إلى الشعار الصحيح وهو إسقاط العسكر والإخوان والوهابيِّين جميعا. وسقط شعار "الإيد الواحدة" مع كلٍّ من الإخوان والعسكر على السواء. ومع هذا فإن الشعار الإخوانى البراق عن "ثورة الميدان والپرلمان" أخذ يضلل الكثيرين من الثوار، ويجدِّد خرافة "الإيد الواحدة" مع الإسلام السياسى، ليلتفّ نضالهم فى الحقيقة فى مليونيات ومسيرات بعينها حول هذا الفصيل أو ذاك من فصائل الإسلام السياسى مع أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. وهكذا نجد الثوار يناضلون أحيانا تحت رايات زائفة، وأحيانا كثيرة بشعارات خاطئة وزائفة ومفتعلة، وكأننا فى حفلة زار ليكون علينا أن نجرى مهرولين نحو الاتجاه الذى يأتى منه صوت طبلة الزار، وليس كل هذا سوى النتيجة المنطقية للوعى التلقائى الذى يحكم حتى حركة كثيرين من قيادات الثوار.
6: وبالطبع فإن الطبقات العاملة والشعبية وقياداتها الثائرة والثورية هى التى تواجه بوصفها الثورة مختلف قوى الثورة المضادة أىْ الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة ونظامها ومجلسها العسكرى ومختلف قطاعاتها الأخرى من الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية ورجال الحزب الوطنى ونظام مبارك فى السياسة والإدارة والاقتصاد. وإذا كانت الثورة المضادة منقسمة، كما نرى بوضوح، بين هذه القطاعات السياسية المتنوعة فإن هذا يضعفها ويعزِّز نقاط ضعفها ويمثل قوة مضافة إلى قوى الثورة غير أن هذا لا يعنى بحال من الأحوال أن الثورة المضادة ضعيفة أو هشة أو أن من السهل الهجوم عليها للإطاحة بها فى مدى منظور. وهنا تتعدد وتتكاثر الأوهام والشعارات البراقة المضلِّلة والرايات الزائفة.
7: ومن الأمثلة البارزة على هذا ذلك الإلحاح الشديد على شعار تسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب فى 30 يونيو 2012، فهذا الشعار هو شعار وهدف وتخطيط ومؤامرة المجلس العسكرى، وقد فُرِض عليه هذا التاريخ غير أن تسليم السلطة إلى الرئيس المدنى المنتخب هو هدفه الحقيقى الذى يحقق مصلحته. لماذا؟ لأن قوة السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى سوف تتضاعف بانتخاب الرئيس وتسليمه السلطة، لأنه، من خلال السيطرة على رئيس الجمهورية "الأراجوز" المحتمل، سوف يسيطر من وراء الكواليس على سلطاته الواسعة فيستخدمها لصالحه دون أن يُلْقَى عليه اللوم عن كل ما هو مسئول عنه من الناحية الفعلية. فهل يجوز أن يكون شعارنا هو نفسه هدف المجلس العسكرى ولصالحه؟! ويمكن أن نُلْحِق بهذا الشعار شعارات أخرى يركِّز عليها الثوار ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. ففيم يهمنا فى هذا الوضع المؤقت جدا حقيقة أن المادة 28 من الإعلان الدستورى مادة استبدادية فيما يخص الانتخابات الرئاسية وخاصة بعد أن صارت تلك الانتخابات وشيكة للغاية بل حلَّ موعدها بالفعل، وهل ينبغى أن نقدِّس شعارات مشاجرات الإخوان مع العسكر أو هؤلاء مع أولئك؟! وينطبق الشيء ذاته على إعادة تشكيل لجنة الانتخابات. وإذا كانت هذه "الإصلاحات" القانونية تحتاج إلى وقت فهل معنى هذا هو التسليم بتأجيل الانتخابات الرئاسية وبالتالى تأييد تأجيل تسليم السلطة، رغم كل هذا الإصرار