أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - خليل كلفت - إشكالية مدرسة فرانكفورت (بين النظريتين النقديتين: الأصلية والجديدة)















المزيد.....


إشكالية مدرسة فرانكفورت (بين النظريتين النقديتين: الأصلية والجديدة)


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3606 - 2012 / 1 / 13 - 09:20
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


إشكالية مدرسة فرانكفورت
(بين النظريتين النقديتين: الأصلية والجديدة)
بقلم: خليل كلفت


ينطوى انتماء يرجن هابرماس Ürgen Habermas إلى النظرية النقدية للمجتمع عند مدرسة فرانكفورت على إشكالية. وهى أيضا الإشكالية التى ينطوى عليها الإقرار بجيلين ينتميان إلى نفس النظرية أو الإقرار بنظريتين نقديتين للمجتمع: أصلية وجديدة. ولأن المجال هنا لا يتسع لمناقشة مستفيضة فسوف أترك الحديث لأصحاب الشأن من فلاسفة المدرسة ولتعليقات مفكرين آخرين مكتفيا بمجرد تقديم السياق الذى يركز على الإشكالية المذكورة.
والمقصود بالجيلين: الجيل الأول، جيل فترة الثلاثينات، أىْ جيل الفلاسفة والمفكرين الكبار: ماكس هوركهايمر Max Horkheimer (1895-1973)، و هربرت ماركيوز Herbert Marcuse (1898-1979)، و تيودور أدورنو Theodor w. Adorno (1903-1969)، و إيريك فروم Erich Fromm (1900- )؛ والجيل الثانى، جيل النصف الثانى من القرن العشرين، وهو الجيل الذى ينتمى إليه يرجن هابرماس (المولود فى 1929). أما النظريتان فهما نظرية الثلاثينات ونظرية النصف الثانى من القرن العشرين، وتشكلان معا - أو يقال لنا إنهما تشكلان معا - "النظرية النقدية للمجتمع"، غير أنهما نظرية أصلية ونظرية جديدة، كما أوضح ماكس هوركهايمر بنفسه فى مقاله "النظرية النقدية أمس واليوم" (1970).
ويمكن الحديث بطبيعة الحال عن أجيال تنتمى إلى نظرية واحدة إذا كانت هذه النظرية توحِّد بنواة صلبة كل هذه الأجيال، رغم ما قد تسمح به خصوبتها من الانفتاح على فروع وقضايا واهتمامات وآفاق جديدة، وربما كان هذا يصدق على الماركسية التى صارت الآن ماركسيات. فهل يمكن القول إن النظرية الجديدة احتفظت بنواة صلبة توحِّدها مع النظرية النقدية الأصلية بحيث تكون استمرارا بها وليس قطيعة معها، وبحيث يكون بوسعنا بالتالى أن نتحدث عن نظرية واحدة وعن انتماء هابرماس إلى جيلها الثانى؟
على أن المؤسسين الكبار، المخضرمين، أىْ فلاسفة الجيل الأول، الذين شهدوا العهدين وأنتجوا فيهما، يقدمون لنا مفتاحا لحلّ جانب على الأقل من هذه الإشكالية. ذلك أن هناك انشقاقا واضحا منذ الأربعينات. هناك ماركيوز الذى يمكن اعتباره، بوجه عام، امتدادا للنظرية الأصلية فى أوضاع تاريخية مختلفة وقضايا فكرية جديدة، ولا يمكن اعتباره منتميا إلى النظرية النقدية الجديدة التى تجعل من هوركهايمر و أدورنو ومن بعدهما هابرماس جيلين ينتميان إليها حيث يمثلون قطيعة مع النظرية الأصلية فى إطار قطيعة مع الماركسية والثورة.
