أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الثانى















المزيد.....



ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الثانى


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3590 - 2011 / 12 / 28 - 01:25
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


  
ثورة 25 يناير 2011
طبيعتها وآفاقها
(مقالات)
الجزء الثانى
 
 
 
 
 
 
المحتويات
الجزء الأول
تقديم للمؤلف ....................................................................
مقالات عن الثورة:
1: ثورة تونس: نحو الاستقلال الحقيقىّ والتنمية الحقيقية ..............................  
2: الشعب المصرى يريد إسقاط النظام ............................................                  
3: ماذا يعنى حل مجلسىْ الشعب والشورى؟ ......................................             
4: المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم           
(دستور 1971) والعلاقة الملتبسة بين الدين والدولة ..................................       
5: لا للتعديلات الدستورية فى مصر ...............................................                    
6: يا شعب مصر... إلى الأمام ولا تراجع... التراجع كارثة ............. .............
7: لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) ..................... ...................                   
8: الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى ..................................   
9: خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية ........................................             
10: الديمقراطية .. ذلك المجهول! ......................................................                       
11: الحزب الحاكم القادم فى مصر ....................................................                      
12: ثورة 25 يناير 2011: أمل مراوغ وأخطار كبرى ....................................     
13: الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها ........................................
 
الجزء الثانى
 
14: مذبحة ماسپيرو تضع الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة ..........................
15: مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية من ضرورات استمرار الثورة ...................
16: الاحتجاجات المسماة بالشعبية جزء لا يتجزأ من الثورة ...............................
17: مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر ......................
18: موجة ثورية جديدة (19 نوڤمبر 2011)  .........................................................
19: مطالب وأهداف الموجة الثورية الراهنة ................................................
20: الحوار بين الثورة والواقع ..............................................................
21: الذكرى الأولى للثورة تقترب والمجلس العسكرى يسير بنا على الطريق إلى الجحيم .........
ملاحق:
1: بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية:
مقدمة الترجمة العربية لكتاب: "النظام القديم والثورة الفرنسية" .............................
2: عرض لكتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية ............................................              
3: مقدمة الترجمة العربية لكتاب: "كيف نفهم سياسات العالم الثالث" .........................
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14
مذبحة ماسپيرو تضع
الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة
وضعت مذبحة ماسپيرو فى 9 أكتوبر الشعب المصرى والثورة المصرية بصورة مفاجئة ومفزعة ووجها لوجه أمام أحد الأخطار والتحديات والسيناريوهات الكئيبة التى تدَّخرها الثورة المضادة التى لم تتورع ولن تتورع عن اللجوء إليها عند الضرورة. إنه سيناريو إحراق الثورة فى أتون الفتنة الطائفية. ومع هذا التطور الكئيب صار المسيحيون فى مصر أمام احتمال مصير مأساوى وصار الشعب المصرى كله مسيحيِّين ومسلمين أمام احتمال أن تقذف بهم الثورة المضادة إلى حريق هائل يأتى على ثورتهم المجيدة وعلى وجودهم ذاته لإنقاذ النظام فوق جماجم الشعب مسلمين ومسيحيِّين.
 لقد صار المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية يملك من الحزم والعزم ما يجعله يقوم أمام العالم كله بتنظيم مذبحة للمسيحيين على الهوية بدم بارد ثم يسبقهم ويشتكى فلا يتبرأ منها فحسب بل يتهم الضحايا بأنهم هم الذين اعتدوا على الجيش والشرطة العسكرية والأمن المركزى وفتكوا بأفراد كل هذه القوات التى كانت مجردة من السلاح، إلخ.، الأكاذيب التى لا تستحق إضاعة الوقت لسردها أو تفنيدها.
 وخرجت أشرس القوى السياسية الدينية تروِّج نفس الأكاذيب، وتحرِّض ضد المسيحيِّين الذين اعتدوا على الجيش وفقا لمزاعمها، وتقوم بصورة مباشرة بتوسيع نطاق مواجهات الفتنة الطائفية التى كانت مجموعات من هذه القوى بالذات هى التى أشعلت شرارتها هذه المرة من أسوان كما فعلت دائما منذ الثورة وعلى مدى عقود قبل الثورة.
 وهكذا صارت كل قوى الثورة المضادة: القيادة العليا للجيش وقيادات الإسلام السياسى ورجال مبارك والحزب الوطنى الذين يسيطرون على الإعلام بكل وسائله الصحفية والتليڤزيونية والإذاعية وغيرها وعلى كل شيء آخر فى إدارة البلاد تمتشق السلاح ضد المسيحية فى مصر لتقتل وتذبح وتغطِّى إعلاميا. ولماذا؟ لأن حكامنا الحاليِّين والطامحين إلى حكمنا فى أقرب وقت يجدون أن الفتنة الطائفية ليست خطا أحمر بل هى وسيلة ممتازة من وسائل إجهاض الثورة وتصفيتها لاستعادة نفس النظام السابق بدون أسرة مبارك.
وهكذا حكموا على المسيحيِّين فى مصر بأن يكونوا غرباء فى وطنهم كحدٍّ أدنى أو أن يكونوا وقودًا فى حرب الثورة المضادة ضد الشعب المصرىّ كله إذا دعت ضرورات القضاء على الثورة.
ولا شك بطبيعة الحال فى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بالذات من مصلحته أن يفضِّل خيار تصفية الثورة من خلال عملية تدريجية طويلة دون اللجوء إلى صراع طائفى أو حرب أهلية أو مواجهات واشتباكات واسعة النطاق بين الجيش والشعب لأن مثل هذه التطورات يمكن أن تخرج فى مرحلة ما عن سيطرته ومخططاته بل يمكن أن تنقلب عليه. غير أنه ينظر إلى هذه الأشياء على أنها وسائل تبررها الغاية المتمثلة فى الحيلولة دون أن تتواصل الثورة لتحقيق أهدافها الحقيقية التى لن تقف عند حد بحكم طبيعة كونها ثورة.
ولكنْ هل استنفد المجلس الأعلى كل الوسائل السلمية ليلجأ إلى الحرب أو إلى أشكال حربية رغم خطورة هذا عليه أيضا؟ والحقيقة أننا لو نظرنا إلى سلوك المجلس الأعلى من زاوية الحكمة التى تقتضيها مصالح الطبقة المالكة العليا فى البلاد، وهو جزء منها، سنجد أن هذا السلوك يُجافى كل حكمة، غير أن السلوك السياسى للمجلس لا يتحدد من جانب واحد بكونه الممثل السياسى للطبقة المالكة العليا فى مصر بما يُفترض فيه من حكمة، فالحقيقة أن سلوكه يتوافق أيضا مع عقليته العسكرية، وقلة تجربته السياسية والإدارية، والجمع بين القوة المطلقة والجهل المطبق بحكم طبيعة النظام البائد وحكم الشخص والأسرة وتأثير كل ذلك على كل مؤسسات الدولة بلا استثناء، وتشبُّعه بالتالى بأساليب وقِيَم وعقلية نظام مبارك والنظام العسكرى القائم فى البلاد منذ قرابة ستين عاما.
وتستحوذ على عقلية المجلس مكوِّنات الأسطورة التى حاول ويحاول أن يخلقها لنفسه والهالة التى يريد أن يحيط بها نفسه. فهو يحاول خلط الأوراق مصوِّرًا انقلابه على مبارك تحت ضغط الثورة لإنقاذ النظام وتصفية الثورة على أنه كان تدخُّلًا لحماية الثورة وإنجاحها، ومصوِّرًا أن المجلس هو الجيش والجيش هو المجلس متَّهما كل مَنْ ينتقد سياساته بأنه يحاول إحداث وقيعة بين الجيش والشعب، زاعما أن الجيش خط أحمر دون أىّ مؤسسة أخرى ودون الشعب ذاته. وانطلاقا من كونه المؤسسة الأمنية الوحيدة التى ظلت متماسكة بعد هزيمة الشرطة أمام الشعب فى بداية الثورة، وانطلاقا من واقع الحالة المتشرذمة وحتى المتعادية بين قوى الثورة بما أدى إلى عجزها عن تكوين مجلس انتقالى وناهيك بجمعية تأسيسية مما يجعله حاكم الأمر الواقع الوحيد الذى لا بديل له، ولأن تسييس الشعب لم ينضج تماما بعد، يتصور المجلس أن محافظته على هيبته تقتضى أن "يقود" الشعب كله كما يقود القوات المسلحة بالأوامر والضبط والربط وإصدار الفرمانات والمراسيم العلوية دون مناقشة، وأن محافظته على هيبته تقتضى أن يمارس السياسة بالمنطق العسكرى الذى ينطوى على مستويات من الخشونة والعنف فى كل الأحوال وفى كل الأوقات.
 ولكل هذا يجد المجلس نفسه أمام ضرورتيْن متناقضتيْن ضاغطتيْن: ضرورة مستوى عالٍ من المرونة لجعل عملية تصفية الثورة تدريجية وطويلة وخالية من مخاطر انهيار النظام، باستخدام التباطؤ بذكاء مع تحقيق جدى لمطالب الثورة، وباستخدام سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" مع القوى والأحزاب السياسية بطريقة خفية بعيدا عن الطرق الصارخة المتبعة الآن، مع الابتعاد عن العناد المفرط واستفزاز قوى الثورة، من ناحية، ومن ناحية أخرى، ضرورة الوصول بالنظام إلى بر الأمان بأقصى سرعة ممكنة وبكل وسيلة ممكنة خشية المخاطر التى ينطوى عليها استمرار الأشكال المتنوعة التى تتخذها الثورة حيث تنفجر فى وجه النظام كل مطالب ونضالات رفع كل المظالم وإحقاق كل الحقوق وكسر كل القيود وإطلاق كل الحريات.
ولهذا يعمد المجلس الأعلى إلى سياسات وإستراتيچيات ووسائل رغم المخاطر التى تنطوى عليها هذه الأشياء حتى عليه. فلا شك فى أن ترك الحبل على الغارب للإسلام السياسى لدفعه إلى الصدام مع قوى الثورة والتغاضى عن إثارته للفتنة الطائفية ضد المسيحيِّين ينطوى على خطر خروج هذه القوى عن سيطرته الحالية (فى إطار الخديعة السياسية المتبادلة بين المجلس والقوى السياسية وفيما بين هذه القوى ذاتها)، وهو هنا يستفيد بالدور الهائل الذى تلعبه قوى الإسلام السياسى بالتعاون معه ضد الثورة وضد أنشطتها ونضالاتها ومبادراتها إلى حد كسر إضراباتها. كما يستفيد المجلس بالترويع الذى تمارسه هذه القوى، جنبا إلى جنب مع المجلس والحكومة والإعلام و"فلول" الحزب الوطنى التى تسيطر إداريا على جهاز الدولة بأكمله، ضد القوى الحية المخلصة للثورة.
على أن تورُّط المجلس فى تنظيم مذبحة ماسپيرو للمسيحيِّين، بالاستخدام المباشر للجيش والشرطة العسكرية والأمن المركزى والبلطجة وبالتواطؤ مع قوى الإسلام السياسى ومع كوادر الحزب الوطنى، يدلّ على أنه لا يتورع عن جرّ البلاد إلى شفا الحرب الأهلية وإلى أتونها، حيث تُعْمِيه طريقته فى فهم مصالحه ومصالح النظام والطبقة الرأسمالية التابعة عن حقيقة أن هذا المسار لن يدمر الشعب فقط ولا المسيحيِّين فقط ولا الثورة فقط بل يمكن أن يدمر المجلس والنظام والطبقة جميعا كذلك.
 ولكنْ لماذا هذا الجنون من مجلس كان ذكيا وعاقلا عندما قام بانقلابه ضد مبارك لحماية النظام والطبقة المالكة بنزع فتيل الثورة حتى بعد انفجارها عن طريق إزالة الهدف الذى أجمعت عليه كل القوى المشاركة فى الثورة أىْ إزاحة شخص مبارك وأسرته وعدد من الحلقة الضيقة جدا من رجاله؟ وكيف تصوَّر المجلس أنه سيبقى وأن النظام سيبقى بعد أن يصل بنا هذا المسار بقيادته الطائشة إلى الحرب الأهلية التى لن تقف عند الفتنة الطائفية ضد المسيحيِّين بل ستتطاحن فيه الثورة والثورة المضادة بكل قطاعاتهما بما فى ذلك الحرب الداخلية فى صفوف الثورة المضادة نفسها؟ غير أن هذا الجنون هو الذى يسود العالم العربى كله الآن حيث تتصور الدول والجيوش والأنظمة والطبقات الحاكمة أن الثورة ستدمرها فى كل الأحوال فلا تجد مناصا من تدمير كل شيء على أمل احتمال ضئيل فى الانتصار بالقضاء على الثورة مع أنه سيكون مستحيلا عليها أن تملك وتحكم حتى إذا حققت هذه المهمة المستحيلة. فكيف تصور القذافى أنه سيحكم بعد أن يدمر الشعب والوطن، وكيف يتصور الرئيسان السورى واليمنى أنهما سينجوان بنظاميْهما بعد تدمير كلٍّ منهما لشعبه ووطنه؟!
إنه الجنون؛ جنون الثروة والسلطة، جنون السياسات التى جرى انتهاجها قبل الثورة بما جعل الثورة أمرا لا مناص منه ولا سبيل إلى تفاديه، جنون أن يجد هؤلاء الزعماء المجانين أنه لا مفر أمامهم سوى المزيد من الجنون تفاديا للمحاكمة المحلية أو الدولية وتفاديا للإعدام أو السجن مدى الحياة. فهؤلاء الزعماء المجانين يحاربون إذن وظهرهم إلى الحائط ولسان حالهم يقول "أنا ومن بعدى الطوفان"، فيتبعون سياسة الأرض المحروقة التى ستحرق الجميع رغم الوضوح الصارخ لهذا المصير.
فما الذى يمكن أن ينقذ مصر من الجنون الذى يسيطر على ليبيا وسوريا واليمن بعد أن بدا أنه استثنى تونس ومصر؟! وهنا تظهر المفارقة الصارخة التى تتمثل فى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بدأ بخطة ذكية لإنقاذ النظام عن طريق إجهاض الثورة وتفادى صراع يمكن أن ينتهى إلى الحرب الأهلية عن طريق التخلص من مبارك الذى اعتبره أكبر أسباب الثورة ولكنه ينتهى الآن إلى أن يقوم بنفسه بجرّ البلاد إلى المصير الذى عمل فى البداية على تفاديه، من خلال سياساته المتواصلة بعناد ضد مطالب الثورة ونضالاتها، ومن خلال الإصرار العنيد على تنفيذ برنامجه بالكامل فى مجال التعديلات والإعلانات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية، والإصرار على أن تكون له اليد العليا فى المرحلة "الانتقالية" وما بعدها، ومن خلال سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" التى يُذْكى بها نار الصراع بين مختلف القوى السياسية، وأخيرا وليس آخرا اللجوء إلى تشجيع الفتنة الطائفية من خلال طريقة التعامل مع أحداثها وجرائمها وصولا إلى التنظيم المباشر لمذبحة ماسپبيرو التى ستظل جرحا مفتوحا يمزق الضمير المصرى كما يمكن أن يكون مجرد "پروڤة" لطوفان الفتنة الطائفية والحرب الطائفية والحرب الأهلية.
وكان من السهل تماما وضع حدّ للتطورات التى انتهت إلى المذبحة البشعة التى ستقض مضاجعنا من الآن فصاعدا. كان من السهل إقالة محافظ أسوان الذى طالب بإقالته النوبيون لما ارتكبه فى حقهم والأقباط لما ارتكبه فى حقهم غير أن المجلس الذى جدد له كمحافظ لأسوان رغم تغيير معظم أو كل المحافظين تقريبا يصرّ بدكتوراة فى العناد على بقائه، واستهتر المجلس بكل الاحتجاجات ضد بقاء ذلك الشخص محافظا لأسوان. وكان ينبغى اعتقال ومحاكمة ومعاقبة الأهالى الذين أشعلوا الفتنة من قرية مريناب ومحاكمة ذلك المحافظ لأنه ترك آحاد الناس يتدخلون فى قضية حساسة مثل بناء الكنائس إلى حد تدمير كنيسة بالنيابة عن الدولة الغائبة. وكان على الدولة أيضا إصدار القانون الموحَّد لدور العبادة. وكان على الدولة مواجهة كل القوى التى ساهمت بالتحريض والعمل المباشر فى أعمال طائفية ضد المسيحيِّين منذ بداية الثورة الراهنة. وكان توجُّه المسيرة الاحتجاجية إلى ماسپيرو معروفًا سلفا وبالتالى كان على الدولة حراستها وحمايتها ضد قوى الحزب الوطنى والإسلام السياسى والبلطجية. وكان على المجلس الأعلى، حاكم الأمر الواقع، أن يباشر كل الإجراءات الكفيلة ليس فقط بحماية الاحتجاجات بل كذلك بتحقيق مطالبها على الفور. ولا مجال للتنصل من المسئولية ولا مصداقية للتفسيرات التى قدَّمها المجلس مثل دعاوى أن قتل المسيحيِّين لم يكن من عمل الجيش رغم شهادات العيان الوفيرة ورغم المدرعة المندفعة بجنون ليدهس ويُسوِّى خلق الله بالأرض. ثم لماذا يتدخل الجيش أو الأمن لفض تظاهرات أو اعتصامات أو إضرابات بالقوة رغم أن هذه الحقوق مكفولة فى الدستور؟!
وقد شهدت ميادين مصر قتل المئات وجرح الآلاف أثناء الثورة على يد مؤسسة من مؤسسات الدولة وكان هذا هو المنطق الطبيعى فى صدام الثورات والثورات المضادة بين الجماهير وقوى الأمن، أما قيام الجيش ذاته، مدعوما بالإعلام وبدعاية وتدخلات قوى الإسلام السياسى و"فلول" الحزب الوطنى والبلطجية؛ هؤلاء القتلة بأجر لحساب مَنْ يدفع، بالاشتباك مع جماهير كان أغلبها من المسيحيِّين وارتكاب تلك المذبحة الطائفية الدينية البشعة فهو شيء آخر. إنه القتل المنظم الرسمى الذى تمارسه الدولة المصرية "على الهوية"!
وهكذا يُطْلق أولئك الذين يريدون إسكات أجراس الكنائس أجراس الإنذار ونواقيس الخطر. والفتنة الطائفية التى يراد إشعالها وسيلة معروفة ومدروسة لتوجيه الثورة أىْ الصراع الطبقى الثورىّ ضد الطبقة الاستغلالية الاستبدادية الحاكمة فى قنوات البؤس والتخلف والتعصب والجهل بعيدا عن المساس بالطبقة والنظام والمجلس، مع أن نيران الفتنة ستحرق الجميع. وهكذا يحاول المجلس أن يجرّ بلادنا وشعبنا الآن إلى المصير الكارثى المهلك الذى حاول من قبل أن يتفاداه عن طريق تنحية مبارك!
فما العمل مع هذا المجلس الذى يحكم (فى غياب بديل حقيقى ساهم هو نفسه بسياساته فى تغييبه) منفذا بصورة ممنهجة مخططا جهنميا من الانتخابات الپرلمانية والرئاسية بطريقة تضمن له الحكم العسكرى المموَّه بواجهة مدنية زائفة؟
والحقيقة أن القوى المخلصة للثورة حتى النهاية تستطيع رغم قوتها العددية الأقلّ أن ترجِّح كفة تفادى الحرب الطائفية والحرب الأهلية بفضل ميزتها على قوى الثورة المضادة التى شاركت فى الثورة ضد مبارك وعلى المجلس والنظام والطبقة جميعا. فبصورة متواصلة وفى كل يوم يخسر المجلس والإخوان والسلفيون والقوى الحزبية القديمة والجديدة المتواطئة قلب الشعب لأنهم جميعا يقفون ضد مطالبه ونضالاته ويشتركون فى قمعه وكسر إضراباته، على حين أن قوى اليسار والديمقراطية والليبرالية اليسارية والقوى الشبابية المؤمنة بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة والمعادية حتى النهاية للفساد والاستبداد هى التى أشعلت شرارة الثورة واستمرت بالثورة إلى الآن ضد مؤامرات القوى الأخرى وهى التى تقف بحزم مع حقوق الشعب وحرياته ومطالبه، وهذا ما يجعلها قادرة على مواجهة ممتدة كسب فيها قلب الشعب وما يزال من الممكن أن يكسب من خلال تطور الثورة قلب قطاعات الشعب التى ما تزال غير مسيَّسة والتى يجعلها عدم تسييسها رصيدا لقوى الثورة المضادة فى الانتخابات كما فى مواجهات الفتنة الطائفية وغيرها.
والآن بعد أن قمنا بدفن شهداء ماسپيرو علينا ألا ننسى دماءهم الزكية وأن نحاكم ونعاقب كل من تسبب بصورة مباشرة أو غير مباشرة فى هذه المذبحة المشينة البشعة، وعلينا أن ننظر إلى الأمام، إلى النضال الثورى السلمى العنيد من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، من أجل تحويل مصر إلى بلد صناعى، ومن أجل تحقيق الاستقلال الحقيقى لمصر بدلا من التبعية الاستعمارية القائمة، وعلينا وضع حد لتكرار المذابح الطائفية بدستور يطهر نفسه من المواد الدستورية التى تشكل معا الأساس الدستورى للطائفية وتقسيم الشعب حسب الديانة بعيدا عن المواطنة والوحدة الوطنية وبقية الشعارات التى نتغنى بها ليل نهار بنفاق لا جدال فيه رافضين بكل السبل وضعها موضع التنفيذ.
13 أكتوبر 2011
 
 
 
 
 
