أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - خليل كلفت - الازدواج فى اللغة العربية بين -الفصحى- و-العامية-















المزيد.....



الازدواج فى اللغة العربية بين -الفصحى- و-العامية-


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3712 - 2012 / 4 / 29 - 20:33
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الازدواج فى اللغة العربية بين "الفصحى" و"العامية"
(مقالات)

المحتويات

1: ظاهرة الازدواج اللغوى فى العالم العربى
أولا: اللغة العربية بين الفصحى والعامية ..........................................................
ثانيا: اللغة العربية بين الإعراب وإسقاط الإعراب ..................................................
ثالثا: اللغة العربية بين التطور والانحطاط ........................................................
رابعا: عودة إلى ابن جنى و ابن خلدون ..........................................................
2: لهجة القاهرة ونظام الصرف العربى ............................................................
3: النحو العربى بين شريف الشوباشى .. وسيبويه! ..............................................
ملاحق:
1: اللغة القومية والعولمة: أبعاد الإشكالية (تأليف: چيردا منصور ترجمة: خليل كلفت) ..............
2: وقفة عند مَنْ ينكرون الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية (الفصل 14 من كتاب "من أجل نحو عربى جديد" للمؤلف) ....................................................................
3: لويس عوض والبحث عن أصل اللغات
(حول كتاب: "مقدمة فى فقه اللغة العربية") ..........................................................











1
ظاهرة الازدواج اللغوى
فى العالم العربى
[نُشر المقالان الأولان فى العددين الثانى والثالث (1993)
من مجلة "ابن عروس" القاهرية
ونُشرت المقالات الأربعة مجتمعةً فى "قضايا فكرية" القاهرية،
الكتاب السابع عشر، مايو، 1997، "لغتنا العربية فى معركة الحضارة"]



أولا: اللغة العربية بين الفصحى والعامية
ثانيا: اللغة العربية بين الإعراب وإسقاط الإعراب
ثالثا: اللغة العربية بين التطور والانحطاط
رابعا: عودة إلى ابن جنى و ابن خلدون














أولا
اللغة العربية بين الفصحى والعامية

رغم الإجماع المنعقد بين الدارسين والمهتمين على وجود ظاهرة الازدواج اللغوىdiglossia فى العالم العربى، وكذلك على أهمية هذه الظاهرة، سرعان ما يحتدم الجدل وتنشب الخلافات بمجرد الانتقال من الإقرار العام بالظاهرة إلى بحث طبيعتها وأبعادها وخصائصها ومغزاها، والحقيقة أننا لا نزال بعيدين رغم تاريخ طويل من الاهتمام بهذه الظاهرة-القضية، عن التوصل إلى تصور يمكن الاطمئنان إليه تماما بشأن طبيعتها، وماضيها، وحالتها الراهنة، وبالأخص مستقبلها.
ولأن الظاهرة معقدة ومتشعبة، يستحيل أن يطمح مقال واحد أو كاتب واحد إلى الإحاطة بها فضلا عن حسمها، وإنما أقصد بهذا المقال مجرد إسهام متواضع فى تصويب طريقة تناول هذه الظاهرة تمهيدا للبحث المتعمق والشامل والحرّ للعديد والعديد من الباحثين.
ويصدمنا واقع وعمق الازدواج اللغوى العربى على كل مستوى وفى كل مكان.
على المستوى الجغرافى، تتمثل هذه الظاهرة فى هذا الوجود المتجاور أو المتزامن أو المتداخل أو المزدوج أو المنشطر بين اللغة المسماة بالعربية الفصحى واللغة أو اللغات المسماة بالعامية أو العاميات العربية. و"الفصحى" واحدة مشتركة فى العالم العربى كله، من المحيط إلى الخليج، كما يقال، رغم السمات الخصوصية الأقل جوهرية هنا وهناك. أما "العامية" أو "العاميات" العربية فتتباين تباين الأقطار العربية (العراق، المغرب، السودان، إلخ.)، أو المناطق اللغوية داخل القطر العربى الواحد("لهجات مصر، على سبيل المثال)، أو المناطق اللغوية العابرة للحدود السياسية (اللهجة الشامية).
ومن ناحية أخرى، ناحية توزيع استخدام اللغتين على قطاعات ومجالات ومناحى الثقافة والحياة اليومية، نجد "الفصحى" تفرض احتكارها الفعلى والرسمى فى مجالات الثقافة والدين والآداب والفنون والتعليم والإعلام، ونجد "العامية" تحتكر احتكارا فعليا فى مجال الحياة اليومية وامتداداتها المباشرة فى الثقافة والآداب والفنون الشعبية، كما أنها تنافس "الفصحى" فى كافة مجالات احتكارها منافسة تتباين قوتها من مجال إلى آخر. ولا يعنى هذا بحال من الأحوال أن "العامية" قد أحرزت قصب السبق وصارت اللغة السائدة. فالحقيقة أن الأيديولوجية السائدة لا تزال تحكم على "العامية" بوضع اللغة المضطهدة، وضع لغة من الدرجة الثانية، تتسلل من النافذة ولا تدخل من الباب.
وبذلك نجد اللغة العربية ذاتها فى حالة "انشطار" إلى لغتين تبدوان فى الإدراك العام فصحى وعامية، وتبدو "الفصحى" لغة الثقافة والكتابة، فيما تبدو "العامية" لغة الحياة اليومية والكلام.
وعلى مستوى ثقافة الجماعة القومية-اللغوية المعنية أىْ العرب ككل، أو فى كل قطر، أو فى كل منطقة لغوية، نجد أنفسنا أمام ازدواج ثقافى بالغ الخطورة على العرب وعلى تطورهم الثقافى والفكرى والعلمى والأدبى والتعليمى والإعلامى ككل. ذلك أن التطور الثقافى المنسجم للجماعة القومية-اللغوية يفترض الانسجام اللغوى أى سيادة النسق اللغوى الواحد، وهذا عامل غائب فى حالة العرب واللغة العربية على مرّ القرون بسبب الازدواج اللغوى الطويل الأمد، الذى جعل الاستثناء قاعدة، والذى يصل الآن، فى العصر الحديث، إلى أقصى التفاقم والاستفحال والخطورة، كما سنرى فى سياق هذا المقال.
ومن المنطقى تماما أن نجد، إلى جانب الازدواج اللغوى القائم فعلا والمعترف به بالإجماع، ازدواجا فى تقييم الازدواج اللغوى وعناصره ومستقبله. وهناك تصورات سائدة فى الإدراك العام وفى العلوم اللغوية التقليدية وكذلك فى المحاولات الحديثة لتطوير وتجديد وتحديث هذه العلوم ولاستيعاب العلوم اللغوية فى الغرب، حول هذه المسألة. ورغم أن بعض هذه التصورات قد تبدو لهذه النظرة أو تلك بديهيات لا تقبل الجدل ينبغى مع ذلك إخضاعها للبحث العلمى الذى من شأنه وحده أن يقطع بنجاح تلك المسافة التى نلقاها ماثلة دوما بين التصورات الأيديولوچية السائدة وفرضيات ونظريات وحقائق العلم. وقد آن الأوان لمحاولة قطع هذه المسافة بين الأيدلوچيا والعلم، لغربلة التصورات السائدة عن الازدواج اللغوى العربى تمهيدا للتوصل إلى تفسير سليم وتصور صحيح لهذا الازدواج ولمستقبل تطوره.
هناك قبل كل شيء تلك الفكرة القائلة بأن الازدواج إنما يتمثل فى انقسام اللغة العربية إلى فصحى وعامية.
والغريب أن هذه الفكرة تبدو موضوعية للغاية وبريئة للغاية فى حد ذاتها. كما أن التسليم بها لا يؤدى إلى موقف واحد إزاء الازدواج اللغوى بل يؤدى فى الواقع إلى مواقف متناقضة تماما. وهكذا نجد أنصارا للفصحى وأنصارا للعامية، وأنصارا للاعتراف لكل من الفصحى والعامية بمجالها الطبيعى انطلاقا من التسليم فى كل الأحوال بأن الازدواج قائم بين فصحى وعامية، بافتراض أن لغة الكلام والحياة اليومية فى أىّ لغة هى العامية وأن لغة الكتابة والثقافة فى أىّ لغة هى الفصحى، وعلى أساس أن اللغة المسماة عندنا بالعامية هى لغة الكلام والحياة اليومية فى المحل الأول رغم دورها فى الثقافة الشعبية على مرّ القرون، ورغم تنافسها الشامل الراهن مع "الفصحى" فى كافة مجالات الثقافة. وهكذا نجد الباحثين الذين يريدون إنصاف ما يسمى بالعامية يسمونها بهذا الاسم، كما نجد شعراء ما يسمى بالعامية المصرية يعلنون باعتزاز أنهم يكتبون شعرهم بالعامية المصرية. ومن البديهى أن هؤلاء الباحثين والشعراء يرفضون كل مغزى ازدرائى تنطوى عليه تسمية العامية ويستخدمونها بكل التحدى لأىّ نظرة استعلاء على هذه اللغة لكنهم لا يدركون فيما يبدو أن التسمية خاطئة تماما ولا تنطوى على أى معنى شريف، شعبى أو جماهيرى، بقدر ما تنطوى على معنى الاستعلاء والاحتقار والازدراء من جانب أنصار ما يسمى بالفصحى عبر القرون.
ولفظة العامية مشتقة من العموم بمعنى الشمول، فالتمييز إذن بين عامة الناس وخاصتهم. وحسب المعجم الوسيط: "العامى من الكلام: ما نطق به العامة على غير سنن الكلام العربى" وكذلك: "العامية: لغة العامة وهى خلاف الفصحى". وحتى إذا بدأ الحديث بأنها لغة عامة الناس أو لغة الشعب أو اللغة الشعبية فسرعان ما ينتهى هذا الحديث إلى أن هذه اللغة "هى خلاف الفصحى" وكذلك "على غير سَنَن الكلام العربى". و"السَنَن" بفتح السين والنون: الطريقة والمثال. فهذا الكلام إذن على غير طريقة (وعلى غير مثال) الكلام العربى. و"الفصحى" هى لغة الفصاحة، والفصاحة هى الوضوح والسلامة من اللحن. وقد تبدو اللغة المسماة بالعامية واضحة، محليا على الأقل، لكنها تبدو على كل حال بعيدة عن السلامة من اللحن بمعايير "الفصحى". ولكنْ كما أن الوضوح يتحقق بوسائل "العامية" وليس بوسائل "الفصحى"، فمن الواجب أن يُنظر إلى السلامة من اللحن (أىْ السلامة من الخروج على المعايير النموذجية أو من الانحراف عنها) لكل لغة من اللغتين على أساس معاييرها الخاصة وليس على أساس معايير اللغة الأخرى "فالفصحى" سليمة بمعاييرها الخاصة و"العامية" سليمة بدورها بمعاييرها الخاصة.
واللغة، أية لغة، ظاهرة تحكمها القوانين (اللغوية) لأنها تعكس حياة بشرية تحكمها القوانين (الاجتماعية). وقوانين اللغة مفهومة عفويا لدى كافة أفراد الجماعة اللغوية. ولأنها قانونية على هذا النحو لا يمكن للغة إلا أن تكون مفهومة بوضوح تام لدى كافة الناطقين بها. وتكمن السلامة فى هذه القانونية. وإذا انزلقت لغة إلى التضحية بعنصر من عناصر هذه القانونية فهى إنما تضحِّى بهذا القدر أو ذاك من وضوحها وسلامتها فى آن معا. وإذا كانت فكرة الفصاحة، بشقّيها، تنطلق من جعل "الفصحى" المعيار الأوحد والمطلق أو المثل الأعلى بلا منازع للغة العربية فإن الانطلاق من "العامية" أو من الحياد الوصفى إزاء الازدواج اللغوى القائم لا يمكن إلا أن يؤدى إلى أن تطالب "العامية" بالاعتراف بفصاحتها أىْ بوضوحها وسلامتها وربما على قدم المساواة مع "الفصحى" وربما أكثر منها بكثير، على أساس أن تمكُّن العرب من "العامية" أقوى بما لا يقاس من تمكُّنهم من "الفصحى" (وربما من تمكُّن خاصتهم من "الفصحى"). "فالعامية" بدورها فصحى أو حتى أكثر فصاحة (بما لا يقاس) بمعاييرها الخاصة.
ويعنى ما سبق بطبيعة الحال أن الفصاحة سمة طبيعية لكل لغة بحكم بداهة كونها لغة، وهى تزدهر بازدهار لغة وتنحط بانحطاطها وتموت بموتها وتنتقل من خلال التطور اللغوى البطئ أو العاصف إلى لغة جديدة تحل محل القديمة. ولكننا نجد أنفسنا، فيما يتعلق باللغة العربية، إزاء وضع غريب أو بالأحرى، مزدوج. فهل نحن أمام فصحى اسمها العامية وفصحى اسمها الفصحى؟ إزاء فصحى وفصحى فى الحالتين؟ هذا هو الواقع. "فالعامية" فصحى كما رأينا و"الفصحى" لا تزال فصحى لأنها لا تزال لغة حية ولا تزال مفهومة وواضحة، ويمكن القول إن علاقتها "بالعامية" أو "العاميات" لا تتطابق مع علاقة اللاتينية بعدد من اللغات الأوروپية الحديثة لأن اللغة اللاتينية لغة ميتة، وليس هذا حال اللغة العربية. غير أن واقع الازدواج اللغوى يطعن فى فصاحة اللغتين على السواء. فلكى تكون اللغة لغة فصحى، معيارية، ينبغى أن يشمل التمكُّن منها كافة الناطقين بها، وينبغى أن تكون شاملة فى الاستخدام لكافة نواحى الحياة والثقافة، وهذان الجانبان "التمكُّن وشمول الاستخدام" مترابطان ترابطا وثيقا بطبيعة الحال.
والتمكُّن يعنى، التمكُّن التام من التعبير القوى والتمكُّن التام من الفهم الواضح، وهذان يتعذران بدون استخدام اللغة المعنية فى كافة نواحى الحياة والثقافة. وقد سبق أن رأينا أن هذا الاستخدام يقتصر على مجالات دون أخرى لكل من اللغتين. ويعنى الاستخدام المزدوج انعدام الانسجام اللغوى أىْ انعدام سيادة النسق اللغوى الواحد واللغة الواحدة. وبدون هذا الانسجام، الذى لا يتحقق إلا مع لغة واحدة، لا يتحقق أىّ تمكُّن لغوى. وهكذا يضيع التمكُّن التام والتعبير القوى والفهم الواضح أو يتجزأ ويتفتت حسب الأشخاص والمجالات.
وباختصار: الفصاحة لا تحتكرها "الفصحى" ولا "العامية" وبالتالى لا تمتلكها "الفصحى" ولا "العامية" بصورة مكتملة، لأن "العامية" ليست لغة مكتملة الحلقات، كما أن "الفصحى" ليست لغة مكتملة الحلقات. ذلك أن "الفصحى" عاجزة، منذ قرون وقرون، عن الاستمرار كلغة كلام وحياة يومية. وهى بذلك لغة ناقصة. كما أن هذا النقص، هذا الانفصال عن الحياة اليومية، يُفقرها ويحرمها من حيوية الحياة ويجرّدها من القدرة على التعبير عنها بالحيوية المطلوبة، أضف إلى ذلك أن "العامية" تنافسها منافسة شاملة متفاوتة القوة فى كافة مجالات الثقافة والتعليم والإعلام. أما "العامية" فرغم أنها لغة الكلام والحياة اليومية بلا منازع ولغة امتدادتها المباشرة فى الثقافة والآداب والفنون الشعبية، ورغم أنها تكسب كل يوم أرضا جديدة إلى جانب مجالات احتكارها التقليدية، حيث أصبحت اللغة الوحيدة أو الأولى لكثير من الفنون (المسرح، السينما، فنون التليڤزيون والإذاعة، الأغنية، إلخ.)، والمنافسة الخطيرة فى الشعر، ولغة هامة فى الوعظ الدينى والكثير من حلقات عملية التعليم فى كل مرحلة، والحديث فى التليڤزيون والإذاعة، رغم كل هذا، ورغم أن مجالات الاحتكار المطلق، الرسمى و/أو الفعلى للفصحى تقلّ باطراد (لغة المقررات الدراسية فى كافة مراحل التعليم، اللغة الأولى للدين، لغة الصحافة، لغة الكتب بوجه عام، لغة الرواية والقصة والنقد الأدبى، اللغة الرسمية للدولة، لغة الخطب الرسمية، لغة نشرات الأخبار، إلخ.)، رغم كل هذا، تظل العامية محرومة من ثروة خبرات "الفصحى" فى التعبير عن الثقافة العربية ("فالفصحى" هى حامل هذه الثقافة القومية)، وهكذا نجد "العامية" عاجزة، بحكم عدم الممارسة، وبحكم وقف النمو المفروض عليها، عن أن تكون لغة الفكر، والفلسفة، والأدب، إلخ.، وبهذا يتضح أن الازدواج يعنى عدم اكتمال حلقات الحياة اللغوية وضرب التمكُّن والإتقان فى الصميم وبالتالى حرمان اللغتين من اكتمال صفة الفصاحة الضرورية لكل لغة لتكون لغة بالمعنى الصحيح والكامل للكلمة.
وهكذا لم يعد من المقبول أن نتحدث عن فصحى وعامية، أو لغة كتابة ولغة كلام، أو لغة ثقافة ولغة حياة يومية، ما دامت "العامية" فصيحة بكل المعايير الحقيقية للفصاحة، رغم ما يطعن فى فصاحتها مثلما يطعن فى فصاحة "الفصحى"، وما دامت قد تجاوزت مرحلة لغة الكلام والحياة اليومية، وحتى مرحلة الاقتصار على مجال الثقافة الشعبية، لتدخل مجال الثقافة الرفيعة من أوسع الأبواب، رغم أبواب لا تزال موصدة ودروب لا تزال غير مطروقة.
وهناك وَهْم شائع، وهو وَهْم مركَّب، حيث يجرى القفز من الحديث عن "الفصحى" باعتبارها لغة ثقافة وكتابة وعن "العامية" كلغة كلام وحياة يومية، إلى الحديث عن هذا الازدواج باعتباره نفس الازدواج الذى نلقاه لدى كل جماعة لغوية بين لغتىْ الثقافة والحياة، لغتىْ الكتابة والكلام. هناك إذن اعتقاد بأن العلاقة بين ما يسمى بالفصحى وما يسمى بالعامية عندنا تناظر العلاقة بين لغة الكتابة والثقافة ولغة الحياة اليومية والكلام لدى الناطقين بالإنجليزية، على سبيل المثال، وهذا وَهْم كبير. ذلك أن المسافة بين هاتين اللغتين، إنْ جاز القول، فى الإنجليزية أقصر بما لا يقاس منها فيما بين اللغتين فى العربية. ففى الإنجليزية يسود النسق اللغوى-النحوى الواحد، وبالتالى الانسجام اللغوى، ووحدة اللغة بصرف النظر عن اختلافات اللهجات ومستويات الاستخدام، على حين يوجد فى قلب اللغة العربية نسقان نحويان متعارضان تماما، مرحلتان نحويتان فى تطور اللغات، وهذا هو الفارق الكيفى الذى يخلق ظاهرة الازدواج اللغوى عندنا كما سنرى فى سياق هذا المقال.
ويمكننا بطبيعة الحال أن نلمس مما سبق وجود نظريتين أساسيتين متعارضتين إلى هذه الظاهرة-القضية. وهى ظاهرة من الناحية الوصفية لكنها قضية من حيث رغبة أنصار كل نظرة فى السير بهذه الظاهرة فى وجهة بذاتها بما يتفق مع أسس ومبادئ وفرضيات وأيديولوچيات ونظريات كل نظرة. وبطبيعة الحال قد تتعدد سمات وخصائص وتوجهات النظريات التى قد تفرزها كل نظرة من هاتين النظريتين، باختلاف شروط الزمان والمكان، كما يمكن أن تنشأ وتتشعب نظريات لا تتطابق تماما مع هذه النظرة أو تلك. أضف إلى هذا أن المصالح الاجتماعية تكون ماثلة دوما ومنذ البداية فى تكوين النظرات وفى اندماجها فى أيديولوچيات دينية أو قومية تشكلها هذه المصالح ليس بما يتفق بالضرورة مع جوهرها الموضوعى، أو مع جوهر الدين، أو مع جوهر القومية، أو مع جوهر اللغة، بل مع وعى هذه المصالح الاجتماعية بنفسها كشرط أيديولوچى عام للإنتاج الثقافى.
وهكذا نلتقى بإنكار تطور اللغة العربية بالذات، وبالإقرار بالتطور باعتباره انحطاطا، وبرفض هذا الانحطاط وبالترحيب به. وبفكرة أن التجاور بين اللغتين المسماتين بالفصحى والعامية كان قائما منذ البداية، منذ الجاهلية، وبفكرة أن التجاور الطويل أثبت عجز "الفصحى" عن القضاء على تلك "العامية"، وبفكرة أنه أثبت عجز "العامية" عن القضاء على "الفصحى"، وبفكرة ضرورة القضاء على هذه لصالح تلك، وبفكرة ضرورة القضاء على تلك لصالح هذه، وبفكرة أن التجاور سيظل قائما إلى ما شاء الله، وبفكرة أنه تجاور سعيد لا ينبغى أن يثير ضيق أحد، وبفكرة أنه تجاور مشئوم، وبفكرة أن "الفصحى" تشكل الأساس اللغوى للإسلام (لدى نظرة أيديولوجية دينية سائدة)، وبفكرة أن "الفصحى" تشكل الأساس اللغوى للقومية العربية "لدى أكثر القوميِّين"، وفى الحالتين الأخيرتين يجرى النظر إلى "العامية" أو "العاميات" العربية على أنها تشكل خطرا فادحا على كل من الإسلام والعروبة، كما نلتقى، أخيرا بالنزعات "الماضوية"، نزعات الحنين إلى الماضى التاريخى القديم الخاص، التى تميل إلى تلفيق لغة مستقلة خاصة بهذا القطر أو ذاك، مثل التركيز من جانب واحد على "مصرية" مايسمى بالعامية المصرية، مع تجاهل أو تحدِّى أو التقليل من شأن كونها لغة عربية، أو حتى مع الاعتراف بعربية "العامية المصرية" مع المبالغة فى حجم المكوِّن المصرى أو الفرعونى أو القبطى فى هذه اللغة.