من جانب قطاعات واسعة من الثوار على هذا التسليم؛ مع أنه ليس سوى هدف المجلس العسكرى ومؤامرته ضد الثورة؟! وبالطبع فإن شعار إسقاط النظام وشعار إسقاط حكم العسكر شعاران أساسيان للثورة وينبغى عدم التخلى عنهما فى أىّ احتجاج أو تظاهر أو اعتصام أو إضراب؛ ولكنْ أليس من الخطأ الفادح اشتراط تحقيقهما لفض الاعتصام أو الإضراب؛ مع أن التجربة علَّمتْنا مرارا أن الاعتصامات تنفضّ فى النهاية دون تحقيق أىٍّ من الشعاريْن ما دام الهدف الذى ينطوى عليه الشعار أكبر بما لا يقاس من حجم وعمق الحشد الجماهيرى القائم فى لحظة بعينها، مع أن ربط اعتصامات الفترة الأولى للثورة ضد مبارك بشعار إسقاط النظام وإسقاط مبارك ورحيله الفورى كان الشعار الصحيح الذى صنع ذلك الانتصار الكبير، وذلك على وجه التحديد بفضل مستوى الحشد الجماهيرى الملايينى فى كل أنحاء البلاد وقدرة ذلك الحشد الشعبى الأعزل على إلحاق الهزيمة الساحقة بكل قوات وأجهزة وزارة الداخلية المصرية، أىْ الأداة الرئيسية للقمع الداخلى.
8: ورغم أن المحتوى الموضوعى للثورة، أىْ تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل، بالتفسير العميق لهذه الديمقراطية، يُوجب تحقيق أهداف كثيرة متنوعة للغاية وقابلة فوق ذلك للربط بفض الاعتصام أو الإضراب فإن هذا الربط يظلّ غائبا فى أكثر الاعتصامات؛ مع أن تحقيقها سبيل مباشر من سبل تحقيق هذه الديمقراطية. ويؤدى إلى هذا الانحراف من جانب الثوار بالثورة تركيزهم على ما هو فوق، بدلا من التركيز على ما هو تحت. وهذا منطقى جدا. فقد كان هدف الثورة هو إسقاط النظام بما فى ذلك الرحيل الفورى لرئيس الجمهورية الطاغية ورجاله؛ ومن المنطقى والحالة هذه أن ينشأ عن ذلك الموقف الثورى السليم الرائع نوع من التفكير المرتبط بالتغيير من أعلى، من فوق، من القمة، ويرتبط ذلك بتصور وهمى عن أن الديمقراطية تعنى أن تكون السلطة أو الدولة ديمقراطية، أو أن يكون المجتمع ديمقراطيا، أو أن يكون البلد ديمقراطيا. وهذا وَهْمٌ ساذج فالديمقراطية لا تعنى سوى الديمقراطية الشعبية من أسفل، من تحت، من القاعدة، ولا تعنى بحال من الأحوال أن النظام السياسى الحاكم ديمقراطى. وهناك وَهْمٌ يتصور أن الديمقراطية تتمثل فى الديمقراطية المباشرة المتمثلة فى ناخبين بحكم حقهم الطبيعى كبشر عند بلوغ عُمْرٍ بعينه، وفقا للقانون أو الدستور فى هذا البلد أو ذاك، يقومون بانتخاب پرلمان يقوم بالتشريع فى إطار الفصل بين سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية متوازنة (وتتمثل الوحدة رغم هذا الفصل الوظيفى فى حقيقة أن التشريعات والقوانين التى يسنّها الپرلمان هى أساس عمل كلٍّ من السلطة القضائية والسلطة التنفيذية التى يترأسها رئيس الجمهورية فى الجمهورية الرئاسية أو رئيس الوزراء فى الملكية الدستورية أو الجمهورية الپرلمانية؛ والحزب أو التحالف الحزبى الذى يشكل الأغلبية الپرلمانية هو الذى يشكل الحكومة وقد يأتى منه رئيس الجمهورية أيضا). والحقيقة أن اعتقاد أن الديمقراطية تتمثل فى مثل هذا البنيان للدولة ومؤسساتها ليس سوى وَهْمٍ من الأوهام الساذجة لأن الانتخابات الپرلمانية والرئاسية تزيِّف إرادة الشعب فى كل البلدان