 
15
 
مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية
من ضرورات استمرار الثورة
1: تقترب بسرعة مواعيد الانتخابات الپرلمانية والرئاسية ووضع الدستور الجديد وإعادة الانتخابات ذاتها على أساس الدستور الجديد حتى إنْ لم يأتِ بجديد، مع أىّ احتمال للتقديم والتأخير فى هذه الترتيبات وفقا للإرادة السامية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية ومن يتعاونون معه من ليبراليِّين يمينيِّين وحزب وطنى وإسلام سياسى (وحتى الكثير من قوى اليسار والليبرالية اليسارية وكل أطياف القوى والتيارات الديمقراطية واللاسلطوية والتحررية التى مهَّدت للثورة وقادتها واستمرّت بها إلى الآن والتى ترى فى الوقت ذاته أن المشاركة فى الانتخابات الپرلمانية والرئاسية والاستفتاء على الدستور العتيد قد تنطوى على مكسب ما للثورة ولاستمرارها على طريق تحقيق أهدافها. ويغدو من أوجب الواجبات أن نسارع إلى اتخاذ موقف واضح من هذه الإجراءات قبل فوات الأوان فقد تأخرنا كثيرا عن بلورة وإعلان موقف واضح حيث لم يَعُدْ يفصلنا عن بدء الانتخابات سوى هذه الأسابيع القليلة القادمة.
2: وكانت قد تواصلت انتقادات قوى الثورة الأكثر صلابة وإخلاصا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية فيما يتعلق بشرعية حكمه أصلا وبمجمل سياساته وكذلك بتاكتيكاته المتعلقة بالسرعة الشديدة حيث تحتاج قوى الثورة إلى الوقت الكافى لتنظيم صفوفها وبلورة وإنضاج مواقفها وتوطيد شعبيتها وكذلك بتكتيكاته المتعلقة بالبطء القاتل حيث تحتاج قوى النظام والثورة المضادة إلى الوقت لترتيب أوضاعها وتهريب أموالها وفَرْم وإحراق الوثائق التى تكشفها وتُدينها وتمثل أدلة دامغة ضدها. وبالطبع فإن هذه التكتيكات وغيرها تندمج جميعا فى إستراتيچية واحدة وحيدة هى تصفية الثورة لحساب الثورة المضادة. والآن تصل بنا هذه الإستراتيچية وهذه التاكتيكات إلى لحظة الحقيقة، هذه اللحظة الفاصلة التى تتمثل فى إعادة إنتاج مؤسسات النظام التى هى أيضا مؤسسات الدولة عندنا بوصف هذه المؤسسات أدوات ووسائل مضافة لتصفية الثورة بإدخالها فى النفق المظلم لمسرحية المظاهر الشرعية الدستورية على جثة الثورة فى زمن الثورة المختلف من حيث جوهره اختلافا جذريا عن الأوقات العادية مع أن لكل شيء فى الحياة وقت؛ وذلك لأن وقتنا هذا وقت حاسم للثورة ووقت حاسم للثورة المضادة، ويشتد الصراع الآن فى محاولة من الثورة المضادة لفرض منطقها وكسر منطق الثورة والعكس بالعكس.
3: وعندما رفع الثوار شعار "الثورة أولا"، فى ميادين التحرير وساحاته وشوارعه ومختلف مواقع تظاهراته واعتصاماته وإضراباته واحتجاجاته المتنوعة وأنشطته ونضالاته ومبادراته فى المصانع والأرياف والجامعات والمستشفيات ووسائل الإعلام ومختلف الجهات الحكومية وغير الحكومية، كان هذا الشعار العظيم صرخة كل مَنْ قالوا لا فى وجه كل مَنْ قالوا نعم لاستعادة نفس النظام بدون أسرة مبارك. وتعود نفس الصرخة الآن بقوة لتطرح نفس السؤال: الثورة أولا أم مسرحية الانتخابات المتعددة الأنواع والمراحل؟!؛ الثورة أم نجاح الثورة المضادة من خلال مهزلة التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها منذ وقت مبكر هو النصف الثانى من مارس (فى 19 مارس أىْ بعد تنحية مبارك فى 11 فبراير بقرابة شهر وأسبوع لا غير) وتحديد مواعيد "استحقاقات" مزعومة للپرلمان المزعوم والرئيس المزعوم والدستور المزعوم هذه الأشياء التى سوف تتمتع بالشرعية الدستورية لتملأ الأرض عدلا وحرية وكرامة مسترشدة بالثورة؟! وكان كل هذا بقصد تسريع إضفاء الشرعية على نفس النظام بدون أسرة مبارك الجمهورية-الملكية البائدة.
4: وبالطبع ووفقا لترتيب الأحداث فإن الثورة كانت أولا، وكانت هى التى فجرت كل التطورات الحالية، فماذا كان يعنى ثوار ميادين التحرير عندما أطلقوا صيحة الثورة أولا بعد أشهر من حدوث الثورة أولا بالفعل؟ لقد أطلقوها عندما أصرّ حاكم الأمر الواقع أىْ المجلس العسكرى على القيام أولا وقبل كل شيء آخر وبسرعة بإجراء الانتخابات الپرلمانية والرئاسية ووضع الدستور الجديد وإعادة الانتخابات ذاتها على أساس الدستور الجديد وفقا للتعديلات الدستورية التى جرى طبخها بسرعة بأمر من الرئيس المخلوع عند تنحيته من خلال إجراء غير دستورى. وكان الثوار يدركون بالوعى وبالغريزة السياسية وبتجربة لا تُنْسَى مع هذا النظام أن المجلس الأعلى، ومستشاريه وحلفاءه فى الداخل والخارج، إنما يريدون تصفية الثورة بهذه المؤسسات ذات الشرعية الخادعة التى تزيف إرادة الشعب بالتزوير المباشر وبخداعه ضد مصالحه الأساسية باستغلال عدم وعيه وعدم تسييسه حتى فى زمن الثورة رغم معرفته الواضحة بأوجاعه وآلامه ومظالمه، على حين يعنى شعار الثورة أولا تحقيق أهداف الثورة أولا لأن المؤسسات المنتخبة بعد ذلك ستكون مختلفة بطبيعة الحال لأنه لن يجرى انتخابها تحت العصا الغليظة للحكم العسكرى وتحت نفوذ أعوانه وحلفائه فى سباق شره رهيب على اقتسام الكعكة.
5: والحقيقة أن الشرعية التى يُراد إسباغها على استعادة النظام بكامل مؤسساته لا أساس لها فلا نظام مبارك كان شرعيا ولا يمكن أيضا أن تؤدى الإجراءات الحالية إلى قيام مؤسسات شرعية فى مصر. لماذا؟ لأن شرعية مبارك كانت مثل شرعية أسلافه تقوم على التزوير المباشر وتزييف إرادة الشعب بكل الوسائل الأخرى فى دولة استبدادية تتزين بتعددية مموَّهة. ورغم أن كل الانتخابات فى كل العالم تقوم على تزييف إرادة الشعب لأن الشعوب تنتخب پرلماناتها ورؤساءها وكل مؤسساتها حسب الحالة الفعلية لهذه الشعوب والتى لا ترقى فى المجتمع الحديث إلى مستوى نجاحها فى انتخاب ممثلين حقيقيِّين لمصالحها رغم كل دعاوى الديمقراطية الغربية التى يُراد فرضها على العالم أجمع رغم تناقضها الكلى مع الديمقراطية الحقيقية فإننا نركِّز على رفض آفتنا المتوطنة فى مصر والعالم الثالث أىْ التزوير المباشر بكل وسائله المعروفة. وقد صار المطلوب من جانب المجلس الأعلى وكل تحالف الثورة المضادة أن تُضاف إلى (أو يحلّ أمام الكواليس محل) المجلس الأعلى، الفاقد لكل شرعية لأنه مفوّض من رئيس غير شرعى أصلا، وبطريقة غير دستورية (وإنْ بمقياس دستور غير دستورى أصلا)، مؤسساتٌ جديدة يجرى طبخها تحت إشراف نفس هذا المجلس على أساس تعديلات غير دستورية لدستور غير دستورى وفوق ذلك معطَّل وعلى أساس قوانين ومراسيم وترتيبات وإجراءات غير شرعية فرضها هذا المجلس ذاته، حيث تقوم المرحلة الأولى لهذه المنظمات أىْ المجلسان القادمان ورئيس الجمهورية القادم بإعادة إنتاج نفسها على أساس دستور جديد تكون قد طبختها بنفسها وعلى صورتها وشاكلتها فى المرحلة الأولى فتأتى انتخابات جديدة على أساسه فى المرحلة الثانية بمجلسيْن مشابهيْن لهما للغاية شكلا وموضوعا ورجالا ونساءً، وبرئيس قد يكون هو هو أو هو إياه أو أشبه ما يكون بالرئيس القادم الذى سيكون "السابق" فى تلك اللحظة، وتكون كل هذه المؤسسات الپرلمانية والرئاسية فى المرحلتيْن تحت قيادة المجلس الأعلى من وراء الكواليس لأنه هو الذى صنعها على عينه. وعندئذ تكتمل مؤسسات سلطة ديكتاتورية تكون لعبة فى أيدى الثورة المضادة.
6: فما هى هذه الثورة المضادة التى ترتفع محلِّقةً فوق كل قواها بما فى ذلك مجلسها العسكرى، وإخوانها المسلمون وسلفيُّوها، وليبراليُّوها، وكل صفوفها التى تبدو متصارعة من حيث سباق اقتسام غنائم الثورة رغم كونها جميعا متحالفة ضمن وحدة جرانيتية من حيث عملها على قدم وساق على تصفية الثورة؟ ولماذا تكون "الثورة" ضد مصالحها جميعا فى وقت واحد رغم أنها تبدو متصارعة بصورة محمومة فى الانتخابات ورغم ما تعكسه هذه السيولة الماثلة فى هذه الخريطة المعقدة لتحالفاتها وتكتلاتها وحركاتها التى تنسحب منها أحزاب وحركات وتنضم إليها أحزاب وحركات كل يوم، فى لعبة محمومة تنخرط فيها عشرات من الأحزاب والتحالفات وأحيانا العشرات فى تحالف واحد أو كتلة واحدة؟
7: وفى العادة، يجرى الحديث عن الثورة المضادة عند حدوث ثورة فعلية، غير أن النظام الاجتماعى الاقتصادى السياسى الثقافى هو الثورة المضادة فى كل الأحوال لأن ممارستها الأمنية فى غير زمن الثورة تتركز فى التصفية المتواصلة لقوى الثورة المحتملة ضمن المعارضة وتظل تجتث كل نجيل ينبت من جديد بعد اجتثاثه فى سياق حرب استباقية وإجهاضية متواصلة ضد أىّ خطر ثورى محتمل مع المبالغة فى كثير من الأحيان فى الاحتمالات والتوقعات والتوجسات والوساوس. فالثورة المضادة إذن هى الأعمال الحربية وشبه الحربية للطبقات العليا المالكة لوسائل الإنتاج الكبير ولكل أشكال الثروة فى الوحدات والكيانات والشركات الكبيرة فى كل قطاعات الاقتصاد فى المجتمع. وهناك بالطبع سلطاتها التنفيذية والقضائية والتشريعية وقمم كل المؤسسات والجهات والمصالح العليا للدولة بما فى ذلك قمم جيشها وشرطتها وبيروقراطيتها وكذلك قمم المؤسسات الأيديولوچية والإعلامية والتعليمية وغيرها.
8: وعندما تندلع الثورة فهى إنما تندلع ضد هذا النظام بكل أركانه فى المجتمع السياسى والمجتمع المدنى، فى السلطة والاقتصاد، ولهذا يتحول النظام بكامله وبكل أركانه إلى نظام يحمل السلاح ضد الثورة أىْ إلى ثورة مضادة لأنها لا تستخدم وسائل النظام وأدواته التى تُستعمل فى الأوقات العادية بل تستخدم وسائل "ثورية" لا مناص منها فى زمن الثورة أىْ وسائل الحرب مهما كانت الثورة سلمية لأن الثورة انفجار سياسى شعبى واسع النطاق وممتدّ فى المكان والزمان ولا يمكن أن يهدأ الانفجار إلا بتحقيق أهداف قوى الثورة المنسجمة مع مصالحها ولا يكون هذا إلا على حساب الطبقة المالكة والسلطة الحاكمة والنظام والثورة المضادة أى خَصْمًا على ثروتها الاستغلالية وسلطتها الاستبدادية. وهنا تلجأ الطبقة المالكة (الحاكمة بصورة مباشرة أو غير مباشرة) إلى الحرب التى قد تتدرَّج مراحلها والتى قد تتخذ شكل حرب طويلة متعددة الوسائل تجمع بين السياسة والعنف، أو بين والعصا والجزرة كما يقال، كما نشهد الآن فى مصر ودول عربية أخرى رغم اختلاف مستويات كلٍّ من العنف والسياسة ورغم ما يزال فى رحم الغيب من مراحل للعنف والحرب والسياسة.
9: وهنا ينبغى الانتباه إلى أن التناقض والصراع بين الممثلين السياسيِّين لقطاعات من الطبقة المالكة العليا وانضمام بعض هذه القطاعات إلى المعارضة وحتى إلى قوى ثورة فعلية فى بعض مراحلها يشكلان الوضع الطبيعى لطبقة مالكة ومن الجلى أن أقوى أحزاب المعارضة فى الوقت الحالى وفى أغلب الأوقات بوجه عام إنما تمثل سياسيًّا قطاعات من نفس الطبقة الحاكمة ويجرى الحكم وإدارة الدولة والاقتصاد من الناحية الأساسية فى كل الأحوال لتحقيق مصالح الطبقة بكل قطاعاتها بما فى ذلك تلك القطاعات التى تمثلها أحزاب فى المعارضة (وهى هنا قطاعات من حيث التمثيل السياسى وليس بالضرورة من حيث فروع الاقتصاد التى يمكن أن ينتمى إلى كل فرع منها ممثلون سياسيون لمختلف الأحزاب). وينطبق كل هذا بطبيعة الحال على أحزابنا الكبيرة التى تمثل سياسيًّا قطاعات من الطبقة المالكة العليا فلا الوفد ولا غيره من الأحزاب الليبرالية الجديدة معلَّق فى هواء الأيديولوچيا الليبرالية، ولا الإسلام السياسى معلَّق فى سماء الأيديولوچيا الدينية السياسية، وكذلك مَنْ يدور الحديث عنهم على أنهم "فلول" الحزب الوطنى والنظام القديم فى بلد ما يزال رجال الحزب الوطنى والنظام القديم يسيطرون فيه على كل شيء فى الإدارة والاقتصاد ويمثلون بدورهم قطاعات من الطبقة المالكة.
10: ومعنى هذا أن كل الأحزاب الكبيرة فى مصر ومنها حزب العدالة والحرية الإخوانى وبعض أحزاب الإسلام السياسى الأخرى فى التحالف الديمقراطى من أجل مصر أو خارجه، ومنها ما بات يعرف ﺑ "أحزاب" الحزب الوطنى الخارجة من معطف هذا الأخير متدثرةً بالعباءة الأيديولوچية والسياسية الاستغلالية ومعتمدةً على مرتكزات ووسائل الفساد والاستبداد التى فى حوزتها، ومنها الحزبان الكبيران ضمن الكتلة المصرية أىْ الحزب الديمقراطى الاجتماعى وحزب المصريِّين الأحرار، إنما تمثل الطبقة المالكة الحاكمة ولا ينفى واقع أن بعضها فى المعارضة فى بعض المراحل وحتى انضمام بعضها إلى قوى الثورة لأيام أو أسابيع لغرض فى نفسها انتماءها الطبقى الذى يفسِّر أيضا تعاونها التام مع المجلس الأعلى. وبالطبع فإن أىّ حزب جماهيرى ممثل لطبقة رأسمالية تتكون قاعدته الأساسية من أبناء الطبقات الشعبية مع أن برنامج مثل هذه الأحزاب يخدم مصالح الطبقة الرأسمالية التابعة فى عالمنا الثالث ولا يخدم مصالح الطبقات الشعبية. على أن هذا لا يُلْغِى بحال من الأحوال فكرة التناقض والصراع بين أحزاب تمثل سياسيًّا نفس الطبقة ولا يُلْغِى بحال من الأحوال مبدأ أو تاكتيك أو إستراتيچية أخذ تلك التناقضات والصراعات داخل الطبقة الاستغلالية الواحدة وداخل أحزابها فى الاعتبار كما ينبغى إدراك أنها تناقضات وصراعات يمكن أن تصبّ فى  صالح الثورة.
11: إننا نشهد إذن لحظة فاصلة تقوم فيها أحزاب الرأسمالية الكبيرة التابعة بمختلف أيديولوچياتها السياسية الليبرالية والإسلامية والقومية وهى فى أغلبها ذات ميول وخبرات وتجارب استبدادية وحتى فاشية وتتجه الآن إلى القيام بمحاولة حاسمة لإمساك تحالف بين مجموعة منها بالإمساك بالسلطة التشريعية والتنفيذية، بالپرلمان بمجلسيه وبرئاسة الجمهورية لاستعادة وترسيخ النظام على جثة الثورة، والويل لثورة مهزومة كما يقال. ومن الجلىّ أن كل هذه الأحزاب التى تتغنى ومعها المجلس الأعلى بالثورة معادية للثورة ولم يكن هدف مَنْ نزل منها إلى الميدان حرية أو عدالة أو وضعا لحد للفساد أو الاستبداد بل كان هدفها المحدَّد بوضوح والمخطَّط بدقة هو استغلال الثورة للحصول على الشرعية كطريق إلى القفز على السلطة بصورة منفردة أو ضمن تحالف من أحزاب نفس الطبقة ومن هنا كان التفاوض مع النظام ومع رجال مبارك حتى قبل تنحيته والتحول منذ ذلك الحين إلى شوكة فى عضد الثورة وإلى مقاتل شرس ضد كل نضالاتها ومبادراتها والتلاحم مع المجلس العسكرى تحت مختلف الدعاوى. وسوف يترتب على نجاح هذا المخطط بمختلف مراحله وإجراءاته انتقال البلاد إلى وضع جديد يساعد الثورة المضادة بكل أركانها على الهجوم بصورة أكثر تخطيطا وتنسيقا على القوى الحقيقية للثورة.
12: وفى الأوقات العادية أىْ فى غير زمن الثورة تُوازن القوى السياسية بين المشاركة والمقاطعة فى الانتخابات الپرلمانية والسياسية والاستفتاءات على قوانين أو أشخاص عندما يكون التزوير المباشر مرجَّحًا وتكون النتائج السلبية متوقعة أو حتى معروفة النِّسَب سلفا. وهنا تكون الموازنة بين أهمية حرمان (ومدى القدرة على حرمان) النظام القائم من الشرعية، من ناحية، وأهمية الحصول على بعض المقاعد مثلا عندما يتعلق الأمر بانتخابات پرلمانية (أو نقابية) فى استغلال المنبر المعنىّ، من الناحية الأخرى. ويختلف الأمر تماما فى زمن الثورة. فالمقاعد التى يمكن أن تحصل عليها بعض القوى المخلصة للثورة بثباتٍ وتفانٍ والتى قررت المشاركة فى الانتخابات لن تكون كافية للمقاومة من داخل المؤسسات الجديدة بصورة فعالة تُعَرْقِل المخطط الذى أشرنا إليه أعلاه أو تساعد مقاومة الثورة من خارج هذه المؤسسات على أن تكون فعالة بصورة أكبر. ويعنى هذا أن أىّ مكسب ضئيل يمكن أن نحصل عليه من المشاركة فى كل هذه السلسلة الطويلة من الانتخابات لن يكون فى مستوى المكسب الذى ستحققه الثورة المضادة بإدخالنا فى هذا النفق المظلم لعمليات ترتدى مظهر الشرعية وما هى بشرعية فتُبَدِّد بذلك قوانا فى جهود عبثية من وجهة نظر مصلحة الثورة فى الاستمرار والأهم أن مشاركتنا فى الانتخابات ستكون إعلانا مباشرا عن شرعية المؤسسات القادمة يفيد الثورة المضادة وفى الوقت نفسه يَفُتّ فى عضد قوى الثورة ويُضْعِف عزيمتها وإصرارها على النضال ضد مؤسسات تكون قد شاركت بنفسها فى إقامتها.
13: ونظرا لأننا فى زمن الثورة ولسنا فى أوقات عادية، ولأن المعركة ليست معركة پرلمانية فى زمن صراع الحياة أو الموت بين الثورة التى لم تحقق أهدافها الأساسية بعد والثورة المضادة التى تقوم الآن بإعادة إنتاج نفس النظام، ولأن أىّ مكسب لعدد من المقاعد سيكون خسارة إستراتيچية صافية للثورة، ولأن القوى والحركات والمجموعات التى قادت الثورة واستمرت بها إلى الآن قادرة على مقاومة هذا المخطط والطموح إلى إفشاله كما فعلت بفعالية فى الموجات السابقة للثورة وبالأخص فى الموجة التى بدأت فى 8 يوليو، وهى التى نجحت فى وضع مبارك فى القفص أمام العالم، وكذلك فى يوم 9 سپتمبر الذى كان يوما مجيدا يرمز إلى تطلُّع الشعب المصرى إلى التحرر من عبودية معاهدة السلام مع إسرائيل، وفى ردّ الفعل القوى ضد مذبحة ماسپيرو الذى أثبت أن الثورة ملتزمة بثبات بالمواطنة بعيدا عن تقسيم الشعب وفقا للديانة وبعيدا، عن الأساس الدستورى للاضطهاد والملاحقة على أساس الدين...، نظرا لكل هذه الاعتبارات وغيرها ينبغى أن يكون الرهان على قدرة الثورة على الاستمرار بفاعلية بدلا من الوقوع فى مصيدة الشرعية الزائفة التى نصبها بكل ذكاء المجلس الأعلى لقواتنا المسلحة وحلفاؤه فى الداخل والخارج لتصفية الثورة التى ستركِّز أفضل جهودها إذا وقعت فى المصيدة على الجرى وراء سراب الشرعية فى طريقٍ إلى الجحيم مفروشٍ بالنوايا الحسنة من جانب قوى الثورة، وليس على استمرار الثورة فى طريقٍ مفروشٍ بالشوك حقا نحو مستقبل أفضل.
19 أكتوبر 2011
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16
الاحتجاجات المسماة بالفئوية
جزء لا يتجزأ من الثورة
1: يعرف الجميع أن حكامنا الحاليِّين وحلفاءهم الجدد (أىْ منذ الثورة) قد اخترعوا للتظاهر والاعتصام والإضراب التى هى حقوق دستورية للمواطنين تسمية جديدة هى "الاحتجاجات الفئوية" وذلك عندما تجرى ممارسة هذه الوسائل النضالية فى مواقع العمل (فى مصنع أو شركة مثلا)، أو فى فرع من فروع الإنتاج أو الخدمات، أو فى مهنة من المهن لكل المهنة أو جزء منها أو موقع من مواقعها (المعلمون، المهندسون، الأطباء، المحامون، إلخ.)، أو فى موقع أو مواقع إعلامية، أو فى كلية أو جامعة، إلخ... وكان اختراع التسمية مصحوبًا بتجريمها بقانون من قوانين المجلس الأعلى ينص على عقوبات مشددة لم يسبق لها مثيل. وترافق مع التسمية والتجريم سيل متواصل من الدعاية المحمومة ضد ممارسة هذه الحقوق التى اعتبروها جرائم. وفى جوقة واحدة قام بالترويج للقانون وعقوباته، وبالهجوم الضارى على كل من تسوِّل له نفسه ممارسة هذه الحقوق الدستورية، ليس المجلس العسكرى فقط، وليس حكومته "العسكرية" فقط، بل كل أركان النظام الذى ثار الشعب ضده. وما هى أركان النظام؟ هى بالطبع الطبقة الرأسمالية الكبيرة بكل رجال أعمالها وشركاتها وبكل ممثليها السياسيِّين أىْ المجلس العسكرى وأحزاب الإسلام السياسى الكبيرة والأحزاب الليبرالية الكبيرة وبالطبع "أحزاب" الحزب الوطنى ولكنْ أيضا رجال الحزب الوطنى الذين يسيطرون على مفاتيح الإدارة والاقتصاد وبالتالى السياسة فى البلاد. ولهذا ظلوا يتسابقون جميعا على إدانة الاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات والإضرابات المسماة جميعا بالاحتجاجات الفئوية. ولم يكن الإسلام السياسى الإخوانى أو السلفى أقل ترويجا لهذه الدعاية السوداء، لهذه الاحتجاجات السلمية ضد رأس المال وضد الإدارة وضد القيادات النقابية وضد قيادات المؤسسات الإعلامية والتعليمية والجامعية.
2: ومن المنطقى بطبيعة الحال أن يقابل رجال وأحزاب وأركان الطبقة المالكة هذه الاحتجاجات المسماة بالفئوية بكل هذا العداء والكراهية وحملات التشويه والافتراء لأسباب عديدة أولها التركيز المطلوب لتصفية الثورة بإسكات مطالب الشعب بالوعود للتفرُّغ للمؤامرة الكبرى التى خطط لها وينفذها المجلس وأحزاب الطبقة المالكة تلك التى فى الحكم وتلك التى فى المعارضة. وبالطبع فإن تحقيق المطالب المتعلقة بالأجور وتحسين شروط العمل والرعاية الصحية وإصلاح التعليم وتطهير مختلف المؤسسات من الفساد والمفسدين ومن الاستبداد والمستبدين إنما سيكون خصمًا على أرباح وسرقات هذه الشركات وحدًّا من فسادها فلا عجب أن تقوم قيامة رجالها وأحزابها ضد كل تظاهر أو اعتصام أو إضراب أو أىّ احتجاج من أىّ نوع فى مواقع الإنتاج وغيرها. وبالطبع فإن هذه الوسائل النضالية تعطِّل الإنتاج وبالتالى تهدِّد بانخفاض أرباح ودخول شركات القطاعين الخاص والعام فمن المنطقى أن تُحاربها هذه الأحزاب لأنها جميعا أحزاب تمثل الطبقة المالكة بمختلف قطاعاتها فشركات الطبقة المالكة إنما يملكها رجال أعمال من الحزب الوطنى والإخوان المسلمين والسلفيِّين والليبراليِّين اليمينيّين بأحزابهم القديمة والجديدة كما يملكها أيضا عسكريون.