ثانيا
اللغة العربية بين الإعراب وإسقاط الإعراب

والآن يقتضى المزيد من استعراض ومناقشة المزيد من الأفكار والنظرات والنظريات المتصلة بظاهرة-قضية الازدواج اللغوى وقفة مركزة عند أساس وطبيعة هذا الازدواج.
فيم إذن يتمثل أساس الازدواج بين اللغة المسماة بالفصحى وتلك الأخرى المسماة بالعامية، ما دام لا يتمثل فى فصاحة الفصحى أو عامية العامية، وما دام هذا الازدواج لا يتطابق مع ازدواج لغة الثقافة والكتابة ولغة الكلام والحياة اليومية فى كل لغة، وما دامت العلاقة بين "اللغتين" عندنا لا تشبه بحال من الأحوال العلاقة بين لغتى الثقافة والكلام فى الفرنسية أو الإنجليزية على سبيل المثال؟
وهناك بطبيعة الحال اختلافات نحوية وصرفية ومعجمية ودلالية وصوتية لا حصر لها بين "الفصحى" و"العامية" أو "العاميات". فهل يمكن تمييز الاختلاف النوعى "ضمن هذه الاختلافات" بينهما؟
والحقيقة أنه سيستحيل علينا أن نبحث عن الاختلاف النوعى بين الفصحى والعامية (وبالتالى الخصوصية النوعية لكل منهما) ما لم نعرف، أولًا وقبل كل شيء، فيم يتمثل بوجه عام، كقاعدة نظرية، الاختلاف النوعى بين اللغات التى ينشأ بعضها من بعضها الآخر كما هو الحال، على سبيل المثال، بين الجرمانية القديمة ولهجاتها التى تطورت إلى لغات مستقلة حديثة كالهولندية والإنجليزية والألمانية والسويدية، أو بين اللاتينية من ناحية ولغات أوروپية حديثة كالإيطالية والإسپانية والپرتغالية والفرنسية من ناحية أخرى، أو بين اللغة العربية "الفصحى" و"العامية" أو "العاميات" العربية الراهنة.
ففيم يتمثل الاختلاف النوعى بين هذه اللغات؟
من العبث بطبيعة الحال أن نبحث عن الاختلاف النوعى، أىْ الصانع الأساسى للاختلاف، بين لغات متباينة تماما، وبلا أصول مشتركة بينهما (كالعربية والصينية مثلا). وإنما يكتسب هذا البحث أهميته ومغزاه فى حالة الأصول المشتركة التى تجعل مسألة هل نحن إزاء لغة واحدة أم إزاء لغات متباينة مسألة ذات مغزى من ناحية وتحتاج إلى بحث شامل من ناحية أخرى.
على أنه، حتى فى الحالة الأخيرة، ليس هناك معيار بسيط جاهز لتحديد مكمن أو مناط أو أساس الاختلاف النوعى بين لغة وأخرى تشتركان فى أصول واحدة أو نشأت إحداهما من الأخرى.
وهناك معيار بالغ الشيوع، وبالغ الأهمية فى حالة اللغة العربية، وهو يتمثل فى التمييز بين نسقين فى ترتيب عناصر الجملة. والمقصود بعناصر أو أقسام الجملة: (1) الفاعل "أو المبتدأ أو المسند إليه" (2) الفعل (3) المفعول (4) تتمة الخبر أو المسند (5) الظرف. وهناك نسقان لترتيب ما يرد من هذه العناصر فى جملة. والنسق الأول مرن بالغ المرونة فى ترتيب العناصر الواردة فى الجملة حيث يمكن استخدام كافة الترتيبات الممكنة رياضيًّا دون تكرار لأحد العناصر. والنسق الثانى مقيد تقييدا كاملا فى ترتيب هذه العناصر حيث يمكن فقط استخدام ترتيب واحد من تلك الترتيبات التى يشكلها النسق الأول مع الاحتفاظ بإمكانية قلب ترتيب الفاعل والفعل فى الترتيب الأول، فى بعض اللغات، كأسلوب استفهامى مع أو بدون أدوات الاستفهام إلى جانب نغمة أو لهجة الاستفهام فى الكلام وعلامة الاستفهام فى الكتابة، أو لاستخدامه فى بعض الأغراض البلاغية.
ويعتمد النسق المرن فى تحديد عناصر "أقسام" الجملة أىْ فى تحديد الطبيعة النحوية لهذه الكلمة أو تلك فى الجملة "فاعل، مفعول، إلخ." على الإعراب desinential inflections وحالاته (الرفع، النصب، الجر، إلخ.) ومورفيماته أىْ التغييرات التى تلحق بأواخر الكلمات للدلالة على حالات الإعراب وبالتالى على عناصر أو أقسام الجملة (مثلا: الرفع للفاعل، والنصب للمفعول). ويعتمد النسق المقيد فى ذلك على الترتيب المقيد ذاته لعناصر أو أقسام الجملة. ويسمى هذا النسق عادة نسق ترتيب الكلمات word order.
وهكذا يكون لدينا نسقان "نحويان" لترتيب عناصر الجملة: نسق أو لغة مرونة ترتيب عناصر الجملة، ونسق أو لغة تقييد ترتيب عناصرالجملة. وبافتراض جملة عناصرها: 1: فاعل "محمود" 2: فعل "شكر" 3: مفعول "علىّ"، تكون لدينا ستة ترتيبات ممكنة رياضيًّا لعناصر هذه الجملة:
1: محمودٌ شكرَ عليًّا 1، 2، 3
2: محمودُ عليًّا شكرَ 1، 3، 2
3: شكرَ محمودٌ عليًّا 2، 1، 3
4: شكرَ عليًّا محمودٌ 2، 3، 1
5: عليًّا محمودٌ شكرَ 3، 1، 2
6: عليًّا شكرَ محمودٌ 3، 2، 1
والنسق الأول، المرن، يقبل بوجه عام كافة هذه الترتيبات الستة، ويمكن تصور استخدامها جميعا فى إطاره. أما النسق الثانى، المقيد، فيقتصر على ترتيب واحد. والترتيب السائد فى هذا النسق هو 1، 2، 3 أىْ محمودْ شكرْ عَلِى حيث نعرف الفاعل أو المبتدأ أو المسند إليه من مكانه الثابت رقم 1 (ينبغى أن أشير هنا إلى أن اشتراط تقدم الفعل على الفاعل ليكون فاعلا ليس سوى خطأ من أخطاء النحو العربى التقليدى وهذا نظر نحوى وليس فى جوهر اللغة أو جوهر منطق نحوها). كما نعرف الفعل من مكانه الثابت رقم 2 (وبوسائل أخرى طبعا)، ونعرف المفعول من مكانه الثابت رقم 3. وهنا تصبح مورفيمات الإعراب غير ضرورية وتفقد مغزاها تماما ويصبح المنطق الطبيعى إسقاط الإعراب أىْ إسكان أواخر الكلمات.
وهناك حقيقة هامة وهى أن المسار الملحوظ فى تطور (تغيُّر) كثير من اللغات (حتى الآن) تمثلَ فى الانتقال من لغات من النسق الأول، المرن، نسق الإعراب وحالاته ومورفيماته، نسق أو لغة مرونة ترتيب عناصر الجملة، إلى لغات من النسق الثانى، المقيد، نسق إسقاط الإعراب، نسق أو لغة تقييد ترتيب عناصر الجملة.
ومن الجلى تماما أن النسق الأول هو الذى تنتمى إليه اللغة العربية "الفصحى" وأن النسق الثانى هو الذى تنتمى إليه "العامية" أو ("العاميات") العربية. "فالفصحى" هى لغة مرونة ترتيب عناصر الجملة اعتمادا على الإعراب، و"العامية" هى لغة تقييد ترتيب عناصر الجملة، لغة إسقاط الإعراب اعتمادا على الترتيب المقيد للكلمات.
ويمكننا أن نتصور مدى وعمق الاختلاف بين لغة مرونة ترتيب الكلمات ولغة تقييد الكلمات إذا أخذنا فى اعتبارنا أن عناصر الجملة لا تقتصر على الفاعل والفعل والمفعول، وأن أشكال تحقيق هذه العناصر تتعدد، وأن الخريطة النهائية لنماذج بناء الجمل من حيث نماذج استخدام الأفعال فى الجملة، حتى فى نسق ترتيب الكلمات، وهو النسق البسيط للغاية، خريطة معقدة للغاية، وقد تشتمل على عشرات النماذج. فإذا أضفنا إلى هذه الخريطة المعقدة، التعقيد الناشئ عن حالات الإعراب (الرفع والنصب والجر والجزم فى اللغة العربية وحتى أكثر من هذا فى لغات أخرى كاللغة الروسية)، وكذلك تعدد مورفيمات الإعراب فى كل حالة (مورفيمات كل من الرفع والنصب والجر والجزم فى العربية)، تتضح أمامنا الصورة المعقدة للاختلاف فى الطابع العام بين اللغتين.
ولا يعنى هذا بحال من الأحوال أن معيار نسق ترتيب عناصر الجملة معيار مطلق للتمييز بين اللغات التى نشأ بعضها من بعضها الآخر أو بين اللغات ذات الأصول المشتركة. وما دام المسار العام لتطور اللغات يحتفظ باتجاه واحد هو الانتقال من لغة المرونة إلى لغة التقييد، وليس الاتجاه المعاكس، لا يمكننا إلا أن نلاحظ أن لغات التقييد الناشئة من أصول مشتركة لا سبيل إلى التمييز بينها بهذا المعيار لأنه عنصر مشترك بينها، ولا يمكن بالتالى أن يكون مجالا لاختلاف نوعى بينها، وهنا تظهر الحاجة إلى تلك الاختلافات المعجمية والدلالية والصوتية والصرفية والنحوية الأخرى التى تعطى لكل لغة من لغات التقييد خصوصيتها النوعية وهذه الأخيرة تمثل كذلك بطبيعة الحال مناط الاختلاف النوعى.
ومن ناحية أخرى يتضح أن هذا المعيار سليم للغاية وفعال للغاية فى التمييز بين "الفصحى" و"العامية" التى نشأت منها. فرغم كثرة الاختلافات النحوية والصرفية والدلالية والصوتية والمعجمية الأخرى إلا أن أىّ اختلاف آخر لا يرقى إلى مستوى المعيار الذى أوجزنا شرحه منذ قليل.
على أن هذا المعيار سرعان ما يفقد أهميته بمجرد بحث مسألة هل "العاميات" العربية الراهنة لغة "العامية" عربية واحدة أم لهجات متعددة للُغة "العامية" عربية واحدة. ذلك أن هذه "العاميات" تنتمى جميعا وبلا استثناء إلى لغة تقييد ترتيب عناصر الجملة، فالانتماء إلى هذه اللغة (لغة التقييد) لا يصنع وحده وفى حد ذاته لغة واحدة (مثلا الإسپانية والفرنسية لا تشكلان لغة واحدة ولا حتى لهجتين للغة واحدة رغم انتمائهما إلى لغة تقييد ترتيب عناصر الجملة ورغم أصولهما المشتركة). والاختلافات المعجمية والدلالية والصرفية والنحوية والصوتية مأخوذةً ككل، بما فى ذلك المرونة والتقييد فى حالة وجودهما كنقطة اختلاف (أىْ فى لغة دون أخرى)، هى التى تحدد بمدى حجمها وعمقها هل نحن إزاء لغة واحدة أم إزاء لهجات متعددة للغة واحدة، وليس بين اللغات languages واللهجات dialects سور صينى عظيم فاللهجات هى الشكل الإقليمى (الجغرافى) لوجود اللغة الواحدة فى مساحات شاسعة أو أراض متباعدة، فإذا تعاظمت الاختلافات المتنوعة بين هذه اللهجات بفعل العزلة تحولت إلى لغات منفصلة رغم الاتحاد فى الأصل أو الأصول، أما إذا احتفظت الاختلافات المتنوعة بحدود معتدلة لغياب العزلة أو لوجود عوامل تقاوم أو توازن تأثيراتها اللغوية الصانعة لتفاقم الاختلافات مقاومةً فعالة فيمكن القول إن اللهجات لم ولن تتحول إلى لغات بافتراض استمرار نفس الشروط. وكانت العزلة على مرّ التاريخ، الأرضية المواتية تماما لعمليات عمق تشعُّب اللغة إلى لهجات متباعدة وتحول هذه اللهجات عند مرحلة بعينها إلى لغات.
ومن الجلى أن من خصائص العصر الراهن بثورة مواصلاته، وبوسائل إعلامه العملاقة، وبقضائه بالتالى على العزلة وآثارها اللغوية، حتى فى حالات المساحات الشاسعة، وحتى فى حالات التباعد الهائل للأراضى التى تعيش عليها الجماعة اللغوية كما هو الحال الآن مع الشعوب الناطقة بالإنجليزية فى الجزر البريطانية وأمريكا الشمالية وجنوب أفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا، من الجلى أن من خصاص العصر الراهن (من خلال موازنة عامل العزلة أو المسافة المكانية بثورة مواصلاته) أنه يحُول دون تحوُّل اللهجات إلى لغات منفصلة كما هو الحال مع اللهجات الإقليمية المتعددة للغة الإنجليزية والتى لم تصل وقد لا يكون من الوارد أن تصل (بافتراض استمرار منجزات ثورة المواصلات) إلى مرحلة اللغات المنفصلة.
وفيما يتعلق "بالعاميات" العربية نجد أن الاختلافات المتنوعة بينها ليست بالعمق الذى يجعل منها لغات منفصلة فهى بالأحرى لهجات متنوعة للغة عربية واحدة من نسق تقييد ترتيب عناصر الجملة. فإذا أخذنا فى الاعتبار الواقع التاريخى الخاص بأن نشوء لغة إسقاط الإعراب أىْ لغة التقييد أىْ ما يسمى باللغة العامية ليس بالأمر الجديد أو المعاصر أو الحديث وأن هذه اللغة واقع تاريخى قديم للغاية وربما منذ وقت سابق لظهور الإسلام ومتبلور بصورة نهائية منذ القرن الرابع الهجرى (كما يقول ابن جنى فى "الخصائص")، حق لنا أن نتساءل عن السر فى أن انتشار اللغة العربية مع الفتوحات الإسلامية فى مناطق شاسعة ذات خريطة لغوية بالغة التعقيد لم يؤد على مرّ العصور ورغم استمرار عزلة المواصلات التقليدية إلى تحوُّل اللهجات العربية التالية للفتح الإسلامى إلى لغات منفصلة متباعدة، فاستمرت لهجات كما تشكلت فى القرون الأولى من الناحية الجوهرية.
ورغم أن ثورة المواصلات الراهنة يمكن أن تكفل استمرار "العاميات" العربية الراهنة كلهجات للُغة عربية واحدة (مقيدة الترتيب) إلى ما شاء الله، دون حاجة إلى عوامل أخرى، ينبغى أن نسجل أن استمرار العربية "الفصحى" عربية الإعراب ومرونة الترتيب، مهما كان تفسير هذا الاستمرار، ومهما كان هذا الاستمرار ذاته ضمن واقع ازدواج فادح الضرر على الجماعة اللغوية، ظل شرطا مواتيا لعدم وصول اللهجات إلى مرحلة اللغات المنفصلة. خاصة فيما قبل وصول تأثير ثورة المواصلات (ووسائل الإعلام الحديثة) إلى العالم العربى، وفيما قبل انتشار ما يسمى بالعامية المصرية فى العالم العربى كله.
وهكذا يمكن تصوُّر مسار التطور من اللغة العربية الأصلية، التقليدية، المسماة بالفصحى، إلى اللغة العربية التجديدية المسماة بالعامية، باعتباره مسار انتقال تجديدى (رغم أنه موغل فى القدم) من النسق النحوى الأصلى (لغة الإعراب ومرونة ترتيب العناصر) إلى النسق النحوى التجديدى (لغة إسقاط الإعراب وتقييد ترتيب العناصر).
ونقطة انطلاق هذا المسار هى، كالعادة، الاقتصاد اللغوى، هذا الاقتصاد الذى يمثل سنة من سنن تطور اللغات جميعا. فهو مسار التحرر التدريجى من الخريطة المعقدة لترتيب عناصر الجملة وحالات الإعراب ومورفيماته الأصلية والفرعية، وذلك نتيجة للاستعمال الطويل لكافة الترتيبات الممكنة رياضيًّا، والذى يتأكد منه أن هناك إمكانية لاستخدام أحد هذه الترتيبات دون إعراب بالاعتماد على الترتيب ذاته خاصة مع خبرة الاعتماد على الترتيب فى سياق الإعراب ذاته عندما يتعذر إظهار علامات الإعراب فيكون العنصر السابق هو الفاعل والعنصر اللاحق هو المفعول (فى مثل: سَبَق موسى عيسى).
ثم كان إسقاط الإعراب نقطة انطلاق لاختلافات أخرى عميقة (نحوية وصرفية وصوتية)، بالإضافة إلى الاختلافات الصوتية الأخرى المستقلة عن إسقاط الإعراب والتى تتصل أكثر بتفاعل اللغة العربية مع الخريطة اللغوية التاريخية المعقدة فى البلدان التى امتدت إليها الفتوحات العربية الإسلامية والتى انتهت عمليات "التثاقف" فيها إلى انتشار اللغة العربية وتبنِّيها وإحداث تغيرات عديدة هامة فيها.
ورغم الاختلافات المتنوعة، ذات الأصول المتنوعة، فإن اللهجات المسماة بالعاميات العربية ليست سوى اللهجات المتعددة للُّغة العربية ذات النمط المقيد الترتيب أىْ الأشكال الإقليمية العديدة لوجودها باعتبارها لغة واحدة. وليس من المتوقع، بافتراض استمرار وتعاظم ثورة المواصلات الراهنة، أن تتحوَّل هذه اللهجات إلى لغات منفصلة.
ويمكن الاعتراض، بطبيعة الحال، بأن الاختلافات المتنوعة بين هذه "العاميات" العربية قد تجاوزت حدود اعتبارها مجرد لهجات للُغة واحدة ووصلت بها بالفعل إلى مرحلة اللغات المنفصلة. والحقيقة أن مثل هذا الاعتراض يمكن أن ينطلق من الصعوبات اللهجية التى قد تحول دون التفاهم الواضح بين سودانى وعراقى أو بين يمنى ومغربى بالسهولة الكاملة المفترضة فى لغة واحدة (وهى صعوبات لا سبيل إلى إنكارها لا فى اللهجات العربية الراهنة ولا فى اللهجات الإنجليزية الراهنة). على أن مثل هذا الاعتراض يعنى فى الحقيقة عدم الانتباه بصورة كافية إلى أن الانفصال إلى لهجات إقليمية انفصال على أىّ حال وتباعُد على أىّ حال، وإلى أن جانبا جوهريا من هذا الانفصال أو هذا التباعد يتركز على النواحى الصوتية التى من شأنها أن تخلق مصاعب كبيرة تستبعد ولا تفترض السهولة الكاملة فى التفاهم، وإلى حقيقة أن كل لغة عبارة عن نواة مشتركة لا تتحقق إلا من خلال التنوع اللهجى الجغرافى بالإضافة إلى تنوعات أخرى عديدة ومعقدة لا مكان هنا لتعدادها.
والواقع أن اللهجات الإقليمية الراهنة للُّغة العربية أىْ ما يسمى بالعاميات، لا تشترك فقط فى نسق تقييد ترتيب عناصر الجملة، بل إنها، رغم تنوع المكونات اللغوية غير العربية التى تفاعلت أو تتفاعل مع اللغة العربية فى كل منطقة لغوية، ورغم الدلالات المتنوعة فى هذه المناطق، ورغم الاختلافات الصوتية الهائلة، تشترك كذلك فى المعجم الأساسى، والنظام الصرفى الاشتقاقى الأساسى، والدلالات الأساسية، وفى الاحتفاظ بالكثير جدا من السمات النحوية الأساسية للُّغة العربية، مع تواصل سياق الاقتصاد اللغوى والنحوى بطبيعة الحال.





















ثالثا
اللغة العربية بين التطور والانحطاط

يمكن إيجاز ما سبق فى أن اللغة التى يتكلمها العرب اليوم، والتى امتدت من عالم الكلام والحياة اليومية والثقافة الشعبية إلى عالم الثقافة الرفيعة، نتيجة لتطور استغرق قرونا طويلة ربما بدأ فى وسط شبه الجزيرة العربية ذاته وقبل الإسلام بوقت غير قصير، وهى اللغة العربية الحالية المتعددة اللهجات باعتبار هذه الأخيرة الشكل الطبيعى لوجود أية لغة تنطق بها جماعة قومية أو لغوية كبيرة تعيش على مساحات شاسعة من الكرة الأرضية. ولا يجوز وصف هذه اللغة أو لهجة من لهجاتها بالعامية. وهذه اللغة بكافة لهجاتها هى الأساس اللغوى للوجود القومى للعرب اليوم. على أن بقاء اللغة المسماة بالفصحى فى مجالات لا تزال جوهرية، بوصفها لغة حية ما تزال، وباعتبارها حامل الثقافة القومية العربية الرفيعة، ومهما كانت أسباب هذا البقاء، يصنع ازدواجا لغويا وخيم العواقب على الجماعة القومية-اللغوية، أىْ على العرب، فى ثقافتهم، وعلمهم، وفى كامل تطورهم التاريخى. ذلك أن الازدواج اللغوى لا يعنى امتيازا يتمثل فى امتلاك لغتين بل يعنى الافتقار إلى لغة واحدة منسجمة مكتملة الحلقات كلغة، بكل ما تعنيه حالة أمة بلا لغة، أو حالة أمة ذات لغة تعانى من الازدواج والانشطار والتشوُّه.
وتزداد الصورة وضوحا بتحديد الطابع الجوهرى للازدواج بين اللغتين بأنه يتمثل فى تجاور وتعايش وصراع مرحلتين فى التطور النحوى للُّغة العربية، مرحلة الإعراب ومرحلة إسقاط الإعراب، أو بعبارة أخرى مرحلة مرونة ترتيب عناصر الجملة ومرحلة تقييد ترتيب عناصر الجملة، وهما مرحلتان ملحوظتان فى التطور النحوى للُّغات بوجه عام، فى كل مكان، ولا تشكلان خصوصية عربية كما سبق القول.
ويمكننا الآن أن نقترح الاكتفاء بتسمية اللغة العربية بلا نعوت أخرى لهذه اللغة التى يتكلمها العرب الآن، بكافة لهجاتها. أما اللغة الأخرى المسماة بالفصحى فنقترح تسميتها باللغة العربية التقليدية أو المُضَرية (نسبة إلى مُضَر، بالضاد) أو القريشية (نسبة إلى قريش) لأنها تتميز بالالتزام بتقاليد الإعراب المُضَرى. وهذا الأخير هو السمة النحوية المميزة الأولى، بين سمات أخرى عديدة، لكافة مراحل هذه اللغة بما فى ذلك مرحلتها الراهنة المسماة بالفصحى الحديثة والتى يمكن تمييزها بالتالى بتسمية اللغة العربية المُضَرية الحديثة.
وتتفق اللغة العربية (الحالية) بكافة لهجاتها مع اللغة العربية التقليدية فى نواة لغوية أساسية (معجمية ودلالية ونحوية وصرفية وصوتية) مشتركة. وهذه النواة المشتركة هى التى تضفى الطبيعة "العربية" على اللغة العربية التقليدية وعلى اللغة العربية الحالية وكذلك على كل لهجة من اللهجات الراهنة لهذه اللغة الأخيرة، على أن اللغة العربية الحالية بكافة لهجاتها تختلف عن اللغة العربية التقليدية أو المُضَرية (بالضاد) اختلافات نحوية وصرفية ومعجمية ودلالية وصوتية، وإنْ كان الاختلاف الجوهرى يتمثل فى الإعراب فى تلك اللغة وفى إسقاطه فى هذه.
أما اللهجات العربية الراهنة (أىْ لهجات اللغة العربية التى تحمل ظلما اسم "العامية" أو "العاميات") فتتفق فيما بينها، وإنْ بنسب متفاوتة، فى تلك النواة المشتركة، وكذلك فى المرحلة النحوية التى تتمثل فى إسقاط الإعراب، ولكنها تختلف فيما بينها، بنسب متفاوتة، فى خصائص كانت نتاجا لتفاعل اللغة العربية فى البيئات التى ظهرت فيها هذه اللهجات مع لغات وثقافات مغزوَّة أو غازية أو مجاورة قبل الفتح العربى الإسلامى وبعده.
ولا شك فى أن من شأن نظرة موضوعية متوازنة أن تتيح لنا أن نأخذ فى اعتبارنا فى وقت واحد:
1: الاستمرارية بين اللغتين وتتمثل فى النواة اللغوية الأساسية المشتركة بين اللغة التقليدية واللغة الحالية وكذلك كافة لهجات هذه الأخيرة، من جانب.
2: الانقطاع بين اللغتين ويتمثل فى التطور النحوى من مرحلة الإعراب فى اللغة التقليدية إلى مرحلة إسقاط الإعراب فى اللغة الحالية، من جانب آخر.
3: العنصر الجديد تماما بالقياس إلى العربية الأصلية ويتمثل فى خصوصيات كل لهجة من اللهجات العربية الراهنة، من جانب ثالث.
ولا شك أيضا فى أن مثل هذه النظرة من شأنها أن تتيح لنا بذلك تفادى الانطلاق من جانب واحد من هذه الجوانب الثلاثة، كما أن من شأنها أن تنأى بنا بكل ذلك عن مواقف متطرفة محتملة (وحادثة) بالغة الضرر.
على أن هذا الجانب أو ذاك من هذه الجوانب الثلاثة ممكن أن يكون موضوعا للمبالغة أو موضوعا على العكس للتهوين فى سياق هذه النظرية أو تلك بما يتفق مع توجهاتها. ومن الجلى أن المواقف المتباينة إزاء تطور اللغة العربية (من المُضَرية بالضاد إلى الحالية) ليست مقطوعة الصلة بالمبالغة أو التهوين فى كل جانب من هذه الجوانب، أو بإدراك أو عدم إدراك طبيعة ومغزى وأبعاد هذا الجانب أو ذاك.
ويمكننا الآن أن نستعرض قليلا من المواقف إزاء تطور اللغة العربية وإزاء طبيعة هذا التطور. وهنا نلتقى بالإنكار الصريح أو الضمنى لحدوث هذا التطور أصلا أو لضرورته كما نلتقى بالنظر إليه على أنه انحطاط وليس تطورا. ومن المفارقات أننا عندما نعود إلى الوراء، إلى ابن جنى أو إلى ابن خلدون على سبيل المثال، لا نجد عندهما الاعتراف الصريح بهذا التطور فحسب، بل نجد عندهما كذلك الإدراك الواضح لطبيعته النحوية المتمثلة فى الإعراب وإسقاط الإعراب، ونجد عند ابن خلدون بالذات دفاعا قويا، مدعوما بالمنطق وقوة الحجة، عن لغة إسقاط الإعراب، عن بلاغتها وأدبها اللذين لا يمكن أن ينال منهما إسقاط الإعراب، فى مواجهة الافتراءات الأزلية ضد هذه اللغة.
وفى كتابه "التطور اللغوى: مظاهره وعلله وقوانينه" (مكتبة الخانجى بالقاهرة ودار الرفاعى بالرياض، الطبعة الأولى 1983)، يشرح الدكتور رمضان عبد التواب شرحا صحيحا واضحا نظام الحرية فى ترتيب أجزاء الجملة العربية فى "الفصحى" بسبب وجود الإعراب وكيف لزم بناء الجملة نظاما واحدا عندما "فُقِدَ هذا الإعراب" (ص 125). وأكد تطور اللغة وما ينشأ منه من "اختلاف بين لغة عصر والعصر الذى سبقه" (ص 7) قائلا: "تلك سنة الحياة، وتاريخ اللغات كلها يشهد بهذا ولا نعرف لغة على ظهر الأرض، جمدت على شكل واحد مئات السنين" لكنه سرعان ما يستثنى اللغة العربية من هذا التطور بل يحذّر من أن يظن بعض الناس أن يكون هو "من أنصار هذا التطور فى العربية" (ص 9) ويُرجع هذا الاستثناء إلى "ظرف لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم ذلك أنها ارتبطت بالقرآن" (ص 8). وبدلا من أن يبحث علاقة استمرار اللغة العربية المُعْرَبة (من الإعراب) إلى الآن بكونها لغة القرآن، راح يستثنى العربية من التطور فى كتاب يدرس هذا التطور بالذات فى اللغة العربية بالذات، فكان عليه أن يعلل معالجته لقضايا التطور اللغوى قائلا: "فإننا نعالج هذه القضايا هنا، من الناحية الوصفية التاريخية. وهناك فرق كبير فى مناهج اللغة بين الوصفية والمعيارية" (ص 9). ورغم أن إنكار التطور لا يتصل هنا بتطور لغة إسقاط الإعراب من لغة الإعراب بهذا التحديد بل ينصب على تطور اللغة العربية بوجه عام إلا أن كل بحث فى تطور هذه اللغة من تلك يصطدم بهذا الإنكار العام "المعيارى" لتطور العربية فى كتاب ينطلق من الإقرار "الوصفى" بهذا التطور!
وفى كتابه القيم "فى اللهجات العربية" (مكتبة الأنجلو المصرية الطبعة الثالثة 1965، القاهرة، ص 84)، يقدم الدكتور إبراهيم أنيس نظرته الخاصة بالإعراب. هذه النظرة التى تطعن فكرة تطور لغة إسقاط الإعراب من لغة الإعراب فى الصميم ولا تترك مكانا لمثل هذا التطور. وتقرر هذه النظرة، التى تتردد أصداؤها فى أفكار كثير من المثقفين حول هذه المسألة، أن "الإعراب كما نعرفه" كان صفة من صفات اللغة الأدبية لدى الخاصة "ولم يكن مظهرا من مظاهر السليقة اللغوية بين عامة العرب". وتوحى هذه النظرة بأن الإعراب ليس فى أصل الكلام العربى بل أضافه الأدباء والنحاة وهذا ما جعله، رغم غيابه فى الكلام العربى، "مقياسا من مقاييس الفصاحة" وأقول إن هذه النظرة "تُوحى" بذلك لأنها لا تقوله مباشرة بل تتحدث فقط عن عدم التزام "لهجات الكلام عند القبائل" بالإعراب "على الصورة التى رُويت لنا" أو "الإعراب كما نعرفه" دون أية إشارة إلى إعراب بديل (أبسط؟) قد يعتقد المؤلف أنه كان موجودا فى أصل الكلام العربى. ويبدو أن هذه النظرة تم استنتاجها بصورة مباشرة من ظاهرة اللحن: "ولا يُعقل أن صاحب السليقة اللغوية يخطئ إلا إذا كان ينطق بلغة خاصة يتمسك فيها بقواعد وأصول لا تراعَى فى حياته العادية حين ينطلق على سجيته" كما يقول الدكتور إبراهيم أنيس. والفكرة التى ينطوى عليها الاستشهاد الأخير فكرة صحيحة فى حد ذاتها، فظاهرة اللحن تعنى وجود لغتين، لكنها لا تعنى بالضرورة أن إحداهما تمثل السليقة الأصلية وأن الأخرى تمثل الاصطناع الأدبى لدى الخاصة، بل يمكن تفسيرها تفسيرا معاكسا يتمثل فى إرجاع عدم التمكُّن من لغة الإعراب ليس إلى كونها لغة جديدة أو مصطنعة أو أدبية وبالتالى لا تمثل السليقة الأصلية بل إلى أن لغة الإعراب كانت هى السليقة الأصلية للجماعة اللغوية ثم أخذ الإعراب يسقط فى لغة الكلام لدى هذه الجماعة، وكان التطور المنطقى لهذه الظاهرة أن يسقط الإعراب من اللغة العربية جميعا وأن تسود لغة إسقاط الإعراب، إلا أن لغة الإعراب صارت لغة القرآن، فى مرحلة من مراحل ذلك التطور، فحفظها القرآن، كما ساعد هذا العامل اللغوي-الدينى على عدم تباعد لهجات المناطق العربية الحالية فى اتجاه تكوين لغات منفصلة، فظلت لهجات للُغة عربية واحدة.
ويبدو أن الدكتور إبراهيم أنيس تصوَّر أن تعقيد الإعراب يجعله مستعصيا على عامة الناس فلم ينتبه لذلك إلى واقع أن شعوبا كثيرة استخدمت فى الماضى أو لا تزال تستخدم وبسهولة فطرية لغات إعرابية بالغة التعقيد، وأن لغات الإعراب نجدها أكثر كلما عدنا إلى الوراء، وأنه رغم أن اللغات قد تتخلى فى مرحلة من مراحل التطور عن الإعراب بكل تعقيد حالاته ومورفيماته ليحل محله نسق نحوى أبسط هو نسق تقييد ترتيب الكلمات فى الجملة إلا أن هذا الاقتصاد اللغوى إنما تتعلمه الشعوب واللغات بعد أن تخوض تجربة تاريخية طويلة مع لغة الإعراب بوصفها نقطة الانطلاق، رغم كل هذا التعقيد الذى قد يبدو مستعصيا على الاستيعاب بينما يتعامل معه أصحاب السليقة بكل سهولة، ومن يدرى فربما جاء الإعراب ذاته تتويجا لمسار اقتصاد لغوى سابق طويل انطلاقا من أنظمة لغوية سابقة أكثر تعقيدا بكثير.
والحقيقة أن هذا التصور الغريب عن الإعراب لدى الدكتور إبراهيم أنيس كان السبب المباشر وراء واقع أنه لم يدرك الفارق الجوهرى بين اللهجات العربية القديمة والحديثة والمتمثل فى إسقاط الإعراب فى لغة الكلام فى المحل الأول، وبطبيعة الحال فإن هذه الملاحظة الجزئية أو تلك لا يمكن أن تنال من الإنجازات اللغوية العلمية الضخمة التى حققها الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس بما فى ذلك خدماته الجُلِّى لقضية بحث ودرس وإعلاء شأن هذه اللهجات التى تتكون منها اللغة العربية فى الوقت الحالى.
وفى كتابه القيم "اللغة العربية والحاسوب - دراسة بحثية" (الناشر: تعريب - تركى العريضى، 1988)، يقدم الدكتور نبيل على، خبير اللغويات الحاسوبية، موقفا يجمع بين الإحساس الحاد بالازدواج "أو: ثنائية الفصحى والعامية، حسب تعبيره" وبين التهوين من شأن الإعراب إلى حدّ النظر إليه على أنه ظاهرة سطحية فى اللغة العربية.
ويشن الدكتور نبيل هجوما حادا ضد "العامية" وضد الثنائية التى أوجدتها هذه العامية بظهورها إلى جوار الفصحى. ويقول الدكتور: "تعانى ‘العربية’ من ثنائية واضحة، ومفزعة، بين الفصحى والعامية. ولا تكتفى العامية بتشويه المفردات وتبديلها الفوضوى، بل تتخلص من كثير من خصائص ‘العربية’ الأساسية، كتلك المتعلقة بالترابط النحوى، والإعراب، وتكوين الكلمات، ونطق الأصوات، إلخ.). ويواصل الدكتور نبيل قائلا: "إن ثنائية اللغة هى نتيجة منطقية لبطء التغير اللغوى، وتقاعس جهود التطوير، وقصور أساليب تعليم اللغة الأم، وكلها مظاهر ترجع أساسا إلى جمود نُظم التقعيد اللغوى وتخلفها بصفة عامة. ومما يحز فى النفس أنه بينما نرى المحاولات المستهدفة، بقصد أو بدون قصد، لسحق ‘العربية الفصحى’ ماضية قدما دون هوادة، ودون ما يشير إلى قرب زوالها، نجد محاولات التصدى لها لا تتعدى حدود العواطف اللغوية وغيبياتها أحيانا!". ويضيف الدكتور: "إن ثنائية الفصحى والعامية قد وصلت إلى الحد الذى أدى بالبعض إلى اعتبار اللغة الفصحى ذاتها لغة ‘غير حية’، وتبريرهم لذلك أن البحث اللغوى الحديث، والمقام على مفهوم التمكُّن اللغوى، لابد أن يتناول اللغة كما تستخدمها الجماعة الناطقة بها، حيث الحدس اللغوى لهذه الجماعة هو المحك الأساسى فى الحكم على سلامة منطوقاتها ومدى مقبوليتها" (ص 68-69").
ويشير الدكتور إلى: "... مشكلات أزمتنا اللغوية الطاحنة، وعلى رأسها تخلف التنظير لها، وثنائيتها "فصحى-عامية"، وقصور أساليب تعليمها" (ص 171).
ويشير كذلك إلى ناحية أخرى لظاهرة الازدواج قائلا: "... أصبحت ظاهرة فقر المفردات متفشية بصورة تقترب إلى حد الوباء، ولا شك فى أن السبب الرئيسى لذلك هو تفشى العامية ذات القدرة المحدودة على التعامل مع المعانى العامة، ومع العلم، ومع المجردات عموما، رغم قدرتها - كأىّ لغة أخرى - على استقطاب الألفاظ وابتداعها" (ص 493).
والإعراب وارد هنا باعتباره من خصائص "العربية" الأساسية التى تتخلص منها العامية. لكن هذا الحكم الذى ينظر إلى الإعراب على أنه إحدى الخصائص الأساسية "للعربية" سرعان ما يجرفه سيلٌ من التصورات المتناقضة.
ويرى الدكتور نبيل على (ضمن تعداده للفروق الأساسية بين العربية والإنجليزية): ب: أن ترتيب الكلمات مقيد فى الإنجليزية مرن فى العربية، ولكنه يرى أيضا (وضمن نفس التعداد) جـ: أن نموذج الإنجليزية (فاعل فعل مفعول) وأن نموذج العربية (فعل فاعل مفعول)، فهو يرى بكلمات أخرى للدكتور أيضا أن ترتيب المكونات داخل الجملة الإنجليزية التامة يتخذ نمط (فاعل فعل مفعول) أىْ يأتى فيها الفاعل يليه الفعل فالمفعول به على حين أن العربية فى جوهرها هى لغة (فعل فاعل مفعول) إذْ يسبق الفعل الفاعل الذى يليه مفعوله (ص 82-83).
والحقيقة أن تقييد ترتيب المكونات داخل الجملة الإنجليزية ينسجم تماما مع نموذج لهذا التقييد فى تلك اللغة أىْ نموذج أو نمط (فاعل فعل مفعول)، فى الجملة المكونة من هذه العناصر بطبيعة الحال. ولا يمكن أن تعنى مرونة الترتيب فى العربية سوى أمر واحد هو عدم التقيد بنموذج واحد للترتيب، أىْ تعدُّد نماذج الترتيب، فكيف يمكننا أن نزعم أن هذه المرونة (هذا الانعدام للتقييد، هذا التعدد للنماذج) تتمثل فى نموذج واحد بذاته وليكن نموذج (فعل فاعل مفعول)؟
وسنلاحظ على الفور أن نموذج (فعل فاعل مفعول) ليس سوى نموذج من نموذجين لترتيب ما يسميه النحو العربى بالجملة الفعلية:
نموذج: فعل فاعل مفعول
ونموذج: فعل مفعول فاعل
وهما نموذجان ضمن نماذج أخرى فى نسق مرونة ترتيب عناصر الجملة، أىْ نسق الإعراب، كما أوضحنا فى الحلقة السابقة من هذا المقال.
ولأن الجملة التى تشتمل على عناصر الفعل والفاعل والمفعول تشتمل بالتالى على مقولتين نحويتين: الفعْل (فعْل) والفاعل (اسم) والمفعول (اسم) فإن نماذج الترتيب التى تكونها هذه العناصر (وهى ستة نماذج من الناحية الرياضية) يمكن تقسيمها من حيث بداية الجملة بهذا القسم أو ذاك من أقسام الكلام تقسيما ثنائيا إلى جملة فعلية (تبدأ بالفعل) وجملة اسمية (تبدأ بالاسم) وهذا تقسيم فرعى قد يكون هاما وقد لا يكون ولكنه على كل حال لا يمس المرونة النحوية (نموذجان للجملة الفعلية، وأربعة نماذج للجملة الاسمية: البادئة بالفاعل فى نموذجين وبالمفعول فى نموذجين). ولكن الدكتور نبيل يتحدث فى سياق نقده لصورية النحو العربى، عن الاهتمام الكبير الذى يُولِيه النحو العربى لظواهر "ضحلة" مرتبطة بالتجليات السطحية للجمل، ومن هذه الظواهر: "تضخيم الفروق بين الجملة الاسمية والفعلية، والمبتدأ والفاعل، وهو ما يبدو غريبا بالنسبة للُغةٍ (العربية) تتسم بالمرونة النحوية" (ص 374).
والحقيقة أن مرونة ترتيب الكلمات فى الجملة تسمح بأن تكون البداية بالفعل كما تسمح بأن تكون البداية بالاسم، وتسمح بالتالى بتقسيم فرعى إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ولا صلة لها بطبيعة الحال بالتضخيم الذى ينتقده الدكتور نبيل على عن حق لتقسيم فرعى. أما ازدوج المبتدأ والفاعل (أىْ ازدواج المسند إليه)، هذا الازدواج الذى ينتقده الدكتور عن حق أيضا، والذى يجعل المسند إليه مرة فاعلا ومرة مبتدأً، فلا صلة له بالمرونة أو التقييد فى حد ذاتهما بل يرجع مباشرة إلى فكرة نحوية خاطئة كانت لدى النحاة القدامى (ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين) تشترط فى الفاعل أن يتقدمه الفعل، أىْ أن يسبقه فى الترتيب (وهذا ليس فى أصل اللغة بل هو من وضع النحاة ولا يؤدى إلا إلى تعقيدات لا نهاية لها دون فائدة من أىّ نوع).
ومع ذلك، مع أنه ضد "تضخيم الفروق بين الجملة الاسمية والفعلية"، كما رأينا، يعود الدكتور فينظر إلى "افتراض عدم وجود جملة فعلية فى ‘العربية’ على أساس اعتبارها حالة خاصة من الجملة الاسمية" على أنه مفهوم يتعارض مع جوهر النحو العربى (ص 392) وليس المقصود هنا جوهر النحو العربى كعلم ينتقد الدكتور اهتمامه الكبير بظواهر ضحلة مرتبطة بالتجليات السطحية للجمل كالتقسيم إلى جملة اسمية وفعلية. فالحقيقة أن "افتراض عدم وجود جملة فعلية إلخ." يتعارض مع نموذج (فعل فاعل مفعول) الذى أعلنه الدكتور نموذجا للترتيب فى اللغة العربية التى قال الدكتور إنها لغة (فعل فاعل مفعول) والتى تستبعد مرونتها فى الحقيقة كل تفكير فى نموذج واحد للترتيب.
والحاصل أن الدكتور يقدم اللغة العربية على أنها لغة مرونة ترتيب ثم يجعلها لغة تقييد ترتيب، ويفرض نموذجا بذاته لهذا الترتيب أو لهذا التقييد للترتيب. كما أنه يأخذ على النحو العربى اهتمامه بالتقسيم إلى جملة اسمية وفعلية لكنه يصرّ على أن اللغة العربية هى لغة الجملة الفعلية، لغة (فعل فاعل مفعول)، فبأىّ معنى نتحدث عن جملة فعلية يتعارض "افتراض عدم وجودها" مع جوهر النحو العربى إنْ لم نكن نقصد الجملة البادئة بفعل فى تميُّزها عن الجملة البادئة باسم أىْ الجملة الاسمية، وهذا ما يعنى العودة إلى التقسيم الذى سبق النظر إليه على أنه ضحل وسطحى؟
على أن هذا التناقض المتكرر ربما كان وثيق الصلة بحقيقة أن الدكتور (الذى لا يفوتنى التنويه بأن كتابه القيم يفتح آفاقا واسعة أمام اللغة العربية) لا يقرّ بأن الإعراب يمثل مرحلة نحوية كبرى فى تطور اللغة العربية ولا يمثل أبدا ظاهرة ضحلة أو سطحية. وتشهد مواضع عديدة من الكتاب بأن الدكتور يدرك تماما أن الإعراب ليس ظاهرة نحوية عربية بل يمثل ظاهرة نحوية أوسع نطاقا كما يدرك تماما أن "ترتيب الكلمات داخل الجملة" له نسقان: مرن ومقيد، إلخ.. غير أن الدكتور يميل إلى التقليل من شأن الإعراب لعدم ربطه بوضوح كامل بين نسق مرونة الترتيب وبين الإعراب كوسيلة ضرورية لتمييز عناصر الجملة فى هذا النسق، فى غياب وسيلة أخرى لهذا التمييز، ولعدم ربطه كذلك بوضوح كامل بين نسق تقييد الترتيب وبين إسقاط الإعراب لأن تقييد الترتيب (أىْ وجود نموذج واحد للترتيب) صار الوسيلة الأساسية لتمييز عناصر الجملة، وفقد الإعراب وظيفته فسقط. وهكذا يكتب الدكتور "من وجهة نظر البعض تميل اللغات فى نموها إلى إسقاط علامات الإعراب كإشارات للدلالة على ترتيب الكلمات داخل الجملة، والتى يمكن استنتاجها من قرائن أخرى نحوية وصرفية ودلالية" (ص 265). فالدكتور يشير إلى "وجهة نظر البعض" وليس إلى وجهة نظره هو على وجه التحديد. وهو يحدد وظيفة الإعراب على أنها "إشارات للدلالة على ترتيب الكلمات داخل الجملة" وهذا تعبير خاطئ تماما فترتيب الكلمات داخل الجملة ليس بحاجة إلى إشارات تدل عليه، كما أن وظيفة الإعراب لا تتمثل على كل حال فى أية دلالة من أىّ نوع على ترتيب الكلمات داخل الجملة، بل تتمثل بالأحرى فى تحديد الطبيعة النحوية للكلمات داخل الجملة، أىْ فى تحديد عناصر الجملة التى تنتمى إليها الكلمات، فى نسق مرونة ترتيب عناصر الجملة، مهما كان ترتيب الكلمات، لأن المرونة تعنى تنوُّع هذا الترتيب، وبالتالى غياب وسيلة للدلالة على الطبيعة النحوية للكلمات، والاعتماد بالتالى على الإعراب وعلاماته. ولأن الدكتور لا يعطى هذه الوظيفة المحددة للإعراب فهو يتحدث دائما عن "قرائن أخرى نحوية وصرفية ودلالية" موجودة فى الجملة ويمكن أن نستنتج منها ما كان يمكن أن نستنتجه من علامات الإعراب. ومثل هذه النظرة التى تجعل من الإعراب مجرد قرينة بين قرائن من شأنها القيام بوظيفة نحوية بذاتها (من خلال الاستنتاج منها) بحيث يوجد الإعراب دون أن يضيف الكثير إلى تلك الوظيفة، ويسقط دون أن تخسر تلك الوظيفة شيئا (بفضل الوجود الدائم لتلك القرائن المتنوعة) - نقول إن مثل هذه النظرة تجعل من الإعراب وإسقاطه عبثا لا طائل تحته ولا معنى له ليس فى اللغة العربية وحدها بل فى كل لغة أخرى.
ورغم أن الإعراب كما عرفناه فى اللغة العربية وكذلك فى لغات عديدة أخرى قد يشتمل على عناصر كثيرة لا علاقة لها بالوظيفة الحاسمة للإعراب وتقييد الترتيب كمرحلتين نحويتين بديلتين (مثل إعراب المضارع فى العربية) وربما كانت هذه العناصر مجرد آثار باقية من وظائف سابقة موغلة فى القدم، فإن كل هذا لا يقلل من أهميته المتمثلة فى القيام بوظيفة حاسمة مهما بدت بسيطة: حاجة كل لغة إلى وسيلة بسيطة واضحة للغاية للتمييز بين المسند والمسند إليه، ولمجموعة من العلاقات التى تترتب على هذا التمييز، ولمجموعة من العلاقات الأخرى، والوسيلتان المعروفتان فى لغات كثيرة تنتمى إلى عائلات ومجموعات لغوية متباينة هما: وسيلة الإعراب، ووسيلة تقييد ترتيب عناصر الجملة، وهما مرحلتان متعاقبتان فى التطور النحوى للُّغات كما سبقت الإشارة.
ولأن الدكتور نبيل على لم يدرك إدراكا كاملا أبعاد مسألة الإعراب وإسقاطه، أو مسألة مرونة وتقييد ترتيب عناصر الجملة، لم يكن من الغريب أن يقترح: "اعتبار الإعراب ظاهرة سطحية بالمغزى الفنى للكلمة، وباعتباره قرينة ضمن عدة قرائن، وطرح فكرة كونه محورًا رئيسيًّا للنحو العربى" (ص 84)، وأن يعارض "طغيان ظاهرة الضبط الإعرابى" فى النحو العربى، باعتبارها فى "العربية": "ظاهرة سطحية، أىْ تلى استقرار الكلمات فى وضعها النهائى داخل الجمل" (ص 374) ولو صَحَّتْ هذه الفكرة الأخيرة لكان من شأن الاعتماد على استقرار (أىْ ترتيب) الكلمات داخل الجملة كأساس نحوى لهذه الجملة أن يعنى عدم الحاجة أصلا إلى الإعراب. ومن الجلى أن كاتب هذه السطور لا يقول هذا تمسكا (كمزايدة على الدكتور) بإعراب انقضى عهده، بل أقول هذا رغبة فى التحديد الواضح لأهمية ومغزى ووظيفة ودور الإعراب فى اللغة العربية المُضَرية (بالضاد) قديما وحديثا، وبالتالى رغبة فى التحديد الواضح لمغزى إسقاط الإعراب. على أن هذه الرغبة فى الفهم الواضح للمغزى النحوى للإعراب وإسقاطه تقودنا فى طريق العودة إلى ابن جنى وخاصة إلى ابن خلدون.