والمجتمعات وتمنح الأغلبية للممثلين السياسيِّين لمصالح الطبقة الرأسمالية الإمپريالية أو الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية ويجرى بالتالى سنّ تشريعات وقوانين لتحقيق مصالح الطبقة الاستغلالية المالكة و/أو الحاكمة. وبالتالى ينبغى التقليل من التركيز الشديد على بنيان السلطة وزيادة التركيز بدلا من ذلك على الأسفل، على تحت، على الديمقراطية الشعبية من أسفل، على تطوير نضالات الشعب وأدوات نضاله، والعمل عن طريق مختلف وسائل النضال المشروعة على تحقيق مصالح الشعب الجزئية والعامة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتصبّ جميعا فى الديمقراطية الحقيقية، بمستوياتها المعيشية العادلة، والرعاية الصحية الحقيقية، وحرياتها وحقوقها الديمقراطية، بامتلاك وممارسة وسائل وأدوات النضال، وتمتعها بالقضاء الطبيعى المستقل والصحافة الحرة وغير ذلك.
9: على أن زمن الثورة يستدعى بالضرورة الفعل الثورى والنضالات الثورية. وهناك بالطبع مَنْ يبشروننا بأن الثورة تمت سرقتها وهزيمتها وتصفيتها وبأنها صارت فى ذمة التاريخ، وتنتج من مثل هذه النظريات الزائفة، التى يُطْلقها بُوم الثورة المضادة وبُوم الثورة أيضا فى كثير من الأحيان، إحباطات لا نهاية لها لدى جمهور وقيادات الثوار. وترجع هذه الإحباطات المريرة إلى تصورات بأن الثورة تجتاح كل شيء كعاصفة، كإعصار، فيتغير كل شيء وينقلب كل شيء رأسا على عقب بسرعة بالغة وإلا سُرقت الثورة وهُزمت. وهذه التصورات ليست سوى أوهام لا أساس لها من المنطق أو العلم أو التاريخ. ذلك أن تاريخ الثورات يشهد بأنها عملية طويلة قد تمتد سنوات، كما يوضح العلم الاجتماعى والسياسى أن الحقائق القائمة فى مجتمع ما أشياء عنيدة ويحتاج تغييرها وتحويلها إلى جهود جبارة وتضحيات هائلة وفترة ممتدة من الزمن. وتعرف الثورة لحظات المدّ والجزر، الصعود والهبوط، النضالات المشهدية الدراماتيكية وكذلك ما لا يُحْصَى ولا يُعَدّ من النضالات الصغيرة والجزئية التى تصبّ فى نفس الاتجاه إذْ تحقق فى حد ذاتها أهدافًا ومصالحَ للطبقات الشعبية كما تتشابك وتتضافر أنشطتها المتزامنة مهما تفرَّقتْ ونتائجها التى تتحول إلى أسباب جديدة لتطوير الثورة لتمهِّد لنضالات أوسع وأعمق. فلا مبرِّر إذن لما نشهده من إحباط مرير كلما انتهت مظاهرات أو اعتصامات أو إضرابات دون أن تحقق أشياء بارزة ملموسة. ولا مبرِّر لمثل هذا الإحباط مهما يكن الألم مبرَّرا كلما ارتكب المجلس العسكرى الحاكم مذبحة أو جرى استخدام قوات الجيش أو الشرطة العسكرية أو الأمن بوحشية؛ فليس هذا سوى السلوك الوحيد المتوقع من طبقة استغلالية تدافع عن بقائها ويستحيل أن تضع هذه الوحشية حدًّا للثورة طالما كانت هذه الأخيرة تواصل نضالاتها التى تنبئ بأن الثورة مستمرة وتزداد انتشار وعمقا فى طول البلاد وعرضها. والحقيقة أن الثورة تتواصل وتتفجر ما تزال بكل عنفوانها وهى ما تزال قادرة على أن تحقق بالشعب وللشعب الذى انطلق من القمقم الأهداف التى تنطوى عليها ثورته، ببساطة لأنها لم تتحقق، وببساطة لأن معاناة الطبقات الشعبية تضاعفت، وببساطة لأن الشعب لم يترك الميدان لا بالمعنى الحسى، المادى، ولا بالمعنى المجازى.