فما الذى يجعل من هاتين النظريتين الأصلية والجديدة نظرية نقدية "واحدة" للمجتمع؟ أىْ فيم يتمثل "الطابع النقدى" المشترك بينهما رغم القطيعة؟ وإذا كانت النظرية الأصلية تنطلق من ماركس ونظريته الثورية فيما تنطلق النظرية الجديدة من تخطئة ماركس والتخلى عن الممارسة الثورية وعن هدفها أىْ تحقيق المجتمع اللاطبقى، فهل تظل نظرية هوركهايمر الثانى وريثة لنظرية هوركهايمر الأول لمجرد استمرار بعض أشخاص الفلاسفة المعنيين فى العهدين؟ أم لأن مجموعات من القضايا الأصلية يجرى استئناف نقاشها وإنْ بطريقة جديدة؟ أم لأن سمات جوهرية فى النظرية الأصلية ظلت مستمرة فى الجديدة؟ أم لأن النظريتين كلتيهما "تنقدان" المجتمع السائد والعلم السائد مهما كان الفرق الجوهرى ماثلا بين طبيعة كلٍّ من هذين النقدين، بين نقد يقوم على الإسهام الأكثر ماركسية لمدرسة فرانكفورت فى الثلاثينات ونقد يقوم على التخلى عن ماركس فى العهد الجديد؟ وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الأسئلة يمكن توجيهها على أسس منهجية عامة وليس بالضرورة دفاعا عن نظرية ماركسية ثورية جرى التخلى عنها.
وكانت ماركسية النظرية النقدية للمجتمع فى فترتها الأكثر ماركسية تنطوى على نقاط ضعف إلى جانب نقاط القوة، غير أن الماركسية كانت على كل حال هى المرجعية الأساسية فى التكوين الفكرى لمدرسة فرانكفورت. ويوجز فيل سليتر Phil Slater فكرة كتابه عن مدرسة فرانكفورت قائلا: "قدّمت مدرسة فرانكفورت فى الثلاثينات وبداية الأربعينات إسهاما جديا فى مجال شرح وربط أجزاء المادية التاريخية غير أنها، فى نفس الوقت، عجزت عن تحقيق الصلة مع الممارسة التى هى أمر محورى بالنسبة للبرنامج الماركسى". ويؤكد فيل سليتر أن تناوُل ألبرشت ڤيلمر Albrecht Wellmer فى كتابه "النظرية النقدية للمجتمع" لمشكلة العلاقة بين هذه النظرية والنقد الماركسى للاقتصاد السياسى يشوِّه ماركس، وتفسير مدرسة فرانكفورت ل ماركس، وبالتالى مدرسة فرانكفورت ذاتها. ذلك أن ڤيلمر يزعم أن طبعة ماركس من المادية التاريخية تتجلى فيها انحرافات ميتافيزيقية ووضعية مستترة وأن مفكرى مدرسة فرانكفورت كانوا مدركين لهذا فى الثلاثينات وأن إنتاجهم فى تلك الفترة كانت محاولة لتصحيح المادية التاريخية التى شوَّهها ماركس، وهبط بها إلى مستوى دراسات ذات طابع ميكانيكى للاقتصاد.
ويؤكد سليتر أن هوركهايمر ما كان ليُقرّ، فى الثلاثينات، هذه الصورة الڤيلمرية عن ماركس. وقد أكد هوركهايمر بصراحة، فى 1932، أنه: "بينما ... ينشأ اتساق هذا الجدل فى حالة هيجل عن منطق الروح المطلق، عن هذه الميتافيزيقا، يرفض التناوُل الماركسى، على العكس من ذلك، فكرة أية بصيرة فوق-تاريخية منطقيا تمدنا بمفتاح لفهم التاريخ. على العكس تنشأ النظرية الصحيحة عن دراسة البشر الواقعيين، الذين يعيشون فى ظل شروط تاريخية محددة، ويحافظون على وجودهم بأدوات محددة. والقوانين التى يمكن اكتشافها فى التاريخ ليست تراكيب قبْلية à priori، ليست تسجيلا للوقائع من جانب مراقب يُفترض أنه مستقل، بل يتم التوصل إليها بوصفها انعكاسا للبنية الدينامية للتاريخ، من جانب فكر هو ذاته منهمك فى الممارسة التاريخية". ويؤكد سليتر أن "إحدى الخدمات الباقية التى أسدتها مدرسة فرانكفورت للماركسية تتمثل فى أنهم أزالوا هذا التشوُّش الذى يحيط ,’بقوانين‘ ماركس"، ويقتبس من ماركيوز (العقل والثورة 1941 ) قوله: "سيكون تشويها لكامل مغزى الماركسية أن نستنتج من الضرورة الحتمية التى تحكم تطور الرأسمالية ضرورة مماثلة فيما يتعلق بالتحول إلى الاشتراكية ..... والواقع أن الثورة تتوقف على مجموعة كاملة من الشروط الموضوعية: فهى تتطلب مستوى معينا تم بلوغه من الثقافة المادية والعقلية، وطبقة عاملة واعية بذاتها ومنظمة على نطاق أممى، ونضالا طبقيا حادًّا، غير أن هذه الشروط لا تصبح شروطا ثورية إلا إذا استغلَّها ووجهها نشاط واعٍ يستهدف الغاية الاشتراكية".