رابعا
عودة إلى ابن جنى و ابن خلدون

ونجد عند أبى الفتح عثمان بن جنى (الخصائص، دار الكتب المصرية، تحقيق محمد على النجار) وضوحا قاطعا فى أغلب مسائل هذا التطور النحوى للُّغة العربية من الإعراب إلى إسقاطه.
ويشير ابن جنى إلى أقدم الروايات الخاصة بظاهرة اللحن فى الكلام (وهى تلك الروايات التى تبدأ مع النبى: "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل"، وعمر، وعلى، وتنتهى بتكليف على ﻟ أبى الأسود الدؤلى بوضع النحو) ثم يشير إلى شيوع واستمرار واستفحال "فساد" ما "يُروى من أغلاط الناس" (الخصائص، الجزء الثانى، ص 8-9). وفى موضع لاحق يصل ابن جنى إلى مسألة ما يفرِّق بين اللغة العربية الفصيحة وكلام أهل الحضر فى زمانه فيقول: (وليس أحد من العرب الفصحاء إلا يقول: إنه يحكى كلام أبيه وسلفه، يتوارثونه آخرٌ عن أول، وتابع عن مُتَّبَع. وليس كذلك أهل الحضر، لأنهم يتظاهرون بينهم بأنهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربية الفصيحة. غير أن كلام أهل الحضر مُضاهٍ لكلام فصحاء العرب فى حروفهم، وتأليفهم، إلا أنهم أخلُّوا بأشياء من إعراب الكلام الفصيح. وهذا رأى أبو الحسن، وهو الصواب" (الخصائص، الجزء الثانى، ص 29) و أبو الحسن هو سعيد بن مسعدة، أىْ الأخفش الأوسط المتوفى سنة 210 هجرية. ونعرف نظرة ابن جنى إلى وظيفة الإعراب عندما يقدم هذا التعريف للإعراب: "هو الإبانة عن المعانى بالألفاظ، ألا ترى أنك إذا سمعتَ أكرمَ سعيدٌ أباه وشكر سعيدًا أبوه، علمتَ برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول" (الخصائص، الجزء الأول ص 35).
ويمكن أن نخرج من مناقشة ابن جنى بالأفكار الواضحة التالية:
أولا: وظيفة الإعراب: هى معرفة الفاعل من المفعول ورغم البساطة المتناهية لهذه الوظيفة فهى حاسمة وجوهرية كوسيلة نحوية لا غنى عنها، فى غياب نسق آخر، لتحديد الوظيفة النحوية للألفاظ فى الجملة.
ثانيا: معيار التمييز بين الكلامين أو اللغتين: كلام أهل الحضر يُضاهى كلام فصحاء العرب أو اللغة العربية الفصيحة "المُعْرَبة" (من الإعراب) فى الكلمات والتأليف ولا يفرق بينهما إلا أن أهل الحضر (أخلّوا) بالإعراب أو بأشياء منه، ولهذا فإن ما يدَّعيه أهل الحضر من ترك ومخالفة كلام العرب ادعاء باطل، وهكذا فإن الفرق بين الكلامين أو اللغتين يتمثل فى الإعراب وإسقاطه.
ثالثا: هى نفس اللغة رغم إسقاطه الإعراب: يفسر ابن جنى هذا التطور اللغوى فى إطار نظرية اللحن والأغلاط والفساد لكنه لا يفوته مع ذلك واقع أن هذا الكلام يضاهى الآخر "إلا فى الإعراب" فليس كلام الحضر سوى اللغة العربية ذاتها لكنْ دون إعراب.
رابعا: من الناحية التاريخية: يعود ابن جنى باللحن والفساد إلى فجر الإسلام ويشير إلى استفحالهما بعد ذلك، ونصل إلى زمانه "القرن الرابع الهجرى، العاشر الميلادى" فنجد الظاهرة تكتمل متخذّة شكل إسقاط الإعراب، لكنه ينسب هذا الرأى إلى أبى الحسن، وبالتالى إلى زمانه، وهكذا فربما كانت هذه الظاهرة "ظاهرة استفحال الإخلال بالإعراب وإسقاطه" ترجع إلى القرن الثانى الهجرى بالإضافة إلى أن بدايات الظاهرة أقدم من كل هذا بكثير وربما كانت أقدم حتى من روايات فجر الإسلام التى أشرنا إليها منذ قليل.
خامسا: وأخيرا، غياب مفهوم تقييد ترتيب عناصر الجملة: حيث يحيط الغموض، على الأقل فى حدود الاستشهادات الحالية من ابن جنى، بمسألة ما الذى كان يقوم بوظيفة إظهار الفاعل من المفعول بعد إسقاط الإعراب.
ويعالج ابن خلدون المسألة المطروحة هنا فى الفصول من 36 إلى 50 من الباب السادس من مقدمته الشهيرة "المكتبة التجارية - مصر". وكالعادة يقدم ابن خلدون فى فصوله فهما تطوريا متقدما للُّغة العربية تجد فيه العديد من مشكلات تطورها حلولا حقيقية. وحسب هذا الفهم نجد "اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذْ هى ملكات فى اللسان للعبارة عن المعانى" (المقدمة، ص 554) ولهذا فإن فساد ملكة من ملكات اللسان العربى أو اللغة العربية (مثل فساد الإعراب) ليس فساد الانحطاط الشامل لهذا اللسان أو هذه اللغة، حيث الفساد زوال والكون حصول، دون حكم مسبق لكل من الزوال والحصول أو على كل منهما. ذلك أن فساد الإعراب يعنى عند ابن خلدون انتقال وظيفته إلى وسيلة أخرى غير وسيلة الإعراب، وبالتالى فإن اختفاء الإعراب لا يدل فى نظره على انحطاط أو عامية اللغة العربية غير المُعْربة (من الإعراب) ولا على فساد هذه العامية المزعومة، بل يدل ببساطة، وعلى وجه الحصر، على انتقال وظيفة معرفة الفاعل من المفعول من أداة (الإعراب) إلى أداة أخرى، وسنرى بعد قليل كيف كان ابن خلدون سبّاقا إلى تحديد وتسمية هذه الأداة الأخرى.
ويفترض ابن خلدون ملكة أولى هى ملكة اللسان العربى المضرى أو ملكة اللغة العربية المضرية. ويوضح أن هذه الملكة فسدتْ من طريقيْن: طريق متاخمة ومخالطة العرب واللغة العربية فى شبه الجزيرة العربية، موطن هذا اللسان، لشعوب ولغات أخرى من جميع الجهات، وطريق الخروج من شبه الجزيرة العربية فى سياق الفتوحات الإسلامية والاختلاط على نطاق أوسع بالشعوب واللغات الأخرى. وبطبيعة الحال فلا مناص من الاعتراف بهذين الطريقين لاحتكاك وتفاعل اللغة العربية منذ قديم الزمان، قبل وبعد الإسلام، مع اللغات المجاورة أو المغزوة أو الغازية، وكانت نتائج هذه التفاعلات موضوعاً لتصنيف المؤلفات منذ القديم، خاصة فى مجال تغلغل الألفاظ الأعجمية فى اللغة العربية منذ أقدم العهود. أما المشكلة التى يطلق ابن خلدون فرضية بشأنها دون أن يكون قادرا على إثباتها فهى تتصل بمسألة إلى أىّ مدى كانت هذه المخالطة (فى عهديْها أو شكليْها الكبيرين، عهد أو شكل التجاور مع البلدان الأخرى بشعوبها ولغاتها، وعهد أو شكل البلدان المفتوحة) مسئولة عن "فساد الإعراب" بالذات أىْ عن انتقال وظيفة الإعراب إلى أداة أخرى مختلفة تماما. فهل كان هذا الانقلاب (إسقاط الإعراب) نتيجة تراكمية لتأثير اللغات الأخرى أم كان نتيجة تراكمية لتطور تدريجى من داخل اللغة العربية ذاتها، من داخل قلبها الجغرافى واللغوى والثقافى، سواء فى الحجاز وقريش أو فى المراكز العربية الجديدة بعد الفتوحات لكنْ بعيدا عن تأثير لغات البلدان المفتوحة؟ وسوف نعود إلى هذا السؤال فيما بعد، بعد أن نتتبَّع كيف يناقش ابن خلدون مختلف جوانب المسألة المطروحة فى هذا البحث.
ويتحدث ابن خلدون عن اللغات بوصفها ملكات وينتقل إلى الحديث عن ملكة اللغة العربية فيقول: "وهذا هو معنى ما تقول العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أىْ بالملكة الأولى التى أُخذتْ عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم ثم إنه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم وسبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع فى العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التى كانت للعرب [...] فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى وهذا معنى فساد اللسان العربى ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم [...] أما مَنْ بَعُدَ عنهم من [...] المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة [...] وعلى نسبة بُعْدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم فى الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية" (المقدمة ص 555).
وفى موضع آخر، يتحدث ابن خلدون عن العهد الآخر أو الشكل الآخر لتفاعل اللغة العربية مع اللغات الأخرى (لغات البلدان المفتوحة، فى هذه الحالة) فيقول: "فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب المُلْك الذى كان فى أيدى الأمم والدول وخالطوا العجم تغيّرتْ تلك الملكة بما ألْقَى إليها السمعُ من المخالفات التى للمستعربين والسمع أبو الملكات اللسانية ففسدتْ بما أُلْقِىَ إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع وخشى أهل العلو منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث عن المفهوم فاستنبطوا من مجارى كلامهم قوانين لتلك الملكة [...] واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلى من بنى كنانة ويقال بإشارة من على رضى الله عنه، لأنه رأى تغيُّر الملكة فأشار عليه بحفظها" (المقدمة ص 546).
ويقول فى موضع آخر، حول نفس النقطة: "وإنما وقعتْ العناية بلسان مضر لما فسدت بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب وصارت ملكته على غير الصورة التى كانت أوّلًا فانقلب لغة أخرى وكان القرآن منزَّلا به والحديث النبوى منقولا بلغته وهما أصلا الدين والملة فخُشى تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذى نُزِّلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه وصار علْما ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل سمّاه أهله بعلم النحو وصناعة العربية فأصبح فنا محفوظا وعلما مكتوبا وسُلَّما إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله وافيا" (المقدمة، صص 556-557). ورغم أن علم النحو لا يحتاج بالضرورة إلى ارتباط بين اللغة والدين لينشأ فقد نشأ هذا العلم، كغيره من العلوم اللغوية، فى مختلف الثقافات واللغات إلا أن العامل الدينى كان بارزا فى حالتنا فى نشأة النحو وجملة من العلوم اللغوية وغير اللغوية. واللافت للنظر أن ابن خلدون يدعو بعد كلماته الأخيرة السابقة إلى استقراء أحكام تعوض عن الحركات الإعرابية فى اللسان العربى فى عهده، أحكام لعلها قوانين تكون فى أواخره، لكى لا يؤدى إسقاط الإعراب، بعد أن صار واقعا راسخا، إلى انغلاق الكتاب والسنة على الأفهام وفكرة هذه الدعوة خاطئة كما سنرى وتنطوى على اعتقاد خاطئ بأن الكلام العربى (لغة القرآن والحديث) له إعراب ظاهر أو مكتشف وإعراب كامن لم يكتشف بعد، أو بأن اكتشاف النسق النحوى (الذى هو بديل الإعراب) فى لغة عهده (أو عهدنا) يعنى سريان هذا النسق على نص منقول بلغة لا صلة لها بهذا النسق الجديد (المرتبط بإسقاط الإعراب) فهى لغة إعراب ولا ينطبق عليها سوى الإعراب، وإذا كان نسق تقييد ترتيب عناصر الجملة ينطبق فى كثير من الأحيان على هذه اللغة، إلى جانب الإعراب، فهذا لا يعنى أنه إعراب من نوع آخر، بل يعنى أنه كان قد أخذ يزاحم الإعراب.
فماذا كانت محصلة هذا المسار أو الصيرورة من "الفساد"؟ وبعيدا عن كل تبسيط نجد عند ابن خلدون ليس محصلة واحدة بل محصلتين لغويتين مختلفتين ومتناقضتين لتفاعل اللغة العربية مع لغات أخرى فى بلدان الفتوحات. المحصلة الأولى: لغة عربية فسد إعرابها فانتقلت وظيفة الإعراب إلى أداة أخرى غير الإعراب. المحصلة الثانية: لغات لم يفسد إعرابها وحسب (بالقياس إلى العنصر العربى فيها) بل خالفت لسان مُضَر فى أكثر الأوضاع والتصاريف وغلبت عليها العجمة فهى لغات قائمة بذاتها بعيدة عن لغة مضر وكذلك عن لغة الجيل المعاصر ﻟ ابن خلدون. ويميز ابن خلدون بين هاتين المحصلتين قائلا إنه نشأت بين العرب فى عهده "لغة خالفت لغة سلفهم من مضر فى الإعراب جملة وفى كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر فى الإعراب وأكثر الأوضاع والتصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد، واختلفت هى فى نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق، فلأهل الشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس وأمصاره" (المقدمة، ص 582). وعن هذه اللغات غير العربية رغم تفاعلها زمنا مع العربية، نقرأ المزيد عند ابن خلدون: "عُرْف التخاطب فى الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مُضَر القديمة ولا بلغة أهل الجيل بل هى لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربى الذى لعهدنا وهى عن مضر أبعد، فأما أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر [...] وهى مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار فى اصطلاحاتهم فلُغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للُغة أهل المغرب وكذا أهل الأندلس معهما وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصودة والإبانة عما فى نفسه وهذا معنى اللسان واللغة، وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلنا فى لغة العرب لهذا العهد. وأما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة فمن خالط العجم أكثر كانت لغتُه عن ذلك اللسان الأصلى أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التى كانت للعرب ومن الملكة الثانية التى للعجم فعلى مقدار مايسمعونه من العجم ويَرْبَوْن عليه يَبْعُدُون عن الملكة الأولى واعتبرْ ذلك فى أمصار أفريقية والمغرب والأندلس والمشرق. أما افريقية والمغرب فخالطت ْالعربُ فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم ولم يكد يخلو منهم مصْرٌ ولا جيل فغلبت العُجْمة فيها على اللسان العربى الذى كان لهم وصارت لغة أخرى ممتزجة والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهى عن اللسان الأول أبعد وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم فى الأَكَرَة والفلاحين والسَّبْى الذين اتخذوهم خَوَلًا ودايات وأظآرًا ومراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تُخالف لغة مضر ويخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره وكأنه لغة أخرى لاستحكام ملكتها فى أجيالهم" "المقدمة، صص 558-559).
على أن ما يهمنا أكثر فى سياق هذا البحث هو اللغة العربية التى أسقطت الإعراب. فما هو، فى نظر ابن خلدون، الفارق الأساسى بينها وبين اللغة العربية المضرية أو القريشية أو القُرشية؟ وما هى، فى نظر ابن خلدون، وظيفة الإعراب؟ وما هى الأداة التى حلت محل الإعراب فى القيام بهذه الوظيفة فى المرحلة النحوية الجديدة؟ وأخيرا، هل ينال إسقاط الإعراب من مكانة اللغة التى أسقطته ومن بلاغتها كلغة أدبية؟
إجابة ابن خلدون الحاسمة عن مثل هذه الأسئلة هى التالية: اللغة العربية التى أسقطت الإعراب هى نفس اللغة المضرية أو القريشية، والفارق الجوهرى (إلى جانب فوارق أخرى أقل شأنا من الناحية النحوية وإلى جوانب فوارق أخرى غيرها أيضا) هو إسقاط الإعراب، وتتمثل وظيفة الإعراب فى الدلالة على المبتدأ والخبر، والإسناد والمسند والمسند إليه، والفاعل والمفعول، وقد انتقلت هذه الوظيفة إلى أداة أخرى، وإسقاط الإعراب لا ينال من مكانة اللغة الجديدة ولا من بلاغتها كلغة شعر وأدب. ومن ناحية الشهادة التاريخية يؤكد لنا ابن خلدون أن الإعراب كان (لم يبق له أثر) فى زمنه "القرن الثامن الهجرى، الرابع عشر الميلادى".
يقول ابن خلدون عن اللغة العربية أن "أكثر الأوضاع باقية فى موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر" (المقدمة، ص 545). ويقول: "فسدت ملكة اللسان العربى فى الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعرب" (المقدمة، ص 548). ونقرأ: "ولم يُفْقَد من أحوال اللسان المدوَّن إلا حركات الإعراب فى أواخر الكلم فقط الذى لزم فى لسان مُضر طريقة واحدة ومَهْيَعًا معروفا وهو الإعراب وهو بعض من أحكام اللسان" (المقدمة، ص 556). وقد سبق أن رأينا أن ابن خلدون يرى الاختلاف بين عربية عهده وعربية مُضَر "فى الإعراب جملة وفى كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات". وهكذا تدل كافة صياغاته على أنه يعطى للإعراب مكان الصدارة بل يجعل منه فى كثير من الأحيان مناط الاختلاف على وجه الحصر. ويبحث ابن خلدون الوسيلة التى حلت محل الإعراب فى أداء وظيفته. ويمكن القول إنه يُعْطى ثلاث إجابات، الإجابة الصحيحة واحدة منها وهى دقيقة الصياغة تماما وإنْ كانت موجزة، وينبغى، قبل الإلمام بها، أن نلاحظ أن إشارته إلى إجابتَيْن أُخْرَيَيْن تدل على أن الإجابة الصحيحة لم تكن مستقرة راسخة لديه، بل كانت تُراوغه فتواتيه تارة وتفلت منه طورا. وسيكون من المفيد أن نُلمّ بالإجابتَيْن الأخريَيْن. والإجابة الأولى هى أن الوسيلة التى حلت محل الإعراب هى "قرائن الكلام"، وهو يقول فى ذلك: "ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب" (المقدمة، ص 583). ومن الجلى أن هذه الإجابة خاطئة تماما فلا غنى عن قرائن الكلام مع الإعراب ومع إسقاطه دون شك للدلالة على "خصوصيات" لكن ليس للدلالة على الفاعل والمفعول وما إليهما. والإجابة الثانية نجدها فى قوله: "ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربى لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية فى دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه تكون بها قوانين تخصها ولعلها تكون فى أواخره على غير المنهاج الأول فى لغة مُضَر فليست اللغات وملكاتها مجانا" (المقدمة، ص 557). والحقيقة أن هذه الإجابة غامضة بقدر ما إن توحى به خاطئ. فكأن ابن خلدون اعتقد أن إعرابا من نوع جديد (القوانين التى تعوض عن الحركات الإعرابية ولعلها تكون فى أواخر الكلام العربى فى عهده) هو الذى حل محل الإعراب المُضَرىّ!
والحقيقة أن ابن خلدون لم يكن بحاجة إلى إرباك نفسه بهاتين الإجابتين (اللتين تدلان من جهة أخرى على الاجتهاد والبحث الحقيقيَّيْن) هو الذى امتلك الإجابة الصحيحة عن السؤال، وقد وردت هذه الإجابة فى موضع سابق على موضع الاستشهاديْن السابقيْن.
ففى الفصل الثامن والثلاثين (وعنوانه: فى أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مُضَر وحمير) يقول ابن خلدون: "وذلك أننا نجدها [أىْ لغة العرب فى عهده] فى بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سَنَنِ اللسان المُضَرى ولم يُفقد منها إلا دلالة الحركات على تعيُّن الفاعل من المفعول فاعتاضوا عنها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد" (المقدمة، ص 555)، وهكذا يقدِّم ابن خلدون نفس الإجابة التى توصل إليها العلم اللغوى بعده بقرون، فالوسيلة الجديدة للدلالة على "تعيُّن الفاعل من المفعول" إنما هى "التقديم والتأخير" والمقصود هو الترتيب المقيد بتقديم الفاعل وتأخير المفعول، فالفاعل والمفعول إنما يُعرفان من المكان الثابت لكل منهما فى الجملة، بدلا من الإعراب بحركاته التى تلازم الفاعل وتلك التى تلازم المفعول. وكما سبق أن رأينا فإن الإعراب (فى أىّ لغة وليس فى اللغة العربية وحدها) لا يحل محله سوى هذا التقييد لترتيب عناصر الجملة والذى يتخذ هنا شكل "تقديم" الفاعل و"تأخير" المفعول به، وهذا هو الاتجاه السائد فى لغات إسقاط الإعراب جميعا.
فهل حدث هذا الانقلاب النحوى، هذا التحول من أداة إلى أداة أخرى لمعرفة الفاعل من المفعول، كمحصلة لتأثير لغات البلدان المفتوحة على اللغة العربية، كما يزعم ابن خلدون، أم كمحصلة لتطور طبيعى (مستقل) من داخل اللغة العربية ذاتها؟
والحقيقة أن ابن خلدون يمدُّنا بعناصر نظرية من شأنها أن تدحض (تطبيقه) لها. فإذا كان فساد الإعراب يرجع إلى صراع الإعراب المُضَرى مع نظام آخر بديل لا بد من افتراض أنه نظام "التقديم والتأخير" أىْ نظام تقييد ترتيب عناصر الجملة، مادام "سبب فسادها [أىْ الملكة] أن الناشئ من الجيل صار يسمع فى العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التى كانت للعرب [...] فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى وهذا معنى فساد اللسان العربى" كما سبق الاستشهاد من ابن خلدون، فقد كان من واجب ابن خلدون أن يُثْبت (أو حتى يقترح من التثبُّت من" أن لغات البلدان المجاورة أو المفتوحة "أو الغازية بين الفتح الإسلامى وعهد ابن خلدون) كانت لغات تعتمد على "التقديم والتأخير") وليس على الإعراب للدلالة على "تعيُّن الفاعل من المفعول". وهذا ما لم يثبته ابن خلدون (وما لم يطرحه أصلا)، ويبدو أنه لم يكن بوسعه إثباته، لأننا نعلم أن نظام "التقديم والتأخير" حل محل نظام الإعراب فى اللغة العربية فى كل مكان بالعالم العربى على أرض كانت تغطيها لغات كان نظامها فى أغلب (إنْ لم يكن فى كافة) الأحوال هو نظام الإعراب وليس نظام تقييد ترتيب عناصر الجملة. وإذا كنا لا نقلل من شأن "الاختلاط" الناشئ عن الصراع بين أكثر من نظام إعرابى للُغات تقوم جميعا على الإعراب، فمن الصعوبة بمكان أن نفترض أن هذا الصراع يؤدى إلى إسقاط الإعراب بالذات وبالضرورة وفى كافة الأحوال، كما حدث فى حالة اللغة العربية. وقد سبق أن رأينا عند ابن خلدون أن هناك مساريْن لتفاعل اللغة العربية مع لغات الشعوب المجاورة أو المغزوة أو الغازية. مسار تحسمه الأغلبية العربية التى تنتصر لغتها انتصارا ساحقا ليس فقط فى نظامها الخاص بتمييز الفاعل من المفعول بل كذلك فى كافة جوانبها المعجمية والدلالية والصرفية والنحوية والصوتية، ومسار تحسمه الأغلبية "الأعجمية" التى تنتصر لغتها انتصارا ساحقا فى كافة هذه الجوانب. والمسار الأول هو الذى أدى إلى انتصار اللغة العربية لتحل محل لغات مغزوة عديدة كانت تغطى أراضى العالم العربى الراهن. والمسار الثانى هو الذى أدى إلى انتصار لغات كالفارسية والتركية والإسپانية فى بلدان الفتوحات العربية الإسلامية. ومن الصعوبة بمكان أن نفترض أن اللغة العربية انتصرت انتصارا ساحقا على اللغات الأخرى (حيثما تحقق هذا الانتصار) ولحقت بها الهزيمة فى جانب واحد من جوانب نحوها من خلال إسقاط الإعراب فى سياق الصراع مع لغات تقوم على الإعراب أو تقوم على نقيضه (على المرونة أو على التقييد فى ترتيب عناصر الجملة)، ذلك أن انتصار العربية كان شاملا حيثما انتصرت مهما كان من شأن ما دخل فيها من اللغات الأخرى التى حاصرتها اللغة العربية وضيقت الخناق عليها ونجحت فى تصفيتها وحكمت عليها بالموت فى نهاية المطاف، تماما كما كان انتصار اللغات الأخرى، كالإسپانية والفارسية والتركية، شاملا مهما كان من شأن ما دخل فيها من اللغة العربية.
وبالإضافة إلى الروايات المتواترة التى تشير بقوة إلى قِدَم وعمق ظاهرة اللحن بما فى ذلك اللحن الإعرابى فى اللغة العربية، الأمر الذى يدل فى حد ذاته على أن مسار إسقاط الإعراب كان مسارا طويلا من التطور الداخلى (القديم والعميق والتراكمى) فى اللغة العربية، ينبغى أن نلاحظ أنه لا مبرر حقيقيا لافتراض أن إسقاط الإعراب لا يحدث إلا نتيجة لاختلال يصيب نظام الإعراب فى لغة نتيجة لصراعه مع نظام إعراب آخر يختلف فى خصائصه ومورفيماته، أو مع نظام تقييد الترتيب فى لغة أو لغات أخرى. والأوفق أن نفترض وجود ضرورة نحوية دائمة للدلالة على الفاعل من المفعول، أو المبتدأ من الخبر، أو الإسناد والمسند والمسند إليه، إذا استعدْنا صياغات ابن خلدون. وهذه الضرورة النحوية الدائمة تتحقق بوسيلة تلائمها، والوسيلة التى نلاحظها فى مختلف اللغات، خلال الآلاف الأخيرة من السنين، وفى مختلف أنحاء العالم، تقوم على تقييد العنصر الواحد من عناصر الجملة بعلامة ثابتة تدلّ عليه، حيث يمكن استخدام آلاف وآلاف الأسماء كفاعل فنعرف أن هذا الاسم أو ذاك فاعل بعلامة تخص الفاعل، وهذه العلامة عبارة عن حركة كما هو الحال فى الإعراب (أو تنويعات إعرابية كاستخدام ضمائر للفاعل والمفعول فى بعض اللغات) أو مكان محدَّد فى ترتيب كلمات الجملة (فإذا كان هناك اسمان أحدهما فاعل والآخر مفعول به فالسابق هو الفاعل واللاحق هو المفعول به" كما فى نظام تقييد ترتيب عناصر الجملة. ولا غنًى عن تقييد الفاعل بهذه الطريقة أو تلك وكذلك المفعول.
والحقيقة أن نظام تقييد ترتيب عناصر الجملة أبسط بما لا يقاس من نظام الإعراب، وبالتالى فإن الاقتصاد اللغوى لابد أن يخلق الميل إلى الانتقال من نظام الإعراب إلى النظام الآخر فى كل لغة، كما تشهد شواهد لا حصر لها، وليس هناك ما يمنع عمل هذا الاقتصاد اللغوى أو يشترط لعمله صراعا مع لغات أخرى. على أننا ينبغى أن نعترف بأننا لا نزال بعيدين جدا عن اكتشاف شامل لا يعانى من الثغرات والفجوات والألغاز للمسار التاريخى الفعلى المحدَّد لانتقال اللغة العربية من الإعراب إلى إسقاطه.
وقبل أن ننتهى من هذه الحلقة من حلقات مقالنا عن الازدواج اللغوى، لعل من الطبيعى (فيما يتعلق بالشعر المكتوب باللغة العربية "لهذا العهد")، أن نستدعى ابن خلدون ليؤيدنا برده البالغ القسوة على النحاة الذين حملوا نفس الحملة على شعر عهده وطعنوا فى بلاغته بسبب إسقاط الإعراب، حيث يعلن ابن خلدون أن "الإعراب لا مدخل له فى البلاغة"، ولنقرأْ معا هذين الاستشهاديْن باعتبارهما شهادة ابن خلدون لشعر وأدب وبلاغة لغة عهده وعهدنا:
"ومازالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد ولا تلتفتنَّ فى ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت وأن اللسان العربى فسد اعتبارا بما وقع فى أواخر الكلم من فساد الإعراب الذى يتدارسون قوانينه، وهى مقالة دسَّها التشيُّع فى طباعهم وألقاها القصور فى أفئدتهم وإلَّا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل فى موضوعاتها الأولى والتعبير عن المقاصد والتعاون فيه بتفاوت الإبانة موجودة فى كلامهم لهذا العهد وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة فى مخاطباتهم وفهمُ الخطيب المصقع فى محافلهم ومجامعهم والشاعر المفلق على أساليب لغتهم والذوقُ الصحيحُ والطبعُ السليمُ شاهدان بذلك، ولم يُفْقَد من أحوال اللسان المدوَّن إلا حركات الإعراب فى أواخر الكلم" (المقدمة، ص 556).
"ولهؤلاء العرب فى هذا الشعر بلاغة فائقة وفيهم الفحول والمتأخرون والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد وخصوصا علم اللسان يستنكر صاحبها هذه الفنون التى لهم إذا سمعها ويَمُجُّ نظمهم إذا أنشدوا ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها، وهذا إنما أتى من فقدان الملكة فى لغتهم فلو حصلت لهم ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إنْ كان سليما من الآفات فى فطرته ونظره، وإلا فالإعراب لا مدخل له فى البلاغة إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالا على الفاعل والنصب دالا على المفعول أو بالعكس، وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو فى لغتهم هذه، فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح فى ملكة واشتهر صَحَّتْ [صِحَّة فى الأصل] الدلالة، وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحتْ البلاغة ولا عبرة بقوانين النحاة فى ذلك وأساليب الشعر وفنونه موجودة فى أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب فى أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر" (المقدمة، ص 583).
وهكذا ينقلنا ابن خلدون نقلًا طبيعيًّا سلسًا إلى مناقشة مكثفة للُّغة المسماة بالعامية المصرية.