10: ومن المضامين التى تنطوى عليها فرضية الفترة الانتقالية فى الحدود الزمنية المذكورة وفى حدود استكمال المجلس العسكرى لمهام إعادة بناء مؤسسات الدولة، اعتبار أن الفترة الانتقالية تمثل فترة فاصلة بين الثورة قبلها واستقرار دولة المؤسسات من جديد بعدها بحيث تكون الفترة الانتقالية فترة تصفية الثورة عن طريق قمع مبادراتها ونضالاتها من ناحية وإعادة بناء مؤسسات الدولة من الناحية الأخرى، وبحيث تعنى نهاية الفترة الانتقالية نهاية حاسمة للثورة وبداية جديدة حاسمة للدولة، دولة ونظام ومؤسسات الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية العالمية بقيادة الإمپريالية الأمريكية. وعلى القوى الحية للثورة، فى سبيل إفشال مخطط ما يسمَّى بالفترة الانتقالية، أن تعمل بوعى ناضج على استعادة مبادرة النضالات الثورية بصورة مستقلة عن البرنامج الذى وضعه المجلس العسكرى والإسلام السياسى معًا للفترة الانتقالية، مهما تصاعد الصراع السياسى بين أنصار الحكم المباشر أو غير المباشر للعسكر وأنصار الدولة الدينية تحت تسميات متباينة ذات محتوى جوهرى واحد. وتشترط استعادة المبادرة فى النضال الثورى موقفا حاسما محتواه الجوهرى: لا وألف لا للحكم العسكرى المباشر أو غير المباشر؛ لا وألف لا للدولة الدينية (جمهورية مصر الإسلامية) ومختلف الأدوات والنضالات التى تؤدى إليها، لا لأىّ تحالف أو تعاون مع المجلس العسكرى ضد الإسلام السياسى أو غيره، ولا لأىّ تحالف أو تعاون مع الإسلام السياسى ضد المجلس العسكرى أو غيره. وعلى الحركة أو الحركات الثورية أن تركز على الأهداف الأساسية الحقيقية للثورة بعيدا عن النضال الثورى المزعوم على خلفية الصراع بين الإخوان المسلمين والمجلس العسكرى.