وفيما يتعلق بصلة أفكار ڤيلمر ب هابرماس يؤكد فيل سليتر الارتباط التام بينهما فيقول: "يقف وراء مناقشة ڤيلمر برمتها يرجن هابرماس (المولود فى 1929) وهو شخصية بارزة فى مدرسة فرانكفورت فى فترة ما بعد الحرب" ويضيف: "وابتعاد هابرماس عن مدرسة فرانكفورت فى الثلاثينات جلىّ بما لا مزيد عليه فى تأكيده الخاص بأن أية نظرية نقدية للمجتمع لا يمكن تأسيسها اليوم على نقد الاقتصاد السياسى" ... أيضا: "و هابرماس معلِّق مهم على مدرسة فرانكفورت القديمة، ولكنْ حيث أن ڤيلمر ينسِّق ويحدِّد بدقة كل الانتقادات ذات الصلة بالموضوع، فإن هذه الدراسة يمكن أن تكتفى بتحليل جادّ لحجج ڤيلمر، وكلها خاطئة. وينطوى هذا فى الوقت نفسه على نقد ل ترنت شروير Trent Schroyer حيث يجرى إهمال سنوات تشكل مدرسة فرانكفورت (وأكثرها ماركسية) بتناولها على نحو سريع للغاية ويجرى التعامل معها وكأنها مجرد استهلال ’لذروة‘ مدرسة فرانكفورت فى شخص هابرماس".
والآن ما هى بإيجاز سمات النظرية النقدية للمجتمع فى الثلاثينات؟
فى سبيل توضيح المقصود بالنظرية النقدية والفرق بينها وبين النظرية التقليدية، يتساءل هوركهايمر فى مقاله "النظرية النقدية أمس واليوم" (1970): "ما هى النظرية التقليدية؟ ما هى النظرية بمعنى العلم؟" ... ويجيب فى إطار تعريف مبسَّط جدا كما يقول: "العلم هو تنظيم الوقائع التى ندركها بحيث يسمح لنا فى نهاية المطاف بأن نتوقع فى كل مرة فى موضع دقيق من المكان والزمان ما ينبغى أن يكون متوقعا على وجه الدقة. ويصدق هذا حتى على العلوم الإنسانية" ... "والدقة بهذا المعنى هى غاية العلم" ... "وهنا تظهر الموضوعة الأولى للنظرية النقدية" انطلاقا من أن "العلم ذاته لا يدرك لماذا ينظم الوقائع فى اتجاه بعينه على وجه التحديد ولا لماذا يركز على أشياء بعينها وليس على أشياء أخرى. إن ما يفتقر إليه العلم هو إمعان التفكير فى ذاته، ومعرفة الدوافع الاجتماعية التى تدفعه فى اتجاه بعينه، على سبيل المثال فى اتجاه تكريس جهوده للقمر وليس لرفاه البشر. والعلم، لكى يكون حقيقيا، ينبغى أن يسلك سلوكا نقديا إزاء نفسه وكذلك إزاء المجتمع الذى ينتجه". وفى هذا المقال نفسه تأكيدات بالغة الأهمية عن الأفكار والأمانىّ القديمة للنظرية النقدية الأصلية: "حينما ظهرت النظرية النقدية فى العشرينات، فإنها كانت تنطلق من الفكرة المتصلة بمجتمع أفضل. وكانت تسلك سلوكا نقديا إزاء المجتمع وكذلك إزاء العلم"، ويؤكد أن تلك النظرية كانت "نقدية جدا، وبصورة خاصة إزاء المجتمع السائد" ... "وكان لدينا الأمل فى أنه سيأتى وقت يتم فيه تنظيم هذا المجتمع وفقا لرفاه الكل" ... "فى تلك الفترة، كنا نضع آمالنا فى الثورة".