2
لهجة القاهرة ونظام الصرف العربى
(نُشر بمجلة الثقافة الجديدة القاهرية، يناير 2010)

هناك دعاوى عريضة تؤكد أن ما يسمى باللغة العربية العامية تشتمل على خصائص جوهرية، موروثة عن لغات سابقة فى عدد من البلدان العربية، تبتعد بها بشدة عن اللغة العربية المُضـَرية وتجعل منها لغات مستقلة تماما، وهنا تبرز العربية المصرية بادعاء أنها تشتمل على خصائص معجمية ودلالية وصوتية وصرفية ونحوية موروثة عن اللغة المصرية القديمة (الفرعونية)، وبالأخص على قدر هائل من المفردات الفرعونية، وتصل أعدادها عند بعض أصحاب هذه الدعاوى إلى أرقام مزعومة ضخمة بصورة مفزعة.
ولا شك بطبيعة الحال فى أن أىّ لغة حية لا يمكن إلا أن تكون تطورية: ألفاظ تموت وألفاظ تولد وألفاظ تجرى استعارتها من لغات أخرى، كما تكتسب الألفاظ دلالات جديدة وتغدو بعض دلالاتها القديمة قليلة الاستعمال أو مهجورة أو ميتة، وكذلك تحدث تغيرات صوتية متنوعة وأخرى صرفية ونحوية، تجعل من المرحلة الجديدة لأىّ لغة حالة مختلفة للغاية عنها فى مراحل سابقة. وكل هذه الخصائص وغيرها بما فى ذلك تغير أساليب التعبير الشفاهى والمكتوب واردة وقائمة فى مختلف اللهجات العربية، ولكنْ بعيدا جدا عن الدعاوى الشوڤينية (أو: الشعوبية) التى تتعصب لهذ الشعب العربى أو ذاك أو للغته زاعمة أن هذه اللغة أو اللهجة فى هذا القطر أو ذاك لغة قائمة بذاتها.
على أن المناقشة التفصيلية المحددة لهذه الدعاوى تستطيع وحدها أن تحسم أمرها تماما. ويمكن لمثل هذه المناقشة أن توضح، الحجم الحقيقى للموروث اللغوى الفرعونى (وحتى غير الفرعونى نظرا لكثرة الغزاة والفاتحين الذين تعاقبوا على مصر) فى العربية المصرية. ومن الجلى أن المجال لا يتسع هنا لمثل هذه المناقشة، وسأكتفى بالتالى بقليل من الملاحظات مع التركيز بعد ذلك على نقطة واحدة هى النظام الصرفى للأفعال فى لهجة القاهرة باعتباره امتدادا مباشرا للنظام الصرفى للأفعال فى "اللغة الفصحى".
ولهجة القاهرة بالطبع واحدة من اللهجات العربية الحالية، واللهجة إنما هى الشكل الوحيد الممكن للتوزيع الجغرافى للغة، فما هى اللغة التى تـُعتبر هذه اللهجات أشكال توزيعها فى المناطق الجغرافية اللغوية؟
وقد يبدو بمثابة البديهية أنها لهجات من اللغة العربية "الفصحى الحديثة"، غير أن هناك مسافة هائلة بين ما يبدو على السطح وبين العلاقة الحقيقية. وأشير بسرعة إلى أن الاختلاف الرئيسى بين "الفصحى" وهذه اللهجات يتمثل فى إسقاط الإعراب. فاللهجات العربية جميعا أسقطت الإعراب المُضَرى واستعاضت عنه بترتيب الكلمات فى الجملة حيث لا نعرف الفاعل من المفعول به برفع الأول ونصب الثانى كما فى الإعراب، بل بمجيئ الفاعل قبل المفعول به فى ترتيب كلمات الجملة. وربما كان المعيار الرئيسى الذى يعتمده بعض اللغويين لوصم هذه اللهجات بأنها "عامية" هو هذا الإسقاط للإعراب.
ذلك أن النحو العربى، وهو علم بالغ النضج غير أنه كان ابن زمانه، خلط بين النحو والإعراب إلى حد أنه جعل من النحو علما لأحوال الإعراب، مع أن الإعراب لا يعدو أن يكون أداة مهمة من أدوات النحو فى مرحلة من مراحل اللغة، أىّ لغة وليس اللغة العربية وحدها.
ولا يعنى إسقاط الإعراب سقوط النحو أو زواله. فالنحو موجود فى وجود الإعراب كما فى غيابه (اعتمادا على بديله). فهناك نسقان عامان لبناء الجملة من كلماتها (أو بالأحرى: من "عناصرها"): نسق مرونة ترتيب عناصر الجملة وهذا هو نسق الإعراب بمورفيماته التى تتغير بتغير الوظائف النحوية للكلمات فى الجملة (ولأسباب لفظية أيضا). وهنا تقتضى مرونة الترتيب استعمال هذه المورفيمات الإعرابية التى تميز، على سبيل المثال، الفاعل بمورفيمات الرفع والمفعول به بمورفيمات النصب (فى أواخر الكلم كما فى اللغة العربية كقاعدة أغلبية وفى غير هذه المواضع فى لغات أخرى تقوم على الإعراب أيضا).
والنسق الآخر لبناء الجملة هو نسق تقييد ترتيب عناصر الجملة. وهذا النسق يستغنى عن الإعراب فيسقطه اعتمادا على تقييد عناصر الجملة بالترتيب ذاته، وهو تقييد مكانى مثل تقييد الفاعل بترتيب ومكان فى الجملة بدلا من تقييده وتمييزه بعلامات الرفع، مثلا.
وتنتمى لهجة القاهرة وغيرها من اللهجات العربية الراهنة إلى نسق تقييد ترتيب عناصر الجملة مع إسقاط الإعراب. وهى بالتالى لهجات من اللغة العربية الراهنة غير المعربة التى تصنع مع "الفصحى" ازدواجا لغويا مفزعا بحجمه ونتائجه الفادحة فى العالم العربى كله.
والحقيقة أن الإعراب ليس معيارا للفصاحة التى هى الإبانة والوضوح (وهما متحققان دون أدنى شك فى اللهجات العربية عند الناطقين بها) كما أنه ليس صفة جوهرية من صفات النحو، وهناك لغات كثيرة حولنا انتقلت من مرحلة الإعراب إلى مرحلة إسقاطه منذ عهد بعيد كالإنجليزية المنحدرة من الجرمانية المعربة أو الفرنسية المنحدرة من اللاتينية المعربة ولغات ما تزال تحتفظ بالإعراب كاللغة الروسية.
وهناك معيار شهير آخر فى مجال التمييز بين الفصحى والعامية، وهو اعتبار الفصحى لغة الثقافة والعامية لغة الحياة اليومية، وهو معيار يقوم بدوره على الإعراب فى هذه وإسقاطه فى تلك. على أن من الواجب أن نلاحظ أن الفصحى المُضَرية ذاتها بإعرابها المُضَرى ذاته كانت لغة الثقافة والحياة اليومية فى آن معا فى عصر الرواية (قبل نهاية القرن الثانى الهجرى فى الأمصار والقرن الرابع الهجرى فى البادية)، وأن نلاحظ أيضا أن الإنجليزية التى أسقطت الإعراب هى لغة الثقافة كما أنها لغة الحياة اليومية. فلا ينبغى إذن أن يقوم التمييز بين لغة الثقافة ولغة الحياة اليومية على أساس معيار الإعراب وإسقاطه كما يفعل كثير من اللغويين عندنا. وكما هو واضح فإن الإعراب عندما يكون قائما يشمل لغة الثقافة ولغة الحياة اليومية معا وعندما يسقط فإنه يسقط عن هاتين اللغتين معا أيضا. ومن الجدير بالذكر أن الغموض الشديد يحيط بمفهوم العامية عند أغلب لغويِّينا فى الماضى والحاضر فهم يضعون علامة التساوى بينها وبين لغة الحياة اليومية التى تشكل العامية فى الواقع أحد مستوياتها ضمن تصنيفات عديدة لمستويات اللغة.
ولما كانت اللغة ظاهرة تطورية وهى أداة التواصل فى حياة تطورية بدورها فإنه لا عجب فى أن نجد الاختلافات هائلة بين العربية الراهنة غير المعربة والعربية الفصحى المعربة المُضَرية والجديدة، وهى اختلافات معجمية ودلالية وصوتية وصرفية ونحوية واسعة للغاية. غير أن هذه الاختلافات، مهما كان عمقها، لا تجعل إحدى اللغتين فصحى والأخرى عامية، بل نحن فى الحقيقة إزاء عربية معربة وعربية غير معربة، وهذه الأخيرة هى التى تمثل اللهجات العربية الحالية فروعا منها، وهى ليست لغة الحياة اليومية وحدها حيث لا جدال فى اتساع نطاق استعمالها فى الثقافة وحتى التعليم بكل مستوياته.
كذلك ينبغى التشديد على أن النحو syntax كعلم لبناء الجملة لا يختلف من لغة إلى أخرى، فالنحو واحد وحيد فى كل لغات الأرض، المُعْرَبة وغير المُعْرَبة. إنه كالبحر الواحد الوحيد فى العالم الذى نسميه الأبيض فى مكان والأحمر فى مكان آخر والأسود فى مكان ثالث والمحيط الهادى فى مكان رابع. ويقوم التناظر النحوى عبر مختلف اللغات على واقع أنه يصوِّر الحياة البشرية المتناظرة، فالحدث هو الفعل، ومَنْ قام بالفعل أىْ بالحدث (أو قام به الفعل أو الحدث) هو الفاعل أو المسند إليه، ويمكن أن لا يتجاوز الحدث نطاق الفاعل المسند إليه فيكون الفعل لازما، ويمكن أن يتجاوزه ليقع على غيره فيكون الفعل متعديا إلى مفعول به واحد أو إلى مفعولين (وهذه هى حالة الأفعال التى تناظر أفعال أعطى وأخواتها فى كل لغات الأرض)، أما إذا كان الفعل فعلا رابطا وليس حدثا بمعنى الكلمة فإنه يحتاج فى كل اللغات إلى متمم (اسم أو صفة) للفاعل (المسند إليه) أو إلى ظرف (ظرف مكان بصورة نموذجية). وهذه هى المفاهيم أو المقولات النحوية الأساسية فى كل لغات الأرض وهى عناصر بناء الجملة فيها جميعا.
وخلاصة ما سبق هى أن العربية الحالية غير المعربة بمختلف لهجاتها إنما هى امتداد مباشر (مع إسقاط الإعراب) للغة العربية الأصلية الموروثة بصورة مزدوجة فى الفصحى المعاصرة واللهجات العربية الراهنة فى آن معا.
ولا يمكن للباحث الموضوعى إلا أن يُسلـِّم بواقع أن معجم (ألفاظ ودلالات) اللهجات العربية الراهنة (باستثناءات تؤكد القاعدة) امتداد مباشر لمعجم لسان العرب، وأعنى معجم اللغة العربية الواحدة بمختلف مراحلها ومستوياتها ولهجاتها.
وإذا كان النحو الواحد يشمل العربية المعربة وغير المعربة (بل تشترك فيه كل لغات العالم)، كما يوحِّد المعجم العربى الموروث بألفاظه ودلالاتها رغم التطور المعجمى بين هاتين العربيتين، وإذا كان التطور الصوتى لا مناص منه فى أىّ لغة (حتى من الجيل إلى الجيل الذى يليه) فإن النظام الصرفى، أىْ نظام بناء الكلمة العربية، وهو نظام يشمل ألفاظ المعجم، يؤكد هذه الوحدة، هذه الاستمرارية بين العربيتين المعربة وغير المعربة.
وتتضح حقيقة هذه الوحدة أو الاستمرارية المعجمية إذا نظرنا إلى أفعال اللغة العربية حيث يشكل المعجم العربى الأصلى الموروث الغالبية (ربما أكثر من 95٪) من أفعال لهجة القاهرة، وإذا كانت هناك ألفاظ مستعارة فى هذه اللهجة من لغات أخرى قديمة أو حديثة وهذه ظاهرة لاجدال فيها، ولكنْ لا داعى للمبالغة فيها، فإن الأفعال غير العربية الأصل قليلة للغاية حقا فى هذه اللهجة.
ولا يخفى على القارئ أن الفعل هو محور ألفاظ المعجم، حيث تتوالد فى ارتباط مباشر به أغلب الأسماء: مصادره (الحقيقية والميمية والمؤوَّلة) ومشتقاته. وهذا هو المنبع الحقيقى لمئات الآلاف من ثروة اللغة العربية من الأسماء والصفات (المصدر، أسماء الفاعل والمفعول والزمان والمكان والآلة والصفة المشبهة إلخ..). كما أنه لا جدال فى الأهمية المحورية للفعل فى نظام الصرف العربى كله. ويبدأ صرف الفعل بتصنيف أبنيته، بكل ما ينطوى عليه كل بناء من سلامة وتضعيف وهمز وإعلال، وبكل ما يشتمل عليه كل بناء من دلالات على قاعدة الأغلبية، ثم يقوم بالتصريف الذى يعنى إسناد كل فعل (من آلاف الآفعال وكثرة من الأبنية وعشرات من الأحوال المعقدة لكل بناء) إلى ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب فى عدة أزمنة فى كلٍّ من المبنى للمعلوم والمبنى للمجهول (أو المفعول).
وكما هو معروف جيدا فإن أبنية الأفعال فى اللغة العربية تنقسم إلى المجرد والمزيد، والمجرد ثلاثى (فعل) أو رباعى (فعلل)، والمزيد بحرف أو حرفين أو ثلاثة أحرف على مجرد الثلاثى تأتى منه أوزان الرباعى والخماسى والسداسى على التوالى، والمزيد بحرف أو حرفين على مجرد الرباعى تأتى منه أوزان الخماسى والسداسي.
وتحتفظ لهجة القاهرة بأبنية الأفعال هذه من حيث الأساس فأوزان مجرد الثلاثى ومجرد الرباعى ومزيد كل منهما هى محور هذا النظام الصرفى من الأبنية والأوزان، كما أنها تحتفظ بظواهر السالم (نصر، ضرب، فتح، إلخ.) والمضعف (ردّ، ضلّ، إلخ.) والمهموز (المهموز الأول والوسط والآخر) والمعتل (الناقص الواوى واليائى والأجوف الواوى واليائى والمثال الواوى واليائى وحتى اللفيف المقرون والمفروق) وكذلك الجمع بين بعض هذه الاعتبارات.
ويسهل اكتشاف التناظر شبه التام بين صرف الأفعال فى العربية المعربة ولهجة القاهرة من المقارنة التالية التى سأكتفى فيها بالمجرد السالم وما أصله سالم من المزيد:

الفصحى لهجة القاهرة
أولا: مجرد الثلاثى:
1: نَصَرَ يَنْصُرُ نَصَرْ يُنْصُرْ
2: ضَرَبَ يَضْرِبُ كَشَفْ يـِكْشِفْ
3: فَتَحَ يَفـْتـَحُ فَتَحْ يـِفـْتـَحْ
4: فَرِحَ يَفـْرَحُ فِرِحْ يـِفـْرَحْ
5: حَسِبَ يَحْسِبُ مِسِكْ يـِمْسِكْ
6: فَضِلَ يَفـْضُلُ صِبِرْ يُصْبـُرْ
7: ... ... طـُهُقْ يـِطـْهَقْ
8: شَرُفَ يَشـْرُفُ. صُبُرْ يـُصْبـُرْ
ثانيا: مزيد الثلاثى:
أ: رباعى: أ: أفـعَلَ 9: أكْرَمَ يُكْرِمُ أرْشَدْ يرشدْ
ب: فاعَلَ 10: ناضَلَ يُناضِلُ أ: هاجَرْ يـِهاجِرْ
ب: سامِحْ يـِسامِحْ
ج: فـَعَّلَ 11: كَرَّمَ يُكَرِّمُ أ: جَرَّبْ يـِجَرَّبْ
ب: سَجِّلْ يـِسَجِّلْ
ب: خماسى: أ: اِفـْتعَلَ 12: انتـصَرَ يَنتصًرُ أ: اسْتلَفْ يِستلِفْ
ب: اِشْتَغَلْ يِشْتَغَـَلْ
ب: اِنـْفَعَلَ 13: انـْكَسَرَ يَنـْكَسِرُ اِنعَزلْ يِنْعِزِلْ

ج: تـَفاعَلَ 14: تـَشاوَرَ يَتـَشاوَرُ أ: اِتْجاسَرْ يِتْجاسِرْ
ب: اِتجاهِلْ يتجاهِلْ
د: تـَفـَعَّلَ 15: تـَعَلـَّـم يَتـَعَلـَّمُ أ: اِتْجَبَّرْ يِتْجَبَّرْ
ب: اِتْجَنـِّبْ يِتْجَنـِّبْ
ه: اِفْعَلَّ 16: اِحْمَرَّ يَحْمَرُّ اِحْمَرّ يحْمَرّ
ج: سداسى: أ: اِستفعل 17: اِسْتغفَرَ يسْتغفِرُ أ: اِسْتغرَبْ يِسْتَغْرَبْ
ب: اِسْتعْمِلْ يِسْتعْمِلْ
ب: اِفعَوْعَلَ 18: اِعْشوْشَبَ يَعْشوْشِبُ ... ...
ج: اِفعالَّ 19: اِحْمارَّ يَحْمارّ ... ...
د: اِفعَوَّلَ 20: اِعْلوَّطَ يَعْلوِّطُ ... ...
د: سباعى: (است + فاعَلَ) 21: ... ... اِسْتِبارِكْ يِسْتِبارِكْ
(است + فعَّلَ) 22: ... ... اِسْترَبَّعْ يِسْتِرَبَّعْ
ثالثا: مجرد الرباعى:
فعْللَ: 23: دَحْرَجَ يُدَحْرِجُ أ: جَمْرَكْ يِجَمْرَكْ
ب: شِنْكِلْ يِشِنْكِلْ
رابعا:مزيد الرباعى:
أ:خماسى: تفعْللَ: 24: تدَحْرَجَ يتدَحْرَجُ أ: اِتْدَحْرَجْ يِتْدَحْرَجْ
ب: اِتْشَنكِلْ يِتْشَنْكِلْ
ب: سداسى: اِفعَنْلَلَ: 25: اِحْرَنجَمَ يَحْرَنجـِمُ ... ...
اِفعَللَّ: 26: اِقشعَرَّ يقشعِرُّ اِطْمَأنّْ يِطْمَئِنّْ
ج: سباعى: (است + فعللَ) 27: ... ... أ: اِسْتِحَمْرَقْ يسْتِحَمْرَقْ
ب: اِسْتِأمْرِكْ يِسْتِأمْرِكْ

ومع التناظر الذى لا جدال فيه والذى يعنى استمرارية نظام صرف الفعل العربى الأصلى فى العربية غير المعربة، يمكن إيجاز أبرز الاختلافات فيما يلى:
1: إسكان آخر الفعل فى الماضى والمضارع فى كل الأبنية.
2: فاء الفعل مفتوح مع فتح العين ومكسور مع كسر العين ومضموم مع ضم العين فى الماضى فى تصريف مجرد الثلاثى.
3: ياء المضارعة مضموم مع ضم العين، ومكسور فى الكتابة (مع الإمالة فى النطق) مع فتح أو كسر العين فى تصريف مجرد الثلاثى، ومكسور كتابة ونطقا فى تصريف غير الثلاثى.
4: الأبنية أفعل وافعلّ وافعللّ بقيت كما كانت فى الأصل العربى الموروث.
5: أبنية فعَّل وتفعَّل واستفعل وفعلَل وتفعلَل انشقّ كل بناء منها إلى بناءين أحدهما مفتوح ما قبل الآخر فى الماضى والمضارع والثانى مكسور ما قبل الآخر فى الماضى والمضارع.
6: البناءان فاعَل وتفاعَل انشقّ كل منهما إلى بناءين أحدهما مفتوح ما قبل الآخر فى الماضى مكسوره فى المضارع والثانى مكسور ما قبل الآخر فى الماضى والمضارع.
7: أبنية افعوعل وافعالَّ وافعوَّل وافعنلل القليلة الاستعمال أصلا غير واردة فى لهجة القاهرة.
8: بناء افتعل انشقّ إلى مفتوح ما قبل الآخر ومكسور ما قبل الآخر فى المضارع.
9: ظهور بناء جديد سُباعى أفعاله نادرة فى مزيد الثلاثى فى بناءين (استفاعِلْ = است + فاعِلْ، استفعَّلْ = است + فعَّل)، وفى مزيد الرباعى (استفعلل = است + فعْلِلْ) فى بناءين أحدهما مفتوح ما قبل الآخر فى الماضى والمضارع والثانى مكسور ما قبل الآخر فى الماضى والمضارع.
وهناك تغيرات مهمة أخرى منها انتقال أفعال كثيرة من باب إلى آخر فى مجرد الثلاثى (مثلا: فعل ضرب لم يعد فى باب ضرب) وتقلـُّص وزن الرباعى أَفـْعَلَ وانتقال أفعال كثيرة منه إلى مجرد الثلاثى مفتوح العين فى الماضى مكسور العين فى المضارع أىْ باب ضرب سابقا، وكل ذلك لأسباب صوتية.
ولا أظن أن هناك ردا أبلغ على دعوى ابتعاد اللهجات العربية الراهنة غير المعربة عن اللغة العربية، واقترابها من خصائص موروثة من لغات سابقة على الفتح العربى، من هذا التناظر (رغم الاختلافات) فى صرف الأفعال فى لهجة القاهرة، بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من تطابق معجمى لا تقلل منه الألفاظ المستعارة قديما أو حديثا من لغات أخرى.



