11: وإذا وضعنا نصب أعيننا الهدف الجوهرى الذى تنطوى عليه الثورة السياسية الشعبية فى مصر (وكذلك فى البلدان العربية الأخرى) وجدنا بسهولة ويسر، بفضل هذه البوصلة التى لا تخطئ، الأهداف والمطالب والشعارات التى تنبع منه وتتفرَّع عنه وتنسجم معه. والهدف الجوهرى للثورة يمكن استنتاجه استنتاجا من طبيعتها المستخلصة من وقائعها وتطوراتها ومساراتها ومختلف نضالاتها ومن الحقائق والمعادلات التى تحيط بها. ويتمثل هذا الهدف أىْ محتوى الثورة فى الديمقراطية الشعبية من أسفل، كما أكرر فى مقالاتى بصورة ثابتة إلى حد الملل. والحقيقة أن الشعارات الأساسية للثورة وعلى رأسها شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" تنبع من هذا المحتوى الجوهرى للثورة. فما هو معنى ومحتوى وهدف إسقاط النظام؟ وبالطبع فإن محتوى إسقاط النظام يختلف باختلاف طبيعة الثورة: هل هو القضاء على النظام الرأسمالى التابع فى سياق ثورة اشتراكية أم هو تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل لمقاومة هذا النظام، وللمقاومة بصورة جذرية تاريخية ضد فساده واستبداده، ولمقاومته فى سبيل تحقيق حياة كريمة للطبقات الشعبية؟ وبالطبع فإن النجاح فى إقامة هذه الديمقراطية الشعبية يمكن أن يفتح أمام الشعب والثورة آفاقا أوسع للنضال ضد الرأسمالية التابعة كنظام اجتماعى يسود مصر والعالم العربى والعالم الثالث فى سبيل الاستقلال الذى يقوم على الخروج من التبعية بفضل التصنيع والتحديث، كما يفتح آفاق النضال فى سبيل الاشتراكية على المدى البعيد الأبعد. وفى الأجل القصير والمتوسط لا يتجاوز إسقاط النظام فى الحقيقة إسقاطا جزئيا، تاريخيا مع ذلك: توجيه ضربة قاضية للحالة الراهنة للنظام الرأسمالى التابع عن طريق إسقاط رأسه وكل قمته وكل رجاله وقياداته فى كل مؤسساته وأجهزته بلا استثناء، وإسقاط دستوره على رأس قوانينه، تلك التى يقوم عليها الاستبداد والبطش والقمع الپوليسى والمخابراتى والأيديولوچى وتلك التى يقوم عليها الاستغلال والفساد واللصوصية، وإسقاط حرمان الشعب من مستويات المعيشة التى تليق بالبشر فى المسكن والغذاء والملبس والصحة والتعليم وحق العمل وإعانة البطالة وفى القاضى الطبيعى الذى يقوم على استقلال القضاء وإسقاط حرمانه من الحريات والحقوق الديمقراطية فى التظاهر والاعتصام والإضراب وكل أشكال الاحتجاج والنضال من تعددية حقيقية تقوم على أحزاب سياسية ونقابات عمالية وفلاحية ومهنية مستقلة، ومن حرية الصحافة وحرية العقيدة والتعبير، ومن المواطنة المتحررة من كل تمييز على أساس الدين أو المذهب أو العقيدة أو النوع أو اللون. ومن الجلى أن هذه الضربة القاضية التى يشترط نجاحها ضربات أخرى تكميلية تفوز بالنقط تكتسب مغزاها من كونها شرطا ضروريا للديمقراطية الشعبية من أسفل. وكان ولا يزال وسيظل إسقاط مبارك ورجاله على أوسع نطاق ضروريا لهذه الديمقراطية، وكان ولا يزال وسيظل إسقاط حكم العسكر ضروريا لهذه الديمقراطية، غير أن إسقاط حكم العسكر لا يتحقق بحال من الأحوال بما يسمَّى بتسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب بل يعنى هذا التطور بداية جديدة لنضال الثورة والنضال الثورى لإسقاط العسكر فى السياق العام المستمر لإسقاط النظام.