ويتصدى المفكران الفرنسيان لوك فيرى Luc Ferry و آلان رينو Alain Renau فى مدخلهما إلى الترجمة الفرنسية لمجموعة رئيسية من مقالات ماكس هوركهايمر فى الثلاثينات بعنوان ‘النظرية النقدية’ لتعريف النظرية النقدية "أمس" من خلال ثلاثة أهداف أو ثلاث مهام رئيسية: 1: حَمْل الوعى إلى كل نظرية بالمصلحة الاجتماعية التى تنفخ فيها الحياة وتحدِّدها 2: التحرر عن طريق عقلنة الواقع 3: تفكيك صيرورة العقل من أجل تمييز شتى صوره. ذلك أن قيمة النظرية "لم يعد من الممكن تحديدها من جانب واحد بدقة شروحها، بل تُقاس حقيقتها كذلك بوعيها بلعبة المصالح المتصارعة فى المجتمع؛ وهذا الوعى ... يأتى للانضمام إلى الدقة لتوليد الحقيقة" ... أىْ أن قيمة النظرية تتمثل فى "صلاتها بالوضع العملى ولا سيما بالمشكلات التى تشرع القوى الاجتماعية التقدمية فى حسمها". فليس من المدهش إذن أن النظرية النقدية لا تهدف "فقط إلى توسيع المعرفة بما هى كذلك، بل تهدف إلى تحرير الإنسان من الاستعباد" والمهمة المحددة بجلاء هى: "التحرر عن طريق العقلنة وبالتالى تصبح الثورة، بوصفها شرط إمكانية إحداث عقلنة لأسلوب الإنتاج، مرحلة من مراحل تحقيق هذه المهمة". فمن أين يأتى استنتاج ضرورة العقلنة والتنظيم الاجتماعى وفقا لمقتضيات العقل؟ كانت إجابة هوركهايمر القديمة (1934) هى أن "الغالبية الواسعة من البشر لهم مصلحة مشتركة فى التنظيم العقلانى للمجتمع". ويفسر المفكران الفرنسيان بالاعتماد على مقالات هوركهايمر القديمة: "لماذا؟ لأنه فى الوقت الحاضر تقوم اللعبة المتناقضة اللاعقلانية للمصالح المتضاربة بعرقلة السيطرة المادية على الطبيعة"، كما أن "مصلحة العدالة (التقسيم العادل للمنتجات، التوزيع العادل للوصول إلى متع الحياة) هى التى ستخدمها العدالة"، كذلك "فإن تحقيق مجتمع يتسق مع مقتضيات العقل هو الوسيلة الوحيدة لإقامة مجتمع من الناس الأحرار، لإنقاذ مشروع الحرية من طابع اليوتوپيا" ... "وهكذا يجرى تعديل مفهوم الفرد: فهو لم يعد الأنا المنعزل الذى يقف فى مواجهة حياة اجتماعية غريبة عليه، بل يصبح فى قلب تنظيم اقتصادى حلّ فيه ‘العمل التضامنى’ محلّ ‘المنافسة السلبية’، وفيه يتوافق حقا الخاص مع الجماعى، وإنما بذلك تبدأ سيادة الحرية".
ويؤكد فيل سليتر أن إنتاج ماركيوز "منذ الستينات يسجل تقدما من جانب النظرية النقدية للمجتمع على المعهد فى فترة المجلة وعلى زملاء ماركيوز السابقين". ويتحدث بالمقابل عن تدهور هذه النظرية عند هوركهايمر على العكس من ماركيوز الذى يشدد على أن "سنوات هوركهايمر الأخيرة لم تكن خيانة للإنتاج المبكر للمعهد فحسب، بل كانت، كذلك، خيانة لنفس القيم التى ادّعى هوركهايمر داخل نطاق إطار نظرى اُبتُدع حديثا أنه لا يزال يؤيدها".
فكيف ينظر هوركهايمر الثانى نفسه إلى هذه الخيانة كما يراها ماركيوز؟ يؤكد هوركهايمر فى مقال عام 1970 أنه "فى النظرية النقدية لتلك الفترة، كما فى النظرية النقدية اليوم كان لدينا الإحساس بأنه لا يمكن تحديد هذا المجتمع العادل بصورة مسبقة. وكان يمكن إدراك ما كان شرًّا فى مجتمع تلك الفترة، غير أنه لم يكن يمكن إدراك ما عسى أن يكون الخير؛ كان يمكن فقط العمل من أجل أن يختفى الشر فى نهاية المطاف".