3: ورغم اختصاص هذه النضالات بلقب الفئوية فإن الحجة المستخدمة ضدها هى نفس الحجة المستخدمة ضد تظاهرات واعتصامات وإضرابات وكل احتجاجات الميادين والساحات والشوارع والهواء الطلق وهى حجة تعطيل الحياة الطبيعية والإنتاج فى وقت يعانى فيه اقتصاد البلاد من العواقب الوخيمة المزعومة للثورة مع أنها أوضاع اقتصادية مزمنة من الناحية الأساسية. وهذا القلب الفظيع الوقح للحقائق يُخْفِى واقع أن حكامنا أمس فى عهد مبارك واليوم فى عهد المجلس العسكرى هم الذين يعطلون الإنتاج والحياة الطبيعية وكل شيء وذلك لسبب بسيط للغاية: انفجر الشعب فى ثورة لأن الحياة غير الطبيعية السابقة لم تكن قابلة للاستمرار وبالتالى كانت للشعب مطالب لا مناص من تحقيقها فى سبيل حياة كريمة وكان لا مناص بالتالى من مواجهة تاريخية للفساد والاستبداد. فهل يعقل إنسان أن الثورة كانت ستظل تعطل الحياة الطبيعية والإنتاج لو تحققت مطالب الثورة الأكثر أساسية والأكثر إلحاحا؟ بالعكس كانت قوى الثورة ستتجه إلى إعادة بناء البلاد والاقتصاد والإنتاج كما لم يحدث من قبل بدلا من الاضطرار إلى تعطيلها.
4: والحقيقة أن النظام السابق هو الذى عطل الحياة الطبيعية والإنتاج وكل تقدم للبلاد عندما قام ليس فقط بحراسة تصفية الحياة السياسية بل قام كذلك بتجريف الاقتصاد، بالجشع المدمر واللصوصية الفاحشة بحيث امتصَّتْ الثروات الضخمة التى تراكمت بوسائل اللصوصية والفساد كل مقدرات البلاد تاركة الطبقات الشعبية فى المدينة والريف محرومة من وسائل العيش تعانى الحرمان على كل المستويات فتعيش فى المقابر والعشوائيات والعشش والخيام وتحت مستوى الفقر فاقدة كل أساس للحياة الكريمة، تفتك بها آفات الفقر والجهل والمرض؛ تفتك بها الأوبئة الواسعة الانتشار (مثلا، وباء ڤيروسات الكبد) فى سياق لامبالاة مفزعة من جانب الدولة؛ ويفتك بعقلها نظام تعليمى فاسد من الألف إلى الياء، ويفتك بها الجوع إلى الطعام، والجوع إلى السكن وحتى إلى أبسط مأوى، والجوع إلى الأرض وحتى إلى قراريط لتأمين لقمة العيش، والجوع إلى الأمن فى بلد تضخمت فيه قوى الأمن عددا وعدة لتصل إلى أرقام مطلقة مفزعة وإلى نسبة مفزعة من إجمالى عدد السكان بحساب أفرادها مع أُسَرهم، والجوع بالتالى إلى الكرامة الإنسانية حتى فى أبسط صورها. وقد انفجر الشعب فى ثورة سياسية شاملة لتغيير هذه الحياة هنا والآن، فخرج حاملا الرأس على الكف، وحاملا الكفن رمزا أو فعلا كما حدث فى بعض الحالات (لا ينبغى أن ننسى السويس). وعندما واجه النظام الحاكم الثورة بانقلاب عسكرى قاده المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، وهو انقلاب قصر، أىْ من داخل النظام لحمايته وليس لحماية الثورة أو الشعب رغم الدعاوى العريضة، وجدت طبقات الشعب وفئاته جميعا أن حياتهم لم تتغير ولم تتحسَّن بل بقيت كما كانت وربما أسوأ مما كانت لم يكن أمامها سوى النضال بكل الوسائل المشروعة التى يقرِّها الدستور الذى قام المجلس بتعطيله ليكون هو نفسه مناط مرجعية التشريع والتنفيذ والقضاء من خلال المحاكم العسكرية. فمن الذى يعطل الحياة الطبيعية والإنتاج: مبارك الذى أوصل الشعب إلى الانفجار الثورى بعد تجريف كل أساس اقتصادى لحياته، والمجلس العسكرى الذى لا يعرف حلا لأىّ مشكلة سوى الحل الأمنى فى شكله العسكرى المباشر دون أن يصغى لمطالب الطبقات الشعبية الفقيرة، أم الشعب الموبوء بحكامه أمس واليوم، حكامه القدامى والجدد الذين هم رجال القدامى، هذا الشعب الذى لم يَعُدْ يستطيع صبرا على بؤسه المقيم؟ أجيبونا بالله عليكم: مَنْ الذى يعطل الإنتاج والحياة الطبيعية بدلا من تحريك عجلتهما عن طريق تحقيق مطالب لا سبيل إلى تأجيلها؟!
5: ولكن جعبتهم مليئة بالسِّهام والحجج والذرائع! سيقولون بل يقولون بالفعل إن مطالب الشعب بكل فئاته قد تكون مشروعة وعادلة؛ ولكنْ من أين نأتى بتمويل كل هذه المطالب فى وقت يشهد خسائر اقتصادية بسبب الثورة وخسائرها (ولاحظوا أن مطالب الشعب سابقة على الثورة بزمن طويل ولم يستجيبوا لها قبل كارثة الخسائر المزعومة للثورة!)؟ وهى حجة قوية بالفعل إذا سلَّمنا بإصرارهم على استمرار مبدأ أقصى الربح لشركاتهم على حساب العاملين فيها، وإذا تغافلنا عن الهوة الرهيبة بين دخول الحد الأقصى ودخول الحد الأدنى حتى فى الحكومة، وإذا نسينا أنهم تركوا لصوص النظام من مبارك فنازلا يهرِّبون أموالهم ويرتبون أوضاعهم ويفرمون وثائق تكشفهم وتُدينهم فأخرجوا من البلاد أموالا كان من الممكن أن تفى بكل المطالب، وإذا نسينا أنهم وقفوا موقف اللامبالاة إزاء استرداد أموال هؤلاء اللصوص فى الخارج (فى سويسرا وغير سويسرا) وكانت هناك وسائل لاستخلاص تلك الأموال بإجبار هؤلاء اللصوص على سحب أموالهم النقدية والعقارية وغيرها من الخارج والداخل "بأنفسهم" لحساب خزانة الدولة. ويمكن أن يقولوا: إذنْ حدث ما حدث و"احنا ولاد النهارده" ولم تَعُدْ لدينا قدرة على تمويل كل هذه المطالب، فلنقلْ لهم: إذنْ اذهبوا إلى الجحيم، ارحلوا، وسنرى ماذا يمكن أن نفعل بأنفسنا بدونكم! ولنلاحظْ أنهم لا يمتنعون عن الاستجابة للمطالبة التى تحتاج إلى أموال فقط بل عن كل مطالب الشعب التى لا تكلفهم أىّ مال مثل توسيع نطاق المحاسبة والمحاكمة ليشمل كل الفاسدين والمفسدين واللصوص وقتلة الشعب، أو عزل كوادر الحزب الوطنى على نطاق أوسع من النطاق الهزلى الذى يجرى الحديث عنه الآن، أو الإفراج عن آلاف المعتقلين من الثوار، كما يمتنعون عن اتخاذ قرارات والقيام بإجراءات تجلب للدولة أموالا طائلة عن طريق استرداد الدولة لممتلكاتها التى جرى نهبها "بتراب الفلوس". فالأساس هو اتخاذ موقف صارم ضد الثورة وضد جرّ الشعب إلى مصيدة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية، بل محاصرة الثورة بالهجوم المتواصل عليها وعلى مبادراتها وأنشطتها ونضالاتها وتظاهراتها واعتصاماتها وإضراباتها واحتجاجاتها المسماة بالفئوية، وتسليط أسلحة الأمن والجيش والبلطجية والفتنة الطائفية والإعلام والدعاية العدوانية المنسَّقة وغير ذلك عليها.
6: على أن رفض "الاحتجاجات الفئوية"، المؤثَّمة قانونًا بوصفها تخريبا، لم يقتصر على رجال الطبقة الحاكمة ونظامها وأحزابها، بل امتد إلى بعض قوى الثورة المخلصة وتيارات وحركات شباب الثورة، باعتقاد أن هذه المبادرات النضالية الفئوية تأتى خَصْمًا على التجمُّع الأوسع فى ميادين التحرير للتظاهر والاعتصام والإضراب والاحتجاج، بمعنى أن الناس سيذهبون إلى احتجاجات المواقع من مصانع أو غيرها بدلا من الذهاب إلى الميدان. والحقيقة أن هذه الأشكال النضالية لا يستبعد بعضها البعض، وأولئك الذين يقومون بهذه الاحتجاجات المدموغة بالفئوية اليوم هم الذين كانوا جاهزين للانطلاق إلى كل ميادين التحرير فى مصر بالأمس، وهم جاهزون كلما دعت الضرورة لنفس الشيء، وهل كانت مظاهرات واعتصامات 8 يوليو البالغة الأهمية خالية من أولئك الذين يشاركون فى "الاحتجاجات الفئوية"؟ وهل كانت مظاهرات 9/9 البالغة الأهمية أيضا من حيث الاستقلال الوطنى خالية منهم؟ وهل يجوز أن ننسى دور "الاحتجاجات الفئوية" فى التمهيد لثورة 25 يناير ككل خلال الأعوام السابقة؟
7: وهناك نقطة مهمة لا مناص من الوقوف عندها لصلتها الشديدة بهذه الاحتجاجات الملقبة بالفئوية. ففى محاولة مفهومة تماما لاستبعاد فكرة أن تكون الثورة المصرية السياسية الشعبية الكبرى ثورة جوعى ولتأكيد أنها ثورة حضارية لشعب متحضر تكنس مكان مظاهراتها واعتصاماتها، كان هناك تصوُّر للثورة يجعل منها ثورة "رومانسية" خالصة تدور حول محاور الحرية والديمقراطية والشفافية ورفض الاستبداد وكل ما أشبه ذلك. وصحيح أن الثورة كانت من جانب الشعب حضارية بامتياز، وكانت الثورة المضادة من جانب النظام بربرية بصورة مطلقة تلجأ إلى القتل بالجملة وترويع السكان وإطلاق يد البلطجية وتنظيم موقعة الجمل والتغاضى عن الاعتداء على المسيحيِّين ودور عبادتهم ومؤخرا تنظيم المجلس العسكرى بصورة مباشرة لمذبحة ماسپيرو التى استشهد وجُرح فيها عدد هائل من المسيحيِّين. غير أن السكوت على المظالم المادية والمطالب المعيشية وعدم الثورة من أجلها والاستكانة لضغوطها الساحقة بلا احتجاج ليست من الحضارة فى شيء بل هى أحوال من البؤس المستكين. وكان شعبنا فى ثورته بريئا من هذا البؤس المستكين بل كانت ثورته صرخة مدوية ضد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية. ومن السذاجة أن ندمج دوافع مختلف القوى الشعبية المشاركة فى مجموعة من الدوافع المعادية للاستبداد والمطالبة بالحرية. وربما كانت هذه الأشياء فى المحل الأول دوافع الشباب والمثقفين وأقسام من النخب السياسية الذين مثلت حركتهم شرارة الثورة وليس الثورة ذاتها، وبالطبع مع دوافع ومطالب وشعارات تتعلق بالأوضاع الاقتصادية المتردية للشعب من بطالة واسعة وغلاء فاحش وأجور بالغة التدنى وغير ذلك. غير أن احتجاجات25  يناير التى فجرت الثورة لم تتحوَّل إلى ثورة شعبية كبرى إلا بنزول عشرات الملايين من أبناء الشعب المصرى أىْ كل السكان تقريبا باعتبار "التناوب" فى المظاهرات وباعتبار أن مَنْ كانوا فى المنازل كانوا بمعظمهم من أسر أولئك الذين كانوا فى الميدان.
8 ومن السذاجة أن نعتبر أن التطلع إلى الحرية والديمقراطية وما إلى ذلك كان الدافع الأقوى لدى شعب غير مُسيَّس. ولا يمكن أن ينكر أحد أن الشعب المصرى يعانى الفقر المدقع الذى يتجسَّد فى الجوع المركَّب إلى الطعام والكساء والمأوى والرعاية الصحية والحياة الكريمة ولهذا فلا مجال للتظاهر بنفى أن هذه الدوافع جميعا كانت حاضرة فى الثورة بكل مراحلها. وكانت تتخذ شكل التظاهر فى الميادين أحيانا وفى التظاهر والاعتصام والإضراب فى المواقع "الفئوية" أحيانا أخرى. ولأن الثورة هى مجموع أشكالها ومبادراتها فإن كل جزء منها من صميم الثورة. وإذا اتفقنا على أن الدوافع والأهداف والتطلعات المتعلقة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية كانت حاضرة فى الثورة وكانت من صميم الثورة كما أنها لم تتحقق فلا مناص من أن نستنتج أن الأشكال الإضرابية لهذه الاحتجاجات الموصوفة بالفئوية هى الثورة إلى جانب كل شكل آخر، وأن مستويات معيشة لائقة بالبشر لن تتحقق لطبقاتنا الشعبية إلا بالثورة فى هذا الشكل الموصوم زورا وبهتانا بالفئوية. أيها السادة: الثورة هى مجموع المبادرات الكبيرة والصغيرة، فى مواقع العمل ومجال المهنة كما فى الميادين، فى تجمُّعات كل الفئات والطبقات الشعبية بمختلف القطاعات الاقتصادية فى الميادين العامة فى احتجاجات تتناول كل ما هو مشترك بين كل "فئات الشعب" من مطالب وأهداف عامة تتناول الدولة والنظام والحريات والمساواة والعدالة ومستويات المعيشة، وكذلك فى مختلف المواقع التى تتوزع عليها طبقات الشعب فى سبيل تحقيق المطالب الرئيسية لهذه الفئة أو تلك أو فى هذا المصنع أو ذاك. وباختصار فإن الإضراب فى مصنع أو فرع من فروع الصناعة، فى كلية أو جامعة، ثورة تماما مثل ثورات الميادين. ومن المهم جدا أن ننتبه إلى أن الثورة "الفئوية" هذه لن تهدأ بل من المتوقع أن يتسع نطاقها لأنها فى كل الأحوال سلاح تطوير مستويات المعيشة جنبا إلى جنب مع تطور الديمقراطية من أسفل التى ستناضل من أجل حمايتها وتطويرها بصورة متواصلة، هذه الديمقراطية من أسفل التى ستتخذ أشكال النقابات العمالية والمهنية والأحزاب السياسية والصحافة الحرة والقضاء المستقل واتحادات المستهلكين وغير ذلك. ولأن كل أركان النظام تعمل على تصفية الثورة فقد وقفت قوى الثورة المضادة صفًّا واحدا لكسر الإضراب عند كل مبادرة كما فعل الإخوان والسلفيون وغيرهم ضمن هذه القوى وليس المجلس العسكرى وحده، لأنها جميعا تمثل مصالح اقتصادية وسياسية للطبقة المالكة والتى لا يمكن أن توصف بالطبقة الحاكمة إلا فى سياق حكم الشخص وأسرته والحلقة الضيقة من رجاله المقربين.
9: وينقلنا هذا إلى نقطة أخرى مهمة للغاية. ففى مقال كتبته مؤخرا دعوت إلى مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية لأنها فيما أعتقد مؤامرة للثورة المضادة لإدخال الثورة فى متاهةِ سلسلةٍ من الانتخابات الپرلمانية والرئاسية المتكررة على حساب مبادراتها ونضالاتها الثورية تنتهى بإعادة إنتاج النظام البائد وتوطيد شرعيته وتصفية الثورة بنجاح أكبر مع التراجع النسبى للتناقضات بين قوى الثورة المضادة التى تتكالب اليوم على اقتسام غنائم الثورة فى صورة أنصبة فى الشراكة السياسية القادمة أو المأمولة على حين ستكون بعد الانتخابات قد استقرَّت على أساس محدَّد للعلاقات بينها. وفى سياق تعليقات وردتنى عن المقال المشار إليه ظهرت أسئلة ذات صلة بموضوع "الاحتجاجات الفئوية". ويتمثل فحوى سؤال مهم فى أن قوى الثورة المضادة التى من المرجَّح أن تنجح فى استكمال بناء مؤسساتها الجديدة من خلال الانتخابات سوف تدَّعى الشرعية فى حالة نجاح مخططها فلن نستطيع على كل حال أن نمنعها من ادِّعاء الشرعية. وبالطبع فإن هذا الترجيح وجيه للغاية إنْ لم يكن صحيحًا تماما. غير أن المسألة لا تكمن فى نجاحنا فى الحيلولة دون أن تدَّعى الثورة المضادة شرعية تدَّعيها من الآن على كل حال استنادا إلى دور مزعوم للمجلس فى الثورة وإلى دور كبير للإسلام السياسى وللإخوان المسلمين بالذات رغم انتقالهم بعد أيام إلى صفوف الثورة المضادة بحزم. المهم هو ألَّا نعترف لها نحن بالشرعية من وجهة نظرنا والفرق كبير للغاية: لو كنا اعترفنا مثلا بشرعية نظام مبارك لما كان هناك نضال جاد من جانبنا ضد تمديده وضد مشروعه للتوريث وضد فساده واستبداده. وما نريده نحن من المقاطعة إنما هو حرمان النظام العتيد من شرعيته من وجهة نظرنا بالامتناع عن المشاركة فى عمليات إعادة إنتاجه، وذلك بالإضافة إلى أن هذه المقاطعة ستضعنا فى أفضل موقف من حيث تركيز قوانا وجهودنا على النضالات الثورية بدلا من متاهات سلسلة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية المبرمجة. وبالطبع فإن المقاطعة إيجابية ولا تعنى انسحاب أنصار المقاطعة إلى منازلهم، ولا تعنى الابتعاد عن العملية الانتخابية تماما. بل تشمل المقاطعة بالطبع جهودنا مع القوى السياسية المعادية لنظام مبارك وخلفائه والتى تشارك مع ذلك فى الانتخابات، ومع أبناء الشعب فى فترة الانتخابات القادمة، لجذبها إلى موقف التركيز على استمرار الثورة ونضالات الثورة المستمرة. ولكنْ ما هى تلك النضالات الثورية المتواصلة؟ هى بالطبع النضالات من أجل الديمقراطية والعدالة فى الميادين كما فى المواقع المسمَّاة بالفئوية. وكما كانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية العامل الحاسم فى اندلاع الثورة التى لم تتحقق أهدافها بعد فإنها ستكون العامل الحاسم فى استمرار الثورة تماما كما سيتواصل النضال فى سبيل الديمقراطية. ذلك أننا إزاء ثورات محرومين وليس من المتوقع أن يعاودوا الاستكانة والخضوع للحرمان الذى ثاروا ضده.
10: وكان هناك سؤال عما إذا كان النضال الثورى سيظل سلميا، وهناك مَنْ ذهب إلى ضرورة الدعوة إلى العصيان المدنى والإضراب العام، وبالطبع فإنه لا مانع من هذين السلاحيْن النضاليَّيْن بشرط أن تكون شروطهما العامة حاضرة، وليس هناك ما هو أخطر من الجملة الثورية التى تكتفى بعبارات قوية وشعارات ملتهبة لا تبررها مستويات النضال فى مراحل بعينها. أما التمسُّك الحازم بالنضال السلمى فإنه من أوجب الواجبات، وإذا كانت قوات الأمن قد فرضت اشتباكات شاملة انتهت بهزيمة قوى الأمن على يد قوى الثورة كما حدث فى الأيام الأولى للثورة وإذا كانت قوات الأمن أو الشرطة العسكرية قد فرضت اشتباكات أضيق بعد ذلك وتصدى المحتجون بقوة لهذه الاعتداءات فقد كانت كل هذه الاشتباكات العدوانية من جانب الشرطة أو الجيش دفاعية من جانب المحتجين. ولا شك فى أن نضالنا الذى يملك "ميزة نسبية" على الثورة المضادة هو النضال فى الميدان وكذلك فى المصنع، أىْ ما يسمَّى فى الدعاية العدوانية للثورة المضادة بالاحتجاجات الفئوية. فالنضال غير السلمى هو النضال الحربى وهو الكفاح المسلَّح الذى لا يستمد شرعيته فى السياق المحدَّد الذى يخصنا هنا إلا فى مواجهة قيام الثورة المضادة بشن حرب متواصلة على الشعب كما حدث فى ليبيا وكما يحدث فى سوريا واليمن رغم الطابع السلمىّ إلى الآن للثورة فى البلدين.
11: أما "الميزة النسبية" التى تملكها القوى المخلصة للثورة بثبات وصلابة والتى تشمل طيفا واسعا من أبناء وبنات الطبقات الشعبية المسيَّسين وغير المسيَّسين المتبلورين سياسيًّا وفكريًّا وغير المتبلورين فإنها تتمثل فى علاقتها بالشعب وبالثورة. فقد جعلها تفانيها فى النضال من أجل الشعب مخلصة للثورة ولكل نضالاتها وإضراباتها وكل مبادراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية فوقفت وتقف دائما مع الشعب واحتجاجاته وحقوقه وحرياته ولهذا فإنها كسبت وتكسب بصورة متزايدة قلب الشعب، على العكس تماما من أركان النظام والثورة المضادة وفى المحل الأول المجلس العسكرى وحكومته برئاسة عصام شرف وأحزاب الإسلام السياسى والأحزاب الكبيرة للِّيبرالية اليمينية وهى الوفد والمصريون الأحرار والديمقراطى الاجتماعى و"أحزاب" الحزب الوطنى، فهذه الجهات جميعا من مجلس وحكومة وأحزاب خسرت وتخسر قلب الشعب لأنها تقف دوما ضد نضالاته وتقمع أو تكسر إضراباته. وهكذا فإن القوة العددية الأقل كثيرا للقوى التى أشعلت الثورة وقادتها واستمرت بها الى الآن تمتعت وتتمتع بميزة أن الشعب معها لأنها دوما معه ومع نضالاته واحتجاجاته فى الميادين والمصانع، وبفضل هذه الميزة استطاعت أن تحقق نجاحات بارزة وتستطيع أن تحقق الكثير الآن وفى المستقبل، ولولا صمودها إلى الآن لكانت الثورة قد صارت نسيًا منسيًّا منذ وقت طويل.
12: وتتفاعل الثورات العربية فيما بينها بطبيعة الحال ولاشك فى أن النهاية النهائية ﻟ القذافى بشير ونذير ﻟ بشار الأسد و على عبد الله صالح ولكنْ أيضا ﻟ مبارك والمجلس العسكرى ولكثيرين من حكام العرب، وهو نذير لهؤلاء وبشير لقوى الثورة الحقيقية. وتستلهم ثورتنا النضالات الصلبة والتضحيات الغالية التى قدمها الشعب الليبى ويقدمها الشعبان السورى واليمنى. ومن ناحية أخرى تستلهم ثورات الغرب أو الشمال ضد الرأسمالية فى قلاعها الكبرى الثورة المصرية والثورات العربية، وهى بدورها تردّ الجميل لثورات الربيع العربى بخلق وتطوير حالة من الثورة العامة فى العالم ضد الرأسمالية الإمپريالية هناك والرأسمالية التابعة هنا مما يضفى على ثوراتنا أمام الذات وأمام الآخر شرعية مضافة. ورغم أن "حركة وول ستريت" وغيرها من الحركات والنضالات عبر العالم تمثل هجوما على الرأسمالية انطلاقا من مركزها فإنها نتيجة منطقية من نتائج الأزمة الاقتصادية العالمية التى تمسك بخناق الولايات المتحدة وأوروپا والياپان وتؤثر فى العالم كله ولايمكن النظر إليها على أنها بداية مباشرة لثورات اشتراكية فى الغرب أو الشمال وينبغى بالتالى فهمها رغم كل إيجابياتها ورغم كل مغزاها المستقبلى فى حجمها الطبيعى بعيدا عن إيمان العجائز لدى جيلنا والذى يجعله مهيَّأً للحياة فى حلم ثورى جميل فيما يتصور أنه أعوامه الأخيرة.
13: وبطبيعة الحال فإن الحركة الحالية ضد الرأسمالية فى الغرب لا تدور فى إطار تاريخىّ من التحول الاجتماعى من الرأسمالية إلى الاشتراكية بل فى إطار الصراعات الطبقية ضمن النظام الرأسمالى كما أنها ليست حركات اشتراكية أصلا فهى بالتالى وإنْ كانت صراعا ضد السلطة فى سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ليست صراعا ينقل السلطة من طبقة إلى طبقة مهما تغيرت الأوزان النسبية لقطاعات نفس الطبقة الرأسمالية. ويصح نفس الشيء على ثوراتنا التى لا تنقل السلطة إلى طبقة جديدة ولا تحل قواها محل الطبقة الحاكمة فى الاقتصاد أو السلطة لأنها ليست ثورات فى إطار تحول تاريخى من نظام اجتماعى إلى نظام اجتماعى آخر بل هى ثورات فى سياق نظام للرأسمالية التابعة توطد وترسَّخ فى سياقه التاريخى التابع. على أن الثورة لا تفقد بهذا معناها بل تطمح فقط إلى إعادة تنظيم الاقتصاد والسلطة بتغيير معادلاتهما ضمن نفس الإطار التاريخى. ويعادى كثير من مناضلى الثورة ليس فقط مبارك أو النظام أو مؤسسات وأجهزة بعينها فى الدولة بل يعادون الرأسمالية ذاتها، غير أن هذا العداء ليس لحساب الاشتراكية أو الثورة الاشتراكية لأن النظام الاشتراكى القومى كما تحقق عندنا أو النظام الاشتراكى بقيادة أحزاب شيوعية كما حدث فى الاتحاد السوڤييتى السابق والصين وغيرهما لم يَعُدْ يُلهم أحدا، ولهذا فإن هؤلاء المناضلين لا يحلمون ببديل تاريخى للرأسمالية أىْ بالاشتراكية ويبقون داخل حدودها التاريخية فلا تتجاوز أحلامهم أو أوهامهم بالأحرى نوعا من دولة لرأسمالية وطنية غير تابعة أو بدولة إسلامية تطبق أحكام الشريعة مع أن دولة الرأسمالية التابعة ستظل رأسمالية وتابعة مهما كانت الأيديولوچيا التى تتصور أنها أقامت أو ستقيم دولتها العادلة عليها. وبعيدا عن هذه الأوهام يبقى النضال فى الميدان والمصنع، فى التجمعات الشعبية العامة الكبرى وكذلك فى سياق الاحتجاجات المسماة بالفئوية، طريقنا الشاق إلى ديمقراطية من أسفل تفرض معادلة جديدة لإدارة الدولة والاقتصاد ولحرية المجتمع.
21 أكتوبر 2011
 