12: وعندما أتحدث، ويتحدث غيرى، عن مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فإننا لا نعتقد مطلقا ولا نتوهم بحال من الأحوال أن هذه المقاطعة، حتى من جانب كل الطليعة القيادية المتنوعة مهما اتسعت للثورة، يمكن أن تكون قادرة على الحيلولة دون استمرار المسار الفعلى للتطورات فى مصر. فقد نجح المسار الفعلى للتطورات بقيادة المجلس العسكرى المتحالف مع الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى فى انتخاب السلطة التشريعية المتمثلة فيما يسمى بمجلس الشعب ومجلس الشورى، وسيكون هذا المسار باستمرار، أو عدم استمرار، هذا التحالف الذى يترنح الآن فى إعداد دستور جديد قبل أو بعد تسليم السلطة إلى رئيس الجمهورية المنتخب، كما سيتم دون إبطاء استكمال إعادة بناء السلطة التنفيذية برئيس وحكومة ووزارات وأجهزة، أما السلطة القضائية بما فى ذلك القضاء العسكرى والاستثنائى فباقية دون تطهير وبلا استقلال عن السلطة التنفيذية، وما زالت تعمل بقوانين مقيدة للحريات وتساعد على الطغيان والديكتاتورية والفساد ونهب أموال الشعب، وما يزال قانون الطوارئ الاستبدادى للغاية باقيا كما هو؛ القانون نفسه وليس فرض حالة الطوارئ التى تم رفعها باستثناء يجعل رفعها معدوم الأثر. وسوف يستمر هذا المسار الفعلى للتطورات بصرف النظر عن المقاطعة أو المشاركة من جانب كل الطليعة القيادية المتنوعة الواسعة للثورة. وإنما يكمن مغزى المقاطعة الثورية فى التركيز بدلا من الانتخابات والدعاية حولها على الفعل الثورى الذى يمكن أن يحقق مطالب الثورة ويمارس دعايتها وتسييسها بصورة فعالة بما لا يقاس. ولا أحد يُنْكر بطبيعة الحال التسييس الذى يقوم به مرشحو اليسار: أبو العز الحريرى، و حمدين صباحى، و خالد على (بترتيب الحروف)، غير أن الاعتماد على الفعل الثورى المنفصل عن برنامج ما يسمى بالفترة الانتقالية كما وضعه العسكر أكثر جدوى وأبعد أثرا وبالأخص: أكثر مبدئية. كما أن الشرعية التى تُضْفيها الانتخابات التى تزيِّف إرادة الشعب على مؤسسات الدولة التى تجرى إعادة بنائها فلن تؤثر فيها المقاطعة الثورية كثيرا بحكم حجمها المحدود نسبيا غير أن هذه المقاطعة تجرِّد هذه المؤسسات من الشرعية من وجهة نظر القوى الحقيقية للثورة وتُقِيم استقلالها عن برنامج العسكر والإخوان للفترة الانتقالية على أساس متين.
13: وتتعدد المطالب والأهداف والشعارات المهمة للثورة باعتبارها أشياء وثيقة الصلة بالمهمة الكبرى المتمثلة فى إسقاط النظام. ومن هذه المطالب مطلب إسقاط الرئيس ورجاله الذى لا يكتمل إلا بسرعة محاكمتهم على قائمة طويلة من الجرائم السياسية والجنائية، بدلا من كل هذا التباطؤ الطويل المتواطئ الذى يتواصل بإصرار عنيد بحجة عدم التدخل فى شئون القضاء رغم التدخل الخفى الذى يختفى وراء هذا الموقف، مع ضرورة توسيع ملاحقة ومحاكمة الفساد ومفسدى الحياة السياسية والاقتصادية. وهذه المحاكمة حق سياسى أصيل للشعب المصرى الذى كان ضحية للفساد والنهب واللصوصية والطغيان والاستبداد والقمع والقهر، والذى سقط أبناؤه وبناته شهداء وشهيدات ومصابين ومصابات منذ الأيام الأولى للثورة وإلى الآن من خلال مذابح لم تكن مذبحة العباسية الوحشية سوى حلقة من حلقات سلسلتها الطويلة أريد لها أن تكون درسا قاسيا رادعا لكل من تسوِّل له نفسه الاقتراب كما قيل من "عرين" الأسد ("علىَّ وفى الحروب نعامة"). وهناك مطالب الحدَّيْن الأدنى والأقصى للأجور، ومطلب إلغاء قانون الطوارئ وإعداد قانون عادى للطوارئ وليس مجرد إلغاء إعلان حالة الطوارئ، ومطلب تكوين الأحزاب السياسية بمجرَّد الإخطار، وغير ذلك، وهناك مطالب الاحتجاجات المسماة بالفئوية والتى تمثل شكلا أصيلا من أشكال الفعل الثورى. وفيما يتعلق بربط المطالب والأهداف والشعارات بأشكال وتكتيكات وأساليب نضالية تتلاءم معها فإن هناك الكثير من الأهداف التى يمكن ربطها بوسائل مثل الاعتصام أو الإضراب أو الإضراب العام أو الإضراب عن الطعام أو حتى استمرار المظاهرات لفترات بعينها بحيث لا يتم فضها إلا بتحقيق هذه المطالب كحزمة أو بتحقيق جزءٍ منها. وعلى سبيل المثال فإن الاعتصام الذى نشترط لفضه إنهاء حكم العسكر على الفور فى ظل مستوى غير كافٍ من الحشد الجماهيرى قد يبوء بالفشل، فى الوقت الذى يمكن أن ينجح هذا الحشد ذاته فى إقرار إلغاء شروط تكوين الأحزاب السياسية أو إقرار حد أدنى للأجور. والتاكتيك الناجح هو ذلك الذى يربط بصرامة مستويات بعينها من الحشد الجماهيرى بتحقيق أهداف تتلاءم معها مع رفع شعارات الأهداف الأعلى شأنا فى إطار الشعارات الدعائية.