وينتقل مباشرة إلى السبب فى الانتقال من النظرية النقدية الأصلية إلى الجديدة قائلا: "وينبغى الآن أن أصف لكم كيف وصلنا من النظرية النقدية الأصلية إلى النظرية النقدية الراهنة. كان السبب وراء ذلك هو التحقق من أن ماركس كان مخطئا حول نقاط عديدة". كيف؟ يقول هوركهايمر: "لقد أكد ماركس أن الثورة ستكون نتيجة الأزمات الاقتصادية المتزايدة الحدة، أزمات مرتبطة بإفقار متزايد للطبقة العاملة فى كافة البلدان الرأسمالية"، ويعترض هوركهايمر: "أخذنا ندرك أن هذه النظرية باطلة، لأن وضع الطبقة العاملة أفضل بصورة ملموسة مما كان فى زمن ماركس"، وثانيا لأن "من الجلى أن الأزمات الاقتصادية الصعبة صارت نادرة. ويمكن أن يكون قد تم إيقافها بجانبها الأكبر بفضل تدابير سياسية واقتصادية"، وثالثا لأن "من المحتمل أن ما كان يتوقعه ماركس من المجتمع العادل فى نهاية المطاف لامبرر له". لماذا؟ "لأن الحرية والعدالة .... مرتبطتان تماما بقدر ما هما متعارضتان. فكلما كانت العدالة أكثر كانت الحرية أقلّ .... وكلما كانت الحرية أكثر .... ستكون هناك عدالة أقلّ". ويؤكد: "إننا نرى اليوم مستقبل المجتمع بطريقة مختلفة تماما عن تلك التى كنا بدأنا نراه بها فى ذلك الزمن. لقد توصلنا إلى اقتناع بأن المجتمع سيتطور إلى عالم مُدار بالكامل" ... "لقد كانت هذه هى الطريقة التى انتهت بها نظريتنا الجديدة إلى عدم النضال بعد الآن فى سبيل الثورة" .... "ستقود الثورة فى بلدان الغرب أيضا إلى شكل جديد للإرهاب، إلى وضع جديد مرعب". ولا يبقى سوى صون استقلال الفرد وكذلك صون العقلية اللاهوتية: "المعتقدات ينبغى أن تبقى، ليس كعقائد، بل فقط كتعبير عن حنين. لأننا ينبغى أن يربطنا جميعا حنين أن لا يكون هذا الذى يحدث فى العالم، الرعب والظلم، الكلمة الأخيرة فيه، بل أن توجد كلمة أخرى، وهذا هو ما نؤكده لأنفسنا فيما نسميه بالدِّين".
وفى تناولهما للنظرية النقدية "اليوم"، يؤكد المفكران الفرنسيان فيرى و رينو أن العقلنة صار يجرى فهمها على أنها "ميل ملازم لتطور البشرية"، كما أنها لم تعد تحريرية بل صارت استعبادية. وبالتخلى عن الثورة والتحويل الثورى للواقع وعن "الآمال البعيدة المجردة" لا يبقى سوى الانغلاق داخل الأوضاع السائدة والحفاظ ضمن نطاقها على ما لا يزال إيجابيا: على استقلال الفرد وعلى بُعْدٍ دينىّ للوعى من خلال "فصل الدين عن العقائدية" ... "وبإدخال الشك فيه، من أجل إنقاذه، يجرى الحفاظ على العقلية اللاهوتية"، والأهم كما يرى هذان المفكران "التخلى الكلى عن المهام الثورية المكونة للماركسية الأصلية للنظرية النقدية".
لسنا إذن إزاء تطور بل نحن إزاء قطيعة بين النظريتين الأصلية والجديدة. وإذا كان هوركهايمر هو المفكر المخضرم للنظريتين، فإن هابرماس يبدأ مع القطيعة، مع النظرية الجديدة.