17
مرة أخرى  حول
مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر
1: رغم أن إدخال تعديلات على دستور 1971 الدائم كان من مطالب قوى المعارضة قبل الثورة، وقوى الثورة منذ تفجُّر الثورة، إلا أن النظام المصرى بدون مبارك (أىْ الثورة المضادة)، انطلق من التعديلات المطلوبة التى أمر مبارك قبيل تنحيته مباشرة بإجرائها، والتى ألَّف المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإعدادها لجنة مشبوهة وأجرى استفتاءً مهرولا على تعديلاتها المقترحة، بعد تنحية مبارك بشهر وأسبوع وحصل على الموافقة عليها، وجعل من هذه التعديلات غير الدستورية، لأنها تعديلات على دستور معطل، ولأنه لم يجر إقرارها بطريقة شرعية، أساسا تقوم عليها وعلى الإعلان الدستورى الذى أصدره المجلس العسكرى بمرسوم شرعيةٌ جديدةٌ للحكم الحالى للمجلس العسكرى وكذلك للحكم المقبل. وكان الاتجاه الحاسم للطغمة العسكرية إجراء الانتخابات الپرلمانية والرئاسية بأقصى سرعة (حتى منذ يونيو أو يوليو الماضى) غير أن ضغوط الثورة نجحت فى تأجيلها إلى أواخر العام. وتشمل السلسلة الطويلة لهذه الانتخابات انتخاب مجلس الشعب مرتين وما يسمى بمجلس الشورى مرتين ورئيس الجمهورية مرتين وكذلك الاستفتاء الدستورى الجديد على الدستور الجديد بعد استفتاء 19 مارس على التعديلات الدستورية. وكانت قوى معارضة عديدة، على رأسها الإخوان المسلمون والسلفيون والليبراليون اليمينيون، تؤيد المجلس العسكرى فى سرعة إجراء العملية الانتخابية وصولا إلى تسليم السلطة للمدنيِّين المنتخَبين (الذين يعنون بهم أنفسهم) وعودة الجيش إلى الثكنات، وعارضت هذه القوى جنبا إلى جنب مع المجلس العسكرى مظاهرات الثورة واعتصاماتها وإضراباتها ومختلف مبادراتها ونضالاتها فى الميادين وكذلك فى مواقع العمل، أىْ النضالات العامة وكذلك تلك "المسماة بالاحتجاجات الفئوية". ولم يكن رفض كثير من قوى الثورة المخلصة للتعجيل بالانتخابات رغبةً منها فى بقاء الحكم فى أيدى العسكر، فقد طالبت هذه القوى من البداية بمجلس انتقالى توافقى وبعودة الجيش إلى الثكنات، غير أن التوافق كان مستحيلا لأن القوى التى شاركت فى الثورة كانت لها أهداف مختلفة تماما من الثورة، أهداف مصلحة الثورة والشعب والطبقات الفقيرة من جانب، وأهداف الحصول على الشرعية والاعتراف من جانب قوى الإسلام السياسى، التى انقلبت على الثورة بمجرد حصولها على ما أرادت فانتقلت، جنبا إلى جنب مع المجلس العسكرى والأحزاب الليبرالية اليمينية و"أحزاب" الحزب الوطنى، إلى ممارسة ثورتها المضادة لتصفية الثورة وصولا إلى شراكة حقيقية مع القوى المالكة والحاكمة فى مصر.
2: وبعيدا عن نظرية المؤامرة أىْ بعيدا عن المبالغة فى دور مؤامرات حقيقية أو متوهمة، وجدت الثورة نفسها أمام إستراتيچية جهنمية محكمة وضعتها الخبرة المصرية والعربية والأمريكية لاستخدام العملية الانتخابية الواسعة النطاق والممتدة ربما حتى 2013 كأداة رئيسية لتصفية الثورة انطلاقا من أن الانتخابات بطبيعتها من شأنها كالعادة أن تجذب كل اهتمام كل القوى المشاركة بعيدا عن النضالات الثورية مع أن ثمارها ستكون من نصيب قوى سياسية بعينها ولن تكون بحال من الأحوال من نصيب القوى المخلصة للثورة وأهدافها ومطالبها. ونظرا لأن الانتخابات ستكون متكررة وممتدة فإنها سوف تجمِّد خير الجهود الثورية للطبقات الشعبية زمنا كافيا لهبوط مستوى قوة دفع الثورة إلى حد أدنى يمكن أن يتعامل معه بكل كفاءة نظام رأسمالى تابع يكون قد استعاد استقراره وكفاءة وفاعلية آلياته إلى حد كبير. ولأن "صاحب بالين كدّاب" ولأن "خادم سيدين منافق وكدّاب كذلك"، ولأن طبيعة الانتخابات تجعل منها السيد الأقوى، فإنه لا مناص من أن يكون التركيز ليس على النضال الثورى بل على الانتخابات ودعايتها وتاكتيكاتها وتربيطاتها وتحالفاتها، حيث لا وقت للجمع بين المهمتين ولا قوى مناضلة كافية لتغطية متطلبات الانتخابات والفعل الثورى فى آن معا. والاستنتاج المنطقى الوحيد هو دخول قوى الثورة فى نفق مظلم وراء سراب خادع على مدى عام ونصف مثلا لنكتشف فى نهاية النفق المظلم، أىْ بعد فوات الأوان، أن قوة دفع الثورة قد تراجعت وأن الجهود التى ذهبت إلى الانتخابات لم يكن من شأنها زيادة قوة دفع الثورة بل كانت خَصْمًا صافيا عليها.
3: وإذا استنتجنا من هذا أن مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية جميعا ضرورة من ضرورات استمرار الثورة وأن المشاركة لن تكون بحال من الأحوال أداة من أدوات أو شكلا من أشكال استمرارها فإن هذا لا يعنى أننا ننطلق من موقف مبدئى يؤيد المقاطعة دائما وفى كل الأحوال بل نؤيدها هنا والآن لأننا فى زمن الثورة، ويُقال لنا إننا لسنا فى زمن الثورة بل فى زمن الثورة المضادة وكأن الثورة قد فات أوانها وفاتها القطار وأن الثورة المضادة قد انتصرت وتربعت على العرش من جديد. غير أننا فى زمن الثورة والثورة المضادة معا فهما لا ينفصلان وما يزال الصراع بينهما مفتوحا على مصراعيه ويملك كل من الثورة والثورة المضادة نقاط قوة ويعانى كل منهما من نقاط ضعف بطريقة تحقق توازنا فى القوة إذا أخذنا فى اعتبارنا حقائق لا تخطئها عين. فالثورة لا تقتصر على قوى الطليعة الثورية بمختلف أطيافها والتى لا شك فى أنها أقل عددا من قوى الثورة المضادة، مع أن هذه الطليعة حققت نجاحات كبيرة فى مختلف ميادين وشوارع مصر وفى كثير من مواقع العمل والمهن، بل تشمل الثورة كل فرد من الشعب ما يزال عاقد العزم على أن يأخذ حقوقه وحرياته الآن بعد أن أيقظته الثورة. ولا شك فى أن قوى الثورة المضادة أكثر فاعلية فى مجال العملية الانتخابية باعتبارها أداتها فى المشاركة فى السلطة وإدارة الاقتصاد غير أنه لا شك أيضا فى أن قوى الطليعة الثورية، بمآثرها ولكنْ قبل كل شيء بفضل المزاج الثورى لطبقات الشعب كما يتبدى فى الاحتجاجات المسماة بالفئوية للطبقة العاملة وبقية الطبقات الشعبية وكل العاملين وأبناء مختلف المهن من القضاة والمحامين إلى المعلمين والأطباء إلى... أمناء الشرطة، حيث يعمل جميع المظلومين على رفع المظالم. والحقيقة أن اعتبار هذه الاحتجاجات لا تتجاوز أفق النضال الاقتصادى الذى كان قويا وربما أقوى فى بعض الفترات فى بعض المواقع قبل الثورة فإنه يتجاهل واقع النطاق الواسع الشامل والمتواصل لهذه الاحتجاجات فى كل المواقع تقريبا وحقيقة أنها تجرى فى إطار مختلف يخلقه زمن الثورة حيث ترتبط كل جزئية بالكل الذى يعطى إطارا مختلفا ومغزى مختلفا لكل جزئية.
4: وفى الأوقات العادية قد يكون إنجاح عدد وإنْ قليل فى عضوية الپرلمان بتجنيد كل طاقات قوى المعارضة الثورية لفترة محدودة مكسبا له مغزاه أما فى زمن الثورة فإن تجنيد كل طاقات قوى الثورة لفترة ممتدة لإنجاح قلة من المناضلين كأعضاء فى الپرلمان سيكون باهظ الثمن بل قاتلا لأنه يُبْعد كل هذه الطاقات عن الفعل الثورى الذى يمكن بنتائجه التراكمية أن يحقق الكثير. وهناك سؤال مهم يتعلق بمؤيِّدى المشاركة فى الانتخابات الپرلمانية وهو بصراحة: ما قيمة الپرلمان فى العالم الثالث؟ ويعلم الجميع أن پرلمانات العالم الثالث لا تزيد عن كونها ملحقات ثانوية جدا للمراكز الحقيقية للسلطة حيث تقوم بالتشريع حسب الأوامر من السلطة التنفيذية أو من الحزب الحاكم الذى لا يكون فى الحقيقة حزبا ولا حاكما لأن مثل هذا "الحزب" لا يكون فى غياب التعددية الحقيقية، كما هو الحال فى العالم الثالث، سوى ملحق من ملحقات المركز الحقيقى للسلطة. وإذا قلنا إنه فى الأوقات العادية يمكن السعى إلى المشاركة فى الانتخابات للاتصال بالجماهير والعمل بينها حول بعض المرشحين ولكسب حتى قلة من العضويات فى الپرلمان حيث لا تنطوى المشاركة على أضرار جسيمة على كل حال رغم وجود فوائد لا ينكرها أحد، فإن زمن الثورة يختلف عن ذلك تماما لأن أضرار وأخطار المشاركة فادحة وقد تصل إلى حد المشاركة على طريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة فى إضعاف قوة دفع الثورة ومن ثم فى تصفية الثورة. ويظل السؤال الحقيقى: فى أىّ زمن نحن الآن؟ زمن الثورة أم زمن الثورة المضادة؟ أم زمن الثورة وزمن الثورة المضادة وزمن الصراع المفتوح بينهما؟ ولا شك فى أن الإجابة بأننا فى زمن الثورة المضادة تمثل رؤية وفى أن الإجابة بأننا فى زمن الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة تمثل رؤية أخرى مختلفة جذريا، ومن الخلاف بين هاتين الرؤيتين المتصارعتين حتى بين رفاق سمتهم جميعا الوعى والصلابة والإخلاص يتفرع كل خلاف آخر. وهناك بالطبع سؤال مهم أيضا يتعلق بمؤيِّدى المشاركة فى الانتخابات الرئاسية وهو بصراحة أيضا: ما قيمة رئيس جمهورية سينقلب على الشعب بمجرد قيامه بانتخابه ممارسا سلطاته المطلقة المتوقعة فى غياب الفصل بين سلطات متوازنة كما هو متوقع أيضا، وهذا فى أفضل الأحوال إنْ جاز أن نصف بهذا استقلال رئيس الجمهورية القادم عن سيطرة العسكر؟ وما قيمة رئيس جمهورية سيخضع لتلك السيطرة بحكم واقع أن المجلس الأعلى يستمد شرعيته كما يراها من قيامه بالانقلاب العسكرى ضد مبارك تحت ضغط الثورة؟ ثم ما معنى كل هذا التكالُب من جانب "المرشحين المحتملين" لرئاسة الجمهورية على ذلك المنصب مع أن الدستور لم يوضع بعد ولم يقرِّر بعد بالتالى هل ستكون مصر جمهورية رئاسية كما يرغب كل محبِّى الديكتاتوريات الرئاسية السابقة فى مصر والعالم الثالث أم ستكون جمهورية پرلمانية كما يريد الشعب وكما تنادى الثورة؟
5: ويُقال إن القوة العددية والمالية والدعائية للقوى الثورية، فى زمن الثورة المضادة الذى يخيِّم على المكان والزمان الآن فيما يقال بطريقة أحادية، لا ترقى إلى مستوى القدرة على منح الشرعية للثورة المضادة ومجالسها النيابية الأربعة القادمة وعلى رئيسىْ الجمهورية القادميْن وعلى الدستور القادم، فلا ينبغى إذن أن نخشى أن نمنح الشرعية لأحد نتيجة لمشاركتنا، ويجرى تنبيهنا إلى أن قوى الثورة المضادة سوف تدَّعى الشرعية فى كل الأحوال ولن تمنعها المقاطعة من الإعلان الصاخب لشرعيتها. ولكننا لا نعنى أن المقاطعة ستحرمهم من الشرعية فى نظر الناخبين أو فى نظرتهم لأنفسهم بل نقصد أن عدم اعترافنا بشرعية المؤسسات القادمة التى تبنيها الثورة المضادة من خلال الانتخابات هو أساس نضالنا فى ساحات أخرى بعيدا عن ساحات الانتخابات الپرلمانية والرئاسية، كما أن هذا لا يعنى أننا سنتجاهل الجماهير الذاهبة إلى لجان الانتخابات للتصويت الذى سيتم تحت طائلة "كرباج" الغرامة الكبيرة التى تفرضها الطغمة العسكرية الآن بدلا من الإقرار بأن التصويت والامتناع عن التصويت حقان من حقوق المواطن يختار بينهما وفقا لما يُرْضى ضميره بلا غرامة على المقاطعة أو عدم التصويت وبلا مكافأة على المشاركة أو التصويت!
6: ويتساءل، بدورهم، بعض مؤيِّدى المقاطعة الذين يبدو لهم أن المقاطعة ستكون مجرد موقف سلبى بمعنى مجرد الابتعاد عن الانتخابات الپرلمانية والرئاسية عما إذا كان هناك موقف إيجابى يقوم على بديل ثورى للعملية الانتخابية برمتها. وقد يرون هذا البديل الثورى فى صورة عصيان مدنى أو إضراب عام أىْ فى صورة حدث ثورى كبير فى وزن العملية الانتخابية الپرلمانية الرئاسية الجارية وقد يكون قادرا على إفشالها فى سبيل عملية انتخابية ديمقراطية تجرى على أسس مختلفة. وبالطبع فإنه لا أحد يمكن أن يقف ضد استخدام أشكال نضالية قصوى مثل الإضراب العام عندما يكون ضروريا لإسقاط النظام أو لتحقيق مكسب من الوزن الثقيل وعندما تتوفر الشروط المطلوبة لنجاحه، غير أن النضالات الجارية بالفعل تمثل من ناحية البديل الثورى الحقيقى لعملية الشرعية الدستورية الجارية، كما تمثل من ناحية أخرى الطريق المؤدى بصورة تراكمية إلى الأشكال النضالية القصوى التى لا يمكن افتعالها بصورة مبتسرة.
7: فهل تستطيع النضالات الجارية الآن لقوى الثورة أن تحقق شيئا يمثل قطيعة مع الماضى كما يليق بثورة سياسية شعبية كبرى كالثورة المصرية؟ أعتقد أن هذا ممكن وعملى إذا لم تتخاذل قوى الثورة، إذا لم تجرِ وراء السراب الخادع للعملية الانتخابية لتركز طاقاتها وجهودها ومبادراتها على الفعل الثورى، على تحقيق تطوُّر تاريخى عينىّ يقلب الطاولة على الثورة المضادة أىْ على المجلس العسكرى والحلفاء القدامى والجدد للنظام. ويمكن أن نتفق على الطبيعة المحدَّدة لثورتنا باعتبار أنها ليست ثورة اشتراكية كما أنها ليست ثورة اجتماعية تنقل بلدا من نمط للإنتاج الاجتماعى إلى نمط إنتاج اجتماعى آخر مهما كان مدى عمق إصلاحاتها الاجتماعية، وباعتبار أنها ثورة شعبية فى سياق تاريخى محدَّد هو سياق التبعية الاستعمارية والرأسمالية التابعة وباعتبار أنه ليس من شأن ثورات مثل هذا السياق، التى تجرى ليس ضمن تحول اجتماعى تاريخى بل ضمن استقرار للتبعية الاستعمارية والرأسمالية التابعة مهما كانت اختلالاتها وأزماتها وفسادها واستبدادها، أن تنقل السلطة والاقتصاد إلى طبقة جديدة صاعدة إلا فى سياق تشكلات طبقية جديدة ضمن نفس النظام الرأسمالى التابع للرأسمالية العالمية. فلا يبقى أمام هذه الثورات باستبعاد سيطرة قواها على السلطة والاقتصاد سوى النتيجة الوحيدة البالغة الأهمية التى تخرج بها الطبقات العاملة والشعبية من الثورات على كل حال أىْ الديمقراطية من أسفل، التى ستظل بعد قيامها موضع صراع دائم مع ديكتاتورية الطبقة الحاكمة التى ستعمل على تصفيتها وبالتالى ستكون هذه الديمقراطية من أسفل قابلة للتوسع والانكماش وفقا للنتائج الفعلية فى كل مرحلة من مراحل الصراعات المقبلة.
8: ويعرف الجميع إنجازات الديمقراطية من أسفل إلى الآن وقد بدأت تلك الإنجازات بإجبار النظام على تنحية رئيس الجمهورية، ووضع حدّ للتمديد والتوريث مستقبلا فى العالم الثالث كله، وإرسال رؤوس الفساد والاستبداد إلى السجون، وكشف المدى المفزع لفساد حكامنا بصورة رفعت مستوى تسييس الشعب المصرى إلى مستويات غير مسبوقة، وإجبار "الرأسمالية المصرية" الحاكمة التابعة على استخلاص العبر فيما يتعلق بالاستبداد والفساد طالما بقيت هذه الثورة فى الذاكرة تقض مضاجع حتى حكام الحاضر والمستقبل، وكشف المظالم وكسر الخوف وحفز الفعل الثورى بما جعل العالم يشهد بطولات نادرة (ليس فى مصر وحدها بالطبع بل ربما بصورة أكبر فى البلدان التى شهدت وتشهد مستويات من الحرب الأهلية وبالتحديد فى ليبيا واليمن وسوريا)، كما كان بين الإنجازات الكبرى ممارسة الحقوق والحريات الديمقراطية على أوسع نطاق وليس مجرد المطالبة بتحقيقها، ولن أعدِّد مختلف المنجزات ومغزاها فهى لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى على كل حال. غير أن هذه الإنجازات لم تتحول إلى مكاسب عميقة نهائية ومستقرة وإلى أدوات نضالية فعالة فى أيدى الشعب وإلى إطار شامل لديمقراطية تخلق توازنا تاريخيا فى مواجهة حكام الحاضر والمستقبل، وما تزال هذه المهام المعقدة الكبرى لإرساء أسس الديمقراطية من أسفل تنتظر أن تحققها الثورة وإلا فالويل للثورة المهزومة وقواها.
9: فما هى هذه الديمقراطية من أسفل؟ والحقيقة أنها لا تعنى أن المجتمع أو البلد قد صار ديمقراطيا أو أن "الدولة" بمعناها فى القانون الدولى (ودعك من المفهوم العلمى الاجتماعى للدولة ووظيفتها فى مجال العلاقة بين طبقات المجتمع) قد صارت ديمقراطية. فالمجتمع الطبقى لا يكون ديمقراطيا كما أن الدولة التى هى أداة فى أيدى الطبقة الاستغلالية الحاكمة لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل لا مناص من أن يكون هذا المجتمع ديكتاتوريا ولا مناص من أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية. وتعنى الديمقراطية من أسفل أو الديمقراطية ببساطة أدوات النضال التى صار الشعب يمتلكها، والحقوق والحريات التى انتزعها وصار يمارسها، والإطار العام الديمقراطى الذى صار يفرضه على الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها وتنظيمها للمجتمع. وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية من أسفل فى الأحزاب المتعددة المستقلة عن سلطة ونظام ودولة الطبقة الحاكمة، هذه الأحزاب التى تفرض التعددية الحقيقية على البلاد، وتتمثل فى النقابات العمالية والمهنية المستقلة التى تدافع بفعالية عن حقوق وحريات الطبقات الشعبية فلا تمثل نفوذ السلطة الحاكمة على هذه الطبقات، وتتمثل فى مختلف أشكال جمعيات المنتجين الصغار واتحادات المستهلكين، وتتمثل فى الصحافة الحرة التابعة للأحزاب والنقابات ومختلف الجماعات التى تنتمى إلى الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء الريف والمدينة، وتتمثل فى استقلال القضاء والتحقيق الفعلى لكل المطالب العادلة للقضاء الجالس والقضاء الواقف وتمتع المواطنين جميعا بالتقاضى أمام قاضيهم الطبيعى بعيدا عن القضاء الاستثنائى والعسكرى، وتتمثل فى انتزاع مكاسب عينية كبرى مثل التحقيق الفعلى للحد الأدنى العادل للأجور المربوطة بتطور الأسعار وتحسين شروط العمل وبدلات البطالة للعمال ولكل العاملين، ومثل التحقيق الفعلى لمطالب الفلاحين المتعلقة بالجوع إلى الأرض وبالأسعار المجزية وبمختلف صور تطوير نوعية حياة الفلاحين، ومثل التحقيق الفعلى للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة والتأمين الشامل وتطوير المستشفيات والحل الجذرى لمشكلات الأطباء وباقى العاملين فى المجال الطبى والصحى من حيث الأجور وتحسين شروط وأوضاع العمل، وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية من أسفل فى التطوير الجذرى للتعليم بكل مراحله وتحقيق مجانيته الكاملة وإنصاف المعلمين بمرتبات مجزية مربوطة مثل كل أجور العاملين فى البلاد بالأسعار، وتقتضى الديمقراطية من أسفل التحقيق الدستورى والفعلى للمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو المعتقد أو اللون أو الإثنية، وكذلك التحقيق الفعلى لتضمين كل الحقوق والحريات المنتزعة فى الدستور بصياغات واضحة قاطعة حاسمة لا يجرى تقييدها بقوانين، مع إعادة صياغة القوانين كإطار عام يعكس قدرة الديمقراطية من أسفل، عن طريق نضالاتها المتواصلة، على فرض السيادة الفعلية للقانون. وبالطبع فإن مهام خلق وحراسة الديمقراطية من أسفل ضخمة هائلة وهى تحتاج إلى كل طاقات الثورة التى لا ينبغى تبديدها فى سبيل پرلمانات ورئاسات عبثية أصلا ولا طائل تحتها. ومن البديهى أنه بقدر ما يتم النجاح فى إجبار السلطات المعنية الحالية والقادمة على التحقيق الفعلى لمطالب الثورة سيجرى تأمين أن تسير الحياة الطبيعية وكذلك الإنتاج وإعادة البناء بصورة طبيعية جنبا إلى جنب مع تطورات الثورة التى لا تريد الفوضى ولا تعمل على تعطيل الحياة بكل مقتضياتها وضروراتها بل تعمل على إنصاف الشعب من خلال انتزاع حقوقه وحرياته وأدوات نضاله فى سبيل التطلع ليس فقط إلى حياة كريمة بل كذلك إلى تصنيع البلاد وتحديثها على قدم وساق كشرط لإنقاذها من المصير البائس الذى ظلت تتجه إليه، مع العالم الثالث كله، بسرعة مخيفة وللتحقيق الفعلى للاستقلال الذى هو نقيض التبعية الحالية للرأسمالية العالمية.
26 أكتوبر 2011 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18
موجة ثورية جديدة
(19 نوڤمبر 2011)
 