3
النحو العربى
بين شريف الشوباشى .. وسيبويه!
(نُشر هذا المقال فى جريدة القبس الكويتية - أغسطس 2004 –
وقد نشرته الجريدة المذكورة بتعديلات أدخلتْها بمعرفتها؛
وأنا أنشره الآن كما كتبتُه فى الأصل)

عاشت الحياة الثقافية فى مصر، خلال الأشهر القليلة الماضية، حالة خاصة، بل استثنائية. فالنحو العربى الذى لا يلقى فى العادة سوى الإهمال والإعراض واللامبلاة صار حديث الناس وقضية القضايا، منذ صدور كتاب لشريف الشوباشى، وكيل أول وزارة الثقافة فى مصر، بعنوان "لتحيا اللغة العربية .. يسقط سيبويه". وخلال هذه الأشهر القليلة صدرت طبعتان من الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (2004)، وقوبل الكتاب ومؤلفه بعاصفة من الهجوم الضارى تسابقت عليه الصحف والمجلات والندوات. ويبدو أن كتاب "يسقط سيبويه" سوف يفرض نفسه على مجلس الشعب المصرى، ولن يكون من المدهش أن يدخل المحاكم وحتى محاكم التفتيش العصرية، وأن يمرّ، من البداية إلى النهاية، فى المسار المعتاد للأزمات المماثلة فى بلادنا، وأنْ تنقلب المهزلة إلى مأساة حقيقية.
ومن اللافت للنظر أن سحر عبارة "يسقط سيبويه" كان قادرا وحده على إحداث هذا الانقلاب من اللامبالاة المعهودة فى هذا المجال إلى ثورة عارمة دفاعا عن علم النحو العربى و سيبويه الذى جمع فى مؤلفه الأشهر "الكتاب" أمثلته وقواعده من شيوخه وبالأخص من الخليل ابن أحمد الفراهيدى، ونقلها إلينا مع فيض من إضافاته المنهجية العميقة.
على أن كتاب "يسقط سيبويه" لا علاقة له فى حقيقة الأمر ﺑ سيبويه. فمثل هذه العلاقة يمكن تصوُّرها عندما نكون إزاء بحث يتناول مثلا تجديد أو تطوير النحو العربى أو الإعراب الذى يمثل أداة من أدواته فى اللغة القريشية المُعْرَبة. وكتاب الشوباشى لا يتناول علم النحو والإعراب عند سيبويه أو غيره من النحويِّين فى سبيل تطوير أو تيسير النحو أو الإعراب وهما الموضوع الرئيسى فى كتاب سيبويه إلى جانب الصرف والصوتيات. فـ الشوباشى يتناول بالأحرى تطور اللغة العربية بصورة تاريخية فى نواحٍ عديدة منها إسقاط الإعراب، مما أدى إلى الازدواج اللغوى المتواصل عبر القرون فى العالم العربى بين اللغة العربية المُعْرَبة المسماة بالفصحى واللغة العربية غير المُعْرَبة المسماة بالعامية والتى تتمثل فى اللهجات العربية المتباينة الراهنة. فالأمر لا يتعلق هنا بالنحو أو الإعراب كعلم وضعىّ، هو علم النحو، أو علم النحاة أو النحويِّين، بل يتعلق بتطور لغوى أشمل (تاريخى وليس علمى) يمثل إسقاط الإعراب وعدد من التطورات الأخرى المعجمية والدلالية والصرفية والصوتية سماتها المميزة عن العربية القريشية.
ومن المؤسف أن العاصفة الهوجاء المتواصلة منذ صدور الكتاب كانت، بحكم طبيعتها، أشبه بحوار الطرشان. فالشوباشى فى كتابه وأحاديثه اللاحقة، لم ينطلق من معرفة منهجية دقيقة بالقضية التى يثيرها، كما اتبع طريقة ملتوية للغاية ترهق القارئ المدقق المتتبِّع لتسلسل أفكاره، بدلا من أنْ يبوح بأسرار ما يقصد إليه بصورة مباشرة، مستقيمة، واضحة، متبلورة. أما فى الطرف الآخر لحوار الطرشان أىْ عشرات العلماء والأساتذة اللغويِّين الذين أدلوا بدلوهم إلى الآن فمن الجلى أنهم يمثلون أصولية لغوية نحوية هى امتداد مباشر للأصولية اللغوية النحوية التى استطاعت من قبل أنْ تسحق محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة فى 1945 بشأن تطوير النحو العربى وتجديده وتحريره. والحقيقة أننا لا نجد عند هؤلاء العلماء والأساتذة اللغويِّين سوى شتائم متواصلة، ضد الكتاب ومؤلفه، ترافقها تهمة أساسية تكاد أن تكون وحيدة يرددها الجميع مؤداها أن الشوباشى يدعو إلى "التخلى عن قواعد النحو العربى"، دون أن يسهموا بفكرة واحدة فى محاولة فهم طبيعة ما يدعو الشوباشى إليه، ومع الإعراض التام عن مناقشة قضايا تطوير علومنا اللغوية وبالأخص علم النحو، وكذلك مسألة الفصحى والعامية، مع أنها قضايا مطروحة منذ عهد بعيد، بالإضافة إلى أننا فى زمن صار فيه تطوير علم النحو (بتصحيحه وليس بمجرد تيسيره) مسألة حياة أو موت بالنسبة للُّغة العربية ذاتها، أىْ أن تطوير النحو العربى صار ضرورة يفرضها التطور التاريخى العام كما تفرضها تجلياته المتمثلة فى شروط ومقتضيات ومتطلبات المعالجة الآلية للمعلومات.
وبحكم طبيعة القضية التى كان يتجه إلى عرضها فى تضاعيف كتابه أىْ مسألة الفصحى والعامية، ناقش الشوباشى، فى ثلاثة فصول تشكِّل أقل قليلا من ثلاثين فى المائة من الكتاب (وهى فصول "برج بابل"، و"هل العربية لغة مقدسة؟"، و"المسيحيون والعربية") قضايا تنتمى إلى علم اللغة التاريخى والمقارن (أىْ فقه اللغة)، مثل أصل ونشأة اللغات، واللغة العربية بين التوقيف والاصطلاح. على أن الشوباشى الذى ألَّف كتابه بلغة شعبية تلائم القارئ العادى صاحب الثقافة العامة، أغرق القراء فى هذه الفصول، كما فى غيرها، فى تفاصيل وروايات وحكايات واستشهادات لا تنتهى، وبهذا أفشل كل إمكانية للاستفادة من نظريات أصل ونشأة وتشعُّب اللغات إلى لغات ومجموعات لغوية جديدة تغطى الآن وجه الأرض، وهى نظريات تقوم على المعطيات الفيلولوچية والفونولوچية ومعطيات الإحصاءات اللغوية الشاملة لمختلف المجموعات اللغوية، كما تقوم على معطيات الأركيولوچيا والبيوأركيولوچيا، وغيرها، فى عرض أعمق لمسألة قديمة وقف عندها الشوباشى بنفس الطريقة المرتبكة المربكة، وهى مسألة اللغة العربية بين التوقيف والاصطلاح، فى سبيل وضعها فى إطارها الصحيح كعملية تطورية، أو وراثية بكلمة أخرى. ذلك أنه لم يَعُدْ من المعقول مناقشة هذه المسألة فى زماننا كما ناقشها ابن جنى فى كتابه الأشهر "الخصائص"، إذْ إنه بكل عبقرية نظريته التطورية فى اللغة، عاش فى زمن تميزت معارفه عن اللغات بواقع العزلة النسبية بين اللغات والشعوب رغم تفاعلها التاريخى العميق الطويل، كما كانت المعرفة اللغوية لابن جنى بوجه عام بمستوى وحدود تطور العلم وتطور المجتمع فى زمانه.
ومن الإنصاف أن نسجل قبل كل شيء أن الشوباشى ينطلق من فكرة مؤداها أنه توجد مواطن صعوبة فى اللغة العربية والنحو العربى، وأنها تفتح الباب واسعا أمام العاميات العربية التى تكاد تمزق اللغة العربية والأمة العربية والعالم العربى، كما يردد، وكان الهدف الرئيسى للكتاب، كما تصوره مؤلفه، هو إنقاذ اللغة العربية الفصحى من خطر العاميات، من خلال تطوير اللغة وقواعد نحوها.
ويضعنا التتبُّع الدقيق المستقصى لتسلسل أفكار الكتاب أمام لغز: إنه يريد إنقاذ اللغة العربية الفصحى من اللهجات، أو العاميات، أو اللهجات العامية، كما يصفها أيضا، ويرفض ترك الفصحى باستبدال اللهجات بها، غير أنه يجعل هدف التطور "تخليق لغة وسط بدأت تظهر بالفعل من خلال لغة الصحافة. وخاصة منذ بداية القرن العشرين"، كما يقول، بل يقترح "إيجاد صيغة تعتبر قاسما مشتركا أعظم بين كل اللهجات العربية" (يقصد الشوباشى هنا قاسما مشتركا أصغر وليس أعظم كما يردد دون انتباه)، ليكون هذا "القاسم المشترك" هو "المعجم الحىّ" من العربية، وليس نقيض الفصحى، ويكفى توحيد هذه اللهجات على قاعدة هذا "القاسم" لتحريرها من الخصوصيات اللهجية (التى تبتعد بهذه اللهجات عن بعضها البعض فى اتجاه لا تحمد عقباه) من أجل تحقيق التطوير المنشود الذى يتلخص فى تحرير هذا "المعجم الحىّ" المشترك بين اللهجات العربية من ألفاظ ودلالات هائلة العدد صارت بأغلبها ميتة أو مهجورة أو قديمة أو نادرة الاستعمال، ومن البلاغة القديمة (ومحسّناتها البديعية) لإحلال بلاغة عربية جديدة عصرية محلها، مع تطوير طريقة الكتابة من نواحٍ شتى. وكل هذا لإنقاذ الفصحى بتطويرها بدلا من أن تهدمها التطورات العفوية للهجات العربية المتباعدة. ويرى الشوباشى إسقاط الإعراب لإزالة تعقيداته من طريق ازدهار الفصحى، أىْ أن هذا الإسقاط للإعراب لا يجعل من الفصحى عامية.
ولا جدال بطبيعة الحال فى أن إسقاط الإعراب لا علاقة له بمسألة الفصحى والعامية، فكل اللغات تمرّ بمرحلة بالإعراب فى مرحلة (والإعراب ظاهرة شاملة لكل اللغات وهو لا يقتصر على العربية)، وبإسقاط الإعراب (أىْ البناء الشامل لأواخر الكلم فى حالة اللهجات العربية الراهنة، اعتمادا على بديل الإعراب وهو تقييد ترتيب الوظائف فى الجملة فالمسند إليه يأتى أولا، إلخ.) فى مرحلة أخرى، كما توجد مرحلة ازدواج الإعراب وإسقاطه وقد تستغرق هذه الظاهرة قرونا أوحتى ألفيات. كم أنه لا جدال فى أن اللهجات العربية الحالية تتفق مع اللغة العربية القريشية معجميًّا (أىْ من حيث ألفاظها الأساسية)، ودلاليًّا (أىْ من حيث معانى هذه الألفاظ)، وصرفيًّا (أىْ من حيث أوزان واشتقاقات وتصريفات هذه الألفاظ من أفعال وغيرها)، وصوتيًّا (أىْ من حيث القيم الصوتية الأساسية للألفاظ العربية)، بالطبع مع اختلافات عميقة، واسعة النطاق وبالغة الأهمية، خاصة من الناحية المعجمية والدلالية ومن ناحية الصوتيات، بالإضافة إلى إسقاط الإعراب.
أما النحو، بالمفهوم الصحيح للكلمة، أىْ علم بناء الجملة، فإنه لا يتغير، وهو شامل لكل اللغات إلى يومنا هذا، وهو واحد وحيد كالبحر الواحد الوحيد فى العالم وإنْ كنا نسميه الأبيض هنا والأحمر هناك والأسود فى مكان ثالث، وفى مكان ببحر الصين، وفى مكان غيره ببحر العرب، وفى مكان بالمحيط الهادى. ذلك أن النحو ليس سوى بناء الجملة من عناصر قليلة معروفة جيدا هى المسند إليه، والفعل، والمفعول به، والظرف، ومتمم المسند إليه، ومتمم المفعول به (المباشر)، بالإضافة إلى الأشكال المتنوعة لتحقيق عناصر الجملة أىْ من حيث مواد ولَبِنات وقوالب بناء الجملة من هذه العناصر.
والحقيقة أن الطريقة الملتوية التى دعا بها الشوباشى إلى أفكاره حُكْم بليغ على ما نعانيه من غياب حرية البحث العلمى فى مجال اللغة العربية، وبالأخص فى مجال علم اللغة التاريخى والمقارن (أىْ فقه اللغة)، وفى مجال علم النحو.
على أن البحث اللغوى العلمى، الوصفى، الاستقرائى، شيء، والدعوة إلى اتخاذ قرارات بشأن توحيد اللهجات العربية فى لغة عربية فصحى واحدة، وإسقاط الإعراب، والمثنى، وتصريف الفعل مع "هن" و "أنتن"، وتذكير العدد مطلقا (فى تمييز العدد)، وغير ذلك، شيء آخر. ذلك أن تطور اللغات إنما هو امتياز تملكه الجماعة اللغوية وحدها وبصورة تاريخية. كما أن علينا أنْ نلاحظ أن تعدد اللهجات العربية الآن لا يلغى وحدتها، فاللهجات بخصوصياتها هى الشكل الطبيعى والتاريخى والمنطقى للتوزيع الإقليمى لكل لغة، حتى فى عصر العولمة، والقرية العالمية الواحدة المزعومة.




ملاحق
1
اللغة القومية والعولمة: أبعاد الإشكالية
تأليف: چيردا منصور
(ترجمة: خليل كلفت(
(قضايا فكرية القاهرية، الكتاب السابع عشر، مايو 1997، "لغتنا العربية فى معركة الحضارة")