ولتطابق مواقفه فى كثير من الأحيان فيما يتعلق بالأحداث الجارية مع أفكار الإدارة الأمريكية وحلف الأطلنطى، يدين كثيرون هابرماس ويعتبرون مواقفه السياسية نابعة مباشرة من تصوراته النظرية أىْ من النظرية النقدية الجديدة. فقد أيَّد هابرماس حرب الخليج فى 1991 وفسَّر موقفه بأن احتلال الكويت كان انتهاكا للقانون الدولى وبأن صدام هدد إسرائيل بالحرب الكيميائية، كما أيَّد تدخل حلف الأطلنطى ضد صربيا فى 1999 لأن "المجتمع الدولى يجب أن يكون قادرا على القيام حتى بعمل عسكرى، بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى"، ويصل أولريش ريپّيرت Ulrich Rippert فى مقال له (5 يونيو 1999) إلى حد القول إن النظرية النقدية تعمل كنظرية حرب انطلاقا من موقف هابرماس من حرب البلقان ويضم هابرماس إلى قائمة أولئك الذين كانوا يحتجون ضد حرب ڤييتنام قبل أن يرتدُّوا ومنهم يوشكا فيشر Joschka Fischer الراديكالى الفرانكفورتى السابق ووزير خارجية ألمانيا إلى وقت قريب. وقد رأى هابرماس أن حرب البلقان التى تهدف إلى فرض السلام بإقرار من المجتمع الدولى (حتى بدون تفويض الأمم المتحدة) تمثل "خطوة على الطريق من القانون الدولى الكلاسيكى للأمم إلى القانون العالمى (الكوزموپوليتانى) لمجتمع مدنى عالمى"، ويسخر ريپّيرت من هابرماس قائلا إنه يريد أن يجعلنا نعتقد أن "إرهاب الناتو سوف ينتج مجتمعا مدنيا عالميا ديمقراطيا"، وينتهى إلى أن هذه المواقف السياسية ل هابرماس تنبع بصورة مباشرة من تصوراته النظرية. على أننى لا أميل إلى مثل هذا الربط المباشر، وعلى سبيل المثال كيف نفسر ضمن هذا الإطار عدم رضى هابرماس عن الحرب على العراق فى مقال له فى 17 أبريل 2003 (فرانكفورت ألجمانيه تسايتونج) وإنْ كان شرطه الوحيد فى 16 ديسمبر 2002 لحرب ضد العراق هو "تفويض الأمم المتحدة" مع دعوته الحارة إلى استنفاد كل الوسائل الأخرى قبل اللجوء إلى الحرب؟
على أنه لا شك فى أن هابرماس مفكر كبير يحتاج إلى جهود ضخمة لاستيعاب فكره بضخامة حجمه وعمقه وتعقيده. ويطالب المفكران الفرنسيان فيرى و رينو بأنْ "يجرى الإقرار بأنه من الخصوبة بمكان من الناحية الفلسفية القيام بإعادة فتح ملف المدرسة لنرى كيف تناول أدورنو، ثم هابرماس (بعد موت هوركهايمر)، المشكلات التى خلَّفها هوركهايمر" ويريان "أن المسائل التى طرحها هوركهايمر الأحدث ... ترفع الماركسية حقا إلى مستوى مشكلاتها الحقيقية"، أىْ إذا استطاعت الماركسية استيعاب وحلّ تلك المشكلات بصورة حقيقية.
على أن الإشكالية الخاصة بعلاقة النظرية النقدية فى طبعتها الجديدة بنظرية الثلاثينات توجب هنا تركيزا على نوع النقد الذى نجده عند هابرماس وقد يكفى مثال أو مثالان لتوضيح ذلك.
عند تطبيقه لنظرية الفعل التواصلى فى دراسة رئيسية عن القانون 1990 Facts and Norms (الوقائع والقواعد المعيارية) على مشكلة كيف يكتسب القانون الشرعية، يرفض هابرماس اللجوء إلى التماسك الشكلى للنسق القانونى لصالح إرساء أسس القانون فى صميم العقلانية التواصلية أىْ أن يستمدّ القانون قوته وشرعيته من السماح لكل المصالح بأن تعبر عن نفسها فى أساسه وتأويله. إنه إذن نقد ينطلق من العمل على "تصالح" ... "كل المصالح" وليس نقدا على أساس مصلحة ترتبط بقوى اجتماعية تقدمية أو ثورية غايتها المجتمع العادل حقا على أنقاض المجتمع السائد الذى لا يمكن أن يكون مجتمع كل المصالح بل هو مجتمع البؤس والظلم والرعب لمصلحة طبقات سائدة بعينها.