1: تفجرت الموجة الحالية من الثورة صبيحة السبت 19 نوڤمبر 2011 كاحتجاج مباشر على القمع الأمنى المفرط الذى قامت به قوات الأمن المركزى ضد اعتصام صغير لبعض أهالى شهداء الثورة ولبعض مصابيها. وكان ذلك الاعتصام الصغير موجودا قبل مظاهرات قوى الإسلام السياسى وقوى سياسية أخرى فى يوم الجمعة 18 نوڤمبر 2011، على أنه لا توجد صلة بين مظاهرات الجمعة وهذه الموجة الثورية الجديدة. إذ إن الإسلام السياسى بوصفه القوة السياسية الحاسمة فى مظاهرات الجمعة كان يركز على إجراء تعديلات على وثيقة المبادى الدستورية لتقييد الحقوق المطلقة التى يطالب بها المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية لنفسه، ولتوجيه ضربة قاضية لفكرة "مدنية" الدولة فى مصر، ولجعل الوثيقة استرشادية فلا تكون ملزمة للجنة وضع الدستور، إلى جانب مطلب تسليم السلطة للمدنيِّين.
2: وبالطبع فإن تسليم السلطة للمدنيِّين خلال أشهر، بدلا من الجدول الحالى الممتد حتى 2013 والذى تعمل به الطغمة العسكرية (المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية) حاليا، كان الشعار الأبرز فى مظاهرات الجمعة. ويقصد الإسلام السياسى بتسليم السلطة إلى المدنيِّين (فى دولة يريدونها غير مدنية!!!) تسليم السلطة السياسية فى مصر إلى الإسلام السياسى )وأىّ قوى سياسية أخرى قد تضعها إلى جانبه أىّ صيغة "توافقية" فى بداية الأمر؛ على أساس أنه يستطيع أن يتخلص منها فى الوقت المناسب للانفراد بالسلطة). والحقيقة أن هذا هو المضمون الوحيد المستهدف من الإسلام السياسى من ناحية والموضوعى من ناحية أخرى نظرا لميزان القوة بين الإسلام السياسى والقوى السياسية الأخرى فى الوقت الحالى، كما يفهم الإسلام السياسى ميزان القوة الحقيقى حاليا لأنه لا يفهم ولا يريد أن يفهم أن حسابات ميزان القوة بالعامل الوحيد المتمثل فى القوة العددية المباشرة للقوى السياسية تنطوى على مغالطة كبرى بعيدا عن الدينامية الحقيقية للثورة.
3: وتتمثل هذه الدينامية باختصار شديد فى أن الثورة لم يقم الإسلام السياسى بالتمهيد لها ولا بقيادتها ولا بالاستمرار بها فقد مهدت لها وقادتها واستمرت بها قوى أخرى باستثناء أيام قليلة بعد 28 يناير حيث أكدنا بموضوعية غير مرة أن الإخوان المسلمين فى تلك الفترة الوجيزة قوَّوا الثورة وتقوَّوا بالثورة. وقبل ذلك اليوم اتخذ الإسلام السياسى موقف المتفرج أيام 25 و 26 و 27 يناير وسرعان ما هرول إلى المفاوضات مع نظام مبارك قبل تنحيِّه (مع عمر سليمان وغيره) للحصول على الاعتراف والشرعية من نظام مبارك نفسه. وترك الميدان "نهائيا" بمجرّد تنحية مبارك ووقف بعد ذلك موقف معاداة كل نضالات ومبادرات واحتجاجات وأنشطة الثورة من الألف إلى الياء وعمل كاسرا لإضرابات الثورة بصورة كاملة؛ مراهنا على صفقاته مع الطغمة العسكرية متماديا فى افتراءاته ضد قوى الثورة الحقيقية إلى حد وصفها بالعمالة للصهيونية والاستعمار. والحقيقة أن الاعتراف الموضوعى بأن الإسلام السياسى فى تلك الفترة الوجيزة قوَّى الثورة وتقوَّى بالثورة لا يعنى تجاهل خيانة هذا الإسلام السياسى للثورة بجلوسه فى مقعد المتفرج فى الأيام الأولى ثم بخيانته العظمى للثورة من خلال التفاوض قبيل تنحية مبارك وبمعاداة الثورة على طول الخط بعد تنحية مبارك.
4: ويبقى علينا تحليل لماذا قام الإسلام السياسى بتقوية الثورة والتقوِّى بها؟ والإجابة موجودة فى صميم هذه المعادلة فقد قام الإسلام السياسى بتقوية الثورة من أجل وبهدف وعلى أمل التقوِّى بها للحصول على الاعتراف والشرعية؛ وقد فاز بالاعتراف وبالشرعية على السواء، وهنيئا له بذلك! فالهدف من الانضمام القصير جدا إلى فعاليات الثورة من جانب الإسلام السياسى كان عملا انتهازيا مباشرا يستحيل وصفه بأنه كان عملا ثوريا فقد كان بالأحرى عملا معاديا للثورة بدليل التخلى الفورى عنها ثم الوقوف ضدها. ولكن لماذا يتخذ الإسلام السياسى هذا الموقف السلبى من الثورة ضد نظام قام بصورة منهجية بقهرهم واضطهادهم وسحقهم وتعذيبهم وتوجيه أقسى الضربات إليهم منذ 1954 عبر كل الرئاسات التالية: عبد الناصر و السادات و مبارك؛ رغم تعاونٍ فى منتهى الخطورة فى السنوات الأخيرة لعهد السادات بينه وبين الإخوان المسلمين بهدف إحيائهم وتقويتهم والاعتماد على دورهم وعنفهم فى مواجهة قوى المعارضة الديمقراطية والماركسية والناصرية خلال نضالاتها ضد سياسته فى المسألتين الوطنية والديمقراطية فى السبعينات؟ ولماذا كان سلوكهم السياسى فى عهدىْ السادات و مبارك بعيدا تماما عن النضال ضد سياساتهما بصورة فعالة، كما فعلت قوى كثيرة أخرى مثل حركة كفاية و6 أپريل وعمال المحلة وموظفى الضرائب العقارية وقوى وحركات وفئات أخرى متنوعة؟ ولماذا معاداتهم التى لا جدال فيها للثورة الحالية مع نفاق التغنى باسم الثورة ورغم ادعائهم بأنهم هم قبل أىّ قوة أخرى (هامشية فى نظرهم) قادة الثورة والمستمرون بها، ورغم وقاحة مطالبتهم باستلام السلطة باعتبارهم هم وحدهم الثورة مع أنهم لم يفجروها ولم يقودوها ولم يستمروا بها بل تخلوا عنها واتخذوا منها موقف المعاداة على طول الخط وكان سلوكهم فى الشهور التالية للثورة سلوك الذيل للطغمة العسكرية الحاكمة؟
5: ولأن هذا المقال الصغير (الذى يتناول وبإيجاز شديد الموقف الحالى منذ السبت 19 نوڤمبر) لا يفسح مجالا واسعا للمناقشة بصورة وافية لكل هذه الأسئلة حول معاداة الثورة من جانب الإخوان المسلمين والإسلام السياسى رغم المعاداة الوحشية من جانب النظام المصرى لهم طوال عقود وعلى مر عهود رؤساء الجمهورية الثلاثة السابقين، فسأكتفى بإشارات قليلة. وإذا أخذنا الإخوان المسلمين بوصفهم القوة السياسية الأنضج والأبرز بين قوى الإسلام السياسى نموذجا للإسلام السياسى فإن موقفهم السلبى من المعارضة الفعالة لنظام مبارك بالذات قبل الثورة ثم خيانة الثورة ومعاداتها لحساب النظام- الذى اعتقدوا أن مهادنته وعقد الصفقات معه هما سبيلهم إلى السيطرة على السلطة التى يمكن القول إن القفز عليها يمثل أسمى أمانيهم (بالطبع بعد الموت فى سبيل الله)- يمكن إرجاعه قبل كل شيء إلى العامل الأساسى المتمثل فى العامل الطبقى.
 6: فهؤلاء الإسلاميون السياسيون كجماعات أو أحزاب أو حركات يضمون فى صفوفهم ككل حزب فى العالم أفرادا من كل طبقات المجتمع وتتكون قوتهم العضوية العددية الأساسية من أبناء الطبقات الشعبية غير أن القيادات والزعامات التى تكونت بصورة تاريخية تتميز بانتماءيْن أساسيَّيْن: انتماء طبقى وانتماء أيديولوچى. والانتماء الطبقى الذى يحدد طبيعة وهوية الإخوان المسلمين ويجعلهم ممثلين سياسيِّين لطبقة بعينها هو انتماؤهم إلى الطبقة الرأسمالية العليا فى مصر. ذلك أنهم ينتمون عضويا إلى قطاع لا يستهان به من الطبقة الرأسمالية المالكة المذكورة (وينطبق الشيء ذاته على أقسام أخرى من الإسلام السياسى). أىْ أن الإخوان المسلمين كجماعة وكأحزاب ممثلون للرأسمالية الكبيرة فى البلاد بحكم انتماء قطاع كبير من الطبقة المالكة الكبرى فى مصر إلى جماعات وحركات وأحزاب الإسلام السياسى وإلى أيديولوچياهم الدينية السياسية الأساسية مهما تنوعت بعض جوانبها بتنوع هذه الجماعات والحركات والأحزاب. وبالطبع فإن التمثيل الطبقى لحزب أو جماعة أو حركة لا يُقاس بمجموع الطبقات التى تشارك فى عضويتها وأنشطتها ونضالاتها بل يقاس بالقوة الاجتماعية المحركة الأساسية من ورائها، وعلى سبيل المثال فإن الحزبين السياسيين الكبيرين فى الولايات المتحدة ينتميان إلى نفس الطبقة الحاكمة الواحدة الوحيدة ولكن القوة العددية والانتخابية لكل منهما تأتى من الطبقة العاملة والطبقات الشعبية فى أمريكا. كذلك فإن وجود الحزب فى المعارضة لا يعنى أنه خرج من الطبقة أو الدولة أو النظام بل ينتمى الحزب الحاكم والحزب المعارض المنتميان إلى الطبقة المالكة إلى نفس الطبقة ونفس الدولة ونفس النظام. والاستنتاج هو أن الإسلام السياسى بحكم هويته الطبقية الرأسمالية، وبحكم كونه من الناحية الاجتماعية العضوية مع النظام الرأسمالى حتى النخاع، لا يمكن أن يمثل ثورة ضد هذه الطبقة ودولتها ونظامها بل يكون موقفه الطبيعى هو امتشاق السلاح ضد الثورة وقواها، فالإسلام السياسى إذن حركة رأسمالية معادية للثورة، تماما كما هو فى السعودية السنية الوهابية أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشيعية الاثنى عشرية أو تركيا الإسلامية ذات الوجه العلمانى لأسباب تاريخية معروفة، رغم التآكل المتواصل لهذا الوجه العلمانى الأتاتوركى، ولأسباب ظرفية تتعلق بعلاقاتها الغربية المطلوب تطويرها عضويا.
7: فماذا عن الأيديولوچيا الدينية السياسية لدى الإسلام السياسى؟ هل تعادى هذه الأيديولوچيا النظام الرأسمالى والرأسمالية؟ بالطبع لا. ذلك أنه لا يوجد فى الإسلام (كما لا يوجد فى أىّ دين) ما يتعارض مع النظام الاجتماعى الطبقى من إقطاع أو رأسمالية أو الاستغلال الطبقى بالمعنى الاجتماعى-الاقتصادى المحدَّد (باستثناء الفضائل ومكارم الأخلاق والبر والصدقة والإحسان والزكاة وهذه الأشياء موجودة على مر الزمان فى كل الأديان بنفس الأسماء أحيانا وبأسماء مختلفة أحيانا أخرى). وبالتالى فإن أيديولوچيا الإسلام السياسى ليست ضد الرأسمالية وليست ضد الرأسمالية العالمية، وباعتبارها أيديولوچيا دينية سياسية تنتشر فى العالم الثالث فإنها ليست ضد الرأسمالية التابعة (وهذا ما تُثْبته مختلف تجارب حكم الإسلام السياسى فى بلدان عديدة، وما تُثْبته كذلك اتصالات وعلاقات إسلامنا السياسى مع القوى الاستعمارية). والاستنتاج هنا هو أن الأيديولوچيا الدينية السياسية لدى الإسلام السياسى لا تمثل أيديولوچيا ثورية ضد الرأسمالية أو ضد نظام رأسمالى أو ضد الرأسمالية العالمية والتبعية الرأسمالية فهى بالأحرى أيديولوچيا ثورة مضادة لكل ثورة ضد الرأسمالية بالذات فهى قدس أقداسها وأسمى أمانيها.
8: وإذا كانت الهوية الطبقية الرأسمالية والأيديولوچيا الإسلامية السياسية تبتعدان بالإسلام السياسى عن أىّ ثورة ضد الرأسمالية، يبقى أن نتساءل عن السر وراء إضاعتها لفرصة ربما كانت ذهبية وتستحق المحاولة: التصعيد ضد المجلس العسكرى فور تنحية مبارك فى سياق خوض معركة كبرى فى سبيل إقامة جمهورية إسلامية اعتمادا على القوة العددية والتنظيمية للإسلام السياسى وعلى احتلال عشرات الملايين من أبناء وبنات الشعب المصرى للميادين والشوارع ولكل مجال نضالى فى مجرى وفى حماية ثورة شعبية كبرى، بدلا من التفاوض مع النظام للحصول على ما دون ذلك بما لا يقاس؟ والحقيقة باختصار أن الثورة فاجأت الإخوان المسلمين وباقى قوى الإسلام السياسى كما فاجأت الجميع وربما أكثر من الجميع. لماذا أكثر من الجميع؟ لأن أملا غريزيا ما كان يداعب كل من ناضلوا ببسالة ضد نظام مبارك بتمديده وتوريثه واستبداده وفساده وبمجمل سياساته وممارساته، فعندما كانوا ينادون بسقوط مبارك منذ سنوات كان نضالهم يفتح أمامهم أفقا أرحب ويمنحهم خيالا سياسيا أوسع. أما الإخوان المسلمون فإنهم لم يناضلوا وبالتالى لم يحلموا! وكما سبق القول، فاجأت الثورة الإخوان المسلمين كما فاجأت الجميع وربما أكثر من الجميع. وكان هناك عامل آخر ردعهم عن التفكير فى مصلحتهم فى تطوير الثورة لتحقيق أهدافهم وجمهوريتهم الإسلامية وليس لتحقيق أهداف الشعب وثورته: إنه نفس العامل الذى يفسر تقاعسهم عن النضال الحقيقى فى سبيل مصالحهم ضد نظام مبارك وعقد صفقات معه رغم الضربات المتلاحقة التى ظل النظام يوجهها ضدهم وهو الذى يفسر وقوفهم مكتوفى الأيدى فى انتخابات مجلس الشعب فى أواخر 2010 بعد التنكيل البشع بهم. هذا العامل يتمثل فى عقدة الخوف الدائم من استهدافهم من جانب النظام بصورة أكبر من كل ما شهدوه وكان من المنطقى أن كل هذا أصاب قلبهم وعقلهم وخيالهم السياسى بالشلل؛ وهذا متوقع من قوة سياسية تم التنكيل بها على مدى عقود رغم أشهر العسل القليلة ورغم الصفقات المحدودة. وكان يُقوِّى من تأثير هذا العامل خوفهم الطبقى من الثورة الشعبية واحتمالات تطورها ضد الطبقة بصورة تضع نهاية للرأسمالية ذاتها متجاوزة الحدود المنطقية لثورة سياسية بما يتفق مع فهمهم البائس للتاريخ. وما تزال هذه العقدة تحكم سلوكهم السياسى.
9: ونعود إلى موضوعنا الأصلى (وأعتذر عن إطالتى الحديث فى موضوع الإسلام السياسى فى الفقرات السابقة). وقد تفجرت الموجة الثورية الجديدة احتجاجا على القمع الأمنى المفرط الذى ارتكبته قوات الأمن المركزى ضد اعتصام صغير لبعض أهالى شهداء الثورة ولبعض مصابيها فى ميدان التحرير. فهى إذن موجة ثورية فى سبيل إقرار واحترام حقوق وممارسات التظاهر والاعتصام والإضراب دون أىّ تدخل لقمعها من جانب الدولة. ومن جديد تُثْبِت القوى الحقيقية للثورة المصرية إخلاصها الذى لا يتزحزح للثورة وأهدافها. ذلك أن الثورة وضعت الديمقراطية فى مكانة رفيعة بين أهدافها وصارت الآن كما فعلت فى السابق تدافع بكل بسالة عن حق المصريِّين فى الاعتصام على خلفية قمع اعتصام أهالى الشهداء والمصابين.
10: وبصورة منطقية لم يقف الاحتجاج عند حدود حرية وحق و"ممارسة" الاعتصام بل امتدّ ليشمل كل أنواع الاحتجاجات من تظاهرات واعتصامات وإضرابات ومسيرات ووقفات احتجاجية وغير ذلك. بل امتدّ إلى أهداف أخرى متنوعة للثورة ضد حكم المجلس العسكرى وضد حكومته وضد سياسات وممارسات تشمل كل قضايا الثورة والثورة المضادة. ومن هنا شعارات رحيل الحكم العسكرى وحكومته لصالح تسليم السلطة إلى مجلس رئاسى مدنى وتشكيل حكومة إنقاذ وطنى وغير ذلك. وكما امتدت شعارات الاحتجاجات لتشمل العديد من قضايا وأهداف الثورة، امتدت المظاهرات والمسيرات ذاتها إلى تقريبا كل محافظات مصر من أقصاها إلى أقصاها، واستمر اعتصام التحرير، رغم برد الشتاء خاصةً بعد قيام الدولة ممثلة فى قوات الأمن المركزى والشرطة العسكرية بإحراق المخيمات وإحراق الدراجات البخارية الموضوعة تحت خدمة المعتصمين. ومنذ الساعات الأولى تعامل المجلس العسكرى وحكومته بقوات الأمن المركزى والشرطة العسكرية بوحشية كان حصادها المر إلى الآن حوالى عشرين قتيلا وحوالى ألفين من المصابين حسب بعض الروايات. ويعنى هذا مواجهة احتجاجٍ على استخدام القمع المفرط ضد اعتصام صغير ﻟ "أهالى شهداء ومصابين" بقمع وحشى ضد المحتجين على القمع. ولأن الاحتجاج الجديد تظاهُر واسع النطاق يعمّ البلاد واعتصام كبير فى قلب العاصمة فقد تحوَّل إلى موجة ثورية حقيقية لانتزاع حريات وحقوق وممارسات التظاهر والاعتصام والإضراب وهى الأسلحة الضرورية لكل ديمقراطية من أسفل هى الهدف الموضوعى الكبير للثورة قبل وبعد أن تستعد للتقدم إلى أهداف ثورية كبيرة أخرى.
11: واللافت للنظر فى هذه المعركة الدموية الجديدة ضد الثورة هو هذا الاستخدام المفرط وغير المبرر للعنف ضد اعتصام صغير يمكن اعتباره حالة سياسية وإنسانية فى وقت واحد. فلماذا العنف دون ضرورة دون مبرر مع اعتصام لن يمثل بحال من الأحوال تهديدا ضد الطغمة العسكرية وحكومتها؟ وهل فات عليهما أن مصر تعيش الآن ثورة شعبية كبرى وأن الثوار لم يعودوا يقفون مكتوفى الأيدى عند اعتداء جسيم ضد عدد قليل من ضحايا الثورة خاصةً وأن ملفات شهداء الثورة مفتوحة ما تزال ويقوم المجلس بتدبير تأجيلات متواصلة لمحاكمة القتلة؟ ولغرابة الموقف حامت حوله شكوك كثيرة محيِّرة وحائرة وتُبودلت الاتهامات حول مَنْ الفاعل الأصلى وراء الهجوم على الاعتصام الصغير- باعتبار أنه يمكن أن يؤدى إلى ما أدى إليه بالفعل- على أمل أن تعطّل ردود الفعل الجماهيرية الانتخابات الپرلمانية التى صارت على الأبواب. وفى خضم احتدام الشكوك والاتهامات يمكن بالطبع أن يُنْسَى البطل الحقيقى وهو الغباء السياسى، غباء المجلس العسكرى وغباء حكومته. واستمر الغباء ذاته بالهجوم الأمنى العسكرى الشرس على الموجة الثورية الجديدة. وكيف لا نتحدث عن الغباء قبل كل شيء عندما نجد الحكم العسكرى (هذا التلميذ البليد الذى هو من ناحية أخرى فى سنة أولى سياسة!) لا يستطيع حساب رد فعل الثوار والجماهير على قمع أهالى الشهداء بالذات، ثم لا يستطيع بعد ذلك، أىْ حتى بعد أن رأى رد الفعل الجماهيرى الواسع النطاق، حساب النتائج المنطقية للهجوم الأشد شراسة على الموجة الثورية التى أطلقها الغباء الأول!
12: فبعد محاولات طويلة لإعادة بناء ثقة الشرطة بنفسها وإعادة الثقة بين الشعب والشرطة ينسف الغباء فى لحظات النتائج التافهة على كل حال لهذه المحاولات. وإذا كان من الممكن أن يشك بعضهم فى أن المجلس العسكرى يتعمد استخدام الشرطة على هذا النحو لإضعافها بعد فترة طويلة من اعتماد نظام مبارك عليها على حساب الجيش باعتبار أن الشرطة هى التى كانت تواجه الإرهاب، فكيف نفهم ألَّا تكتفى الطغمة العسكرية بذلك فتزجّ الجيش والشرطة العسكرية فى مثل هذه المهمة؟! لقد تبعثرت الشرطة بعد هزيمتها فى 28 يناير 2011 وفقدت الثقة بنفسها وفقدت بصورة شاملة ونهائية ثقة لم تكن موجودة أصلا بينها وبين الشعب، وبعد عجز الشرطة عن حسم مستحيل لهذه المعركة الجديدة فإنها تصير فى موقف لا تُحْسَد عليه؛ فكيف نفهم أن يعمد المجلس العسكرى إلى تعريض الجيش أو الشرطة العسكرية لهزيمة مشابهة ولفقدان نهائى لأىّ بقية ثقة بين الجيش والشعب؛ خاصةً وهو يرى فى ليبيا وسوريا واليمن أن هزيمة الجيوش محتومة ولايمكن تفاديها عند الصدام الواسع النطاق مع شعب أعزل فقد انتصرت الشعوب فى الثورات على جيوش تضربها بكل قوة، وهذا بمثابة قانون من قوانين الثورات الشعبية. وبالطبع فإن مثل هذا التطور يمكن أن يؤدى إلى ما هو أخطر فالجيش يمثل المؤسسة الأمنية المتماسكة الوحيدة التى ما تزال قائمة بعد هزيمة الشرطة وإذا انهار هذا التماسك فإن مصر ستواجه وضعا جديدا بالغ الخطورة وإذا كان المجلس العسكرى لا يهتم كما ينبغى بمصير مصر فكيف نفهم أن لا يهتم بمصيره هو نفسه ومصير طبقته الحاكمة وإذا كان على الشعب أن يتولى أمر أمنه فى مثل هذا الظرف الخطير الذى لا يرغب فيه أحد فكيف سيتدبِّر المجلس العسكرى أمره وأمر طبقته المالكة؟ لا يفسِّر كل هذه الحماقات سوى الغباء السياسى وغياب العقل السياسى (والعياذ بالله)!
13: والحقيقة أنه لا مصلحة لأحد من المشاركين فى العمليات الانتخابية الممتدة القادمة فى تعطيلها: لا المجلس ولا الإسلام السياسى ولا الليبرالية اليمينية المتمثلة بوجه خاص فى أحزابها الكبيرة ولا الحزب الوطنى الذى يسيطر رجاله على كل شيء فى مصر فلم يتحول إلى فلول بل إلى أحزاب متعددة قاعدتها الطبقية هى نفس الطبقة الحاكمة القديمة باستثناء القطاعات التى تنتمى إلى الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية. فكلها تريد أن تسارع وبكل صفاقة وجه إلى جنى ثمار ثورة لم تكن فاعلة حقيقية فيها، حتى لا يقطع عليها الطريق ازدياد قوة ووعى ونضج وتسييس قوى الثورة الحقيقية. فلا مصلحة لأحد فى افتعال أزمات بهدف تعطيل الثورة كما أن الغرب الاستعمارى (وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية) يتعجل بدوره- تفاديا لنفس المخاوف- استكمال المخطط الجارى تنفيذه والذى كان طرفا فى تحديد خطوطه العريضة وتفاصيله الدقيقة.
14: هل ستكون الموجة الثورية الجديدة قصيرة أم طويلة؟ والحقيقة أن المدى الزمنى لهذه الموجة سيتوقف على استجابة حكام الأمر الواقع لمطالبها التى منها التعهد بالالتزام الكامل بإطلاق حريات وحقوق وممارسات التظاهر والاعتصام والإضراب وكل احتجاجات كل فئات الشعب والامتناع عن قمعها أمنيا وإعلاميا وإلغاء كل القيود القانونية التى يحفل بها القانون المصرى وحتى الدستور المصرى المعطَّل ومنها القوانين والقرارات التى أصدرها المجلس العسكرى وحكوماته ومنها قانون تجريم ما يسمى بالاحتجاجات الفئوية التى لا تعنى سوى حقوق التظاهر والاعتصام والإضراب وكل احتجاجات فئات الشعب فى مواقع العمل أىْ الطبقة العاملة بالذات بكل قطاعاتها. وهناك بالطبع مطلب حكومة إنقاذ وطنى ومطلب موعد محدَّد يقوم فيه المجلس بتسليم السلطة إلى حكم مدنى ويرتبط به مطلب تحديد موعد لانتخاب رئيس للجمهورية فى موعد لا يتجاوز الربيع القادم. وبالنظر إلى حجم وعمق الاحتجاجات الحالية ودينامية مطالبها وأهدافها يمكن القول إنه بدون تقديم تنازلات مُقْنِعة للمعتصمين من جانب المجلس العسكرى لن يتراجع الثوار عن الاعتصام وكافة أشكال الاحتجاج. ومن ناحية أخرى يجد المجلس العسكرى نفسه بين شقىْ رحى: من ناحية رغبته الأكيدة فى إجراء الانتخابات وهذا ما تلقى عليه الموجة الثورية الحالية وبالأخص تطورها المحتمل ظلالا كثيفة ومن ناحية أخرى مخاوفه من العداء الجماهيرى الشديد والواسع النطاق والمتصاعد ضد وزارة الداخلية وضد المجلس العسكرى الأمر الذى يؤدى إلى مواجهة عنف النظام الحالى بعنف بالغ كما يدل الإصرار على اقتحام وزارة الداخلية وعلى مقارها فى المحافظات وعلى إسقاط المجلس العسكرى والمشير، وبالتالى احتمال تقديم تنازلات واضحة من جانب هذا المجلس.
15: ما هى احتمالات النجاح والفشل فى تحقيق أهداف هذه الموجة الثورية الجديدة؟ وهناك بالطبع مطالب تحتاج إلى التحقيق الفورى (ربما تغيير وزارى ربما يتم التفاوض عليه) ومطالب أخرى تكتفى بالوعود والعهود وأغلظ الأيمان من جانب المجلس العسكرى (مثل تسليم السلطة للمدنيِّين وانتخاب عاجل لرئيس الجمهورية) ومن الجلى أن سخاء الوعود فى مثل هذه الفترة لا يعنى احترامها من جانب المجلس العسكرى فى المستقبل. ولكنْ ماذا يعنى تسليم السلطة للمدنيِّين؟
16: وبالطبع فإن قوى الإسلام السياسى، التى ترى أن الثورة ثورتها وأن جوائزها ينبغى أن تذهب إليها، وترى أنها القوة المدنية رغم إصرارها على رفض فكرة الدولة المدنية وعلى ضرورة حذف كلمة "المدنية" من وثيقة السلمى، تطالب بهذا التسليم للسلطة وتلحّ عليه، بل وتستعد لحكم وإدارة البلاد والعباد كما يعلن الكثير من الناطقين المتنوعين باسم الإسلام السياسى. وبالطبع فإن هذه القوى ما تزال حتى بعد "مليونيتها" (الجمعة 18 نوڤمبر) تراهن على الانتخابات التى يقوم المجلس بإجرائها للوصول إلى الأغلبية وبالتالى إلى الحكم وما تزال تتخذ موقفا معاديا للنضالات الثورية كما تفعل الآن ضد الموجة الثورية الراهنة التى تهاجمها رغم التصريحات المنافقة التى تدين استخدام العنف ضد المظاهرات والاعتصامات.
17: وتنطوى فكرة تسليم الحكم للمدنيِّين على جملة من المفارقات. فالقوى الثورية الواعية التى تجد نفسها بين مطرقة المجلس العسكرى وأحزاب "الحزب الوطنى" وأحزاب الليبرالية اليمينية (الوفد والمصريِّين الأحرار والحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى) من ناحية وسندان أحزاب وحركات وجماعات قوى الإسلام السياسى من ناحية أخرى، أو بين هاتين المطرقتين الثقيلتين فى الحقيقة، تنادى منذ البداية بالمجلس الانتقالى المدنى وتسليمه السلطة السياسية فى البلاد غير أن هذه القوى الثورية الواعية تنادى بهذا كشعار دعائىّ لإدراكها الواضح أن التوافق بين القوى السياسية الموجودة فى الساحة المصرية على مجلس انتقالى أو غيره مستحيل من المستحيلات. لماذا؟ لأن قوى الإسلام السياسى ستتخلص عند أول منعطف من القوى الأخرى التى تتوافق معها (ولم يكن الإسلام السياسى مستعدا على كل حال للتوافق مع أحد باستثناء المجلس العسكرى الذى راهنت عليه فى الفترة السابقة فى سياق الخداع المتبادل بينهما).
18: وما تزال المعادلة كما هى باستثناء أن فجوة قد ظهرت واتسعت بين الفريقين اللذين يخشى كل منهما سيطرة الآخر وخداعه الإستراتيچى. ورغم الموقف السلبى الذى ظل يتخذه الإسلام السياسى على طول الخط إزاء الاحتجاجات الجماهيرية على المجلس العسكرى وسياساته شهدنا عددا من "المليونيات" التى نظمها الإسلام السياسى ضد نفس المجلس العسكرى المقدَّس (من دون الله فى نظرهم) سابقا. ومع اتساع الخرق على الراقع كما يقولون بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى يرتفع صوت المبشرين بالتوافق بين القوى الحقيقية للثورة والإسلام السياسى فى مواجهة المجلس العسكرى. غير أن الأهداف المتعادية لا يمكن أن تكون أساسا للتوافق، ولا يجوز مطلقا التحالف مع الإسلام السياسى ضد المجلس العسكرى ولا مع المجلس العسكرى ضد الإسلام السياسى؛ بل يجب النضال ضدهما وضد القطاعات الأخرى للثورة المضادة.
19: فكيف يبقى لقوى الثورة مكان لأمل؟ والحقيقة أن "المعادلات" الماثلة فى صميم قلب الثورة المصرية وحولها تفتح مجالا رحبا للأمل. هناك أولا واقع أن القوى الديمقراطية والوطنية واليسارية والليبرالية اليسارية التى مهدت للثورة وأطلقت شرارتها وقادت قواها الحية واستمرت بالثورة من خلال موجاتها ومبادراتها ونضالاتها المتعددة تملك هذه الميزة، ميزة دورها فى الثورة، وهى بوقوفها الحازم مع نضالات مختلف طبقات وفئات الشعب صارت تملك قلب الشعب بينما تخسر قوى الثورة المضادة (المجلس العسكرى والإسلام السياسى والحزب الوطنى والليبرالية اليمينية) قلب الشعب. سيقول قائل: ولكن قطاعات من الشعب تعطلت مصالحها وأسباب عيشها بسبب الثورة أصابها الضيق الشديد بالثورة؛ وهذا صحيح، غير أن من الصحيح أيضا أن الثوار الحقيقيِّين يقفون دائما موقف التأييد الكامل إزاء النضالات المسماة بالاحتجاجات الفئوية فيكسبون قلب هؤلاء المحتجين فى الوقت الذى وقف فيه الإسلام السياسى موقف المعاداة والشجب والإدانة إزاء تلك "الاحتجاجات الفئوية" وعمل ككاسر إضراب ضدها على طول الخط فظل يخسر على طول الخط أيضا قلب هؤلاء المحتجين. ولكنْ كم عدد هؤلاء المحتجين وما نوعيتهم وما احتمال استمرار احتجاجاتهم؟ هذا سؤال مهم، والإجابة: إنهم يُعَدُّون بمئات الآلاف والملايين؛ ونوعيتهم أنهم فى المحل الأول من أبناء الطبقة العاملة وبقية العاملين الذين تتميز نضالاتهم الإضرابية بالقدرة على إصابة الإنتاج والخدمات بالشلل وبالتالى يُحْسَب حسابهم بكل جدية، والمدى الزمنى لنضالاتهم مفتوح تماما، لماذا؟ لأن ثورتهم الطبقية نابعة من أوضاعهم الاجتماعية الاقتصادية وفى زمن الثورة ستواصل الطبقات العاملة والشعبية والفقيرة نضالاتها واحتجاجاتها إلى أن تحقق لنفسها مستويات معيشية توفر حياة كريمة وحريات سياسية ونقابية تسمح لها بالحركة المستقلة للحفاظ عل مكاسبها المحتملة وحراستها والدفاع عنها وتوسيعها (وسأضرب هنا مثلا بسيطا يوضح طبيعة زمن الثورة: كان مواطنو دمياط يضيقون ذرعا بمصنع أجريوم وكانوا يحتجون أيضا وكان مبارك قد وعدهم بنقله- وهو مصنع يمكن أن يؤدى انفجاره إلى كارثة وقد انفجر مصنع مماثل فى 1984 فى مدينة بوپال فى الهند فقتل آلافا وأصاب آلافا أخرى بعاهات خطيرة وما تزال آثاره متواصلة- غير أن احتجاجات مواطنى دمياط وصلت فى زمن الثورة بالذات إلى ثورة حقيقية فى دمياط!). وباختصار فإن قوى الثورة الحقيقية لايمكن فصلها عن قوى ستناضل حتى النهاية من أجل مصالحها الحيوية وبالتالى ينبغى النظر إلى قوى الثورة على أنها قوة كبيرة حقيقية، ويكفى أن هذه القوى أثبتت حيوية ودينامية هائلتين طوال الفترة السابقة؛ ومن إنجازات موجة 8 يوليو الثورية إجبار المجلس العسكرى على وضع مبارك فى القفص متَّهَما بقتل أبناء وبنات "شعبه".
20: وهناك ثانيا تناقضات حقيقية حادة بين قوى الثورة المضادة: بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى، بين هذا الأخير وبين الحزب الوطنى، وكذلك بينه وبين الليبرالية اليمينية، وبالطبع وبصورة أقل بين الحزب الوطنى وأحزاب الليبرالية اليمينية، وهناك تناقضات فى صفوف الإسلام السياسى ذاته وهى قابلة للانفجار، أما تناقض قوى الثورة مع قوى الثورة المضادة فهو عدائى بطبيعة الحال. وعلى قوى الثورة بالطبع أن تأخذ فى اعتبارها تناقضات قوى الثورة المضادة فيما بينها وأن تستفيد بهذه التناقضات دون أن تتورط فى التحالف مع أىّ قوة منها.
21: وهناك معادلات مهمة أخرى فى صميم الثورة أو تحيط بها ونشير إليها باختصار لكى نحسب حساب الفرص التى أمام الثورة رغم المخاوف الكبيرة: عندما قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بانقلابه العسكرى وبتنحية مبارك كان من الواضح أنه، بعيدا عن أسطورة حماية الثورة والشعب، يعمل على حماية النظام الرأسمالى والطبقة الرأسمالية بدون مبارك، إدراكا منه بأن مواجهة عسكرية لتلك الثورة الشعبية الهائلة ستكون خاسرة (وهذا فى الحقيقة هو درس كل الثورات الشعبية الناجحة فى العالم الثالث فقد نجحت فيما كان الجيش يضربها بكل قوته وهذا ما تُثْبِتُه من جديد ثورات ليبيا وسوريا واليمن). وكان هذا يعنى أن الثورة والثورة المضادة فى مصر صارتا موضوعتيْن فى مسار صراع طويل مفتوح تعمل فيه الثورة المضادة على التصفية التدريجية للثورة وتعمل فيه الثورة على الاستفادة من هذا الطابع التدريجى متفادية ويلات "المعجنة" الليبية أو السورية أو اليمنية أىْ هذه المرحلة أو تلك من مراحل حرب أهلية فى كل هذه الحالات، والاستفادة بزمن مفتوح نسبيا تنضج وتنمو فيه قواها من خلال المعارك المتواصلة التى لا يمكن تأجيلها لأن فى تأجيلها موت الثورة. وصار المجلس العسكرى موزَّعا بين ضرورة الوصول بسرعة إلى استقرار ما وضرورة المسار التدريجى الذى تحتمه ضرورة تفادى الحرب الأهلية التى يمكن أن تعصف بالنظام الرأسمالى بكامله، فيما أخذ الإسلام السياسى يدفع التطورات فى اتجاه سرعة وصوله إلى السلطة ليتولى بنفسه مسار التصفية التدريجية للثورة. وبالتالى فإن مصلحة الثورة تتمثل فى استمرار نضالاته بلا هوادة مع الاستفادة بالطابع التدريجى لتطور الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة، وتتناقض مصلحة الثورة بالتالى مع إستراتيچية المجلس العسكرى ومع إستراتيچية الإسلام السياسى على السواء.
22: ويتعزز هذا الطابع التدريجى للصراع بمشهد التجربة المفزعة للحرب الأهلية فى ليبيا وسوريا واليمن رغم اختلاف مراحلها فى هذه البلدان، بالإضافة إلى موقف الغرب وحتى العرب ضد مثل هذا التطور. وينطوى هذا الوضع بمختلف معادلاته على حماية اضطرارية للثورة الوليدة. وهنا نعود إلى مشكلة تسليم السلطة لأن القضية العويصة هى مَنْ الذى سوف يستلمها من الناحية الفعلية. وكما يقولون لا خيار فى الشر، والشر الذى ينطوى عليه نقل السلطة إلى الحزب الوطنى أو الإسلام السياسى أو الليبرالية اليمينية لا يختلف عن الشر الذى ينطوى عليه بقاء السلطة فى أيدى المجلس العسكرى. غير أن هذا قد ينطوى على تجاهل أن القوى "المدنية" ستكون متنوعة فى البداية على الأقل حيث ستتقاسم السلطة فى هذه الحالة أحزاب الإسلام السياسى وأحزاب الحزب الوطنى وأحزاب الليبرالية اليمينية، وفى التنوع والاختلاف رحمة حتى وإنْ كانت كلها من قوى الثورة المضادة. غير أن هذه "التركيبة" ستكون فى البداية فقط وفى كل الأحوال ستكون من الناحية العملية تحت السيطرة الفعلية للمجلس من وراء الكواليس وبهذا سيكون نقل السلطة بلا محتوى حقيقى. ولا يبقى والحالة هذه سوى التفكير فى مدى جدية انتزاع قوى الثورة الحقيقية للسلطة رغم كثرة أعدائها، وأعتقد أن الإجابة من جديد هى أن يظل نقل السلطة إلى المدنيِّين فى نطاق الشعارات الدعائية التى تحتاج إلى زمن يشتد فيها عود قوى الثورة فتقوى عدديا وتتبلور أيديولوچيًّا وسياسيا وتتماسك تنظيميا، وهى أشياء يزداد الأمل فيها مع تطوُّر الثورة.
23: على أننا الآن أمام موجة ثورية حقيقية، ويتسع نطاقها ويزداد عمقها بسرعة هائلة، وإذا كانت قد تفجرت كرد فعل مباشر على قمع اعتصام صغير لأهالى شهداء الثورة ومصابيها فإن الإطار العام للنضال الثورى يمنحها عمقا هائلا لتنتقل إلى قضايا أخرى من قضايا الثورة ولتفجِّر نضالات ثورية أخرى ولتطرح شعارات جديدة. وأعتقد أن هذه الموجة الثورية الجديدة يمكن أن تفرض أشياء بالغة الأهمية منها تجريم القمع الأمنى والإعلامى للمظاهرات والاعتصامات والإضرابات وكافة أنواع الاحتجاجات، وتشكيل حكومة إنقاذ وطنى، ووضع حد للحِيَل القانونية لتأجيل محاكمة مبارك للعودة به وبرجاله إلى القفص وسرعة محاكمتهم أمام محكمة ثورية تحكم وتأمر بالتنفيذ العاجل، وإلغاء الانتخابات الپرلمانية والرئاسية، وانتخاب لجنة تأسيسية لإعداد دستور ديمقراطى حقا فى سبيل إقامة جمهورية پرلمانية تحرسها وتحميها وتطورها ديمقراطية شعبية حقيقية من أسفل.
21 نوڤمبر 2011
 