14: ولا شك فى أن تصوُّر الديمقراطية الشعبية من أسفل على أنها مجموعة من الحريات والحقوق الديمقراطية المحلِّقة فى الهواء يجرِّد هذه الديمقراطية من محتواها الاجتماعى الحقيقى الذى يعطيها جوهرها ومغزاها التاريخى بوصفها انتقالا تاريخيا إلى وضع جديد للشعب المصرى. فالديمقراطية المقصودة إنما تجسِّد كما سبق القول شعبا يتمتع بمستويات معيشية لائقة تقوم على حقوق يجرى تطبيقها فعليا فى مجال الدخول والأجور والمعاشات وإعانات البطالة العادلة المنصفة والرعاية الصحية المجانية والتعليم المجانى والتعددية السياسية وغير ذلك، ويتمتع بالأسلحة النضالية التى يحرس بها هذه الديمقراطية الشعبية التى ستتعرض بصورة متواصلة لهجوم الديكتاتورية من أعلى. وهنا تثور مشكلة عويصة شائكة بشأن مدى واقعية استمرار هذه الديمقراطية فى العالم الثالث بحكم حالته الاجتماعية الاقتصادية التى تحرمه من آليات القدرة المرنة نسبيا على التعايش مع الديمقراطية بكل تحدياتها للنظام الرأسمالى التابع وعلى تلبية أهدافها الاجتماعية المتزايدة. والخلاصة هى أن هذه الديمقراطية قابلة للتوسع والانحسار، والتمدد والتقلص، والصعود والهبوط. ولكى لا ندفن رئوسنا كالنعام فى الرمال فإنه لا مناص من الاعتراف بأن مجتمعات العالم الثالث تتعرَّض فى مدى غير بعيد للانهيار الشامل. ولهذا تمثل الديمقراطية الشعبية بنضالاتها الفعالة فى سبيل التصنيع الجذرى والتحديث السريع الشامل والتخلص من التبعية الاستعمارية ضرورة قصوى ليس فقط للتقدم والاستقلال بل حتى لمجرد البقاء والإفلات من الانهيار وانقراض السكان، كنتائج نهائية للاستغلال الإمپريالى والتبعية الاقتصادية وشروط التجارة وتقييد التطور الحر لبلدان العالم الثالث. فالديمقراطية الشعبية ضرورية إذن ليس فقط لتحقيق الحياة الكريمة اللائقة بالبشر بل كذلك للدفاع عن البقاء، مجرد البقاء، على خلفية الانهيار الاقتصادى والتخلف الثقافى والأخطار الإيكولوچية.