تُقدِّم نظرة الغريب عن اللغة العربية، بالضرورة، وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظر الناطق الأصلى بهذه اللغة. وهذا أحد الأسباب التى جعلتنى أقرر الاقتصار على تقديم عرض موجز لهذه الإشكالية بطريقة موضوعية قدر الإمكان. ولعل من المفيد فى فهم وجهة نظرى الشخصية أن أضيف أننى لست ناطقة أصلية باللغة الإنجليزية، رغم أن هذه الأخيرة صارت لغتى المفضلة، وأن أضيف أننى – بفضل سنوات طويلة عشتها فى مصر – أصبحت أفهم الكثير من المشكلات التى تشغل عقول المعنيِّين.
وأودّ، أولا - أن أستكشف المقصود بلفظة عولمة globalization وكذلك نوع التهديد الذى تشكِّله هذه العولمة. وهناك – ثانيا – سلسلة كاملة من الأسئلة المتصلة باستعمال اللغة، ومكانة اللغة، والجانب الرمزى للُّغة، وهى أسئلة مألوفة فى عملى كباحثة فى مجال علم اللغة الاجتماعى، كما أن من شأنها أن تُلقى بعض الضوء على موضوع هذا المقال.
وَجْهان للعولمة
فى كل يوم فى حياتنا ينهمر علينا وابل من العبارات المكررة الجديدة، ومن الأهمية بمكان أن نتوصل إلى ما يختفى وراء هذه العبارات، وما هى معانيها الحقيقية، وما عسى أن تكون دلالاتها الضمنية. وتتمثل واحدة من هذه العبارات فى العولمة. وتعنى كلمة global عادةً أن هناك شيئا ما يؤثر على العالم globe بأسره. ومن هنا نسمع عن إستراتيچيات عالمية تتعلق بالبيئة، وعن الاتصال العالمى عن طريق القمر الصناعى، وعن النشرات الجوية العالمية. لكنْ كيف ينبغى على وجه الدقة أن نفهم العولمة، وما هى وأين تلك القرية العالمية التى يتراءى طيفها بين صفحات صحفنا وحتى كتاباتنا العلمية؟
ويتمثل أحد جوانب التفكير العالمى والتخطيط العالمى فى مفهوم صار الآن مقبولا لدى جهات عديدة، مضمونه أنه ينبغى عند اتخاذ كل قرار يؤثر على الحياة العامة أن ندرك أن علينا مسئولية إزاء كوكب الأرض ككل، وأنه لا ينبغى أن نواصل بغير حدود استغلال الموارد الطبيعية – المتجددة وغير المتجددة – فى أىّ جزء من العالم حتى لا نُفسد التوازن الدقيق، الأمر الذى سيمتدّ تأثيره إلى كل مكان، وأنه لا ينبغى أن نُفجِّر قُنبلة تجارب نووية أو أن نُطلق موادَّ كيميائية قاتلة حتى داخل نطاق أراضينا الإقليمية وذلك تفاديا للآثار الواسعة النطاق التى ستمتد إلى ما وراء حدودنا الإقليمية بكثير. والعولمة، بهذا المعنى، امتداد للمسئولية الاجتماعية، وهذا موقف هدفه أن يحلّ محل التزامنا المشروط بيولوچيًّا ببقاء جماعة على حساب جماعة أخرى التزام يشمل البشرية جمعاء. وسيوافق أغلب الناس على أن هذا التفكير العالمى ليس شيئا طيبا وحسب، وإنما هو – فى ضوء التحديات والأخطار التى ستواجهنا فى القرن الحادى والعشرين – جوهرى لبقاء الجنس البشرى والكوكب ككل.
وبهذا المعنى تقتضى العولمة التخطيط، والتنظيم، والتعاون الدولى، الأمر الذى يتوقف، بدوره، على أداة تواصل فعالة، لغة مشتركة lingua franca أو لغة الدپلوماسية الدولية. وعلى مستوى البحث العلمى والتكنولوچى، تُعدّ مثل هذه اللغة المشتركة ذات فائدة كبيرة أيضا، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالمصطلحات. ذلك أن العبارات المفهومة عالميا يمكنها وحدها أن تحفز إلى تبادل الأفكار وأن تؤمِّن أن يكون هناك فى متناول العلماء والباحثين فى كافة أنحاء العالم أداة دقيقة لا يمكن بدونها إلا أن يهبط التقدم إلى مستوى أفراد مبعثرين فى أربعة أركان الأرض يرمِّقون أعمالهم بأدواتهم المحدودة، ويقومون – إنْ جاز القول – بإعادة اختراع العجلة ألف مرة.
وتمثّل هذه الضرورات للتواصل العالمى أقوى حجّة لصالح تعلُّم لغة مشتركة دولية – لتكنْ الإنجليزية أو أية لغة أخرى. وليس هناك شيء ما، كامن فى صميم اللغة الإنجليزية، يؤهلها لمثل هذا الدور. والواقع أن المكانة الراهنة للُّغة الإنجليزية حددتها صلتها السابقة بالإمپراطورية البريطانية المترامية الأطراف، وكذلك الأهمية المتعاظمة للولايات المتحدة التى صارت وريثتها. ويؤدى كل هذا إلى واقع أن اللغة الإنجليزية لها جماعة ناطقة أصلية بها ليست فقط ضخمة فى الحجم وإنما هى واسعة الانتشار على الكرة الأرضية، وأن الجماعة التى تتحدث بها كلغة ثانية تتناسب مع وزن التأثير الأنجلو أمريكى سياسيا، واقتصاديا، وكذلك فى مجال العلم والتكنولوچيا. ويبدو أن اللغتين الأوروپيتين المنافستين للإنجليزية، وهما الفرنسية والإسپانية، قد خسرتا السباق، رغم أن الحكومة الفرنسية تنتهج سياسة هجومية على المسرح الدولى حيث كانت تتمتع ذات يوم بنفوذ كبير. وللُّغة الإسپانية جماعة ناطقة أصلية أضخم، غير أنه لا يتحدث بها كلغة ثانية سوى جماعة ضئيلة، كما أنها لا تملك شيئا من الطموحات الفرنسية.
وقد ظلت الحجة لصالح أو ضد إحدى هذه اللغات المتنافسة تتمثل، إنْ شئنا الدقة، فى الاختيار بين إمپريالية ثقافية أو إمپريالية ثقافية أخرى، وربما – بصورة أكثر حسما – بين مصدِّر أو آخر للسلع الاستهلاكية. ويبدو أن هناك اتفاقا ضمنيا على أن مَنْ يقوم بتسويق لغته بفعالية لن يواجه صعوبة فى تسويق منتجاته، وهذا هو ما يفسِّر القسوة الماثلة وراء بعض أنواع الخطاب.
ويكشف لنا هذا الوضع عن الوجه الآخر للعولمة، أو بالأحرى عن تفسير آخر يخلط بين العولمة والتوسع الإمپريالى لمجتمع واحد، بقوته السياسية والاقتصادية، ونماذجه السلوكية، وأيديولوچيته، إلى مجتمعات أفضل. ويبدو أن من المتوقع من هذه الأخيرة أن تتخلى عن تقاليدها الأصلية، وعن لغاتها وثقافتها، وأن تتبنى لغة "عالمية"، وطريقة "عالمية" للحياة وأنماط الاستهلاك أشبه بتلك التى تم تطويرها فى الغرب، وعلى وجه الخصوص فى أمريكا. ولا يكون من المرجح أن تكون النتيجة "قرية عالمية" وإنما أرضا خرابا ثقافية تقوم فيها الشركات الكبرى المتعددة الجنسية وحدها بجنى أرباحها. وليست "القرية العالمية" من هذا النوع مستوطنة أمريكية زائفة يرتدى سكانها الچينز الأزرق والنَّايْكى [ماركة أحذية كاوتش] أو الفساتين القصيرة، ويمضغون اللبان، ويأكلون الهامبورجر، وساندويتشات السجقّ الساخن، ودجاج كنتاكى المحمَّر، ويشربون كوكاكولا، أو فانتا، أو سڤن أبّ. وهم يغنُّون على أحدث موسيقى بوب أمريكية، ويسعون بصفة عامة إلى تقليد أىّ شيء يتسرَّب عبر وسائل الإعلام الخاضعة للسيطرة الأمريكية.
ولا غرابة فى أن ينظر إلى هذه الظاهرة باعتبارها خطرًا أغلبُ المعنيِّين بالازدهار الاجتماعى الاقتصادى والثقافى لمجتمعاتهم، والذين يرون بيئتهم الاجتماعية تتعرَّض لغزو نموّ سرطانى فى سياق استبدال جوانب من الثقافة والعادات الأصلية والتغيير الجذرى لوجه المجتمع. ومن المؤسف أن هذا الخطر يغدو ملحوظا ليس فقط من جانب الوطنيِّين المتعلِّمين والمثقفين وإنما أيضا لدى ذلك القسم من المجتمع، والذى هو مُعادٍ دوما، ومن حيث المبدأ، لكل شيء أجنبىّ – وهى معاداة تنشأ من الجهل، والتعصب، وضيق الأفق، وعدم التسامح.
ومن المؤسف أكثر من ذلك أن ردّ الفعل الآتى من كلٍّ من الاتجاهين يختلطان فى كثير من الأحيان ومن الأهمية بمكان أن نُبقيهما منفصليْن. ذلك أن ما يثير قلق الوطنيِّين المتعلمين ليس، فى الواقع، التفكير "العالمى" أو التعاون الدولى فى مجالىْ العلم والتكنولوچيا، ولا حتى انتشار اللغة الإنجليزية كلغة مشتركة، بل هو سرطان الرأسمالية الأمريكية التى تتغلغل فى المجال الاجتماعى فى كل بلد تقريبا بدعايتها لمنتجات عديمة النفع من الناحية الجوهرية. وليست الثلاجات، والتليفونات، والغسالات، وأجهزة الكمپيوتر، هى التى يجرى الإحساس بأنها متطفلة، بل هى تلك المنتجات ذات الاستهلاك اليومى والتى لا يحتاج إليها أحد ومع ذلك تسلَّلتْ إلى صميم حياتنا إلى درجة أن أولئك الذين لا يقدمون پيپسى كولا أو سڤن أبّ لضيوفهم يشعرون بالحاجة إلى أن يعتذروا أو يندفعون خارجين لإحضاره لأن الليموناتة أو الكركديه المصنوعين فى البيت فقدا مكانتهما.
وتمثل الطريقة التى يرتبط بها ذلك باللغة، أو بتعبير أدق، بانتشار وقبول لغة مشتركة دولية كأداة للاتصال الدولى، موضوعا يستحق اهتماما أعمق مما يمكننا أن نعطيه إياه فى هذا الحيز المحدود. غير أنه قد يكون من المفيد أن نقوم بمناقشة عامة موجزة للوظيفتين الأساسيتين للغة.
اللغة – جسر أم حاجز؟
لا حاجة بنا بطبيعة الحال إلى الإسهاب فى حقيقة أن اللغة أداة للاتصال، وجسر بين الأفراد وكذلك بين المجتمعات. لكنْ بأىّ معنى يمكن أن نعتبر اللغة حاجزا. وإذا كان يمكنها أن تكون جسرا وحاجزا فى آنٍ معًا، فما هو المظهر الأكثر أهمية والذى ينبغى أن نشدِّد عليه أو نعزِّزه – مظهر الجسر أم مظهر الحاجز؟
والحقيقة أن هاتين الوظيفتين للُّغة تقترنان معًا دوما، ذلك أن اللغة بالإضافة إلى كونها أداة اتصال تمثل أيضا الرمز الأهم لهوية الجماعة. وقد تكون هناك مظاهر ثقافية أخرى تميز جماعة اجتماعية ثقافية من أخرى، غير أن ما يحدد هوية جماعة يتمثل، عادةً، فى لغتها أو لهجتها. واللغة أعمق تأثيرا بكثير من الحواجز المادية والسياسية، وتعبِّر الحواجز الاجتماعية عن نفسها دائما فى التباين اللغوى. كما أن عملية التهيئة الاجتماعية التى تصنع من الطفل عضوا كامل المسئولية فى مجموعة اجتماعية تتمحور حول اكتساب "لغة الأم" التى تعمل كأداة توصيل لكافة القيم الثقافية الأخرى. ومن هنا فإن ولاءنا الأول إنما يكون عادةً للغة الأم – إنها لغة الألفة الحميمة التى تثير مشاعر الانتماء إلى جماعة الأصل وكذلك إحساسا بالأمان. غير أنه تماما كما يشبّ الأطفال عن الطوق ويتركون بيت الوالدين فى نهاية الأمر، يمكن للأفراد الكبار أن يخلقوا علاقات أوسع تتجاوز جماعة الأصل وقد تقتضى الحاجة إلى إتقان لهجة أخرى غير الأصلية، أو "اللغة الفصحى"، أو حتى لغة أخرى.
ومهما تكن القيمة التى يعزوها المتحدثون بلغة ثانية إلى هذه الأخيرة كبيرة فهناك بُعْدٌ مختلف للموقف إزاء تلك اللغة. إنها تميل إلى أن تغدو موقفا أكثر عقلانية، وتعبيرا عن الطموحات الاجتماعية والأهداف المهنية ويغدو أكثر احتمالا أن يكون هذا الموقف موضوعا للظروف المتغيرة. وعلى حين أن اللغات الأولى (لغات الأم) تحدد هوية الناطق بها، تكتسب اللغات الثانية المزيد من خصائص الوسيلة. وبكلمات أخرى فإن الأفراد المزدوجى اللغة يميلون إلى استعمال لغة منهما من أجل قيمهم المتعلقة بالهوية – كحاجز أمام العالم الخارجى – واللغة الأخرى من أجل قيمهم الذرائعية وتلك المتعلقة بإقامة جسر.
ويطرح هذا أسئلة مهمة فى سياق العولمة. هل تؤدى اللغات الثانية المكتسبة فى المدرسة، من أجل الأهداف المتباينة لاتصال أوسع كما سبق أن أوجزنا، بالضرورة، إلى ظهور عنصر تشويش أو حتى صراعات هوية؟ وإذا كانت لا تؤدى إلى ذلك فما هى الظروف التى تشجع عليه؟ وأين وتحت أية ظروف تصطدم الحاجة إلى الاتصال الدولى، والتفاهم، والتسامح، مع الحاجة إلى صون الهوية الثقافية والأصالة؟
وهناك مجموعة من الظروف التى يمكننى أن أقول بثقة إنه لا يظهر معها أىّ تشوُّش أو صراعات هوية. وفى سياق الاتحاد الأوروپى جرى منذ وقت طويل الإقرار بأن تعلُّم لغة أو لغتين من اللغات "العالمية" الأكثر أهمية صار أمرا لا غنًى عنه. وواقع أنه لم ترغب ولا واحدة من الجماعات اللغوية الكبرى الثلاث فى قبول إحدى اللغتيْن الأُخْرَيَيْن باعتبارها لغة مشتركة وحيدة يمثل بطبيعة الحال علامة على تنافس على القيادة يظل بلا حلّ ويتواصل، غير أنه لا يكاد يكون هناك شك بين بقية أعضاء الاتحاد الأوروپى فى أن اللغة الإنجليزية تمثل، فيما يتعلق باحتياجات هذه الدول الأعضاء إلى الاتصال الدولى، اللغة المشتركة الأكثر أهمية. وفى الدنمارك وهولندا، على سبيل المثال، نجد تعليم اللغة الإنجليزية واسع الانتشار وبالغ الكفاءة إلى حد أن المسافرين المتحدثين بالإنجليزية قلَّما يلتقون بشخص من السكان المحليِّين لا يمكنه الحديث بشيء من الإنجليزية. ومع ذلك فإن لغاتهم القومية تظل تأخذ مكانها بوصفها الرمز الرئيسى لهوية الجماعة. وبين الأسباب التى تقف وراء واقع أن اللغة الإنجليزية لا تلقى عادةً أية معارضة قد يكون هناك واقع أن القوة الاقتصادية لبريطانيا ظلت تتدهور منذ الحرب العالمية الثانية وكذلك واقع أن على اللغتين المنافستين الأُخْرَيَيْن – الألمانية والفرنسية – أن تجنى كل واحدة منهما عواقب الماضى. ذلك أن فرنسا وألمانيا حاولتا كلاهما، فى مرحلة ما فى الماضى، فرض الهيمنة على جيرانهما الأوروپيِّين.
ويبدو الوضع مختلفا فى مناطق أخرى من العالم. ففى أفريقيا، والشرق الأوسط، وآسيا، كانت اللغتان الإنجليزية والفرنسية لغتين استعماريتين، مفروضتين على شعوب المستعمرات بوصفهما لغتين رسميتين جرى استخدامهما – فى غياب لغات محلية مكتوبة وموحَّدة – كأداة لحكم دول مستعمَرة كل واحدة منها متعددة اللغات. وكانت هناك حالات أخرى لم تقم فيها اللغة الاستعمارية بالحيلولة دون التطور اللغوى المحلى فحسب بل تم استخدامها بالفعل فى قمع لغات أدبية. وليست حالات الجزائر، ولبنان، والهند، وپاكستان، وڤييتنام، سوى مجرد أمثلة قليلة. ولهذا فإن بلدان العالم الثالث محقة تماما فى خشيتها من أن يؤدى تأثير لغة عالمية ما إلى إفساد لغاتها المحلية فى بداية الأمر وإلى اختفائها فى نهاية المطاف.
ولكى نواجه هذه المخاوف سيكون من المفيد للغاية أن نستكشف مسألة ما إذا كانت بلدان ولغات العالم الثالث تتعرَّض حقا للتأثير المفسد للُغة دولية أم أن هذا لا يعدو أن يكون مجرد ارتياب.
كما أنه ليس هناك شك فى أن الصدام بين الحاجة إلى لغة أجنبية من أجل التعليم العالى والحاجة إلى إعادة تأكيد الهوية الثقافية ملحوظ كأقوى ما يكون فى بلدان العالم الثالث. وفيما يتعلق بكثير من هذه اللغات جرى وضع سياسات كما تم تحديد الخطوط العامة لآليةٍ لإحلال لغات محلية "قومية" محلّ لغات رسمية أجنبية، غير أنها ما زالت فى انتظار التنفيذ.
القومية اللغوية والهوية القومية
ليست اللغات مجرد رموز للهوية الجماعية للأفراد. إنها أيضا بمثابة رابطة جرى تطويرها عن قصد كما يجرى تعزيزها بصورة متواصلة فى إطار الدول القومية الحديثة. والحقيقة أن كامل مفهوم "القومية" مفعم بقيم معقدة تلعب فيها اللغة المشتركة دورا رئيسيا. ولهذا فإن القومية اللغوية جرى غرسها وتعهُّدها بعناية فى أغلب حركات الاستقلال، وكثيرا ما تم استخدام اللغة، فى القرن التاسع عشر، فى تحديد الأراضى الإقليمية. ومن السهل أن نرى أية أداة سياسية جبارة يمكن أن تكونها اللغة فى مثل هذا السياق حيث يمكن استخدامها لتعزيز الوحدة القومية أو للتشديد على الاستقلال ودعاوى الانفصال. وفى بعض الأحيان جرى انتزاع لغة منقرضة تقريبا من زوايا النسيان لتصبح اللغة القومية لدولة مستقلة، كما هو الحال مع اللغة الآيرلندية على سبيل المثال – رغم أن جهود الإحياء عجزت فى هذه الحالة المحددة عن استعادة حيوية هذه اللغة وجعلها اللغة المفضلة لكل الآيرلنديِّين. وفى حالة أخرى كانت الحاجة ماسَّة فيها إلى لغة مشتركة لتوحيد أناس ذوى خلفيات لغوية وثقافية متباينة للغاية ولوضعهم بعيدا عن السكان الأصليِّين فى دولة تم خلقها بصورة مفتعلة، تم بنجاح إحياء لغة ميتة: اللغة العبرية.
ونظرًا لأن موضوع اللغات القومية يمسّ مسائل الهوية القومية والبقاء الثقافى القومى فإنه موضوع بالغ الحساسية. وتشير الأصداء العاطفية للخطاب المتعلق باللغات القومية إلى أن نتناول شيئا لا يستجيب بسهولة للحجج العقلانية. ولهذا فإن من المفيد دائما نقل المناقشة إلى منطقة محايدة.
ويميل القوميون فى كل مكان إلى أن يكونوا حريصين على النقاء اللغوى، وبعبارة أخرى فإنهم يؤيدون التدابير الرامية إلى مقاومة غزو لغاتهم بكلمات دخيلة باسم الحفاظ على أصالتها الثقافية. وفى فرنسا، على سبيل المثال، جرى إعلان حرب شاملة ضد الغزو من جانب العبارات الإنجليزية وتجرى مواصلتها بكل السلطة الممنوحة للأكاديمية الفرنسية. وكل هذا للمحافظة على نقاء وأصالة اللغة الفرنسية وللاحتفاظ بتأثيرها فى أنحاء العالم. ومع ذلك فإن استعارة الكلمات لعبة قديمة وليست هناك لغة حية حديثة لا تملك رصيدا كبيرا من الكلمات المستعارة. وصحيح، بطبيعة الحال، أنه ما لم تكن الحيوية اللغوية للُّغة المستعيرة قوية بما يكفى أيضا لمواصلة عملياتها المتعلقة بنحت كلمات جديدة، قد تكون النتيجة النهائية تشكُّل لغة هجينة بصورة متزايدة.
وكثيرا ما يقال لنا إن التهجين فى اللغات يساوى الإفساد، وإنه أشبه بسرطان ينتهى آخر الأمر إلى تدمير اللغة. ومن الصعب أن نتوصل إلى فهم مسألة ما هى الوقائع التى يستند إليها هذا الخوف. ويُحْسِن المدافعون عن النقاء اللغوى صنعا إذا قاموا بدراسة تاريخ اللغة الإنجليزية فهى واحدة من أكثر اللغات تهجينا فى العالم. وتُقَدَّر المفردات الحالية للُّغة الإنجليزية الآتية من أصل إنجليزى بحوالى 50% فقط، أما نسبة اﻟ 50% الأخرى فقد تم استيرادها من اللغة الفرنسية، أو من اللاتينية عن طريق الفرنسية، ومن اللاتينية واليونانية وكذلك من لغات أخرى عديدة. والحقيقة أننا سنكون عاجزين عن كتابة جملة واحدة بلغة إنجليزية رفيعة دون اللجوء إلى كلمة مستعارة أو أخرى (وعلى سبيل المثال فإن كلمتىْ sentence [جملة]) و resort [يلجأ] تأتيان من اللاتينية عن طريق الفرنسية، وكلمة educated [رفيعة] تأتى من اللاتينية، وكلمة loan [مستعارة] تأتى من أصل إسكندناڤى). وحتى فى الكلام اليومى العادى، نستخدم كلمات تغيرت فى سياق عملية الاستيعاب على مدى قرون، ولكنها مع ذلك من أصل غير إنجليزى (وعلى سبيل المثال هناك كلمات تتعلق بحيوانات بمجرد أن يتم ذبحها من أجل الاستهلاك البشرى – veal [لحم البقر]،pork [لحم الخنزير] ، mutton [لحم الضأن] – وتأتى من الفرنسية). بل إن التبسيط الشديد للنحو الإنجليزى، بالمقارنة مع بنية اللغة الإنجليزية قبل الغزو الفرنسى النورماندى منذ تسعة قرون، يمكن إرجاعه إلى هذا التهجين الواسع النطاق. ومع ذلك فإن اللغة الإنجليزية لم يمنعها لا الطابع الهجين لمفرداتها، ولا تبسيطها البنيوى، من البقاء والانتشار بعد فتح بريطانيا. بل ربما كان بوسعنا أن نزعم أن هذه المظاهر اللغوية قامت بتسهيل انتشار اللغة الإنجليزية.
دفاعًا عن الهوية القومية
وبغضّ النظر عن مختلف الإستراتيچيات الممكنة لحماية لغةٍ ضد الكلمات المستعارة الغازية هناك تدابير دفاعية أخرى. وكلما كان هناك إحساس بأن القيمة الرمزية لإحدى اللغات مهدَّدة بطريقة ما، وبأن الأصالة الثقافية قد تكون فى خطر، يتمثل ردّ الفعل عادةً فى العودة إلى الماضى المجيد، إلى عهد كانت فيه الثقافة القومية واللغة القومية فى ذروة الازدهار. والحقيقة أن تأثير هذا الانشغال بالماضى على الاستعمال اللغوى والتطور اللغوى قد يكون سلبيًّا تماما فى الأمد الطويل، وذلك لأن الاتجاه سيكون إما تجاهُل التطور اللغوى الطبيعى أو تحريكه بنشاط فى الاتجاه المعاكس عن طريق إرجاعه إلى الشكل النقى الأصلى للُّغة الكلاسيكية (الفصحى). ويشير التطور اللغوى الطبيعى إلى التآكلات الصغيرة التى تقع أوَّلًا فى لغة الحديث – ترخيم وتحوير بعض الأصوات، إسقاط النهايات ذات النبرة الضعيفة، تبسيط بعض الصيغ النحوية الصعبة. والحقيقة أن التغيرات التى حدثت فى اللغة الإنجليزية وبقية اللغات الأوروپية فى الألف سنة الأخيرة من الضخامة بحيث تكون هناك حاجة إلى تدريب خاص على المستوى الجامعى لجعل النصوص القديمة مفهومة للقارئ الحديث. (غير أنها متاحة فى الترجمة).
وعندما نتحدث عن اللغات الفصحى، فى، أوروپا، فإننا نشير عادةً إلى الشكل الذى اتخذته هذه اللغات منذ 400 سنة أو أقلّ وفى كثير من الحالات يتم بصفة رسمية إجراء إصلاحات لغوية من حين لآخر عندما يغدو من الملحوظ أن الفجوة بين اللغة المكتوبة (الفصحى) ولغة الحديث تزداد اتساعا أكثر مما ينبغى. وبهذه الطريقة لا تكون اللغة الفصحى كما يجرى تعليمها فى المدرسة فى كل مكان بعيدة جدا عن الاستعمال اليومى للمتعلِّمين. وفضلا عن ذلك لا يُنظر إلى اللهجات على أنها شيء يهدد اللغات الفصحى بل على أنها مصادر إثراء لها.
وسيصبح الاتجاه الخطر لمناقشتى واضحا لقرائى العرب الذين يُضفون على اللغة العربية الفصحى صفات لا تستدعى فقط ثراءها الأدبى والدينى الطويل بل تؤهلها أيضا لتكون صالحة كلغة تُوحِّد الأمة العربية جمعاء فى عصرنا الحديث. إنه لعبء ثقيل أن نبنى تقييمنا على أساس أية لغة واحدة. ورغم أننى لا أعتزم طرح حلول إلا أننى أشعر أنه يمكن الخروج بشيء ما عن طريق الإشارة إلى مجالات للدراسة من شأنها أن تُلقى ضوءًا جديدا على هذا الموضوع.
(1) اللغة العربية ليست اللغة الوحيدة المثقلة بتراث أدبى طويل العهد والتى يُلاحَظ فيما يتعلق بها أن احتياجات الاتصال فى الوقت الحاضر دخلت فى صراع مع الرغبة المخلصة فى تعزيز الأصالة الثقافية والدفاع بالتالى عن اللغة الفصحى. ويتجه تفكيرى إلى اليونان التى شهدت تاريخا طويلا من الجدال، مماثلا – لكنْ ليس مطابقا – للجدال الدائر فيما يتعلق باللغة العربية. وهناك مظاهر عديدة لهذا الجدال ومحاولات رامية إلى حلّ الصراع قد تكون ملائمة ومفيدة.
(2) إن ما يجعل الجدال بخصوص الفصحى فريدا هو الدور الذى تلعبه فى مجال توحيد كل الناطقين باللغة العربية. غير أن من المؤسف أنه، بغضّ النظر عن التشديد على هذه الوظيفة الأيديولوچية، لا وجود لأية جهة للُّغويات العربية تشجِّع القيام بدراسات مقارنة للَّهجات. والحقيقة أن دراسات اللَّهجات ليست موضوعا بل تمثل محرَّما taboo. ولهذا فإنه يُترك للأجانب أن يدرسوا اللَّهجات، ويميل هؤلاء إلى التشديد على أوجه الاختلاف أكثر من أوجه الشبه بين مختلف اللَّهجات العربية، لأنهم على وجه التحديد ليسوا ناطقين أصليِّين باللغة العربية ولا يمكنهم أبدا أن يستوعبوا عمق ومدى المعرفة اللغوية المتاحة للناطقين الأصليِّين بها، ولأن اهتمامهم قد لا يكون أكاديميًّا خالصًا. ورغم أن دراسة اللَّهجات تبدأ بوضع بيان بالتباينات الدقيقة إلا أن هدفها النهائى ينبغى أن يتمثل فى الوصف الكامل للُغة الحديث العربية فى كافة أنحاء العالم العربى مع التشديد على أساسها البنيوى المشترك. وعندما يتم ذلك فإن اللغويِّين سيكونون قادرين على أن يقولوا لنا ما هى سمات الفصحى التى صارت مهجورة حقا، والتى لم تَعُدْ تشكِّل جزءًا من ذخيرة اللغة العربية الحية، وعلى أن يعالجوا مسألة الطريقة التى يتم بها تقريب اللغة العربية الفصحى من لغة الحديث فى كل أنحاء العالم العربى. إنها مهمة كبرى، غير أنها ليست مستحيلة، كما أن المكاسب التى تعود من ذلك على قيمة اللغة العربية كهوية ستكون هائلة.
(3) وفيما يتصل بالإصلاح اللغوى وما يثيره هذا الموضوع عادةً من ردّ فعل سلبى فورى بين القوميِّين اللغويِّين، سيكون من المفيد أن ننظر إلى أمثلة أخرى للإصلاح اللغوى وأن نقوم بتقييم ما تحقَّق وما لم يتحقق. وقد أُرِيق مداد كثير لتوجيه اللعنات إلى نتائج إصلاح اللغة التركية وكيف أنه اقتلع تركيا الحديثة من جذورها العربية الإسلامية ودمَّرَ تراثها الثقافى. والحقيقة أن الأيديولوچية الماثلة وراء هذا الإصلاح اللغوى كانت أيديولوچية مركَّبة. لقد أتى بعد ضياع الإمپراطورية العثمانية، فى فترة أحسَّتْ فيها تركيا بالحاجة إلى إعادة تقييم وإعادة تشكيل هويتها الثقافية. فهل كان عليها، بعد أن سقطت من وضع السيادة على العالم العربى، أن تواصل تأكيد الصلات الثقافية عن طريق استخدام الكتابة العربية؟ والحقيقة أن من الصعب إقناع غير اللغويِّين أو غير الناطقين باللغة التركية بمجرد مدى عدم ملاءمة الكتابة العربية للُّغة التركية. ويكفى أن نقول إن أصوات الحركة vowels فى اللغة التركية أكثر منها فى اللغة العربية وإنها تلعب دورا حاسما فى التعبير عن المعنى النحوى. وبالنسبة للأتراك، كان الانسلاخ من هذه الكتابة ومن الحجم الضخم من الكلمات العربية المستعارة وخلق لغة فصحى أقرب إلى كلام الشعب التركى – لغة مفهومة فى أنحاء المنطقة الجنوبية من آسيا الوسطى حتى حدود الصين – بمثابة عمل من أعمال التحرر الثقافى، وإعادة تأكيدٍ للأصالة الثقافية. أما واقع أن اختيار الكتابة اللاتينية قد أدخل تركيا إلى حد أبعد فى الفلك الأوروپى، ومن الجلى أن هذا كان يتلاءم مع تطلعات طبقة اجتماعية اقتصادية صاعدة بعينها فى تركيا، فإنه مسألة أخرى.
العولمة واللغات القومية: إعادة نظر
بعد أن قمنا باستدعاء مختلف الأخطار التى تهدد الهوية القومية والأصالة الثقافية كما يتم التعبير عنهما فى اللغات القومية، علينا أن نعود إلى نقطة البداية لنواجه مسألة العولمة، وأعنى، مرة أخرى، التفكير "العالمى" الإيجابى الحقيقى. ذلك أن يمكننا أن نفكِّر بطريقة "عالمية"، وأن نكون معنيِّين بالقضايا "العالمية" بأية لغة. غير أننا إذا أردنا الانهماك بنشاط فى حلّ بعض المشكلات العالمية نحتاج إلى التعاون مع الناطقين باللغات الأخرى، وأسهل وأسرع طريقة إلى حد بعيد هى أن يعرف الجميع لغة واحدة على الأقل من اللغات السائدة المستخدمة دوليًّا، ومن الأفضل أكثر من لغة. وما دام التقدم فى بلدان العالم الثالث يتوقف على الحصول على المعلومات العلمية والتكنولوچية الجديدة فإنه يغدو من الضرورى، مرة أخرى، معرفة واحدة أو أكثر من هذه اللغات كأدوات للاتصال. ألا يكون من الممكن تحقيق هذا بدون خلق عقول شابة مشوشة تعتقد أنها يجب أن تقلِّد كل ما هو أمريكى مهما كان الثمن؟ أليست هذه الظاهرة بالأحرى تعبيرا عن الإخفاق فى التعليم، فى المدرسة والبيت على حدّ سواء، عن إخفاقٍ فى غرس قيم سليمة وفى تعزيز القدرة على التفكير بصورة مستقلة، وكذلك عن عيبٍ جوهرى فى النظام الاجتماعى للبلاد، وعن إخفاقٍ لطبقاتها الحاكمة والمثقفين الناطقين باسمها؟ وأخيرا، ألا يمكن لموقف مستنير إزاء اللغة القومية لشعب أن يساعد على تمهيد السبيل أمام مزيد من التطور والإثراء لهذا الرمز الحيوى للهوية، بحيث يمكن النظر إلى تأثير اللغات الأخرى على أنه أقلّ تهديدا بالأخطار؟









2
وقفة عند مَنْ ينكرون الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية
(الفصل 14 من كتاب "من أجل نحو عربى جديد" للمؤلف)