 
19
مطالب وأهداف
الموجة الثورية الراهنة
 
قيل على سبيل التندُّر إن الفضل يرجع إلى مبارك فى إشعال الثورة الشعبية الراهنة المستمرة منذ 25 يناير 2011، ويمكن القول على سبيل التندُّر أيضا إن المجلس العسكرى، الذى اغتصب السلطة السياسية فى مصر استنادا إلى شرعية الانقلاب العسكرى وتنحية مبارك، يرجع إليه الفضل فى إشعال الموجة الراهنة للثورة، منذ 19 نوڤمبر 2011. والواقع الفعلى هو أن الجوع المفزع إلى المال والسلطة هو الذى دفع ويدفع كل الطبقات الرأسمالية والتابعة الحاكمة وسلطاتها السياسية فى كل بلدان العالم إلى تجريف كل أساس لحياة حرة كريمة للبشر، الأمر الذى أشعل ويشعل حركات واسعة وعميقة معادية للرأسمالية للشعوب فى مراكز الرأسمالية وفى مركزها الرئيسى فى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن امتد إليها وألهمها تأثير الدومينو القادم من المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، أىْ العالم الثالث فى الوقت الحاضر، ومن البلدان العربية على وجه الخصوص. وهنا فى بلداننا العربية بالذات شهدنا ونشهد أقصى حالات الوحشية البربرية الضارية فى قمع ثورات الربيع العربى كما يقال. وقد رأينا كيف تفجرت الموجة الراهنة للثورة المصرية كرد فعل ثورى (فى زمن الثورة هذا) على استخدام القوة المفرطة فى قمع اعتصام صغير لأهالى شهداء الثورة ومصابيها فى ميدان التحرير، وكيف تطورت الاحتجاجات التى شملت كل محافظات مصر إلى موجة ثورية ضخمة وعميقة، وكيف كان المجلس العسكرى ينتقل من غباء إلى غباء فى تعامله مع الشعب فى زمن لم يدرك فيه بعد أنه زمن ثورة شعبية كبرى، وكيف استخدم الشرطة والجيش ونظم مذبحة راح ضحيها عشرات الشهداء الجدد وأكثر من ألفيْن من الجرحى إلى الآن، وكيف يواجه شباب مصر ونساؤها ورجالها الشرطة والجيش ببسالة وعناد وبشعور بقمة الكرامة فى مواجهة البطش الأعمى، وكيف ظهر المشير على الشاشات فوق جثث الشهداء وفوق جراح المصابين وبعد مطالبات عنيدة من الشعب ليتَّهم الثوار ومجهولين بالمسئولية عن هذه التطورات لجرّ "ثورته" هو (أىْ انقلابه فى الحقيقة) إلى الوراء، ولم يقدم شيئا، أو قدم أشياء تافهة، فوعد باحترام حق التظاهر والاعتصام "بما يتفق مع القانون" (وما زالت المذبحة مستمرة رغم الوعد الكاذب)، وتحدى الثورة بربط استعداد المجلس العسكرى للرحيل باستفتاء يشرف عليه هذا المجلس ذاته (وكأن الاحتجاجات الواسعة الحالية والسابقة ضد المجلس العسكرى ليست أقوى من كل استفتاء)، كما ألقى فى وجه الثوار بقبول استقالة حكومة عصام شرف على أن تقوم بتسيير أعمالها إلى حين تشكيل المجلس لحكومة جديدة، وتتواتر الأنباء عن احتمال استمرار حكومة عصام شرف خلال المرحلة الأولى للانتخابات الپرلمانية، وقال إن "المجلس الأعلى" قرر أن يتم إجراء الانتخابات فى "توقيتاتها" كما قال، مع تقديم انتخابات رئاسة الجمهورية بحيث يقوم المجلس بتسليم السلطة للرئيس المنتخب "المنتظر" وعودته إلى ثكناته التى يتحرق شوقا إليها لحماية "أمن" مصر!!!! ومن الجلىّ أن المجلس لم ينتبه كعادته إلى أن هذه "الوعود" لا تُلبِّى مطالب وأهداف الثورة ولا مطالب وأهداف هذه الموجة من موجاتها! وسأحاول هنا أن أناقش أو أستعرض بمنتهى الإيجاز عددا من المطالب والأهداف الثورية:
أولا: فى عالم صارت فيه الانقلابات العسكرية مستنكرة ومرفوضة يستند المجلس العسكرى إلى انقلابه العسكرى كأساس لشرعيته المفروضة على الشعب، وكان الهدف من الانقلاب ليس حماية الثورة التى لم تكن بحاجة إلى حماية بل حماية النظام وإعادة إنتاجه بنفس رجاله من العسكريِّين والمدنيِّين بعد التخلص من مبارك وأسرته وحلقة ضيقة من أقرب المقربين من رجاله، وقد أثبت المجلس العسكرى بسياساته وإسترتيچياته وتكتيكاته طوال الشهور السابقة أنه يعمل بصورة ممنهجة على تصفية الثورة، وبعد أن كان أبرز مطلب من مطالب ميدان التحرير (وكل ميادين التحرير فى مصر) يقتصر قبل بيان المشير على تحديد موعد لتسليم السلطة إلى المدنيِّين، صار بعده وبعد حنثه بعدد من وعوده بعدم احترام حق التظاهر والاعتصام واستمرار المجزرة، وباستمرار حكومة عصام شرف لفترة قد تمتد كما تتواتر أنباء، ... صار المطلب الحاسم الآن هو الرحيل الفورى للمجلس العسكرى وتسليم الحكم للمدنيِّين. وتتعالى فى ميدان التحرير اقتراحات بتكوين مجلس رئاسى انتقالى من أشخاص بعينهم يستلم السلطة من المجلس العسكرى. ويبدو أن بعض الاقتراحات ترجِّح كفة الإسلاميِّين فى المجلس الرئاسى الانتقالى المقترح الأمر الذى يعطيهم جائزة لا يستحقونها لثورة تآمروا ويتآمرون على طول الخط ضدها فى تعاون وثيق مع المجلس العسكرى. وبهذا تفتح هذه الاقتراحات بابا واسعا لجمهورية إسلامية فى مصر ولا اعتداد بحجة أن المجلس الرئاسى المقترح مؤقت لأنه فى مثل هذه الأوضاع "لا يدوم إلا المؤقت". ونظرا لكل جرائم المجلس العسكرى، ونظرا لأن الجيش ملك للشعب الذى ينفق عليه على حساب لقمة عيشه ومسكنه وملبسه وصحته، يعتقد كاتب هذه السطور أن الموقف الأفضل هو المطالبة برحيل المجلس العسكرى وحلِّه وتشكيل قيادة جديدة من ضباط وجنود الجيش المؤيدين بصدق للثورة، مع التحقيق مع المجلس العسكرى المنحل ومحاكمته باعتباره المسئول الأول عن كل سياسات وممارسات الفترة السابقة بكل عناصرها بما فيها المذابح التى جرى ارتكابها. وتكليف الجيش بالقيام بالمهام التى أوكلها الدستور إليه بالإضافة إلى مهام الشرطة إلى أن تتم إعادة بنائها؛ وعلى أن تُعتبر إقالة المجلس العسكرى وما يترتب عليها شعارا دعائيا أو عمليا وفقا للتطور الفعلى للوضع الثورى ودون قفز عليه.
ثانيا: إقالة حكومة عصام شرف على الفور وتشكيل حكومة انتقالية جديدة بوصفها السلطة التنفيذية العليا التى تحلّ محل المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة كليهما. كما ينبغى محاسبة هذه الحكومة التى كانت بمثابة سكرتارية لهذا المجلس وكل الأجهزة التى ساعدتهما على إعداد وممارسة سياسات الفترة السابقة.
ثالثا: إلغاء قانون الطوارئ الاستبدادى الحالى وليس مجرد إلغاء العمل به، مع وضع قانون طوارئ بالمعايير الديمقراطية لمواجهة الكوارث التى تهدد الشعب وليس لأمن النظام الاستبدادى الفاسد.
رابعا: حلّ وإعادة بناء مختلف أجهزة الأمن والمخابرات على أسس ديمقراطية.
خامسا: تأجيل الانتخابات الپرلمانية والرئاسية وانتخاب مجلس تأسيسى لإعداد دستور جديد ديمقراطى حقا يقوم على أساس الدولة المدنية، والمواطنة، وحرية العقيدة، والمساواة بين جميع المواطنين دون تمييز على أساس الدين أو النوع أو العِرْق أو الإثنية أو اللغة، وكفالة كل الحريات والحقوق الديمقراطية بما فيها حقوق التظاهر والاعتصام والإضراب وكل أشكال الاحتجاج دون قيود قانونية، وحقوق تكوين الأحزاب والنقابات العمالية والمهنية والجمعيات والروابط والاتحادات والتعاونيات دون قيود، وحرية التعبير، وحرية الصحافة والإعلام، وإعادة صياغة كافة القوانين التى لا تتفق مع الدستور الجديد، وكل ذلك فى إطار جمهورية پرلمانية ديمقراطية، وفى إطار فصل الدين عن الدولة، والتوازن الحقيقى بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
سادسا: إلغاء ما يسمى بمجلس الشورى باعتباره "اختراعا" ساداتيا بلا وظيفة أو سلطات حقيقية.
سابعا: سرعة محاكمة مبارك وقرينته ونجليْه وكل مَنْ تورط معهم من عائلاتهم وكل رجاله وكذلك الدائرة الأوسع ممن أفسدوا الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية فى البلاد، مع سرعة إجراءات المحاكمة وتنفيذ الأحكام.
ثامنا: حلّ الحزب الوطنى والعزل النهائى، عن المناصب السياسية والإدارية للدولة وعن الحياة الپرلمانية، لقياداته وكوادره على كل المستويات فى اللجنة المركزية ومكاتبها ولجان المحافظات واللجان المحلية عقابا على دورهم فى إفساد السياسة والإدارة الحكومية والاقتصاد والإعلام والتعليم والصحة وكل نواحى الحياة فى البلاد، مع محاسبتهم قضائيا. دون أن يمتد هذا العزل إلى القاعدة الواسعة التى تصل إلى مليونين أو ثلاثة ملايين.
تاسعا: وضع حدّيْن أدنى وأقصى للأجور فى البلاد بفارق لايتجاوز أضعافا محدَّدة قانونا مع ربط تطور الأجور بتطور الأسعار، فى سياق رؤية شاملة للعدالة الاجتماعية تضع فى صدارة التزاماتها القضاء على الفقر فى كل تجلياته فى مجال دخل الطبقات العاملة والشعبية، وحقوقها فى السكن بعيدا عن العشوائيات والمقابر وما أشبه، وحقوقها فى مجال التأمين الصحى الشامل والفعال، وكل حقوقها فى حياة كريمة وحرة.
عاشرا: استقلال القضاء عن وزارة العدل والحكومة والدولة وإقرار وتحقيق المطالب العادلة للقضاة وتطهير القضاء بعد عقود من التبعية المفروضة التى حاربها القضاة الشرفاء بعناد وشجاعة وبسالة، مع إلغاء كل المحاكم الاستثنائية ومحاكمة المواطن أمام قاضيه الطبيعى.
حادى عشر: مصادرة وتأميم الأموال الثابتة والمنقولة الناشئة عن الخصخصة التى جرت بمعايير الفساد واللصوصية و"بتراب الفلوس" لممتلكات الدولة والقطاع العام، وإجبار مبارك وأسرته ورجاله وكل لصوص نظامه على ردّ كل الأموال المنهوبة داخل مصر وخارجها، والعمل بكل الوسائل القانونية المشروعة على استعادة تلك الأموال من سويسرا وغيرها من الدول المعنية.
23 نوڤمبر 2011
 
  
 
 
 
 
 
 
 
20
الحوار بين الثورة والواقع
 
(المنشور فى: ملف: حول دور القوى اليسارية والتقدمية
فى ثورات الربيع العربى وما بعدها
بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011)
 
مقدمة
 
أعتقد أن القوى اليسارية والتقدمية لم تشارك فقط فى الثورات الأخيرة فى عدد من البلدان العربية بل كانت هى التى مهدت لها وأطلقت شرارتها وأشعلت فتيل تفجيرها وقادتها واستمرت بها إلى الآن بعناد متواصل وبطولة حقيقية. وبطبيعة الحال لم تتحول الشرارة إلى ثورة إلا بعد انضمام عشرات الملايين من بنات وأبناء الشعوب العربية. وفى مصر لم تشارك قوى الإسلام السياسى فى الثورة إلا لفترة قصيرة (أسبوعان لا أكثر بين 28 يناير و 11 فبراير وحتى فى هذه الفترة القصيرة تركت قيادات الإسلام السياسى ميادين التحرير جميعا وانصرفت إلى التفاوض المحموم مع نظام مبارك ورجاله وبالأخص مع عمر سليمان حتى قبل حدوث الانقلاب العسكرى الذى أطاح ﺑ مبارك) وكان ذلك بمنطق انتهازى يتمثل فى الحصول على الشرعية والاعتراف بهم من جانب السلطة وبهذا خانوا الثورة وحاربوا كل نضالاتها ومبادراتها ونضالات الطبقة العاملة ومختلف المهن بعد ذلك وإلى الآن. والحقيقة كما تقولون أن النتائج التى أفرزتها هذه الثورات إلى الآن صبّت إلى حد ما (بل إلى حد كبير للغاية) فى مصلحة قوى الإسلام السياسى وحركتها فى الشارع العربى (وبالطبع فى احتمالات تأليف الحكومات كما يحدث فى تونس الآن واحتمالات الوضع الملتبس فى ليبيا. وأعتقد أن السر وراء هذا هو أن الثورة لا تأتى بشيء جديد مقطوع الصلة بالماضى السابق على الثورة، بل تأتى فتحقق تيارات وقوى كانت ماثلة بالفعل قبل الثورة. والشيء الإيجابى الوحيد والكبير حقا للثورة هو تسييس الشعوب العربية بصورة تدريجية وارتفاع استعداد هذه الشعوب للنضال الطبقى، السياسى والاجتماعى، إلى القمة، وبناء الديمقراطية من أسفل التى ينبغى تطويرها وتطوير نضالاتها بصورة متواصلة. وتأتى الثورة مما سبقها بشيء إيجابى واحد يتمثل فى الثورة ذاتها بنضالاتها التى يمكن أن تحقق الكثير فى عدد من المجالات فى المدى المرئى. وتنبع الثورة من المجتمع السابق عليها بالمعاناة التراكمية الهائلة للشعوب التى تخلق تطلُّعا هائلا إلى الخلاص وإلى مستقبل أفضل من العدالة والحرية والكرامة، هذه المعاناة التراكمية الهائلة التى يمكن أن تتحول عندما تجد أمامها ثغرة مفتوحة أو شرارة ملتهبة إلى ثورة شعبية هائلة. وكل ما نجده الآن أمامنا من إيجابيات حقيقية للثورة إنما جاءت من الماضى، من معاناة الشعوب طويلا للفقر والقهر والاستبداد والفساد مما جعل المجتمع العربى حاملا بثورة نتيجة للتطلع بلا أمل ظاهر إلى العدالة والديمقراطية والحرية. أما قوى الإسلام السياسى فقد حققت نجاحاتها بفضل قوتها العددية والتظيمية وتحجُّرها الأيديولوچى الذى كان من السهل أن يتفاعل ويندمج مع بيئات شعبية بائسة نتيجة الفقر والجهل والمرض. ولعل من المؤكد أن الحل الأمنى البالغ القسوة الذى انتهجه نظام عبد الناصر والنظامان اللاحقان فى مواجهة الإخوان المسلمين والشيوعيِّين، بعيدا عن حل التفاعل الفكرى فى المجتمع على أساس الحرية والديمقراطية، كان عاملا أساسيا فى ازدياد قوة ونفوذ الإخوان المسلمين والسلفيَّين وبالأخص فى عالم ثالث وعالم عربى يتراجعان بسرعة هائلة نحو مصير مجهول رغم ظواهر محدودة قد تعطى انطباعا خاطئا بغير ذلك. لقد أضعف الحل الأمنى الشيوعيِّين أيضا غير أنه يضاف إليه نجاح الكثير من محاولات الاحتواء من جانب نظام عبد الناصر بالذات. وتمثل عامل فى غاية الأهمية فى تفسخ وتدهور وتراجع اليسار عالميا وما كان من سقوط الدول المسماة بالاشتراكية والأحزاب المسماة بالشيوعية. وإذا كان تراجع العالم الثالث والحل الأمنى فى البلدان العربية بلا استثناء وتراجع الفكر الماركسى على المستوى العالمى قد أضعفا اليسار والشيوعية (وإنْ كانت العلمانية تزداد رسوخا بفضل خصائص ما يسمى بجيل الألفية وبفضل ثورة التكنولوچيات المتقدمة للمعرفة) فإن تراجع العالم الثالث لم يضعف الإسلام السياسى بل قوَّاه على العكس من ذلك لأن هذا التراجع الاقتصادى والاجتماعى والفكرى للعالم الثالث والعالم العربى كان يؤدى بصورة منطقية تماما إلى تقوية التراجع المادى والفكرى نحو بؤس الحل الدينى والمذهبى (فى مختلف الديانات) والقَبَلى والطائفى الأمر الذى خلق بصورة تراكمية إلى رسوخ هذا الحل الوهمى الذى لا يحمل بشارة حقيقية بل يؤدى إلى الخراب العاجل. أما تغيير الحكومات فشيء سلبى تماما: حزب النهضة الإسلامى وحكومته وجمعيته التأسيسية فى تونس (وبالمناسبة فإن الوضع الجديد فى تونس ليس مبشرا حتى إذا توقعنا كما نرى الآن بعض التنازلات فى سبيل علاقات جيدة مع الغرب)، والاحتمالات الإسلامية فى ليبيا المجهولة التى نحتاج إلى محلل سياسى ليبى يقوم باكتشافها. وإذا نشطَّنا ذاكرتنا فهذا هو المصير الطبيعى لثورات العالم الثالث إذ تقفز نخبة أو أخرى على السلطة بعد الثورة، كما شهدنا فى إيران بثورتها السياسية الشعبية الهائلة وبجمهوريتها الإسلامية. لقد حدث هذا أيضا فى ثورات البلدان الصناعية المتقدمة حاليا. والسياق التاريخى العام بالغ الأهمية: هناك سياقان تاريخيان لثورات العصر الحديث. كان هذا السياق فى ثورات البلدان الصناعية الحالية يتمثل فى الثورة السياسية فى سياق ثورة اجتماعية. والمقصود بالثورة الاجتماعية فى العصر الحديث هو التحول الاقتصادى الاجتماعى التراكمى الطويل من الإقطاع إلى الرأسمالية، وهو التحول الذى سبق الثورات واستمر لزمن طويل بعدها. وكانت هذه الثورات تأتى بطبقة جديدة هى البرچوازية (بوصفها السلطة الطبيعية للنظام الرأسمالى) إلى السلطة السياسية. أما ثورات العالم الثالث الذى حل محل المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة فهى ثورات سياسية فى سياق التبعية الاستعمارية وهنا تجيئ الثورات وتذهب وتبقى التبعية الاستعمارية وتبقى الرأسمالية التابعة. ولا مانع من بعض التنازلات أمام الديمقراطية التى تفرض نفسها لفترة تطول أو تقصُر. ولا تنتقل السلطة السياسية إلى طبقة جديدة كما توحى عبارة السلطة السياسية، وإذا كنا نصف هذه الثورات بالثورات السياسية فذلك لأنها تعبِّر عن رفض السلطة السياسية وليس لأن طبقة جديدة تأتى لإقامة سلطتها السياسية الجديدة. وإذا نجح العالم الثالث فى معركة البقاء بشبه معجزة وجاءت ثورة اشتراكية ذات صباح جميل بعيد للغاية فإنها ستقرر عندئذ ما إذا كانت تريد أن تكون ثورة أم دولة. وتنطوى مقدمة الحوار المتمدن لهذه الحوارات على أسئلة متعددة وسأتناولها بالطبع فى سياق الحوار مع الأسئلة.
 
1ــ هل كانت مشاركة القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية مؤثرة فى هذهِ الثورات؟ و إلى أي مدى؟
 
1: إجابتى على هذا السؤال بالإيجاب. فبالفعل جاءت مبادرات التمهيد للثورة ثم مبادرة تفجيرها وإطلاق شرارتها ثم قيادتها ومبادرات الاستمرار بها وبنضالاتها وبموجاتها اللاحقة، وليس مجرد المشاركة فيها، من قوى يمكن وصفها بصفة عامة بأنها قوى ديمقراطية وليبرالية تقدمية وعمالية ويسارية وشيوعية واستقلالية بمعنى معاداة السيطرة الاستعمارية، ومناهضة والعولمة، ومناهضة الحروب الجديدة الأمريكية والغربية والإسرائيلية ضد شعوب المنطقة (العراق ولبنان وفلسطين) وجوارها المباشر (أفغانستان وپاكستان) بتواطؤ وتعاون وتحالف حسب الأحوال مع دول المنطقة العربية. ولم تكن بوجه عام قوى منظَّمة فى منظمات أو أحزاب تحمل مثل هذه الأسماء أو يمكن وصفها بمثل هذه الصفات غير أن جانبا مهمًّا من هذه القوى كانت عناصر تنتمى إلى حركات ومنظمات بل أحيانا إلى أحزاب ولكنْ بوصفها شبابا متمردا على قيادة أحزابها كما رأينا بوضوح تام فى حالة حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى قبل وبعد الثورة. وبالطبع لم تكن هناك قرارات من منظمات أو حركات أو أحزاب بالتمهيد لثورة أو تفجيرها. وتتميَّز ضمن هذه القوى مجموعات وتيارات لا حصر لها نشطت باستخدام الفيسبوك واستهدفت بصورة مباشرة القيام بعمل مباشر جريئ هائل وواسع النطاق فى شكل مظاهرات فى مختلف أنحاء البلاد احتجاجا على التمديد للرئيس المخلوع مبارك وتوريث نجله وضد الاستبداد والفساد وللمطالبة بالعدالة الاجتماعية للطبقات العاملة والشعبية. وسرعان ما تطورت تلك الاحتجاجات إلى ثورة سياسية شعبية شاملة عندما تدفق عشرات الملايين من أبناء الشعب على الميادين والشوارع فى مصر من أقصاها إلى أقصاها. وسرعان ما تطورت شعاراتها التى تبلورت فى شعار إسقاط النظام وما يرتبط عضويا بهذا الشعار من أهداف ومطالب وشعارات. وبكل هذا اكتسبت الاحتجاجات طابع الثورة السياسية الشعبية وطابع الصراع الطبقى. وكانت الثورة بطبيعة الحال عفوية تلقائية بمعنى أنها لم تكن قرارا اتخذته مجموعة من المنظمات والحركات والأحزاب السياسية مهما اتخذت قرار تفجيرها مجموعات وتيارات شبابية، فلم يكن يخطر ببال هذه المجموعات والتيارات ذاتها أنها تفجر فى تلك اللحظة ثورة سياسية شاملة ومهما تكن قد مهدت على مدى أعوام قبل إطلاق شرارة الثورة. ولم تكن تلك المجموعات والتيارات المتعددة فيسبوكية فقط بل كانت أيضا فى الشارع والميدان فى كل مناسبة احتجاجية. والثورات الشعبية بعكس الانقلابات العسكرية إنما تكون فى كل مكان وزمان عفوية ومفاجئة ولا يتنبأ بموعدها الدقيق أو التقريبى أحد. وإذا التفتنا إلى "القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية" كما جاء فى صيغة السؤال من حيث "مشاركتها" فى الثورة وبصورة "مؤثرة" فإننا نجد أنفسنا هنا أمام التناقض الكبير الذى لا يمكن تفاديه بين القيادة والقاعدة فى مختلف الحركات والأحزاب. فقيادات النقابات العمالية عندنا قيادات مندمجة فى النظام فى إطار الدولة الإدماجية (الكورپوراتية) وهى تعبِّر عن نفوذ الطبقة الحاكمة والنظام الحاكم داخل الطبقة العاملة بعيدا عن التعبير عن مصالح الطبقة العاملة فى مواجهة النظام الحاكم. ومن هنا نجد القيادات مع النظام والثورة المضادة ونجد أقساما من القاعدة فى قلب الاحتجاج والثورة. وقيادات الأحزاب متعاونة وتفاوضية فى علاقتها مع النظام وتنجح أو تفشل فى استمالة قاعدتها إلى هذا الحد أو ذاك حسب الأحوال. وفى حالة الثورة يتسع فى الحال نطاق هذا التناقض فتذهب القيادة فى اتجاه والقاعدة فى اتجاه آخر حسب درجة تماسك الحزب من حيث أيديولوچياه وبرنامجه (وعلى سبيل المثال فإن الانقسام تجلى حتى فى حالة جماعة الإخوان المسلمين الأكثر تنظيما والأشد تحجرا من حيث أيديولوچياها. فقد تعددت أحزابها السياسية فى ظاهرة بدأت حتى قبل الثورة بفعل النضالات التى كانت جارية آنذاك فى سياق التمهيد للثورة من الناحية الموضوعية وتفاقمت هذه الظاهرة بعد الثورة وبالأخص بين قيادات الجماعة وحزب الحرية والعدالة من جانب وشباب الإخوان من جانب آخر وينطبق الشيء ذاته على السلفيِّين). وعلى هذا سرعان ما ذهبت أحزاب إلى التفاوض مع نظام الرئيس المخلوع ثم مع نظام رجال الرئيس بالقيادات التى ظلت تسير وراء الطغمة العسكرية الحاكمة فيما ذهبت أعداد من القيادات المتوسطة والقواعد إلى "ميادين" التحرير فى مختلف أنحاء مصر. ومن الجلى أن هذا ينطبق بوجه عام على الأحزاب والحركات والتيارات التقدمية واليسارية والديمقراطية والليبرالية اليسارية بوجه عام فقد اختلف الاتجاه فى كثير من الأحيان بين القادة والقواعد. وسؤال المدى يطرح مدى العمق والجذرية وكذلك المدى الزمنى لاستعداد القوى المعنية بمواصلة الثورة وبالطبع فإن السؤالين مترابطان. وكانت القوى التقدمية بوجه عام، رغم تنوع مشاربها وتلاوينها، فى الطليعة دائما فى قيادة الثورة ومظاهراتها واعتصاماتها وتأييد احتجاجاتها الواسعة المسماة بالفئوية للعمال والعاملين فى كل مراحل الثورة ولهذا كانت تكسب قلب الشعب فيما كانت قوى الثورة المضادة المتمثلة فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية والإسلام السياسى والأحزاب القديمة والجديدة لليبرالية اليمينية و"أحزاب" الحزب الوطنى المنحل تخسر بحكم سياساتها ومواقفها قلب الشعب. وإنْ كان من الواضح الآن أن خسارة قلب الشعب لم يقلِّل مطلقا من قوتها الانتخابية الكاسحة إلى الآن فالقلب غير الواعى فى مجتمع يسيطر عليه الفقر والجهل والمرض وبصورة خاصة فى ريفنا الفلاحى الذى لم تمتدّ إليه الثورة على نطاق واسع بعد. على أن هذا لا يقلِّل من القوة الحقيقية للقوى التقدمية واليسارية والديمقراطية التى مهدت للثورة وفجرتها وقادتها واستمرت بها فى كل تجلياتها فهذه القوة لا تُحسَب بأعداد الثوار التقدميِّين وحدهم بل بالقوى العمالية والشعبية التى صارت مصالحها تلتقى مع استمرار هؤلاء الثوار التقدميِّين بالثورة. ولهذا استطاعوا وحدهم بعيدا عن كل القوى المباركية والمحافظة والإسلامية وبدون مشاركة أىّ أطراف أو فصائل منها قيادة موجتين ثوريتين هائلتين من موجاتها فى 8 يوليو و 11 نوڤمبر فى مسار عنيد وباسل من قيادتهم للنشاط الثورى كله طوال الفترة السابقة.
 