15: والخلاصة التى نخرج بها والانتخابات الرئاسية المصرية وشيكة على الأبواب بل بدأت اليوم خارج مصر هى ضرورة إفشال الفترة الانتقالية التى تعنى وفقا لمخطط المجلس العسكرى نهاية الثورة ليس بالمشاركة فى إعادة بناء مؤسسات دولة الرأسمالية التابعة بل باستمرار الثورة واستمرار هدف إسقاط النظام. فالرئيس المنتخب القادم فى القريب العاجل ليس المهدى المنتظر الذى سيأتى ليملأ الأرض عدلا بعد أن امتلأت جورا وليخلِّص مصر من حكم العسكر بل هو الرئيس الألعوبة الذى سيُضاعف، كما سبق القول، قوة وإحكام السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى من وراء الكواليس عن طريق توظيف سلطات رئيس الجمهورية. وعندما يُقْسِم الرئيس الجديد اليمين الدستورية أخيرا فلن تتمثل النتيجة فى الانتقال من العهد البائد لنظام مبارك تحقيقا للثورة عبْر الفترة الانتقالية إلى نظام أو دولة الثورة، بل ستتمثل بالأحرى وفقا لمخطط المجلس العسكرى والإسلام السياسى فى "نفى النفى"، فى نفى الثورة التى قامت بنفى العهد البائد فتكون المحصلة استعادة الاستقرار للنظام الرأسمالى التابع ولكنْ بدون مبارك ومجموعة محدودة من رجاله لتدور من جديد العجلة الساحقة الطاحنة للاستبداد والفساد فيصير الشعب المصرى سيزيف الذى يُبْعَث من جديد كل يوم. غير أن استمرار الثورة سوف يضع حدا لهذا الحلم الوردى الذى يُعَلِّل به المجلس العسكرى نفسه حيث سيتواصل السير، رغم الوضع السياسى الجديد الأسوأ بفضل توظيف السلطات الواسعة لرئيس الجمهورية لصالح السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى، فى اتجاه الديمقراطية الشعبية من أسفل، من تحت، من القاعدة.
11 مايو 2012



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقالات مترجمة فى الفن التشكيلى
- أساطير البحر - برنار كلاڤيل
- تسع قصائد للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
- سبع قصائد لناظم حكمت
- غنوة
- مشاكل تخلُّف (قصيدة)
- الإعداد للموت (قصيدة)
- أربع قصائد لبورخيس
- الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالىّ
- الأب ضد الأم وقصص أخرى
- طريق الآلام
- وَقْع أقدام
- الازدواج فى اللغة العربية بين -الفصحى- و-العامية-
- شعار -ثورتنا برلمان وميدان- مُخَدِّر جديد لقوى الثورة!
- المهدى الرئاسى المنتظر فى مصر!
- من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج (كلمة للإلقاء فى مؤتمر الثو ...
- الانتخابات الرئاسية واحتمالات الصراع بين المجلس العسكرى والإ ...
- -الجحيم، 1، 32- ، لويس بورخيس ت: خليل كلفت
- توفيت ابنتى السيدة هند خليل كلفت
- النسوية - أندرو ڤنسنت


المزيد.....




- في دبي.. مصور يوثق القمر في -رقصة- ساحرة مع برج خليفة
- شاهد لحظة اصطدام تقلب سيارة عند تقاطع طرق مزدحم.. واندفاع سا ...
- السنغال: ماكي سال يستقبل باسيرو ديوماي فاي الفائز بالانتخابا ...
- -لأنها بلد علي بن أبي طالب-.. مقتدى الصدر يثير تفاعلا بإطلاق ...
- 4 أشخاص يلقون حتفهم على سواحل إسبانيا بسبب سوء الأحوال الجوي ...
- حزب الله يطلق صواريخ ثقيلة على شمال إسرائيل بعد اليوم الأكثر ...
- منصور : -مجلس الأمن ليس مقهى أبو العبد- (فيديو)
- الطيران الاستراتيجي الروسي يثير حفيظة قوات -الناتو- في بولند ...
- صحيفة -كوريا هيرالد- تعتذر عن نشرها رسما كاريكاتوريا عن هجوم ...
- برلمان القرم يذكّر ماكرون بمصير جنود نابليون خلال حرب القرم ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مصر