يخصص الدكتور إبراهيم أنيس الفصل الثالث من كتابه القيم "من أسرار اللغة" لمسألة الإعراب. ويحمل هذا الفصل عنوان "قصة الإعراب" حيث يسلط المؤلف على مسألة الإعراب نوعا من الشك "الديكارتى” يذكرنا بكتاب أستاذه الدكتور طه حسين "فى الشعر الجاهلى" الذى سلط شكه الديكارتى على الشعر الجاهلى، منتهيا إلى نظريته الشهيرة عن "الانتحال" ذلك أن "انتحال" الإعراب هو ما نجده عند الدكتور إبراهيم أنيس، هذا الإعراب الذى ينكر الأستاذ إبراهيم مصطفى فى كتابه الشهير "إحياء النحو" وظيفته النحوية فيما يتعلق بما يسمى بمنصوبات الأسماء، كما ينكر قطرب تلميذ سيبويه وصاحب كتاب "إعراب القرآن" كل وظيفة نحوية له ويفسره تفسيرا صوتيا خالصا.
وقبل أن نُلِمَّ برأى قطرب، لننتقل بعد ذلك إلى تلك الدراسة المتبحرة التى يحتشد لها الدكتور إبراهيم أنيس بحجج كثيرة متنوعة ضد الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية، نحاول أولا الإلمام بأطراف من وجهة نظر تنطوى على قبول الإعراب فى الرفع والجرّ وإنكاره فى النصب وهى وجهة نظر تكتسب أهميتها الكبيرة من مكانة صاحبها الأستاذ إبراهيم مصطفى، هذا المؤلف النحوى الذى لعب دورا بالغ الأهمية فى محاولات تجديد النحو وفى مقدمة تلك المحاولات محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة فى دورته الحادية عشرة (1945) بالاشتراك مع وزارة المعارف المصرية.
ويطرح الأستاذ إبراهيم مصطفى وجهة نظره بوضوح تام، منذ البداية، منذ مقدمة الكتاب، مشيرا إلى أنه بحث عن معانى هذه العلامات الإعرابية، وإلى أن الله هداه إلى "شيء يراه قريبا واضحا"(1) يلخصه فيما يلى:
الرفع (الضمة): "1: إن الرفع عَلم الإسناد، ودليل أن الكلمة يُتحدَّث عنها"(2). ... "فأما الضمة فإنها عَلم الإسناد، ودليل على أن الكلمة المرفوعة يراد أن يسند إليها ويُتحدَّث عنها"(3).
الجر (الكسرة): "2: إن الجر عَلم الإضافة سواء أكانت بحرف أم بغير حرف"(4). … "وأما الكسرة فإنها عَلم الإضافة، إشارة إلى ارتباط الكلمة بما قبلها"(5).
التنوين: ويشير إلى نظرته إلى التنوين على أنه عَلم التنكير(6).
الفتحة: "3: إن الفتحة ليست بعَلم على إعراب، ولكنها الحركة الخفيفة المستحبة، التى يحب العرب أن يختموا بها كلماتهم ما لم يلفتهم عنها لافت؛ فهى بمنزلة السكون فى لغتنا الدارجة"(7). … "أما الفتحة فليست علامة إعراب ولا دالة على شيء"(8).
ويضيف: "4: إن علامات الإعراب فى الاسم لا تخرج عن هذا إلا فى بناء، أو نوع من الاتباع، وقد بيناه أيضا. فهذا جماع أحكام الإعراب"(9).
والخلاصة: "فللإعراب الضمة والكسرة فقط، وليستا بقية من مقطع، ولا أثرًا لعامل من اللفظ، بل هما من عمل المتكلم ليدلَّ بهما على معنى فى تأليف الجملة ونظم الكلام"(10).
وينطوى هذا الرأى بطبيعة الحال على ازدواج بين الإعراب للضمة والكسرة والتفسير الصوتى الخالص للفتحة وهو تفسير يستبعد كل تفسير آخر يقوم على المخالفة فى الوظيفة النحوية. غير أنه ينطوى أيضا على فكرة تتعلق بنظرية العوامل، أىْ بنظرية أسباب الضمة والكسرة كما يفترض موقف الأستاذ إبراهيم مصطفى. وأعتقد أن الحماس البالغ ضد هذه النظرية رفضا لتعقيداتها وتفريعاتها هو الذى يقود هنا إلى إنكار أىّ أثر لعامل من اللفظ بحجة أن الضمة والكسرة إنما هما من عمل المتكلم كما قال، وكأن المتكلم قد اختار اللفظة المرفوعة بالضمة أو المجرورة بالكسرة وحدهما فلم يختر بقية ألفاظ الجملة، وحتى إذا قلنا إنه اختار كل الألفاظ فإنما يعنى هذا أنه اختارها بكل آثارها الإعرابية المطردة. على أننا لا نناقش هنا نظرية العوامل وإنما نتحدث عن إنكار الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية.
وإذا كان الأستاذ إبراهيم مصطفى يؤيد إعراب المرفوع والمجرور أو المضموم والمكسور، وينكر إعراب الفتحة، فإن قطْرُب (وهو الإمام محمد بن المستنير، البصرى المولد والنشأة، وتلميذ سيبويه الذى قيل إنه سماه ""قطْرُبًا" على اسم دويِّبة اسمها القطرب تدبّ ولا تفتر؛ وله كتاب فى إعراب القرآن)(11)، لا ينكر لفظة الإعراب بل ينكر معناها فى تمييز الوظائف النحوية، ونقتبس منه هذا النص الطويل لمعرفة أبعاد نظريته الصوتية البحتة عن الإعراب:
لم يُعْرَب الكلام للدلالة على المعانى والفرق بين بعضها وبعض، لأنا نجد فى كلامهم أسماء متفقة فى الإعراب مختلفة المعانى وأسماء مختلفة فى الإعراب متفقة المعانى، فمما اتفق إعرابه واختلف معناه قولك إن زيدا أخوك، ولعل زيدا أخوك، وكأن زيدا أخوك، اتفق إعرابه واختلف معناه. ومما اختلف إعرابه واتفق معناه قولك: ما زيد قائما (أىْ فى لغة الحجازين) وما زيد قائم (أى فى لغة بنى تميم) اختلف إعرابه واتفق معناه. ومثله ما رأيته منذ يومين ومنذ يومان ولا مالَ عندك ولا مالٌ عندك، وما فى الدار أحد إلا زيد وما فى الدار أحد إلا زيدا. ومثله إن القومَ كلَّهم ذاهبون وإن القوم كلُّهم ذاهبون، ومثله (إن الأمر كلَّه لله) و (إن الأمر كلُّه لله) قرئ بالوجهين جميعا، ومثله ليس زيد بجبان ولا بخيل، وليس زيد بجبان ولا بخيلا. ومثل هذا كثير جدا مما اتفق إعرابه واختلف معناه، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه. فلو كان الإعراب إنما دخل الكلام للفرق بين المعانى لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه لا يزول إلا بزواله. وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم فى حال الوقف يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا لكان يلزمه الإسكان فى الوقف والوصل وكانوا يبطئون عند الإدراج، فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلوا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرك وساكن ومتحركين وساكن، ولم يجمعوا بين ساكنين فى حشو الكلمة ولا فى حشو بيت ولا بين أربعة أحرف متحركة، لأنهم فى إجماع الساكنين يبطئون وفى كثرة الحروف المتحركة يستعجلون وتذهب المهلة فى كلامهم، فجعلوا الحركة عقب الإسكان. وقيل له: فهلا لزموا حركة واحدة؟ فقال: لو فعلوا ذلك لضيقوا على أنفسهم، فأرادوا الاتساع فى الحركات وأن لا يحظروا على المتكلم الكلام إلا بحركة واحدة(12).
ويضيف الدكتور شوقى ضيف أن قطرب: "على نحو ما علل لاختلاف حركات الإعراب بالاتساع فى الكلام علل لظاهرة الترادف فى نفس اللغة بنفس العلة، إذ يقول"(13):
إنما أوقعت العرب اللفظتين على المعنى الواحد ليدلوا على اتساعهم فى كلامهم، كما زاحفوا فى أجزاء فى الشعر ليدلوا على أن الكلام واسع عندهم وأن مذاهبه لا تضيق عليهم عند الخطاب والإطالة والإطناب(14).
وكما يقول الدكتور شوقى ضيف فقد كان رأى قطرب:
أن حركات الإعراب المسماة بالرفع والنصب والجر والجزم هى نفسها حركات البناء المسماة بالضم والفتح والكسر والوقف أو السكون، ولا بأس من إطلاق كل منها على مقابلها فى الحالتين، فيقال للرفع فى الكلمات المعربة الضم، ويقال للضم فى الكلمات المبنية الرفع، وهلم جرا(15).
ويمكننا الآن أن ننتقل مباشرة إلى مناقشة وجهات نظر الدكتور إبراهيم أنيس.
ونلتقى بوجهة نظره لأول مرة، فى كتابه القيم "فى اللهجات العربية"، حيث يقول:
فالإعراب كما نعرفه لم يكن إلا مسألة مواضعة بين الخاصة من العرب، ثم بين النحاة من بعدهم، ولم يكن مظهرا من مظاهر السليقة اللغوية بين عامة العرب(16).
ومن الجلى أن هذه النظرة قد تم استنتاجها بصورة مباشرة من ظاهرة اللحن الإعرابى، ويقول الدكتور إبراهيم أنيس:
ولا يعقل أن صاحب السليقة اللغوية يخطئ إلا إذا كان ينطق بلغة خاصة يتمسك فيها بقواعد وأصول لا تراعَى فى حياته العادية حين ينطلق على سجيته(17).
وقد سبق لى أن أوضحتُ، فى مقال بعنوان "ظاهرة الازدواج اللغوى فى العالم العربى"، أن هذا الازدواج اللغوى بين اللغة العربية بالإعراب واللغة العربية بإسقاط الإعراب يمكن تفسيره بصورة مناقضة لتفسير الدكتور إبراهيم أنيس:
والفكرة التى ينطوى عليها الاستشهاد الأخير فكرة صحيحة فى حد ذاتها، فظاهرة اللحن تعنى وجود لغتين، لكنها لا تعنى بالضرورة أن إحداهما تمثل السليقة الأصلية وأن الأخرى تمثل الاصطناع الأدبى لدى الخاصة، بل يمكن تفسيرها تفسيرا معاكسا يتمثل فى إرجاع عدم التمكن من لغة الإعراب ليس إلى كونها لغة جديدة أو مصطنعة أو أدبية وبالتالى لا تمثل السليقة الأصلية بل إلى أن لغة الإعراب كانت هى السليقة الأصلية ثم أخذ الإعراب يسقط فى لغة الكلام لدى هذه الجماعة، وكان التطور المنطقى لهذه الظاهرة أن يسقط الإعراب من اللغة العربية جميعا وأن تسود لغة إسقاط الإعراب(18).
ولأن الدكتور إبراهيم أنيس يجعل لغة الإعراب لغة خاصة العرب، ولغة السليقة الخالية من الإعراب لغة عامة العرب، فقد استشعرت أنه ينطلق من تصور مؤداه أن "تعقيد" الإعراب يجعله مستعصيا على العامة:
ويبدو أن الدكتور إبراهيم أنيس تصوَّر أن تعقيد الإعراب يجعله مستعصيا على عامة الناس فلم ينتبه لذلك إلى واقع أن شعوبا كثيرة استخدمت فى الماضى أو لا تزال تستخدم وبسهولة فطرية لغات إعرابية بالغة التعقيد، وأن لغات الإعراب نجدها كلما عدنا إلى الوراء، وأنه رغم أن اللغات يمكن أن تتخلى فى مرحلة من مراحل التطور عن الإعراب بكل تعقيد حالاته ومورفيماته ليحل محله نسق نحوى أبسط هو نسق تقييد ترتيب الكلمات فى الجملة إلا أن هذا الاقتصاد اللغوى إنما تتعلمه الشعوب واللغات بعد أن تخوض تجربة تاريخية طويلة مع لغة الإعراب بوصفها نقطة الانطلاق، رغم كل هذا التعقيد الذى قد يبدو مستعصيا على الاستيعاب بينما يتعامل معه أصحاب السليقة بكل سهولة، ومن يدرى فربما جاء الإعراب ذاته تتويجا لمسار اقتصاد لغوى سابق طويل انطلاقا من أنظمة لغوية سابقة أكثر تعقيدا بكثير(19).
على أن الدحض المسهب للإعراب إنما يقدمه الدكتور أنيس، كما سبق القول، فى كتابه "من أسرار اللغة" (الفصل الثلث: من ص 198 إلى ص 274).
ويقوده إحساسه غير المبرر بتعقيد الإعراب واستعصائه بالتالى على "العامة" إلى الشك فى أنه كان سليقة لديهم فى يوم من الأيام. وينطلق من هذا بقوة لا تقاوم إلى تصور غريب مؤداه أن الإعراب من صنع خاصة العرب ونحاتهم، ونجده بالتالى يصور لنا "مؤامرة" كاملة قام بها النحاة لينقلبوا إلى كهنة علم سرى يضمن لهم السيطرة الاستبدادية على اللغة والأدب والثقافة.
وقدم لنا الدكتور إبراهيم أنيس مؤامرة النحاة تحت عنوان "قصة الإعراب" على النحو التالى:
ما أروعها قصة! لقد استمدت خيوطها من ظواهر لغوية متناثرة بين قبائل الجزيرة العربية، ثم حيكت وتم نسجها حياكة محكمة فى أواخر القرن الأول الهجرى أو أوائل الثانى، على يد قوم من صناع الكلام نشأوا معظم حياتهم فى البيئة العراقية. ثم لم يكد ينتهى القرن الثانى الهجرى حتى أصبح الإعراب حصنا منيعا، امتنع حتى على الكتاب والخطباء والشعراء من فصحاء العربية، وشق اقتحامه إلا على قوم سموا فيما بعد بالنحاة(20).
ورغم حقيقة أن الإعراب ليس سوى أداة مهمة من أدوات النحو، ورغم الخلط الذى ظل يميز النحو العربى إلى يومنا هذا بين النحو والإعراب، لا يمكن لمنصف إلا أن يرى أن الإنتاج النحوى العربى على مرّ القرون لم يقتصر على الإعراب بل كانت المفاهيم النحوية مثل المبتدأ والخبر والفعل والفاعل والمفعول والظرف وما أشبه هى القضايا النحوية-الإعرابية المطروحة دوما رغم ضمور النحو لحساب الإعراب. ومن هنا فلا عجب فى أن ينشأ علم من أهم العلوم اللغوية هو النحو العربى، ولا مجال للشك فى أن كل لغة من لغات البشرية قد فعلت نفس الشئ بوجه عام، أىْ تطوير علم نحوى بالغ التعقيد.
ولو فكر هذا الناقد العلامة للنحو العربى والإعراب العربى جيدا فى أن "العامة" إنما تتمثل قسمتُهم فى النحو والإعراب السليقيَّيْن، الجمعيَّيْن، وليس فى نحو النحاة وإعراب أهل صناعة الإعراب، لأدرك أن التعقيد المفزع الذى يشكو منه فى "الإعراب" يخص النحو الوضعى، أىْ نحو النحاة، فلا صلة له بـ "العامة" الذين تتمثل قسمتُهم فى سهولة السليقة وليس فى صعوبة البحث العلمى فى النحو أو فى غيره.
والغريب أنه لم يلتفت إلى حقيقة أن وجود الإعراب فى مراحل سابقة أو راهنة للغات أخرى، بكل تعقيداته كما قد يبدو لنا بعد إسقاط الإعراب والانتقال إلى نظام آخر مختلف، إنما يعنى أن "العامة" من شعوب اللغات الأخرى، تماما مثل "الخاصة" بينهم، تستوعب بسهولة سليقية "فطرية"، كل التعقيدات من وجهة نظر مرحلة لغوية مختلفة.
ومن الجلى أن "العامة" و "الخاصة" فى لغات لا حصر لها عاشوا بلغات الإعراب قبل الانتقال إلى لغات إسقاط الإعراب فى مراحل لاحقة، فضلا عن "العامة" و "الخاصة" فى شعوب كثيرة ما تزال تعيش بلغات الإعراب.
غير أن الدكتور أنيس الذى احتشد لدحض الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية كان قد اتخذ قراره، ومن هنا فإنه لم يعرض لمشكلة من مشكلات هذه "الظاهرة" إلا وابتعد عن التناول الموضوعى، متخذا من نظرته إلى هذه المشكلة دليلا جديدا يسهم فى دحض الإعراب.
وهذا ما نجده فى هذا الكتاب أيضا بصدد اللحن الإعرابى، إذ يؤكد أننا إذا سلمنا بروايات اللحن باعتباره الخطأ الإعرابى فإنه:
لا مناص لنا من أن نعد ظاهرة الإعراب من الظواهر التى لا يمكن أن تمت للسليقة اللغوية بصلة، وذلك لأن صاحب اللغة الذى يتكلمها بالسليقة يستحيل عليه الخطأ(21).
ويقفز من هذا إلى تأكيد نفى الإعراب كأصل فى الكلام العربى:
وعلى هذا يمكننا أن نتصور أن ظاهرة الإعراب لم تكن ظاهرة سليقة فى متناول العرب جميعا كما يقول النحاة، بل كانت كما قلت فى كتاب اللهجات العربية صفة من صفات اللغة النموذجية الأدبية، ولم تكن من معالم الكلام العربى فى أحاديث الناس ولهجات خطابهم(22).
فليس لدى الدكتور سوى تفسير واحد وحيد للحن الإعرابى، وهو أنه يدل على أن الكلام العربى كان خاليا من الإعراب وإلا لما أخطأ "خاصة الخاصة" فى الإعراب. وسيكون هذا الاستنتاج غير المبرر تمهيدا مباشرا لتأصيل أكثر اندفاعا هو أن الأصل فى الكلام العربى كان إسكان أواخر الكلمات، وأن تحريكها بالضمة والفتحة والكسرة إنما يأتى لضرورة صوتية يتطلبها الوصل، كما سنرى بعد قليل.
وقد أوضحنا أن التفسير المعاكس للحن الإعرابى منطقى وتاريخى. فإذا كان الإعراب هو الأصل فى الكلام العربى ("فى مرحلة نقصد بها هنا عصر الرواية والاحتجاج وما قبل ذلك بطبيعة الحال") فإن التطور المنتمى إلى الاقتصاد اللغوى والمتمثل فى ترتيب الكلمات (الوظائف النحوية) فى الجملة كأساس للتمييز بين الفاعلية والمفعولية بدلا من علامات الإعراب، كان قد أدى إلى نوع من الازدواج النحوى بين الإعراب وإسقاط الإعراب، وكلما تأكد اتجاه إسقاط الإعراب فى الكلام إلى السيطرة فى الأمصار أولا ثم فى البادية كان من المنطقى أن تتراجع سليقة الإعراب على مرّ الزمن وأن تؤدى إلى اللحن الإعرابى الذى يغدو ظاهرة لا مناص منها على طريق إسقاط الإعراب.
وتحت عنوان "هل للإعراب آثار باقية؟" يجد الدكتور أنيس أن اللغات الساميّة خالية من الإعراب، أو خالية من آثاره، أو تحتوى على الضئيل من تلك الآثار(23). ويرى أن المستشرقين فى بحثهم عن الإعراب فى اللغات السامية كانوا متأثرين بالإعراب الهند-أوروپى الذى "كان شائعا فى لغاتهم القديمة كاليونانية واللاتينية"، هذا الإعراب الذى "فُقد من بعض اللغات الأوروپية الحديثة كالإنجليزية والفرنسية، فتصوروا أن ما حدث فى التطور التاريخى للفصيلة الهندية-الأوروپية، قد تم مثله فى الفصيلة الساميّة"(24)، ويرى أنهم يعتبرون "لغتنا العربية، نموذجا لأقدم صورة كانت عليها شقيقاتها الأخرى، ويفترضون أن العربية قد انعزلت فى جزيرة العرب فاحتفظت أكثر من غيرها بظواهر ساميّة قديمة"(25).
ولعل المستشرقين حين شاهدوا الإعراب فى اللغة العربية وخلوّ اللغات الأخرى منه، قد خضعوا لمبدئهم العام من أن العربية قد احتفظت بظواهر لغوية قديمة أكثر من غيرها، وظنوا الإعراب من بين تلك الظواهر التى ربما تعود إلى السامية الأولى. ولذا نجدهم يجهدون أنفسهم وقرائحهم فى تلمس آثار ظاهرة الإعراب فى اللغات السامية الأخرى. ثم حدثونا عن تلك الآثار بما لمسناه آنفا من آراء لا تكاد تطمئن إليها نفس الباحث المنصف(26).
ويصل بنا على هذا النحو إلى أنه لا دليل على أن الإعراب كان قائما فى اللغات السامية، ويضيف إلى هذا حجة فقدان الإعراب فى اللهجات العربية الحديثة فيقول:
كيف اختصت اللغة العربية بهذا الإعراب؟ وكيف فقدته كل لهجاتها الحديثة التى ليست إلا طورا لها؟ كيف نتصور أن لهجات الكلام فى كل البيئات العربية، فى العراق وفى الشام وفى مصر وبلاد المغرب وفى اليمن، بل وفى البيئة الحجازية، مهد الوحى وحيث نزل القرآن الكريم وهو خير كتاب بالعربية أخرج للناس، أقول كيف نتصور أن ظاهرة الإعراب لا تترك فى كل هذه البيئات أثرا، ولا تخلف فيها ما يوحى بأن الإعراب كان شائعا على ألسنة الناس فى العصور الإسلامية الأولى كما يحاول الرواة أن يُفهمونا(27).
ويخترع الدكتور أنيس "قاعدة لا أساس لها" مؤداها أن لغة الإعراب تترك فى لغة إسقاط الإعراب آثارا بالضرورة، بدلا من أن يدرك أننا إزاء إسقاط الإعراب أىْ الانتقال من الإعراب إلى بديله. وهو يدرك جيدا أن لغات إعراب أخرى كالجرمانية واليونانية واللاتينية لم تترك آثارا فى لغات إسقاط الإعراب كالإنجليزية والفرنسية، فلماذا العناد فى تطبيق هذه القاعدة العامة فى تطور اللغات على اللغة العربية التى لم تترك آثارا فى اللهجات العربية الحديثة التى تطورت عنها؟
غير أن العنوان التالى هو "بين إعرابنا وإعراب اللاتينية" (ضمن هذه العناوين الفرعية فى الفصل الثالث)، أىْ أننا إزاء اندفاع جديد نحو إلغاء ما هو مشترك بصورة جوهرية بين إعرابهم وإعرابنا وكل إعراب. ففى فصل صغير مبتسر من ثلاث صفحات (217-219) يشير إلى خطأ عقد المقارنة بين الحالات الإعرابية ("أىْ التى يفترضها النحاة") فى لغتنا ونهايات الأسماء اللاتينية بحالاتها الست: الفاعلية، النداء، المفعولية، الملكية أو الإضافة، المفعولية غير المباشرة، الآلية(28). غير "أننا نعرف أيضا" أن الإعراب اللاتينى يختلف لأنه ليس "كل فاعل مرفوع" وليس "كل مفعول منصوب"، إلخ. "لأن الرمز الواحد فى اللاتينية قد يرمز للفاعلية والمفعولية" كما هو الحال مع الأسماء المحايدة(29). وينتهى إلى ما يلى:
وهكذا نرى أن دلالة تلك المقاطع فى الأسماء اللاتينية لا تعدو أن تكون دلالة لغوية محضة syntactic، فلا تمت لمنطق عقلى أو دلالة عقلية[....]. كما نرى أن نظام تلك الحالات فى لغات الفصيلة الهندية-الأوروبية نظام معقد ذو اتجاه خاص، ولا يصح أن نقارن به نظامنا العربى(30).
والحاصل:
ولعل أهم فرق بين رموز الأسماء اللاتينية وبين حركاتنا الإعرابية، أن الرموز اللاتينية لا تسقط مطلقا من نهاية الأسماء حين الوقف عليها كما حدث غالبا للحركات الإعرابية فى لغتنا، مما يجعلنا نرجح أن حركاتنا الإعرابية ليست رموزا لغوية تشير إلى الفاعلية أو المفعولية وغير ذلك، كما يظن النحاة(31).
ومن الجلى أن هذا الابتسار البالغ، المقدم هنا وكأنه مقارنة بين الإعرابين العربى واللاتينى تلغى المشترك الجوهرى بينهما، لا يقدم ولا يؤخر، ولا نفهم منه إلا أن المؤلف كان شديد الرغبة فى دحض الإعراب العربى بكل حجة ممكنة.
لكن يبدو أن العنوان الفرعى التالى "مفتاح السر ظاهرة الوقف" سيحمل إلينا أخيرا سرّ حركات الإعراب الذى يتضح أنه يتمثل فى الوقف والإسكان.
ويبدأ المؤلف دحضه كما يلى:
يظهر والله أعلم: أن تحريك أواخر الكلمات كان صفة من صفات الوصل فى الكلام شعرا ونثرا، فإذا وقف المتكلم أو اختتم جملته لم يحتج إلى تلك الحركات، بل يقف على آخر كلمة من قوله بما يسمى السكون. كما يظهر أن الأصل فى كل الكلمات أن تنتهى بهذا السكون وأن المتكلم لا يلجأ إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة صوتية يتطلبها الوصل(32).
وهو يشبِّه رأيه برأى تلميذ سيبويه، الإمام محمد بن المستنير المعروف ﺑ قطرب. وهو محقّ تماما فى هذا التشبيه، ويمكن القول إن تناوله هنا لا يزيد عن أن يكون ترديدا لرأى قطرب. ذلك أن الدكتور إبراهيم أنيس يقدم هنا بحثا عن ظاهرة الوقف. على أن البحث المطلوب هنا كان ينبغى أن يركز على إثبات أشياء محددة.
وحتى إذا سلَّمنا بأن "الأصل فى كل الكلمات أن تنتهى بهذا السكون"، باعتبار الوضع المعجمى لكل لفظة على حدة، وباعتبار أن الإسكان أو التحريك فى آخر اللفظة المفردة لن يؤدى إلى اختلاف فى المعنى المعجمى، فقد كان المطلوب إثباته ما يلى:
1: أن الكلام العربى كان يقوم بإسكان أواخر الكلمات كلما كانت الضرورة الصوتية غير قائمة (كما نفعل الآن فى لهجة القاهرة على سبيل المثال إذ أننا فى الكلام المتصل، نقوم بتحريك أو إسكان أواخر الكلمات وفقا للضرورة الصوتية).
2: "أن المتكلم لا يلجأ إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة صوتية يتطلبها الوصل". أىْ أن التحريك صوتى بحت ولا يمت بصلة إلى الإعراب المرتبط فى مرحلة من مراحل اللغة بالنحو والوظائف النحوية.
3: أن اللغة العربية كانت لغة تعتمد على أداة ترتيب الكلمات (الوظائف النحوية) فى الجملة وليس على أداة الإعراب. أىْ إثبات أن اللغة العربية كانت فى حالة الخلوّ من الإعراب (أو فى حالة إسقاط الإعراب بافتراض أنه كان قائما فى مرحلة أسبق). ومن الواضح أن إثبات الخلوّ من الإعراب والاعتماد على ترتيب الكلمات فى الجملة العربية إنما يعنى إثبات أن أ: الإسكان هو الأصل حتى فى الكلام المتصل وأن ب: التحريك يأتى فى الكلام المتصل لضرورة صوتية ليس إلا.
ولا سبيل فى الحقيقة إلى إثبات كل هذا إلا بإثبات أن اللغة العربية فى كل النصوص المحفوظة والمكتوبة من عصر الرواية والاحتجاج، وفى النصوص المكتوبة بعد ذلك بالتقيد بالتقاليد النحوية لذلك العصر، كانت تقوم بصورة لا جدال فيها على نسق تقييد ترتيب عناصر الجملة أىْ على النسق المرتبط بعدم وجود الإعراب، والمستغنى عن كل علامات الإعراب، باستخدام هذا الترتيب للكلمات الذى يساعد مع المعنى والقرائن الأخرى على تمييز الوظائف النحوية. وليس هذا هو الحال بحال من الأحوال، إذ إن كل هذه النصوص لا تحتوى على نسق تقييد ترتيب الكلمات إلا كأحد البدائل، إلا كشكل من أشكال بناء الجملة، بالاعتماد الصارم المطرد على الإعراب الذى قيس على وجوده ما يسمى باللحن الإعرابى.
ومهما كانت محاضرة الدكتور أنيس عن الوقف بليغة فإننا لا نجد أية محاولة ناجعة للإثبات المباشر للأشياء السابقة.
كذلك فإن الأشياء المطلوب إثباتها فى البنود السابقة، يستحيل إثباتها ولا معنى لإثباتها بدون إثبات أن التحريك لا يطرد فيه مطلقا اقتران حركة بوظيفة نحوية بعينها. وعلى سبيل المثال فإن إثبات الخلوّ من الإعراب (وبالتالى إثبات الطابع الصوتى البحت للتحريك) إنما يكون بإثبات أن الفاعل مثلا لا يطرد معه الرفع بالضمة أو بعلامات الرفع الأخرى (مالم تؤثر على رفعه عوامل أخرى) وأنه على العكس من ذلك يأخذ أىّ حركة من ضمة أو فتحة أو كسرة لأسباب صوتية بحتة.
وفى هذا يقول صاحب كتاب "ظاهرة الإعراب فى العربية":
وقد ردّ القدماء على قطرب فى زعمه هذا بأنه لو كان كما زعم لجاز خفض الفاعل مرة ورفعه أو نصبه مرة أخرى وجاز نصب المضاف إليه لأن القصد فى هذا إنما هو الحركة تعاقب سكونا يعتدل به الكلام(33).
والذى لا جدال فيه هو أن الحركات فى النصوص العربية المشار إليها تثبت، كما سبق القول، اطراد اقتران الحركة بالوظيفة النحوية؛ اطراد الرفع مع الفاعلية والنصب مع المفعولية إلخ فى الألفاظ المفردة المعربة. ولا يستقيم رأى الدكتور أنيس إلا فى حالة واحدة هى افتراض أن "النحاة" بدلوا بالحركات التى كانت مجرد حركات صوتية حركة مطردة فى آخر كل كلمة مع وظيفتها النحوية، بعد أن كانت تأتى فى الكلام العربى المتصل مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة أو ساكنة الأواخر، وبافتراض أن هذا التبديل شمل كل النصوص العربية.
وتحت عنوان فرعى خامس "ليس للحركة الإعرابية مدلول" يكرر المؤلف أيضا فكرته الشهيرة:
لم تكن تلك الحركات الإعرابية تحدد المعانى فى أذهان العرب القدماء كما يزعم النحاة، بل لا تعدو أن تكون حركات يحتاج إليها فى الكثير من الأحيان لوصل الكلمات بعضها ببعض(34).
وبعد أن يورد قراءات قرآنية بالإسكان، ينتقل الدكتور المؤلف إلى ما يسميه "موقف الفاعل من المفعول فى الجملة العربية" يقول:
نكتفى هنا ببيان قصير عن موضع الفاعل من الجملة، وموضع المفعول منها، كى نبرهن على أن الفاعل لا يعرف بضم آخره، ولا المفعول بنصب آخره، بل يعرف كل منهما فى غالب الأحيان بمكانه من الجملة الذى حددته أساليب اللغة، وما روى منها من آثار أدبية قديمة، فإذا انحرف أحدهما عن موضعه تتبعناه فى موضعه الجديد بسهولة ويسر، ودون لبس أو إبهام لأن الجملة حينئذ تشتمل على ما يرمز إليه، ويدل عليه، وذلك لأن التركيب مع هذا الانحراف قد تتغير معالمه، أو لأن ظروف الكلام، توحى به وترشدنا إليه(35).
ويؤكد المؤلف(36) أن:
الفاعل فى أغلب الكلام العربى يلى الفعل ويسبق المفعول، ولا يتأخر الفاعل إلا فى أحوال:
1- منها أسلوب الحصر أو القصر نحو: "وما يعلم تأويله إلا الله"(37).
2- ومنها طول الكلام مع الفاعل وتوابعه، مما قد يغمر المفعول به، ولا نكاد نتبينه حين يتأخر مثل قوله تعالى "وإذا حضر القسمةَ أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه"(38) ومثل: "سيصيب الذى أجرموا صغارٌ عند الله وعذاب شديد"(39) ومثل: "لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها"(40)، ومثل: "إما يبلغن عندك الكبر أحدُهما أو كلاهما"(41).
3- وحين يشتمل الفاعل على ضمير يعود على المفعول مثل: "هذا يومُ ينفع الصادقين صدقُهم"(42)، ومثل: "لا ينفع نفسا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا"(43)، ومثل: "وإذا ابتلى إبراهيم ربُّه"(44).
ولا جدال فى أن القول بأن الفاعل يتقدم فعله ويليه مفعوله فى أغلب الكلام العربى فى ترتيب عناصر الجملة قول مرسل لم يقدم أحد إثباتا مقنعا له، وربما كان من المستحيل إثباته، بسبب الكثرة الهائلة من مليارات الجمل العربية التى ينبغى (ولكنْ يستحيل) فحصها من هذه الزاوية لإثباته. ولا شك فى أن هذه العقبة التى لا يمكن تصوُّر أن يفكر أحد مجرد تفكير فى إزالتها هى السرّ وراء لجوء هذا الباحث أو ذاك ليس إلى الاعتبارات النحوية المنطقية بل إلى مجموعة منتقاة مهما اتسعت من الجمل أو إلى أقوال مرسلة لآخرين لإثبات أن الجملة العربية السائدة هى "الفعلية" عند هذا و "الاسمية" عند ذاك.
ولكنْ حتى بافتراض تقدم الفاعل على المفعول، وهو، على كل حال، السائد فى لغة إسقاط الإعراب، كما أنه على كل حال أحد الترتيبات الممكنة فى لغة إسقاط الإعراب بل ربما كان أكثرها شيوعا، فإن تمييز الوظائف النحوية يحتاج إلى قاعدة شاملة تعتمد على علامات الإعراب فى لغة الإعراب وعلى المكان فى لغة إسقاط الإعراب. ولا شك فى أن قرينة أو أكثر يمكن أن تغنى فى الجملة الواحدة عن الاعتماد على الإعراب (وحتى عن ترتيب الكلمات) كأنْ يكون الفعل مسندا إلى مؤنث مع مفعول به مذكر، أو كأن يكون المعنى واضحا بذاته دون إعراب مثل "أكلت زينب تفاحة"، إلخ إلخ، غير أن كل هذا لا ينفى أمرين: 1: أن هناك حاجة إلى علامات الإعراب فى لغة تقوم على الإعراب بغض النظر عن وجود أو عدم وجود قرائن 2: أن اللغة العربية ضمن لغات عديدة من مجموعات لغوية عديدة اطرد فيها فى مراحل بعينها الإعراب واقتران علاماته بالوظائف النحوية كنسق عام وأداة عامة لتمييز هذه الوظائف فى وجود أو عدم وجود ما يساعد على هذا التمييز من مقتضيات قرائن المعنى المعقول أو اللفظ الدال على النوع أو العدد أو غير ذلك. ولم يقل بغير هذا إلا قليل من المجتهدين من أمثال قطرب والدكتور إبراهيم أنيس.
والعنوان الفرعى السادس هو "التقاء الساكنين"، وهو قسم صغير يبدأ بالنظر إلى الكلام المتصل ككتلة صوتية واحدة ثم ينتقل إلى ظاهرة التخلص من التقاء الساكنين:
دلت البحوث الصوتية الحديثة على أن الأصل فى كل كلام أن تتصل أجزاؤه اتصالا وثيقا، وأن تتداخل مقاطعه. فإذا سجلنا على لوح حساس جملة مكونة من عدة كلمات، وجدنا ما يظهر على اللوح خطا متعرجا أو متموجا ترمز أعاليه لأوضح الأصوات، وأسافله لأقلها وضوحا فى السمع [...] ونرى هذا الخط متصلا لا انفصام بين أجزائه، وليس فيه ما يرمز إلى نهاية كلمات هذه الجملة، ونرى فى ثناياه مقاطع قد ينتمى جزء من أحدها إلى أول الكلمة، وينتمى الجزء الثانى إلى آخر الكلمة السابقة عليها، مما يؤكد لنا أن الكلمات فى وصل الكلام لا تكاد تتميز معالمها ولا تستقل بأجزائها، بل يتداخل بعضها فى بعض ويصبح الكلام كتلة واحدة، ولا يميز بين الكلمات إلا صاحب اللغة، والعارف بمعانيها(45).
ويشير إلى أنه:
لا يعنينا فى بحث حركات الإعراب من ظاهرة التخلص من التقاء الساكنين، إلا حين تكون بين كلمتين متجاورتين(46).
وينتهى إلى أن النحاة:
سمعوا التخلص من التقاء الساكنين بالكسر أحيانا، وبالضم أحيانا، وبالفتح أحيانا، ولكنهم قصروا أمره على تلك الكلمات التى لا يعقل أن تنسب لها الفاعلية أو المفعولية ونحو ذلك، ثم اعتقدوا أن تحريك أواخر الكلمات الأخرى ولا سيما الأسماء كان لمعنى يوحى به هذا التحريك ويشير إليه(47).
وباختصار فإن التخلص من التقاء الساكنين فى الكلمات المتجاورة أدى إلى تحريك آخر الكلمة الأولى تحريكا صوتيا بعيدا تماما عن الدلالات الإعرابية "المزعومة"، وهذا حق. غير أن امتداد تحريك سكون آخر الكلمة الأولى إلى "الأسماء" هو الذى يضعنا من جديد أمام الطبيعة الصوتية البحتة أو الصوتية الإعرابية لهذا التحريك، ولكنْ هل هذا التخلص صوتىّ بحت بسبب "إيثار بعض الحروف لحركة معينة"(48) أو "الميل إلى تجانس الحركات المتجاورة"(49)؟ أم أن الإعراب يفرض نفسه (إذا كانت الكلمة الأولى ذات وظيفة نحوية كأن تكون الفاعل مثلا) بصورة تجبّ إيثار حرف لحركة أو تجانس الحركات المتجاورة (مثلا: هذه نتيجةُ الخروج ليلا، أرأيت نتيجةَ الخروج ليلا، انظر إلى نتيجةِ الخروج ليلا؛ بافتراض أن الأصل إسكان لفظة "نتيجة" وأن المطلوب هو التخلص من سكون أول الكلمة التالية)؟ أىْ أننا هنا، كما رأينا مع ظاهرة الوقف، أمام اطراد اقتران حركة أو علامة بعينها بوظيفة نحوية بعينها، بغض النظر عن الضرورة الصوتية القابلة لتحقيق نفسها بأىّ حركة من الحركات الثلاث: الضمة، الفتحة، الكسرة.
والعنوان الفرعى السابع هو "رأى فى الإعراب بالحركات" وهنا يؤكد الدكتور إبراهيم أنيس من جديد رفضه لفكرة التحريك الإعرابى وتأييده للتحريك الصوتى:
نحن إذن نرجح أن تحريك أواخر كل الكلمات لم يكن فى أصل نشأته إلا صورة للتخلص من التقاء الساكنين، غير أن النحاة حين أعيتهم قواعده وشق عليهم استنباطها، فصلوا بين عناصر الظاهرة الواحدة. ولعلهم تأثروا فى نهجهم هذا بما رأوه حولهم من لغات أخرى كاليونانية مثلا، ففيها يفرق بين حالات الأسماء التى تسمى cases، ويرمز لها فى نهاية الأسماء برموز معينة. وكأنما قد عز على النحاة ألا يكون فى العربية أيضا مثل هذه الـ cases.
فحين وافقت الحركة ما استنبطوه من أصول إعرابية قالوا عنها إنها حركة إعراب، وفى غير ذلك سموها حركة أتى بها للتخلص من التقاء الساكنين.
الأصل إذن فى جميع كلمات اللغة ألا تحرك أواخرها إلا حين تدعو الحاجة إلى هذا، أو بعبارة أخرى حين يدعو النظام المقطعى وتواليه إلى هذا التحريك(50).
ويتخذ التفسير الصوتى شكلا جديدا:
وهكذا ترى أن ما سماه القدماء بالتقاء الساكنين ليس فى الحقيقة إلا توالى ثلاثة أو أربعة حروف consonants فى وسط الكلام. وإذا كان نظام توالى الحروف لا يسمح بمثل هذا فى الجمل والعبارات، فمن باب أولى لا يسمح به فى الكلمة الواحدة(51).
وكذلك:
فإذا حللنا معظم عبارات اللغة وجملها نجد أن ما سمى بحركات الإعراب يمكن أن تعدَّ حركات للتخلص من توالى ثلاثة أو أربعة حروف فى وسط الكلام(52).
والخلاصة:
لهذا كله نرجح أن حركات أواخر الكلمات لم تكن تفيد تلك المعانى التى أشار إليها النحاة من الفاعلية والمفعولية ونحو ذلك، وإنما هى حركات دعا إليها نظام المقاطع وتواليها فى الكلام الموصول(53).
إنها نفس حجج التحريك الصوتى ولا ردّ عليها سوى نفس السؤال عن اطراد اقتران حروف الإعراب بالوظائف النحوية مع الألفاظ التى تعرب بالحروف وليس بالحركات (المثنى وجمع المذكر السالم إلخ)، إذا ضربنا صفحا عن "مؤامرة النحاة" وتبديلهم لأواخر الكلم فى كل النصوص السابقة عليهم والمعاصرة لهم.
والعنوان الفرعى الثامن والأخير (فى هذا الفصل الثالث) هو "رأى فى الإعراب بالحروف" وهو قسم صغير يقدم الإعراب على النحو التالى:
فرغ النحاة من تفسيرهم للضم والكسر والفتح فى أواخر معظم الكلمات العربية، واطمأنت نفوسهم لهذا التفسير، وسموه الإعراب بالحركات، ثم عمدوا إلى تلك الكلمات والصيغ التى لم يستطيعوا فيها تغييرا أو تحويرا كالمثنى وجمع المذكر السالم وما يسمى بالأفعال الخمسة، والأسماء الخمسة، فطبقوا عليها أصولهم وقواعدهم، ثم خرجوا علينا بنوع آخر من الإعراب سموه الإعراب بالحروف، ولما رأوا أن للمثنى صيغتين، وجمع المذكر السالم صيغتين، ولكل من الأفعال الخمسة صيغتين، اتخذوا إحدى الصيغتين للرفع واتخذوا الأخرى لغير الرفع(54).
ولأن هذه ليست حروف إعراب فى نظر المؤلف فإنه يهتم بتفسيرها تفسيرا صوتيا، ونظرا لأن التفسير الصوتى لتطور صيغة أو صيغ صرفية مثلا لا يستبعد الإعراب الذى لا يستبعد بدوره التفسير الصوتى لمثل هذا التطور، حق لنا أن نتساءل: كيف أمكن أن يتصور المؤلف أن تفسيره الصوتى يلغى أن تكون هذه الحروف للإعراب؟ فإذا كان الإعراب حقيقة فإن حركاته لن تخرج عن الضمة والفتحة والكسرة (وذلك فى كل لغة). وعندما يعطى الصرف لصيغ بعينها كالمثنى وجمع المذكر السالم والأسماء الخمسة أو الستة والأفعال الخمسة نهايات لا يقوم التمييز النحوى- الإعرابى لأواخرها على الحركات، فإن هذه النهايات الصرفية-النحوية المتمايزة (الألف والنون والواو والنون والياء والنون إلخ) تقوم بالوظيفة الإعرابية المطلوبة مهما كانت الطريقة التى نشأت بها هذه النهايات من الناحية الصوتية.
ويمكن القول أخيرا إن الكتور إبراهيم أنيس احتشد - احتشادا لا يقوى عليه سوى عالم لغوى عظيم مثله - لدحض الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية ولتقديم فكرته القائلة بأنه من صُنْع نخبة اللغة النموذجية ثم من صُنْع النحاة، غير أن بحثه الشامل لا ينجح فى إثبات زعمه. ذلك أن التحريك لوصل الكلام باعتباره ظاهرة صوتية لا يمكن أن يلغى حقيقة الإعراب بحكم طابع هذا التحريك، ولا ينتبه المؤلف إلى ما كان عليه إثباته. ولأنه عالم لغوى عظيم نادر المثال فى لغتنا العربية فقد قدم أفكارا تثبت أو تشرح أو تفسر أشياء كثيرة يمكن أن تفيد فى تطوير النحو العربى غير أنها لا تدحض حقيقة أنه لا سبيل إلى إنكار أن هذا الإعراب كان أصلا من أصول اللغة العربية المضرية القريشية بصورة شاملة فى مرحلة كبرى من مراحلها، مع التسليم بأن خروجه من السليقة أدى إلى الازدواج اللغوى الذى تعيشه اللغة العربية منذ قرون طويلة (منذ أكثر من عشرة قرون فى البادية ومنذ أكثر من اثنى عشر قرنا فى الأمصار مع التسليم ببدء هذا الازدواج منذ وقت أطول بكثير كما تتواتر الروايات) بين استمرار الإعراب فيما يسمى بالفصحى وإسقاطه فيما يسمى بالعامية.