 2- هل كان للاستبداد والقمع في الدول العربية الموجه بشكل خاص ضد القوى الديمقراطية واليسارية دوره السلبي المؤثر في إضعاف حركة القوى الديمقراطية واليسارية؟
 
2: لا جدال فى أن استبداد وقمع الدول العربية ضد القوى الديمقراطية واليسارية شارك بسهم راجح فى إضعاف حركة ومجرد وجود هذه القوى. ومنذ الانقلاب العسكرى فى  23 يوليو  1952وجهت العهود والنظم والحكومات المصرية المتعاقبة قمعا لا هوادة فيه بكل أنواع الأسلحة: قبل كل شيء بسلاح المواجهة الأمنية بالمعتقلات والسجون وفى كثير من الأحيان لفترات طويلة واجه فيها الشيوعيون وغيرهم حتى التعذيب والقتل والسَّحْل ولكنْ أيضا بالحرب الفكرية بلا هوادة وكذلك بالمحاولات الناجحة فى كثير جدا من الحالات للاحتواء.
 
3- هل أعطت هذه الانتفاضات والثورات دروساً جديدة وثمينة للقوى اليسارية والديمقراطية لتجديد نفسها وتعزيز نشاطها و ابتكار سبل أنجع لنضالها على مختلف الأصعدة؟
 
3: أرجو أن تكون هذه القوى فى وضع يسمح لها بالاستفادة بدروس الثورات. وكان من الطبيعى ألا نتوقع أداء أفضل من الأداء الحالى بعد عقود من التراجع المتواصل لهذه القوى سواء بسبب عامل القمع المتواصل أم بسبب الأزمة العامة لليسار والماركسية فى العالم وهى أزمة من النادر أن تكون قد أفلتت منها أىّ منظمات أو تيارات أو قوى ماركسية فى العالم. ومع تطور الثورة والاستفادة من دروسها بصورة متزايدة يبقى الأمل وإنْ كان لا ينبغى أن نتوقع أن يكون هناك تطور دراماتيكى يقلب الصورة بسرعة. ذلك أن الماركسية تعيش أزمة فكرية بالغة العمق، ليس عندنا فى العالم العربى فقط وإنما فى كل مكان فى العالم وذلك بعد أن أخفتها زمنا طويلا الأوهام بشأن الطبيعة الحقيقية للاتحاد السوڤييتى والدول المسماة سابقا بالاشتراكية. كما أن تطور القوى اليسارية والماركسية لا يكون إلا من خلال الاندماج فى الحركة العفوية والتطور الفعلى للصراع الطبقى، ولا يستطيع أحد "اختراع" هذه الحركة. وهناك بالطبع حالة العالم الثالث الذى بدأ منذ عقود يهبط من الجانب الآخر من التل فى مواجهة أخيرة مع معركة البقاء، مجرد البقاء.

4ــ كيف يمكن للأحزاب اليسارية المشاركة بشكل فاعل في العملية السياسية التي تلي سقوط الأنظمة الاستبدادية ؟ وما هو شكل هذهِ المشاركة ؟
 
4: أعتقد أن المشاركة الأساسية هى المشاركة فى تطوير الثورة وهذا هو ما يحدث إلى الآن ولا أعتقد أنها ستتوقف. وكما نعلم جميعا: يسقط نظام استبدادى ويحلّ محله نظام استبدادى آخر فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد. وقيصرنا الجديد تشكيلة من العسكر والإخوان والسلفيِّين والليبرالية اليمينية والحزب الوطنى الذى يدير مصر كلها من مواقعه الإدارية القيادية. وتتمثل المشاركة اليسارية والماركسية أثناء الثورة وبعد ذلك فى العمل على خلق ديمقراطية من أسفل من خلال معارك الثورة والعمل على تطويرها بعد ذلك وبناء أحزاب ومنظمات وحركات سياسية متماسكة؛ وهذا وحده هو ما يمكن أن يجعل النظام الاستبدادى الجديد مقيَّدا أكثر من النظام الاستبدادى البائد. وهذه الديمقراطية من أسفل التى هى الثمرة الحلوة، الوحيدة، لمثل هذه الثورات الشعبية ستبقى موضوعا لصراع كبير بينها وبين النظام الاستبدادى الجديد الذى يعيد بناء نفسه الآن. وبالطبع فإن حقيقة أن التحالف الاستبدادى الجديد الذى يتكوّن من قطاعات متنوعة تنتمى جميعا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا إلى الطبقة الرأسمالية العليا تفتح بابا للأمل فى استفادة القوى الثورية من التناقضات فى صفوف العدوّ وكذلك فى الاستفادات المتنوعة المحتملة من درس بليغ تقدمه الثورة لهذه الطبقة الرأسمالية العليا: درس العواقب الوخيمة للتمادى فى الفساد والاستبداد. وبالطبع فإن هذا التمادى لا يقتصر على العالم العالم العربى والعالم الثالث فالأزمات التى يعيشها الغرب ترجع أيضا إلى الفساد كذلك الذى أدى مباشرة إلى الأزمة العقارية فى أمريكا وما تلاها من الأزمة المالية والاقتصادية فى مراكز الرأسمالية وفى مقدمتها مركزها الأول. وبالطبع فإن هذا الفساد هو الابن الشرعى فى الغرب للمبدأ الاقتصادى الرأسمالى المتمثل فى تحقيق أقصى الربح فتكون النتيجة تجريف الأساس الاقتصادى لحياة كريمة للشعوب. والاستبداد الأكثر شمولا هو المسيطر على هذه البلدان الصناعية التى تعقدت وسائل استبدادها وسيطرتها على الشعوب حيث تنتصر فى الانتخابات الپرلمانية والرئاسية تلك القوى التى تملك المال والإعلام والسلطة: إن الديمقراطية فى المجتمع الطبقى منذ أثينا إلى اليوم مجرد أسطورة لا واقع لها. ولا تقتصر الديمقراطية من أسفل المنشودة على عدد من الحريات والحقوق: التظاهر والاعتصام والإضراب والعقيدة وعدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو النوع أو اللون أو الإثنية والتعبير والصحافة والنشر واستقلال القضاء وغير ذلك على أهميتها الحاسمة كأسلحة وحيدة لنضال الطبقة العاملة والطبقات الشعبية، بل يمتد جنبا إلى جنب مع الممارسة الفعلية التراكمية لهذه الحريات والحقوق إلى مستويات من العدالة الاجتماعية وتوفير حياة كريمة للمواطنين من خلال أجور عادلة مرتبطة بالأسعار والغلاء والتضخم ورعاية صحية حقيقية ونظام تعليمى متقدم وغير ذلك.     

5- القوى اليسارية في معظم الدول العربية تعاني بشكل عام من التشتت. هل تعتقدون أن تشكيل جبهة يسارية ديمقراطية واسعة تضم كل القوى اليسارية والديمقراطية العلمانية ببرنامج مشترك في كل بلد عربي, مع الإبقاء على تعددية المنابر, يمكن أن يعزز من قوتها التنظيمية والسياسية وحركتها وتأثيرها الجماهيري؟
 
5: لسنا إزاء تشتت القوى اليسارية فحسب بل إزاء منظمات أو تيارات أو مجموعات يسارية كلٌ منها ضعيف أو غير متماسك. ولا شك فى أن جبهة يسارية ديمقراطية وعلمانية واسعة وببرنامج مشترك فى كل بلد عربى، مع الإبقاء على الاستقلال الحزبى والتنظيمى والفكرى والبرنامجى لمكوِّنات هذه الجبهة، من شأنها أن تعزز قوة اليسار وأن يطور نضاله. وكان هذا مطروحا ولا يزال. على أن الخلافات السياسية تقف حجر عثرة فى طريق تكوين مثل هذه الجبهة (على سبيل المثال، الخلافات داخل اليسار المصرى بين القائلين بالمشاركة والقائلين بالمقاطعة فى الانتخابات الپرلمانية والرئاسية امتدادا لاختلافات من الناحية الفعلية فى متابعة أحداث الثورة أو المشاركة فيها).
 
6ــ هل تستطيع الأحزاب اليسارية قبول قيادات شابة ونسائية تقود حملاتها الانتخابية وتتصدر واجهة هذهِ الأحزاب بما يتيح تحركا أوسع بين الجماهير و أفاقا أوسع لاتخاذ المواقف المطلوبة بسرعة كافية ؟

6: لا شك فى هذا فقد كان الشباب: الشابات والشبان، هم الذين أطلقوا شرارة الثورة فى كل مكان فى العالم العربى، كما أن المتابع لتطورات الثورة يلاحظ مدى سرعة استجابة الثوار لها، وعلى سبيل المثال: سارع ثوار ميادن التحرير فى كل مصر إلى تحويل استخدام القوة المفرطة فى صباح السبت 19 نوڤمبر إلى موجة ثورية جديدة واسعة النطاق فى نفس ذلك اليوم، وهى موجة تظاهرات واعتصامات ومسيرات وهى كلها مستمرة إلى الآن. 

7- قوي اليسار معروفة بكونها مدافعة عن حقوق المرأة ومساواتها ودورها الفعال، كيف يمكن تنشيط وتعزيز ذلك داخل أحزابها وعلى صعيد المجتمع؟

7: بالفعل هذه حقيقة جديدة فرضت نفسها وبالفعل صارت المرأة مكوِّنا أساسيا ليس فقط فى النضال الثورى وعلى أوسع نطاق فى بلدان الثورات العربية الراهنة جميعا بل كذلك كمكوِّن رئيسى فى الأحزاب الجديدة فى مصر إلى الآن بالتأكيد فى بلدان الثورات العربية جميعا.

8ــ هل تتمكن الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية في المجتمعات العربية من الحدّ من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحرّيات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتحرر ؟

8: هذا الخطر قائم بطبيعة الحال وفى مواجهته تعمل القوى اليسارية والماركسية والعلمانية على الاستمرار بالثورة وتطويرها. وسواء سُمح للإسلام السياسى بتشكيل الحكومة فى مصر أم لا فإن الشرعية التى اكتسبتها قوى الإسلام السياسى بفضل مشاركتها القصيرة والانتهازية فى الثورة صارت تُضاعف الآن من خطر كان قائما أصلا منذ وقت طويل.

9- ثورات العالم أثبتت دور وأهمية تقنية المعلومات والانترنت وبشكل خاص الفيس بوك والتويتر..... الخ، ألا يتطلب ذلك نوعاً جديدا وآليات جديدة لقيادة الأحزاب اليسارية وفق التطور العملي والمعرفي الكبير؟
 
9: لا جدال فى أن الثورات التكنولوچية الهائلة خلال العقود الأخيرة: علم وتقنية معالجة المعلومات بالكمپيوتر، الإنترنت، الفيس بوك، التويتر، التليفون المحمول، الفضائيات، كانت أسلحة الثوار فى التمهيد للثورة وفى الاستمرار بنضالاتها ومن المنطقى تماما أن تستخدم كل القوى السياسية من الآن فصاعدا ثمار الثورات التكنولوچية فى نضالاتها القادمة.

10- بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن، كيف تقيمون مكانته الإعلامية والسياسية وتوجهه اليساري المتفتح ومتعدد المنابر؟

10: أولا ألف مبروك وعقبال مائة سنة. ولا جدال فى أن الحوار المتمدن يلعب دورا كبيرا فى التفاعل الفكرى والسياسى بين قوى اليسار والعلمانية ونظرا لأن هذه القوى هى التى مهدت للثورة الراهنة فى العالم العربى وفجرتها وقادتها واستمرت بها يمكن القول إن الحوار المتمدن أسهم بجدارة بنصيب مهم فى التمهيد للثورة وفى تطورها إلى الآن. وسيكون لهذا أثر إيجابى بالغ الآن وفى المستقبل. وإذا كنا نتحدث عن جبهة يسارية وعلمانية واسعة فى عالمنا العربى فلا شك فى أن الحوار المتمدن هو المنبر الحقيقى لمثل هذه الجبهة وهى أداة مهمة من أدوات خلقها.
1 ديسمبر 2011
 



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21
الذكرى الأولى للثورة تقترب
والمجلس العسكرى يسير بنا على الطريق إلى الجحيم
 