والحقيقة أن مناهج وتصنيفات وأنساق هابرماس لا يمكن أن تتحول إلى نظرية نقدية بالمعنى المقصود لمجرد وضع الاسم الرنان للنقد عليها مع الربط المباشر لهذا النقد مع كل المصالح.
مثال آخر: يميز هابرماس ثلاثة مجالات معرفية أصلية عامة تُولِّد فيها المصلحة البشرية المعرفة، وتحدد هذه المجالات المقولات المتصلة بما نفسره كمعرفة وتحدد أيضا أسلوب اكتشاف المعرفة وما إذا كانت حقيقية، كما تحدد المصالح المعرفية، وهى قائمة فى مختلف مظاهر الوجود الاجتماعى 1: معرفة العمل work: طريقة سيطرة الإنسان على بيئته، وهذا العمل هو الفعل الأداتى. وتقوم المعرفة هنا على الاستقصاء التجريبى (الإمپيريقى) وتحكمه قواعد تقنية. ويتميز هذا المجال بالعلوم التجريبية-التحليلية التى تستخدم النظريات الاستدلالية؛ مثلا: الفيزياء والكيمياء والبيولوچيا يصنفها هابرماس باعتبارها تنتمى إلى نطاق العمل 2: المعرفة العملية practical أو المتعلقة بالممارسة. ويخص هذا المجال التواصل الاجتماعى الإنسانى أو "الفعل التواصلى" communicative action وتنتمى إليه فروع المعرفة التاريخية والتأويلية، ويصنف هابرماس العلم الاجتماعى الوصفى والتاريخ وعلم الجمال والقانون إلخ.. على أنها تنتمى إلى هذا المجال العملى 3: المعرفة التحررية: التحرر من القوى الليبيدية والمؤسسية والبيئية التى تقيد خياراتنا وسيطرتنا العقلانية على حياتنا. وهى قوى خارج نطاق السيطرة البشرية (التشيؤ). والوعى الذاتى النقدى محرِّر بمعنى أنه على الأقل يدرك المرء الأسباب الحقيقية لمشكلاته. وهنا يتم اكتساب المعرفة من خلال تحرير الذات عبر التأمل الذى يفضى إلى وعى متحول، والأمثلة وفقا لهابرماس: العلوم النقدية التى تشمل النظرية النسوية والتحليل النفسى ونقد الأيديولوچية.
فهل ترك الخارج الاجتماعى التاريخى الذى ينفخ الحياة فى كل نظرية المكان لهذا الوعى الذاتى النقدى المحرِّر عبر التأمل؟ وهل تنتهى نظرية نقد النسق إلى بناء الأنساق وإقفال النسق مع إضافة عنصر هامشى يتمثل فى النقد المحرِّر للذات عبر التأمل أو الدِّين أو اللاهوت أو الحنين؟!




#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتابى -من أجل نحو عربىّ جديد- فى نقاط أساسية بقلم: خليل كلفت
- من أجل نحو عربى جديد (الجزء الثانى)
- من أجل نحو عربى جديد - الجزء الأول
- آدم وحواء وقصص أخرى من أمريكا اللاتينية
- حكاية سَكَنْدَرِيَّة - ما شادو ده أسيس
- العاصفة تهب (حول انهيار النموذج السوڤييتي) - كريس هارم ...
- محاضرات سياسية عن أوروپا وتركيا وأفريقيا والهند
- العقائد الدينية والمعتقدات السياسية
- إلى أين يقود علم الوراثة؟ - چان ڤايسينباخ
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الثانى
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الأول
- القرن الحادي والعشرون: حلم أم كابوس؟
- الذكرى الأولى للثورة تقترب والمجلس العسكرى يسير بنا على الطر ...
- الحوار بين الثورة والواقع
- مطالب وأهداف الموجة الثورية الراهنة
- موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية الجديدة
- مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر
- الاحتجاجات المسماة بالفئوية جزء لا يتجزأ من الثورة
- مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية من ضرورات استمرار الث ...
- مذبحة ماسپيرو تضع الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة


المزيد.....




- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...
- بيان تضامن مع نقابة العاملين بأندية قناة السويس
- السيسي يدشن تنصيبه الثالث بقرار رفع أسعار الوقود


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - خليل كلفت - إشكالية مدرسة فرانكفورت (بين النظريتين النقديتين: الأصلية والجديدة)