إشارات الملحق الثانى: (وقفة عند من ينكرون الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية):

1: إحياء النحو، مصدر سبق ذكره، ص و.
2: المصدر نفسه، ص و.
3: المصدر نفسه، ص 50.
4: المصدر نفسه، ص و.
5: المصدر نفسه، ص 50.
6: المصدر نفسه، ص ز.
7: المصدر نفسه، ص ز.
8: المصدر نفسه، ص 50.
9: المصدر نفسه، ص ز.
10: المصدر نفسه، ص 50.
11: المدارس النحوية، مصدر سبق ذكره، ص 108.
12: المصدر نفسه، ص ص 109-110.
13: المصدر نفسه، ص 110.
14: المصدر نفسه، ص 110.
15: المصدر نفسه، ص 110.
16: الدكتور إبراهيم أنيس: فى اللهجات العربية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1965، ص 84.
17: المصدر نفسه، ص 84-85.
18: خليل كلفت: ظاهرة الازدواج اللغوى فى العالم العربى، سلسلة كتاب قضايا فكرية، الكتاب السابع والثامن عشر - مايو 1977، بعنوان لغتنا فى معركة الحضارة، قضايا فكرية للنشر والتوزيع ص 121.
19: المصدر نفسه، ص 121.
20: من أسرار اللغة، مصدر سابق الذكر، ص 198.
21: المصدر نفسه، ص ص 202-203.
22: المصدر نفسه، ص 203.
23: المصدر نفسه، ص 212.
24: المصدر نفسه، ص 215.
25: المصدر نفسه، ص 215.
26: المصدر نفسه، ص 215.
27: المصدر نفسه، ص ص 215-216.
28: المصدر نفسه، ص 217.
29: المصدر نفسه، ص 218.
30: المصدر نفسه، ص 218.
31: المصدر نفسه، ص ص 218-219.
32: المصدر نفسه، ص 220.
33: ظاهرة الإعراب فى العربية، مصدر سبق ذكره، طرابلس، ص 243.
34: من أسرار اللغة، مصدر سابق ذكره، ص 237.
35: المصدر نفسه، ص 243.
36: المصدر نفسه، ص ص 243-244.
37: سورة آل عمران، الآية 7.
38: سورة النساء، الآية 8.
39: سورة الأنعام، الآية 124.
40: سورة الحج، الآية 37.
41: سورة الإسراء، الآية 23.
42: سورة المائدة، الآية 119.
43: سورة الأنعام، الآية 158.
44: سورة البقرة، الآية 124.
45: المصدر نفسه، ص 250.
46: المصدر نفسه، ص 251.
47: المصدر نفسه، ص 253.
48: المصدر نفسه، ص 252.
49: المصدر نفسه، ص 253.
50: المصدر نفسه، ص 254.
51: المصدر نفسه، ص 255.
52: المصدر نفسه، ص 256.
53: المصدر نفسه، ص 268.
54: المصدر نفسه، ص 270.




3
لويس عوض والبحث عن أصل اللغات
(حول كتاب "مقدمة فى فقه اللغة العربية")
(حديث أُلْقِىَ فى مؤتمر المشروع الثقافى للدكتور لويس عوض، المجلس الأعلى للثقافة)

لا يدهشنا أبدا-أو لا يدهشنا كثيرا- أن يمتد البحث العلمى الموسوعى للدكتور لويس عوض ليشمل اللغة بوجه عام، أو اللغة العربية بوجه خاص.
لا يدهشنا هذا رغم أن البحث العلمى اللغوى كان شيئا نادرا بين كبار الأدباء والمفكرين والعلماء فى جيل لويس عوض، وفى أجيال أخرى قبله وبعده.
وعلى سبيل المثال الصارخ فإن طه حسين، وهو المثل الأعلى للأدب العربى والفكر العربى، كان رغم إتقانه معرفة علوم ومسائل اللغة، ورغم رعايته وتشجيعه لجهود البحث العلمى الحر فى اللغة العربية وعلومها، ورغم إسهامه البارز؛ بل الاستثنائى مع الأجيال الأولى من الأدباء والمفكرين والعلماء فى القرن العشرين فى تطويع اللغة العربية للتعبير عن الثقافة العربية الحديثة؛ لم يكن له أى إسهام علمى مباشر فى مجال اللغة، كذلك فإن العقاد، رغم دوره الذى لا ينكر مع غيره فى تحديث اللغة العربية، لم يقدم أىّ إسهام علمى لغوى.
ورغم هذه القاعدة العامة هناك أفق واسع ولكنْ إسهام محدود ﻟ أمين الخولى فى مجال النحو العربى، ويبرز اسم إبراهيم مصطفى فى هذا المجال، وقد كان العقل النحوى المفكر وراء محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة (عندما كان ما يزال رافعة من روافع تطوير علوم اللغة العربية) بالتعاون مع وزارة المعارف المصرية فى منتصف القرن العشرين لتطوير وتحرير النحو العربى، تلك المحاولة البالغة الأهمية لكن التى فشلت فى نهاية الأمر تحت الضربات المتلاحقة من جانب أعداء تطوير النحو العربى بالذات ولكنْ أيضا، بسبب نقاط ضعفها، ويسطع اسم إبراهيم أنيس كمثال نادر فى البحث اللغوى الذى توجته إنجازات علمية فذة فى عدد من علوم اللغة العربية.
أما جهود الأكاديميين فى مجال علوم اللغة فقد ظلت -كقاعدة عامة- داخل إطار قاس من الاجترار الكسول لنقاط ضعف تراثنا مع تفادى أو محاربة نقاط قوته، ومن العرض التعليمى للعلوم اللغوية قى الغرب، ووضع هذا وذاك فى علاقة تجاور جامدة، رغم استفادات شتى بشرط ألا تنال من أسطورة اللغة العربية المقدسة وألا تحاول أن تطبق عليها القوانين اللغوية التى تنطبق على اللغات "الأخرى" فلا تمس العربية!
مع كل هذا، لا يدهشنا كثيرا أن يشمل لويس عوض مجال اللغة أو اللغة العربية بإنتاجه الموسوعى، هذه طبيعة موسوعيته فى عصر أو قرن كان قد سار فيه البحث اللغوى محور محاور نظريات ومذاهب الفكر والفلسفة.
على أنه "يبدو" من المدهش حقا أن يكون نوع البحث اللغوى، الذى استطاع أن ينتزع لويس عوض من اهتماماته الفكرية والنقدية الكثيرة الأخرى، هو فقه اللغة، وبالأخص علاقة اللغة العربية بمسألة أصل مشترك للغات السامية والحامية واللغات الهندية الأوروﭙية وربما غيرها.
فكيف نفسر هذه العودة المباشرة إلى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلى التركيز على الفيلولوچيا، ومجموعات اللغات، وأصل اللغات، بعد أن كان العلم اللغوى فى الغرب قد تحرك مبتعدا وظل مبتعدا طوال القرن العشرين عن ذلك التركيز الفيلولوچى؟
وهناك بالطبع تفسير جاهز، إنه الكيد للإسلام والعربية! على اعتبار أن هذا النوع من البحث الفيلولوچى هو المجال الطبيعى لبحث مسألة أن تكون اللغة العربية، كغيرها من اللغات، جزءًا لا يتجزأ من تفاعل لغوى هائل قد يقتصر على مجموعات لغات بعينها أو يمتد ليشمل كل لغات الأرض.
على أن هناك مجالا لتفسير أكثر إنصافا وأكثر موضوعية، وإذا كان مذهب تقديس اللغة العربية وعلومها قد حكم على هذه العلوم بالجمود الأزلى بعيدا عن إنجازاتها الكبرى فى أزهى عهود الحضارة العربية الإسلامية، فقد تمثل الواجب الإلزامى فى أن يجدّ السعى بحثا عن أسباب لتطوير علومنا العربية التى تخلفت بصورة فادحة عن العلم الغربى، فى إطار اللحاق والتعويض وسدّ الفجوة، وكان من المنطقى أن يكون من هذه الأسباب -بين أشياء أخرى- ضرورة العودة إلى علم لغوى تفادينا وحاربنا تأثيره فى علومنا اللغوية طوال القرن العشرين، وهو علم اللغة التاريخى أو المقارن أى فقه اللغة، وهكذا جاءت محاولة لويس عوض لتطبيق نتائج هذا العلم على اللغة العربية، أو بالأحرى محاولته لاستكمال هذا التطبيق الذى بدأه وطوّره العلم اللغوى الأوروپى، فى وقتها، خاصة عندما بدا ("بدا" فقط للأسف!) أن ثقافتنا العربية الحديثة صارت أنضج نسبيا للدخول فى مثل هذا الحوار العلمى عبر اللغوى حول لغتنا لتطوير علومها بدلا من تقزيمها باسم التقديس والتكريم والحماية والصون!
وهناك مدخل آخر إلى العودة أو ما يشبه العودة إلى مسألة أصل اللغات، ويتمثل هذا المدخل فى أحدث إنجازات علم الآثار، فقد أعطت هذه الإنجازات دفعة جبارة للعودة إلى بحث أصول اللغات الهند-أوروﭙية من حيث الإطار الزمنى لهذه المسألة ومن حيث النماذج المتنوعة للانتشار، وينطبق الشيء نفسه على مسألة أصول كل مجموعة من مجموعات اللغات الأخرى مع تقدم أبحاث ونتائج وإنجازات علم الآثار فى مناطق هذه اللغات، غير أن هذه الإنجازات أعطت دفعة جبارة أيضا لمسألة الأصل الأول المشترك أو الأصول الأولى المشتركة لكل اللغات التى عرفتها البشرية، ذلك أن علم الآثار يتجه فى العقود الأخيرة إلى حسم فرضية ظهور الإنسان العاقل أو الأحدث homo sapiens sapiens (وليس الإنسان العاقل أو الحديث homo sapiens وهو السلف المباشر للإنسان الأحدث) منذ حوالى أربعين أو خمسين أو مائة ألف سنة، فى منطقة واحدة من العالم بلغة واحدة، ثم انتشار هذه اللغة مع انتشاره لإنشاء مواطن جديدة فى مختلف أنحاء العالم تقوم فيها مجتمعات الصيادين-جامعى الثمار ، وهى المواطن والمجتمعات التى انتشرت إليها فيما بعد مجموعات لغات مثل مجموعة اللغات الهند-أوروﭙية جنبا إلى جنب مع انتشار الحضارة الزراعية، يتجه علم الآثار فى العقود الأخيرة إلى حسم هذه الفرضية وإحلالها نهائيا محل فرضية ظهور هذا الإنسان (الأحدث) فى مناطق متعددة بلغات مختلفة.
وتتمثل الفكرة الجوهرية فى كتاب "مقدمة فى فقه اللغة العربية" فى فرضية أو نظرية الأصل الواحد المشترك للمجموعات اللغوية السامية والحامية والهندية الأوروﭙية والطورانية وربما غيرها - كما قال: إنها فكرة أن مجموعات اللغات هذه إنما هى الفروع الرئيسية لشجرة واحدة أسبق منها جميعا، ولم يقل الكتاب مطلقا إن العربية فرع من اللغات الهندية الأوروﭙية، كما جاء فى تقرير مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر أو كما جاء فى نص الحكم القضائى بتأييد ضبط الكتاب ومنع توزيعه.
ويقع هذا الكتاب الضخم فى قسمين: الأول - ويمثل رُبْع حجمه تقريبا - مخصص لعرض الفكرة الجوهرية السابقة بالإضافة إلى قضايا كثيرة اعتقد لويس عوض أنها ضرورية فى سياق عرض نظريته، أما أنا فأعتقد أن عشرات الصفحات فى هذا القسم الأول الذى يزيد قليلا على المائة صفحة، وهو القسم النظرى، تبددت حول موضوعات شتى لا تتصل مباشرة بموضوع الكتاب وكان بوسع لويس عوض أن يَفْصلها، مكرسا تلك الصفحات لمزيد من العرض السلس للمسألة التى كانت تحتاج إلى المزيد من القول حتى يكون العرض سلسا وناجحا ومنتجا، أما القسم الثانى، أى ثلاثة أرباع الكتاب، فإنه يعرض القوانين الفونولوچية للتغيرات الصوتية للألفاظ ذات الدلالة المشتركة فى مجموعات لغوية متعددة، ويطبق هذه القوانين على مادة فونولوچية غزيرة تشمل مجموعات اللغات المعنية بكثرة من لغاتها الحية والميتة.
وليس المقصود هنا تقييم أفكار واستنتاجات وفرضيات ونظريات وتطبيقات "مقدمة" لويس عوض، فهذه مهمة بعيدة عن اهتماماتى اللغوية المباشرة التى تنحصر فى النحو العربى تقريبا كما أنها فوق طاقتى، والحقيقة أن هذه المهمة تحتاج إلى كوكبة من العلماء المتخصصين فى علوم التاريخ والثقافة واللغة أو إلى عبقرية تضارع عبقرية لويس عوض.
المقصود هنا بالأحرى هو الإمساك بالفكرة الجوهرية التى قدمها الكتاب أى فكرة الأصل المشترك لمجموعات اللغات المعنية، فى سبيل استكشاف آفاق توسيع محتمل لنطاق تطبيق هذه الفكرة، ربما ليشمل كل اللغات على وجه الأرض.
وتتسلسل عناصر الفكرة الأساسية لمسار "توالُد" اللغات فى "المقدمة"، على أساس منجزات الفيلولوچيا الأوروپية وفرضياتها، على النحو التالى:
أولا: تتراكم المعطيات الفيلولوچية والفونولوچية فتكشف عن وجود معجم مشترك ضخم بين مجموعة كبيرة من اللغات، ومعجم آخر لمجموعة أخرى، إلخ وهكذا تكتشف الفيلولوچيا كثرة من مجموعات اللغات التى قد تشمل المجموعة الواحدة منها مئات اللغات الحية والميتة، ومن هذه المجموعات تلك المسماة بالسامية والحامية والهندية الأوروپية وهى المجموعات التى يركز عليها الكتاب.
ثانيا: مع المزيد من تراكم هذه المعطيات يتضح للفيلولوچيا أن الأمر لا يقتصر على المعجم الضخم المشترك بين لغات المجموعة الواحدة كالمجموعة الهندية الأوروپية، إذ تكتشف وجود معجم مشترك ضخم بدوره بين المجموعات المعنية هنا، أى أن المسألة لم تعد مسألة لغات أصلية تنحدر من كل منها مجموعة لغات بل صارت مسألة لغة أصلية تنحدر منها تلك اللغات "الأصلية".
ويتمثل دور "المقدمة" فى العمل على تحويل هذه الفرضية التى قدمها العلم الغربى إلى نظرية تقوم على القوانين اللغوية، وكذلك فى إدخال اللغة العربية فى قلب هذا التفاعل اللغوى التاريخى الهائل الذى يتجاوز مجموعات اللغات المعنية.
ثالثا: تتكشف أمام الفيلولوچيا آفاق أرحب تعود بنا إلى ظهور الإنسان العاقل، ويتحدث الكتاب عن مذهبيْن فى العلم الغربى: ظهوره فى مناطق متفرقة من العالم أو ظهوره فى منطقة واحدة. ولأن ظهور الإنسان العاقل إنما كان بلغته فإن العلم الغربى يشتمل على مذهبيْن بهذا الصدد: ظهور لغات متعددة فى مناطق متعددة أو ظهور لغة واحدة للإنسان العاقل فى المنطقة الواحدة التى ظهر فيها أولا. ويؤيد لويس عوض مذهب ظهور الإنسان فى منطقة واحدة ومذهب ظهور اللغة الواحدة فى تلك المنطقة، ويشير لويس عوض إلى أن مذهب المنطقة الواحدة واللغة الواحدة: "يقول بأن المجموعات اللغوية القديمة والحديثة، كأجناس البشر قديمها وحديثها، تنحدر فى نهاية الأمر من منبع واحد، وأن هناك شجرة واحدة للغات الأرض كل ما هناك من لغات هى فروع لها وأغصان". ومن الجلى أنه يؤيد هذا المذهب على اعتبار أنه "الخط العلمى” فى مواجهة خط علم الأجناس والأعراق والعنصرية.
ونعرف بطبيعة الحال أن مدار بحث لويس عوض فى "المقدمة" لا يتمثل فى فرضية الأصل الواحد لكل لغات الأرض (وهو يؤيدها دون توسع فى المناقشة) بل يتمثل فى فرضية أو نظرية الأصل المشترك للمجموعات المسماة بالسامية والحامية والهندية الأوروپية.
كما أن من الجلى أن حديثه هنا عن الإنسان العاقل أو الحديث Homo sapiens وليس عن الإنسان العاقل العاقل أو العارف العارف أو الأحدث Homo sapiens sapiens، فالإنسان الذى يتحدث عن ظهوره فى منطقة واحدة بلغة واحدة هو الإنسان النياندرتالى أى السلف المباشر للإنسان الأحدث وهو الإنسان الكرومانيونى. ولا جدال فى أن المعلم العاشر كان يقصد هذا الإنسان الأحدث بدليل أنه يتحدث عن الإنسان الحالى ويشير إلى أن أرسطو يسميه بالحيوان الناطق، ولو أن لويس عوض كان قد اطلع على مراجع ربما كانت حديثة جدا فى زمن تأليف "المقدمة" وتوجز إنجازات علم الآثار فى العقود الأخيرة من القرن العشرين لكان بوسعه أن يتحدث عن الإنسان الأحدث باسمه وعن لغته الأحدث أى اللغة كما نعرفها language-as-we-know-it وليس عن ظهور أو لغة الإنسان العاقل أو النياندرتالى.
وإذا كانت علوم الآثار والأنثروپولوچيا والثقافة قادرة على أن تعيد بناء صورة للإطار المكانى والزمانى لنشأة وتطور وانتشار الإنسان الأحدث فإنها تظل عاجزة عن أن تقول لنا أى شيء عن هوية تلك اللغة أو اللغات، وإن كان بمستطاعها أن تقول لنا الكثير عن الخصائص الجوهرية للغة المتطورة التى تتلاءم مع أنماط سلوك الإنسان الأحدث كما تكشف ثقافته المادية، وهى بالضرورة لغة مفاهيم رمزية معقدة وتفكير مركب متطور، بعيدا عن بساطة وبدائية لغة أسلافه بما فى ذلك سلفه المباشر، أى الإنسان العاقل أو النياندرتالى. أما علم اللغة التاريخى فإن بمستطاعه أن يشمل بدراساته الفيلولوچية والفونولوچية وإحصاءاته المعجمية مختلف المجموعات اللغوية على وجه الأرض من خلال البحث المباشر للغة التى تُعَدّ نموذجا لكل مجموعة منها، ويمكنه من ثم أن يكتشف ويحسم مسألة ما إذا كانت الإحصاءات المعجمية الشاملة تؤيد أو لا تؤيد فرضية الأصل الواحد لكل لغات الكوكب، غير أن هذا العلم لا يستطيع بالبداهة أن يضع معطياته الفيلولوچية فى إطار كرونولوچى صارم.
ورغم سوء التفاهم المنطقى القائم بين علوم موضوعها الثقافة المادية للإنسان وعلوم موضوعها اللغات المنطوقة أو المكتوبة على الحجر أو الطين أو الجلد أو الورق أو السيليكون فإن الفرضية العقلانية تتمثل فى أن اللغة أو اللغات التى ظهرت مع الإنسان الأحدث وانتشرت مع انتشاره واستقرت مع استقراره هى الأصول الأولى السحيقة القدم لكل اللغات التى عرفها العالم الحديث خلال الآلاف الأخيرة من السنين وإلى يومنا هذا.
ومادمنا إزاء اتجاه علم الآثار إلى حسم نشأة هذا الإنسان فى منطقة واحدة من العالم ثم انتشاره منها وإلى رسم مسار هذا الانتشار بصورة كرونولوچية، ويفترض هذا - بطبيعة الحال - اللغة الواحدة للبشر، يكون بوسعنا أن نفترض انطلاقا من علم الآثار وحده (إذا صحت أحدث إنجازاته واكتملت وعود إنجازاته اللاحقة) أن كل اللغات طوال تاريخ الإنسان الأحدث، منذ ظهوره إلى الآن، إنما هى - مهما كانت الحلقات الوسيطة المحتملة ومهما كانت تشكلات المجموعات واللغات واللهجات - استمرار محوَّر بصورة تاريخية بالغة التعقيد، من خلال تواصل التمايزات والاندماجات والتفاعلات اللغوية، من خلال نماذج شتى بالغة التعقيد بدورها، ذلك أنه لا مجال لافتراض أن الإنسان، فى زمان ما، فى مكان ما، نسى لغته تماما، وابتكر لغة جديدة تماما لا صلة لها باللغة التى ترجع إلى زمن نشأته كإنسان.
ومادام الإنسان الأحدث، بلغته الأحدث، حديثا إلى هذا الحد، مجرد عشرات الآلاف من السنين [50 أو 100 أو 150 ألف سنة]، فإن تجربة استمرار لغات ما تزال حية منذ آلاف السنين أو لغات أخرى عاشت آلافا من السنين قبل موتها، تلقى الضوء على حقيقة بسيطة وهى أن استمرار اللغات عشرات الآلاف من السنين أى منذ نشأة الإنسان الأحدث أمر يسهل تصوره، رغم أن الاستمرار يتحقق عبر التغيرات المتواصلة، ورغم أن موت لغة، كاللغة المصرية القديمة، لا يعنى انقطاع صلة اللغة اللاحقة باللغة الميتة ولا باللغات التى كانت هذه اللغة قد حلت محلها فى الماضى، فالموت والحياة ليسا هنا سوى التغير، ليسا سوى التغير اللغوى.
ومهما يكن من شيء، مهما تكن هذه الفرضيات صحيحة أو خاطئة، فإن ما ينبغى أن نضعه نصب أعيننا هو إخضاع كل الظواهر (ومنها اللغة العربية بحقائقها وأساطيرها) للبحث العلمى الحر. وبدلا من تقديس اللغة العربية، وهو تقديس تمثلت ثماره المرة دائما فى الإضرار الفادح بها وبعلومها، انطلاقا من أيديولوچيا سياسية دينية لغوية بعينها تسيطر على مجتمعنا ودولتنا، وكذلك على من يتمردون عليهما تحت هذه الراية نفسها، ينبغى رفع مختلف القيود التى تكبل تطور اللغة العربية كلغة وكعلوم لغوية.
وهناك حقيقة بسيطة لم يحسب حسابها أحد؛ لا مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ولا مباحث أمن الدولة، ولا نيابة أمن الدولة، ولا محكمة جنوب القاهرة الابتدائية، ولا القانون المصرى ولا الدستور المصرى (بنصوصهما المقيدة لأبسط الحريات)، ولا رشاد رشدى، ولا السادات، ولا كل من تآمروا ضد كتاب "مقدمة فى فقه اللغة العربية"... هذه الحقيقة البسيطة هى أن إجراءات ضبط أو منع توزيع أو مصادرة كتاب هى قبلة الموت لهذه الإجراءات ذاتها وللقوانين التى تستند إليها، إذ أنها الضمانة الأولى لإشعال الطلب على الكتاب، ومضاعفة قرائه، ونشر أفكاره، وتجنيد أنصار جدد لتحرير البحث العلمى الحر من كل القيود التى تخنقه فى بلادنا، ومع ذلك، مع اعترافى بالفوائد السبع لضبط ومصادرة الكتب، أضم صوتى إلى أصوات كل المطالبين بالإفراج عن "مقدمة فى فقه اللغة العربية"، وعن الحرية.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شعار -ثورتنا برلمان وميدان- مُخَدِّر جديد لقوى الثورة!
- المهدى الرئاسى المنتظر فى مصر!
- من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج (كلمة للإلقاء فى مؤتمر الثو ...
- الانتخابات الرئاسية واحتمالات الصراع بين المجلس العسكرى والإ ...
- -الجحيم، 1، 32- ، لويس بورخيس ت: خليل كلفت
- توفيت ابنتى السيدة هند خليل كلفت
- النسوية - أندرو ڤنسنت
- ثورة 25 يناير: سؤال السبب (ملخص حديث سوف يُلقَى فى مؤتمر بوز ...
- سباق رئاسى محموم فى مصر بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لج ...
- ندوة لخليل كلفت عن الحوار المفتوح
- النساء يحركن العالم - فيديريكو مايور و چيروم بانديه
- خليل كلفت - مفكر وسياسي ماركسي- في حوار مفتوح حول: طبيعة الث ...
- معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة
- إشكالية مدرسة فرانكفورت (بين النظريتين النقديتين: الأصلية وا ...
- كتابى -من أجل نحو عربىّ جديد- فى نقاط أساسية بقلم: خليل كلفت
- من أجل نحو عربى جديد (الجزء الثانى)
- من أجل نحو عربى جديد - الجزء الأول
- آدم وحواء وقصص أخرى من أمريكا اللاتينية
- حكاية سَكَنْدَرِيَّة - ما شادو ده أسيس
- العاصفة تهب (حول انهيار النموذج السوڤييتي) - كريس هارم ...


المزيد.....




- سعيد يأمر باتخاذ إجراءات فورية إثر واقعة حجب العلم التونسي
- بايدن يخطئ مجددا و-يعين- كيم جونغ أون رئيساً لكوريا الجنوبية ...
- شاهد.. تايوان تطلق صواريخ أمريكية خلال التدريب على المقاتلات ...
- عشرات الجرحى جراء اصطدام قطارين في بوينس آيرس
- في أقل من 24 ساعة..-حزب الله- ينفذ 7 عمليات ضد إسرائيل مستخد ...
- مرجعيات دينية تتحرك قضائيا ضد كوميدية لبنانية بعد نشر مقطع ف ...
- شاهد.. سرايا القدس تستهدف الآليات الإسرائيلية المتوغلة شرق ر ...
- شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي لبلدة بشرق خان يونس
- واشنطن: -من المعقول- أن إسرائيل استخدمت أسلحة أميركية بطرق - ...
- الإمارات تستنكر تصريحات نتانياهو بشأن -مشاركتها- في إدارة مد ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - خليل كلفت - الازدواج فى اللغة العربية بين -الفصحى- و-العامية-