1:  يقال إن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة. وإذا كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية يقودنا الآن على الطريق إلى الجحيم، كما يتضح عند كل مذبحة ومع كل تمهيد مباشر لمذبحة جديدة بعناد لا يلين وبحقد أعمى يعجز معه عن أن ينجح فى التقدير السليم لأىّ موقف، فإن طريقنا إلى الجحيم مفروش بالنوايا الخبيثة والجاهلة والمتآمرة، وبصفة خاصة بعد الادعاءات الأخيرة للمجلس عن مخطط توفرت لديه معلومات عنه لجعل الذكرى الأولى للثورة بعد أسابيع قليلة مناسبة لاستفزاز الجيش إلى مواجهة مع الشعب لإسقاط الدولة المصرية بكل ما يترتب على هذا من فوضى وحرب أهلية وتدخل أجنبى! ولا يقول لنا المجلس شيئا عن طبيعة وتفاصيل تلك المعلومات، ولا عن الطرف الثالث المزعوم الذى يضع وينفذ هذا المخطط، ولا عن السبب فى عدم رغبة المجلس فى عمل استباقى لمواجهة وضرب هذا المخطط بدلا من التهديد المبطن بمواجهة وضرب الشعب عند بدء تنفيذ المخطط بحيث يقع الشعب بين مطرقة الجيش وسندان مخطط الطرف الثالث، ولا لماذا لا يفوِّت على الطرف الثالث فرصة تنفيذ مخططه ما دام عاجزا عن مواجهته من الآن وما دام المخطط يقوم على توريط الجيش عن طريق استفزاز الشعب له؛ وذلك ببساطة بالتسليم بحقوق الاحتجاج بالتظاهر والاعتصام والإضراب وكل أشكال الاحتجاج الأخرى، وبالتالى بالابتعاد عن الاستجابة لأىّ استفزاز عن طريق الابتعاد بقواته المسلحة وإعلامه الخبيث عن احتجاجات الشعب. ولكن المجلس وأتباعه من قوى وأحزاب الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية والأحزاب غير المنحلة للحزب الوطنى المنحل وكل رجال نظام مبارك الذين يسيطرون على مفاتيح السلطة والإدارة والاقتصاد فى البلاد وفى مقدمتهم أفراد ومجموعات الطبقة الرأسمالية التابعة سيقولون لنا إن المشكلة تكمن فى أن الجيش لا يستطيع أن يقف مكتوف اليدين عندما يقوم الثوار بتدمير وحرق الممتلكات ومقار السلطات التشريعية والتنفيذية؛ ولكنْ مَنْ قال لهم إن الثوار سيفعلون ذلك؟ ألا يعرف المجلس أنه هو الذى يفعل ذلك باستخدام أدواته المتنوعة التى يسميها الطرف الثالث وأنه يستطيع أن يتفادى أعمال التخريب والتدمير والحرق إذا تخلى هو عن القيام بها؟ ومن المفارقات أن السلوك الفعلى للمجلس من خلال استخدام العنف المفرط والمذابح المروعة والترويع وأبواق الدعاية والإعلام بما فى ذلك أتباع الإسلام السياسى من أئمة المساجد والوعاظ يقود إلى ما حاول هذا المجلس نفسه أن يتجنبه منذ قرابة عام عندما قام بانقلابه العسكرى وتنحية مبارك (وكان انقلاب قصر بامتياز لإنقاذ النظام بتقديم كبش فداء يتمثل فى العصابة الرئاسية من عصاباته التى لا حصر لها)؛ حيث كان المجلس العسكرى يريد انتهاج الشكل التدريجى فى تصفية الثورة وتفادى الحرب الأهلية ولكن سلوكه الفعلى يهدد بقيادة البلاد إلى الكارثة التى حاول فى البداية بذكاء ونضج أن يتفاداها: كارثة الحرب الأهلية. ولا شك فى أن هذا الاستنتاج كان واضحا أمام المجلس بعد انهيار وزارة الداخلية التى كانت دولة داخل الدولة وفوقها بكل أجهزتها الجهنمية أمام ثورة سلمية لشعب أعزل، وعلى أساس إدراك واضح لحقيقة أثبتتها كل الثورات التى هزمت جيوشا قوية تضربها بكل ما أوتيت من قوة. وكان هذا استنتاجا خطيرا معناه: لقد أدت المواجهة الأولى ضد الثورة الشعبية إلى انهيار نصف القدرة الأمنية للدولة: الشرطة، وستؤدى أىّ مواجهة جديدة ضد الثورة الشعبية إلى انهيار النصف الثانى للقدرة الأمنية للدولة: الجيش. وكان معنى ذلك أن النظام كله سينهار وأن الدولة ستنهار وأن الطبقة الرأسمالية التابعة ستنهار، وأن إنقاذ نظام ودولة الرأسمالية التابعة يقتضى تصفية الثورة بالتدريج بدلا من تصفية النظام بالعنف. ولأن هذه المعادلة ذاتها ما زالت قائمة فإن من المنطقى أن نتساءل ماذا جرى للمجلس العسكرى؟ وهل تعب ويئس من طريق التصفية التدريجية للثورة الشعبية وتصوَّر أن الشعب أيضا تعب ويئس من الثورة وأن مستويات أعلى من العنف والترويع يمكن أن تكفى لتصفية الثورة هنا والآن، فراح يروج لفكرة المخطط الوشيك لتبرير سلوكه العنيف الوشيك، دون أن يدرى، رغم ما ثبت له من تجربة قرابة عام، أن مستويات أعلى من العنف والترويع لن تعنى سوى مستويات أعلى من الفعل الثورى والعودة إلى المربع الأول كما كان الحال عشية تنحية مبارك، أىْ التورط "بالتدريج" فى الطريق الليبى أو السورى أو اليمنى، طريق الحرب الأهلية التى من شأنها أن تطيح بنظام ودولة الرأسمالية المصرية التابعة، على حين أن خسائر نظام ودولة الرأسمالية المصرية التابعة ستكون أقل بكثير كما قدر المجلس العسكرى وحلفاؤه فى الداخل والخارج لأن أقصى ما يمكن للثورة أن تحققه فى حالة التصفية التدريجية لن يتجاوز الديمقراطية الشعبية من أسفل (دون أن تمس أسس النظام الرأسمالى التابع) رغم أنها قفزة كبرى إلى الأمام بالنسبة للشعب المصرى. ولأن الحكمة التى بدأ بها المجلس العسكرى تدخله فى السياسة تتبخر يوما بعد يوم بفضل المذابح التى ينظمها ولامتناعه العنيد عن تقديم أىّ تنازلات أمام الثورة فإن قيادة بلا حكمة تعنى أننا لسنا إزاء عدو عاقل، بل إزاء عدو جاهل، وأن قطار الصراع بين الثورة والثورة المضادة فى مصر صار قطارا بلا سائق يندفع بسرعة نحو المجهول أو بالأحرى نحو الجحيم ذاته! 
2: ومع استمرار الفعل الثورى فى موجته الجديدة التى بدأت فى 19 نوڤمبر 2011، بمذابحه الجديدة وحرائقه المدبرة، ومع اقتراب ذكرى ثورة 25 يناير 2011، ترتفع نغمة منذرة لا تقف عند حدود الاستعداد للمزيد من القمع وبقسوة أشد باسم الدفاع عن ممتلكات الشعب المصرى، ودفاعا عن الدولة التى يعمل الثوار على تدميرها بالتخريب والحرق وقنابل المولوتوڤ، كما يتهمهم المجلس العسكرى، بل تتجاوزها كثيرا إلى الحديث عن معلومات عن مخطط يعتمد على تصعيد المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات واستهداف المرافق العامة لتوريط الجيش فى مواجهة مع الشعب وصولا إلى إفشال الدولة وإسقاطها؛ وهنا يمتد الحديث إلى الحرب الأهلية والتدخل الأجنبى! وفى خدمة هذا الاستعداد الحربى، لإخماد الموجة الثورية الحالية، وإجهاض موجة ثورية كبرى محتملة فى ذكرى الثورة، يجرى تجنيد الإعلام الرسمى والخاص بكل طرق التطويع، وكذلك "مليونيات" ما يسمى بالأغلبية الصامتة أو حزب الكنبة (وما هى بأغلبية صامتة فهى بالأحرى أقليات مأجورة ومنتفعة)، وكذك الكثير من القوى السياسية التى تشكل مع المجلس العسكرى صفوفا متنوعة ومتضاربة المصالح أيضا من الثورة المضادة الواحدة وتنتمى إلى نفس الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة، وتشن حملات افتراء واسعة النطاق ضد الثورة والثوار ومع الدولة والاستقرار. ومن الجلى أن قوى الإسلام السياسى تشكل رأس الحربة فى هذا الهجوم الشنيع على الثورة.
3: ويصور المجلس العسكرى وأجهزته المتنوعة ما يجرى الآن من نشاط ثورى متواصل ببسالة، وكذلك مذابحه المتكررة التى صارت لها رموز مكانية شهيرة من مذبحة ماسپيرو إلى مذبحة شارع محمد محمود إلى مذبحة مجلس الوزراء وشوارع القصر العينى ومجلس الشعب والشيخ ريحان، ضد الثوار، وكأننا إزاء مشاجرة تثير أسئلة من قبيل؛ كيف لا نحمى ممتلكات الشعب ضد التدمير والحرق، وكيف يمنع هؤلاء رئيس الوزراء من دخول مكتبه، وماذا كانت أحداث الاحتكاك والاستفزاز التى أدت إلى الاشتباكات والمواجهات والقتلى والجرحى، ويتجاهل حتى الأسباب التى جعلت الثوار يذهبون إلى هناك ويعتصمون هناك وهى أسباب سياسية واضحة للغاية وتتمثل فى تجاهل حكام الأمر الواقع أىْ چنرالات المجلس العسكرى لمطالب الثورة بالاستناد إلى سفسطات مثل أن هؤلاء اﻟ 350 من الثوار لا يمثلون الشعب، وأن ميدان التحرير ليس كل الشعب، وكأن ميدان التحرير ليس مركز ثورتنا الشعبية الكبرى التى صار أعداؤها يتغنون باسمها من وراء قلوبهم.
4: وتتصاعد نغمة التهديدات المبطنة والصريحة والتبرير المسبق للقمع القادم (وليس السابق فقط) والمواجهة القادمة بين الشعب والجيش عندما تنجح استفزازات الثورة فى توريط هذا الأخير! فما الذى حدث أو يحدث، وماذا فى جعبة المجلس العسكرى، وهل ينبح أم يعض؟ وكلنا نعرف أنه ينبح ويعض فى وقت واحد؛ ولكن السؤال يتعلق بما يعتزم القيام به فى الأسابيع القادمة تحت ستار الدخان الكثيف الذى ينشره عن مخطط يستهدف كيان الدولة المصرية. والحقيقة أن المعادلة التى تحكم الصراع الحالى بكل مواجهاته واضحة جلية: اعتبر المجلس العسكرى أن مبارك كان يمثل نقطة تجمُّع كل القوى التى شاركت فى الثورة ضده وأزاحه بانقلاب عسكرى ينتمى إلى نفس النظام لتفادى مواجهة هائلة ممتدة بين الجيش والشعب بعد الانهيار التام لوزارة الداخلية بكل أجهزتها وقواتها فى هزيمة ساحقة على يد الشعب الأعزل. وقد نجح المجلس بذلك فى هدف تهدئة الثورة نسبيا وتفادى الحرب الأهلية، وتوحيد كل صفوف الثورة المضادة ضد الثورة، وكان معنى هذا أنه اختار تصفية الثورة بطريقة تدريجية بدلا من الطريقة الحربية التى تؤدى فى الأغلب الأعم إلى هزيمة الجيوش كما حدث فى أغلب الثورات التى هزمت فيها الشعوب العزلاء جيوشا مدججة بالسلاح تحاربها بكل قوتها. وكان هذا بالطبع اختيارا حكيما من جانب المجلس العسكرى بمقياس مصلحته ومصلحة نظامه ودولته وطبقته الرأسمالية التابعة للإمپريالية العالمية.
5: وتكاملت إستراتيچيات المجلس العسكرى وتاكتيكاته فى مجال التصفية التدريجية للثورة طوال الفترة السابقة: تقوية نظام ودولة الرأسمالية التابعة للإمپريالية بتعزيز الثورة المضادة عن طريق الأداة الرئيسية التى تمثلت فى إدخال الشعب فى نفق مظلم من الانتخابات الپرلمانية والرئاسية والتعديلات والاستفتاءات الدستورية وإعداد دستور جديد؛ تسليح المجلس لنفسه بسلطات واسعة بحكم شرعيته المستمدة من انقلابه العسكرى عن طريق قوانين بمراسيم وإعلانات دستورية يعدلها وينتهكها وفق مشيئته عند الضرورة، بالإضافة إلى التمسك بالاحتفاظ بقانون الطوارئ واستمرار حالة تطبيقه، وسن قوانين قمعية قاسية جديدة ضد الاحتجاجات؛ رفض حل مجلسى الشعب والشورى لفترة، ورفض حل الحزب الوطنى لفترة أطول، والامتناع عند الاضطرار إلى حله عن إصدار قانون بالعزل السياسى والاضطرار فى النهاية إلى إصدار قانون هزيل متهافت بالعزل مما أدى إلى ظهور أحزاب الحزب الوطنى المنحل بقيادة كوادره والكثير من قياداته العليا واشتراكهم فى الانتخابات الپرلمانية فرغم أىّ فشل فى هذه الانتخابات التى لن تأتى إلا بپرلمان لا قيمة له لأنه لن يشكل حكومة ولن يضع دستورا ولن يسن قوانين وستكون فترته قصيرة جدا إلا أن انتخابات المستقبل قد تفتح أمامهم فرصا أفضل؛ تَرْك مبارك ورجاله شهورا بلا اعتقال أو سجن أو حبس أو محاكمة لتمكينهم من تهريب أموالهم وتدبير أحوالهم وفرم وثائق إدانتهم، وعندما اضطر المجلس أمام ضغوط الثورة إلى الحبس والتقديم إلى المحاكمة أغرق المسألة فى مستنقعات التباطؤ المتواطئ إلى يومنا هذا باستثناء بعض المحاكمات والأحكام المتفرقة؛ الاستخدام الواسع النطاق للبلطجة المأجورة وإطلاق سراح السجناء لترويع الشعب وإغراق الاحتجاجات فى الدم وتنظيم المذابح الشنيعة؛ توجيه الإعلام الحكومى بقوة وتطويع الإعلام الخاص بضغوط متواصلة؛ خلق استقطاب حاد فى الحياة السياسية وفى المجتمع بالتحالف الخبيث وغير المخلص بالطبع مع قوى الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية ورجال الحزب الوطنى فى مختلف المواقع السياسية والإدارية والاقتصادية فى البلاد. وكان الوجه الآخر لإستراتيچيات المجلس العسكرى وتاكتيكاته فى مجال التصفية التدريجية للثورة هو الإضعاف المتواصل للثورة بالقمع المتواصل بما فى ذلك الترويع الممنهج وتنظيم المذابح البشعة، والوعود الكاذبة، والدعاية الخبيثة وحملات الافتراء والتشويه، وتيئيس قوى الثورة بعدم تحقيق مطالب الثورة فلا محاكمات ولا حد أدنى وأقصى للأجور ولا إلغاء لقانون الطوارئ ولا تراجع عن تقديم الآلاف من الثوار إلى المحاكمة العسكرية قبل الاضطرار إلى إحالتهم إلى محاكم استثنائية على كل حال مع قانون مقيد لحق تكوين الأحزاب السياسية بشروط أقسى من شروط مبارك ولا داعى للتكرار الممل لما يعرفه الجميع فى هذا المجال.
6: وكان من نتائج الموجة الثورية الراهنة التى بدأت فى 19 نوڤمبر 2011، اضطرار المجلس العسكرى إلى أمرين مهمين: إقالة حكومة عصام شرف وتعيين حكومة الجنزورى، من ناحية، وتقديم موعد الانتخابات الرئاسية (ليكون رئيس الجمهورية المنتخب جاهزا لاستلام السلطة مع نهاية يونيو 2012)، من ناحية أخرى، مع تبجُّح لا معنى له بأن الانتخابات ستجرى فى "توقيتاتها" فى ادعاء كاذب بأنه لا تنازلات أمام الثورة وبأن العسكر لا يعترفون بالتراجع. وبالفعل كانت إقالة حكومة عصام شرف تنازلا تحت ضغط الموجة الثورية الراهنة، غير أن تعيين حكومة الجنزورى كان ضد إرادة الثوار وضد كل مقترحاتهم وكان كذلك أيضا رفض المجلس مطلب رحيله الفورى وكذلك لمطلب رحيله فى نهاية أپريل. وقد أدى القمع الوحشى لاعتصام مجلس الوزراء بالاستخدام المباشر للجيش والشرطة العسكرية إلى ردود فعل داخلية وخارجية واسعة النطاق ينفرد فيه الإسلام السياسى بموقفه المخزى بصورة تفوق مواقف كل قوى الثورة المضادة. والآن تأتى مليونية 23 ديسمبر (بدون مشاركة الإخوان المسلمين وبمشاركة رمزية من حزب النور السلفى كما أعلن رئيسه) وسط مطالب بتسليم السلطة من المجلس العسكرى لرئيس جمهورية منتخب خلال أسابيع أثناء الذكرى الأولى لانطلاق الثورة (ويدرس ما يسمى بالمجلس الاستشارى مشروع قانون انتخاب رئيس الجمهورية المحال إليه وكذلك اقتراح إجراء الانتخابات الرئاسية خلال الأسابيع القليلة القادمة). ويحيط الشك بالطبع بواقعية هذا المطلب الذى تقدمت به قوى سياسية لقصر المدة ويحيط الشك كذلك بخيار يتمثل فى أن يكون رئيس مجلس الشعب القادم أىْ أحد كبار ممثلى الإخوان المسلمين رئيسا للجمهورية لحين انتخاب رئيس للجمهورية، وتكمن صعوبة العمل بهذا الخيار فى التناقضات التى لا يمكن الاستخفاف بها بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى اللذين يخشى كل منهما غدر الآخر به.
7: على أن تقديم موعد انتخاب رئيس الجمهورية إلى نهاية يونيو كما أراد المجلس، أو نهاية أپريل كما اقترح بعض الثوار، أو أواخر يناير وأوائل فبراير القادمين كما تقترح الآن بعض القوى السياسية لن يؤثر كثيرا على النفق المظلم الطويل للانتخابات المتكررة المتواصلة، فالدستور الجديد المنتظر سوف يعنى انتخابات پرلمانية ورئاسية جديدة لكى ينسجم الپرلمان ورئيس الجمهورية مع الدستور الجديد، من الناحية الشكلية بصورة أساسية بالطبع. ويعنى هذا استمرار مخطط استخدام الانتخابات كأداة رئيسية فى سياق التصفية التدريجية للثورة.
8: غير أن المسألة التى تطرحها التطورات الجديدة مع تصعيدات ومخططات وفزاعات المجلس العسكرى هى أن خيار التصفية التدريجية الذى انتهجه المجلس منذ البداية يهدده خيار الانزلاق إلى الحل الأمنى باستخدام القوات المسلحة على نطاق واسع، وبين الخيارين يسقط الظل! كذلك فإن تسليم السلطة إلى مدنيِّين لن يؤثر كثيرا على معادلات الخيارين المطروحين لتصفية الثورة. ذلك أن الأرجح فى كل الأحوال أن يحكم المجلس العسكرى من وراء الكواليس بواجهة اسمها الحكم المدنى، لأنه لا توجد قوة تستطيع أن تكون مدنية حقا أىْ مستقلة عن المجلس العسكرى وقادرة على تنظيم دولة مدنية إما لضعف القوى المؤهلة نسبيا من الناحية الأيديولوچية لهذا مثل القوى الليبرالية اليمينية أو القوى التقدمية واليسارية والعلمانية والليبرالية اليسارية، ولأن قوى الإسلام السياسى رغم قوتها النسبية رافضة من حيث المبدأ لمدنية وعلمانية الدولة. وبالتالى فإن قوى الإسلام السياسى (مع أخذ التناقضات بينها فى الاعتبار بكل جدية) سيكون أمامها فى حالة الوصول إلى سلطة تكون مفاتيحها فى أيدى المجلس العسكرى من وراء الكواليس نفس الخيارين فى مجال تصفية الثورة: الخيار التدريجى أو الخيار الأمنى العسكرى الذى يقود إلى الحرب الأهلية فى نهاية المطاف. أما فى حالة وصول قوى الإسلام السياسى إلى السلطة إذا أدى السلوك السياسى التصادمى للمجلس العسكرى إلى انهيار المؤسسة العسكرية فإن هذه القوى ستكون أمام نفس الخيارين ولكنْ مع الميل الأقوى نحو الحل العسكرى فى غياب مؤسسة عسكرية متماسكة عن ساحة الصراع، ونكون فى حالة أشبه بحالة السيطرة الخمينية بعد تفتت جيش الشاه بما ينطوى عليه ذلك من دخول البلاد فى مرحلة كارثية حقا. وهنا تختلف المسألة الاقتصادية الاجتماعية السياسية للطبقة الرأسمالية ذاتها تماما؛ ذلك أن قيام جمهورية إسلامية فى مصر سوف يعنى كارثة أيضا لقطاعات واسعة للغاية من الطبقة الرأسمالية التابعة لصالح قطاعات أخرى قائمة وأخرى قادمة. وهناك مَنْ يقول: لا مشكلة دعهم يحكمون فخلال سنوات سيتأكد للشعب أنهم لا يملكون حلا سحريا للأوضاع الاقتصادية الاجتماعية للشعب المصرى الذى سيلفظهم وينبذهم نبذ النواة. وهذا منطق غريب حقا، فلماذا لا نستبعد التمكين التام لقوى الإسلام السياسى وبقائهم مهما كان ظلمهم واستبدادهم وطغيانهم واستغلالهم وفسادهم عقودا طويلة أخرى كما فعل العسكر عندنا طوال ستين عاما وكما فعلت إيران الخمينى وخلفائه؟! ومن سخرية القدر أن مطالب تسليم السلطة للمدنيِّين وهى تبدو ثورية للغاية وديمقراطية للغاية قد تعنى تسليمها لقوى الإسلام السياسى التى لا تؤمن بالدولة المدنية أصلا. والاعتماد هنا لتفادى هذه الكارثة سيكون فى أحد جوانبه على إدراك واستغلال التناقضات فى صفوف الأعداء دون أىّ تعاون مع المجلس العسكرى ضد الإسلام السياسى أو مع الإسلام السياسى ضد المجلس العسكرى الذى يمكن فى حالة انتصاره أن يحكم بصورة مباشرة أو نصف مباشرة أو ربع مباشرة أو غير مباشرة ستين سنة أخرى!
9: وكما يقال فإنه لا خيار فى الشر! وألف لا للإسلام السياسى وألف لا للحكم العسكرى، ألف لا للديكتاتورية العسكرية وألف لا للديكتاتورية المتسربلة بسربال الإسلام والتى ستكون أيضا ديكتاتورية عسكرية إسلامية! ولا مخرج من هذا النفق المظلم والطريق إلى جهنم وأخطار الحرب الأهلية التى يمكن أن يقود إليها السلوك السياسى والأمنى للمجلس العسكرى بالتعاون مع حلفائه فى الداخل والخارج والخراب العاجل الذى تنطوى عليه احتمالات عديدة، إلا بإجبار المجلس العسكرى على أن يكون عدوا عاقلا كما بدأ؛ بأن يعلم جيدا أن العنف يمكن أن يتطور إلى حرب أهلية لا يخسر فيها الثوار فقط الذين لن يفقدوا على كل حال مع أرواحهم سوى الأغلال بل يخسر فيها نظام ودولة الرأسمالية التابعة التى ستنهار والتى يمثلها المجلس العسكرى بحكم مركزه داخل اقتصادها وسلطتها. ولكنْ كيف يمكن أن نحلم بإجبار المجلس العسكرى على أن يكون عدوا عاقلا مع أن قوة الثوار صغيرة جدا بالمقارنة؟ وهنا مربط الفرس... فالواقع أن القوة الحقيقية لقوى الثورة لا تقاس بأعداد الطليعة الباسلة للثوار التى نراها فى الاعتصامات والمظاهرات وعلينا أن ندرك أن الشباب الذى أعد من الناحية الموضوعية للثورة وأطلق شرارتها وقادها بكل الإخلاص والتفانى والفدائية على مدى قرابة عام ليس كل الثورة وليس قيادتها الوحيدة فالشيء الذى حوَّل تلك الشرارة إلى ثورة شعبية هائلة إنما كان نزول عشرات الملايين من بنات وأبناء الشعب المصرى إلى ميادين وشوارع مصر، فى ثورة ضد أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية المتردية فى سبيل حياة تقوم على العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة. وكما يعلم الجميع كانت إضرابات الطبقة العاملة فى الأيام الأخيرة قبل تنحية مبارك عاملا رئيسيا من عوامل تلك التنحية وكما يعلم الجميع أيضا فإن تلك الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية لم تتغير ولم تحقق الطبقات الشعبية فى هذا المجال أىّ مكسب ثورى أو إصلاحى وما تزال تعيش بؤسها التاريخى ينهشها الفقر والجهل والمرض. ولم يكن لدى المجلس العسكرى لهذه الطبقات الشعبية سوى نصحها بالانتظار تقديرا لتردى الوضع الاقتصادى للبلاد مع تجريم حركات واحتجاجات هذه الطبقات وشن حملات تشويه غادرة ضدها بالتعاون مع الإسلام السياسى فى المحل الأول؛ فهل هناك مَنْ يجرؤ على اعتقاد أن هذه الطبقات الشعبية العاملة قد استكانت من جديد وتبخرت دوافع ثورتها وصارت تتطلع إلى إنصافها الوحيد المحتمل فى يوم القيامة والجنة وذلك هو الفوز العظيم؟ لا أعتقد أن هناك مَنْ يجرؤ على اعتقاد هذا أو حتى على مجرد الحلم به. وأعتقد أن خوف المجلس العسكرى والقوى السياسية المتحالفة أو المتعاونة معه إنما يتركز الآن على ردّ فعل الطبقات الشعبية العاملة بمناسبة الذكرى الأولى لثورتها التى كابدت هى ويلاتها دون أن تذوق ثمرة من ثمارها. وهذه الطبقات العاملة هى القادرة وحدها على إجبار المجلس العسكرى على أن يعود عاقلا كما بدأ من وجهة نظر نظامه ودولته وطبقته. ولأن ثورتنا الراهنة ليست ثورة اشتراكية، ولأنها لا تطرح أسس النظام الاقتصادى للرأسمالية للمناقشة، بل تقتصر على تحقيق ديمقراطية شعبية من أسفل بكل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإن خسارة الطبقة الرأسمالية التابعة ودولتها ونظامها ومجلسها العسكرى لوجودها ذاته لا يؤدى إليها سوى السلوك السياسى الراهن للمجلس العسكرى الذى يمكن أن يورطه فى حرب أهلية ضد الشعب. وعلى هذا المجلس أن يتعلم يوما بعد يوم أنه يجب أن يسلِّم بالديمقراطية الشعبية من أسفل مدركا أن الثورة الراهنة فى مصر لا تتجاوز ذلك. وأمام المجلس العسكرى سكك ينبغى أن يفهمها: "سكة السلامة وسكة الندامة وسكة اللى يروح ما يرجعش"! ولكنْ ماهى هذه الديمقراطية الشعبية من أسفل؟ ولكى لا أؤلِّف من جديد كلاما كتبته من قبل فإننى أقتبس هنا فقرة من مقالى "مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر" المكتوب بتاريخ 26 أكتوبر 2011، وسأوردها هنا كما كانت بالنص فى البند التالى المستقل.
10: فما هى هذه الديمقراطية من أسفل؟ والحقيقة أنها لا تعنى أن المجتمع أو البلد قد صار ديمقراطيا أو أن "الدولة" بمعناها فى القانون الدولى (ودعك من المفهوم العلمى الاجتماعى للدولة ووظيفتها فى مجال العلاقة بين طبقات المجتمع) قد صارت ديمقراطية. فالمجتمع الطبقى لا يكون ديمقراطيا كما أن الدولة التى هى أداة فى أيدى الطبقة الاستغلالية الحاكمة لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل لا مناص من أن يكون هذا المجتمع ديكتاتوريا ولا مناص من أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية. وتعنى الديمقراطية من أسفل أو الديمقراطية ببساطة أدوات النضال التى صار الشعب يمتلكها، والحقوق والحريات التى انتزعها وصار يمارسها، والإطار العام الديمقراطى الذى صار يفرضه على الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها وتنظيمها للمجتمع. وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية من أسفل فى الأحزاب المتعددة المستقلة عن سلطة ونظام ودولة الطبقة الحاكمة، هذه الأحزاب التى تفرض التعددية الحقيقية على البلاد، وتتمثل فى النقابات العمالية والمهنية المستقلة التى تدافع بفعالية عن حقوق وحريات الطبقات الشعبية فلا تمثل نفوذ السلطة الحاكمة على هذه الطبقات، وتتمثل فى مختلف أشكال جمعيات المنتجين الصغار واتحادات المستهلكين، وتتمثل فى الصحافة الحرة التابعة للأحزاب والنقابات ومختلف الجماعات التى تنتمى إلى الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء الريف والمدينة، وتتمثل فى استقلال القضاء والتحقيق الفعلى لكل المطالب العادلة للقضاء الجالس والقضاء الواقف وتمتع المواطنين جميعا بالتقاضى أمام قاضيهم الطبيعى بعيدا عن القضاء الاستثنائى والعسكرى، وتتمثل فى انتزاع مكاسب عينية كبرى مثل التحقيق الفعلى للحد الأدنى العادل للأجور المربوطة بتطور الأسعار وتحسين شروط العمل وبدلات البطالة للعمال ولكل العاملين، ومثل التحقيق الفعلى لمطالب الفلاحين المتعلقة بالجوع إلى الأرض وبالأسعار المجزية وبمختلف صور تطوير نوعية حياة الفلاحين، ومثل التحقيق الفعلى للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة والتأمين الشامل وتطوير المستشفيات والحل الجذرى لمشكلات الأطباء وباقى العاملين فى المجال الطبى والصحى من حيث الأجور وتحسين شروط وأوضاع العمل، وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية من أسفل فى التطوير الجذرى للتعليم بكل مراحله وتحقيق مجانيته الكاملة وإنصاف المعلمين بمرتبات مجزية مربوطة مثل كل أجور العاملين فى البلاد بالأسعار، وتقتضى الديمقراطية من أسفل التحقيق الدستورى والفعلى للمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو المعتقد أو اللون أو الإثنية، وكذلك التحقيق الفعلى لتضمين كل الحقوق والحريات المنتزعة فى الدستور بصياغات واضحة قاطعة حاسمة لا يجرى تقييدها بقوانين، مع إعادة صياغة القوانين كإطار عام يعكس قدرة الديمقراطية من أسفل، عن طريق نضالاتها المتواصلة، على فرض السيادة الفعلية للقانون. وبالطبع فإن مهام خلق وحراسة الديمقراطية من أسفل ضخمة هائلة وهى تحتاج إلى كل طاقات الثورة التى لا ينبغى تبديدها فى سبيل پرلمانات ورئاسات عبثية أصلا ولا طائل تحتها. ومن البديهى أنه بقدر ما يتم النجاح فى إجبار السلطات المعنية الحالية والقادمة على التحقيق الفعلى لمطالب الثورة سيجرى تأمين أن تسير الحياة الطبيعية وكذلك الإنتاج وإعادة البناء بصورة طبيعية جنبا إلى جنب مع تطورات الثورة التى لا تريد الفوضى ولا تعمل على تعطيل الحياة بكل مقتضياتها وضروراتها بل تعمل على إنصاف الشعب من خلال انتزاع حقوقه وحرياته وأدوات نضاله فى سبيل التطلع ليس فقط إلى حياة كريمة بل كذلك إلى تصنيع البلاد وتحديثها على قدم وساق كشرط لإنقاذها من المصير البائس الذى ظلت تتجه إليه، مع العالم الثالث كله، بسرعة مخيفة وللتحقيق الفعلى للاستقلال الذى هو نقيض التبعية الحالية للرأسمالية العالمية.
11: والآن يهددنا المجلس العسكرى بمستويات أعلى من القمع وباحتمال تورطه فى مواجهة لا تبقى ولا تذر مع الشعب بذريعة ملفقة متهافتة فحواها أن طرفا ثالثا ينفذ مخططا يستهدف تدمير استقرار مصر وكيانها ودولتها، كما يهددنا احتمال استلام الإسلام السياسى للسلطة بثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة أو أكثر من حكمه المدمر الذى يسير بمصر إلى الوراء بعيدا تماما عن التقدم به إلى الأمام؛ ولا مخرج من هذين الخطرين الكبيرين إلا بالمزيد من تطور الثورة انطلاقا من ذكراها السنوية الأولى فى سبيل تحقيق وتعميق وترسيخ الديمقراطية الشعبية من أسفل للوصول إلى حياة كريمة تقوم على العدالة الاجتماعية والحرية. ولا يمكن التنازل فى هذا السياق عن محاسبة ومحاكمة ومعاقبة المجلس العسكرى على جرائمه فى حق الشعب المصرى على مدى قرابة عام وربط هذا الهدف الثورى بتطور ونضج قوى الثورة التى تمثل بديل الخيار الأفضل كقيادة رشيدة تنتشل البلاد من المستنقع الذى سقطت فيه والسير به فى طريق التقدم مهما يكن ذلك ضمن الإطار التاريخى للرأسمالية. أما الإسلام السياسى فله شأن آخر. والحقيقة أن الدولة المدنية لا تتفق مطلقا مع الحكم العسكرى المباشر أو المموَّه كما أن الدولة العلمانية التى تقوم على فصل الدين عن الدولة وعن السياسة وعلى رفض الدولة الدينية مهما كانت الدولة ومهما كان الدين تتناقض من حيث المبدأ ليس فقط مع المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم المعطل حاليا والتى تنص على أن "الإسلام دين الدولة" وعلى أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" بل تتناقض أيضا مع قيام أية حركات أو أحزاب سياسية ذات مرجعية دينية لأن وظيفتها السياسية الأولى التى تضع تحقيقها على عاتقها هى جعل دين ما دين الدولة وتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أساس الدين المعنى. ولا حُجِّيَّةَ للاستشهاد بأحزاب أوروپية وضعت المسيحية فى أسمائها أو بدول أوروپية وضعت المسيحية فى دساتيرها؛ فبالإضافة إلى أن تلك الدول والأحزاب لا يمكن أن تمثل قدوة حسنة أو مثلا أعلى للديمقراطية فإن المقصود هناك ليس بحال، كما هو الحال هنا، تنظيم الدولة على أساس الدين إلا فيما يتعلق بعناصر قليلة للغاية. والحقيقة أن مَنْ يرفض الدولة الدينية لا يمكن إلا أن يمدّ رفضه للأحزاب السياسية التى تعمل على إقامة مثل تلك الدولة. والموقف الصحيح بالتالى هو تنقية الدستور من المحتوى الدينى الإسلامى للمادة الثانية من الدستور ومن نصوص أخرى فى ذلك الدستور أشرت إليها فى مقالى عن تلك المادة، ولا مناص من أن يمتد هذا الموقف إلى رفض قيام كيانات سياسية ومنها الجمعيات والحركات والأحزاب السياسية على أساس دينى مباشر أو مموَّه ومنع النضال السياسى لإقامة دولة دينية، وبالتالى حل الأحزاب السياسية القائمة الآن على أساس دينى أو على أساس مرجعية دينية. وليس فى هذا أىّ معاداة أو محاربة لأىّ دين فالهدف الواضح هنا هو فصل الدين عن السياسة وفصل السياسة عن الدين؛ وبكلمات أخرى رفض استغلال السياسة وأحزابها والطبقات الرأسمالية التابعة للإمپريالية التى تنتهج هذه السياسة وتقيم هذه الأحزاب للدين وتوظيفه لخدمة استغلالها واستبدادها وفسادها وطغيانها كما جرى استغلال الدين سياسيا منذ العهود الفرعونية وفى كل العهود اللاحقة إلى الآن. وأعتقد أنه لا حُجِّيَّةَ أيضا للفكرة القائلة بأن الوجود الفعلى وإنْ كان سريا لقوى سياسية تقوم على أساس الإسلام السياسى أو على أساس أىّ دين فى بلادنا يمنحها الحق فى الوجود العلنى لأنها موجودة على كل حال ولا تزيد علنيتها الأخطار التى تمثلها فى حالة السرية. غير أن المسألة ليست لعبة سرية وعلنية بل مسألة حداثة تتسلح علمانيتها باستبعاد نقيضها المباشر أىْ الدولة الدينية وكل الأدوات الحزبية وغير الحزبية التى يمكن أن تقود إليها، وإذا كانت قوى سياسية كبيرة قد نشأت كأحزاب تعمل على إقامة دولة دينية فإن المطلوب ليس رفع القبعة تحية لحقوقها الناشئة عن وجودها الفعلى بل جذب هذه القوى إلى فكرة الحداثة والدولة العلمانية التى لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالإلحاد، كما تعرف هذه القوى وبالأخص قياداتها بفضل معرفتها بأوروپا العلمانية كسياسة ودولة، والمسيحية كدين وعبادة!
فجر 23 ديسمبر 2011.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ملاحق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
1
بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية
مقدمة لترجمتى لكتاب ألكسى دو توكڤيل
"النظام القديم والثورة الفرنسية"
 
يحدِّد أليكسى دو توكڤيل موضوع كتابه "النظام القديم والثورة" L Ancien Régime et la Révolution، منذ الجملة الأولى فى مقدمته، قائلا: "الكتاب الذى أقدِّمه الآن ليس أبدًا تاريخا للثورة الفرنسية، فذلك التاريخ مكتوب بصورة أروع من أنْ أفكر فى إعادة كتابته؛ إنه بالأحرى دراسة عن هذه الثورة". إنه ليس تاريخا بل دراسة! وإذا كان التاريخ يعنى هنا البحث المدقِّق للوقائع السياسية لتلك الثورة وتحليل العلاقات السببية المباشرة بينها، بعيدا عن موضوعات علوم أخرى قد تتناول نفس الفترة، مثل الاقتصاد أو السوسيولوچيا أو الأنثروپولوچيا أو غيرها، باعتبار هذا التاريخ مكتوبا بالفعل، فإن ما أراده بالدراسة هو ما يجذب اهتمامنا بقوة.
وفى نهاية مقدمتها لطبعة حديثة من هذا الكتاب نفسه (Flammarion, Paris, 1988)، تتساءل فرانسواز ميلونيو Françoise Mélonio: "ماذا يبقى اليوم من المحتوى التاريخىّ لهذا الكتاب؟"، وتردّ على سؤالها بأنه لا يبقى سوى القليل، غير أنها تستدرك قائلة إن المؤرخين ما يزالون يقولون اليوم: "منذ توكڤيل". وتضيف أن المفاهيم التفسيرية التى أدخلها توكڤيل إلى مناقشة هذه الظاهرة لم تفقد جدَّتها بعد أكثر من قرن من الزمان فى مواجهة "أسطورة ثورية" (pages 36-37)، ذلك أن توكڤيل كان يطيب له أنْ يحتفى بذكرى 1789 "العام السعيد الذى ’سعى فيه أجدادنا إلى تأسيس شيء أعظم من هذا الذى نراه اليوم‘ [أىْ: فى منتصف القرن التاسع عشر عندما كان توكڤيل يؤلف كتابه]"، وكان بالغ الإعجاب بما تجلَّى فى 1789 من "السخاء الاجتماعىّ واتحاد الجميع، النبلاء، ورجال الدين، وعامة الشعب، فى سبيل تأسيس الحرية"، غير أنه رفض كل ما أعقب ذلك: الإرهاب، والإمپراطورية، وثورتىْ 1830 و 1848 الصغيرتيْن اللتيْن كرَّرتا إخفاق الثورة الفرنسية الكبرى (page 7).
وبعيدا عن التاريخ الذى لا يسرد توكڤيل قدرا هائلا من تفاصيل وقائعه وأحداثه وأوضاعه إلا ليقدِّم من خلالها وعلى أساسها "دراسته" ونتائج تلك الدراسة، يبرز جوهرها الحقيقىّ الذى لا تقتصر أهميته على فَهْم الثورة الفرنسية بل تمتدّ لتشمل مفهوم الثورة الاجتماعية بوجه عام. وإذا كان لا مناص من إجراء هذه الدراسة (وأىّ دراسة) داخل نطاق الإطار المعرفىّ لعلم من العلوم أو لعدَّة علوم وباستخدام الأدوات البحثية لهذا العلم أو هذه العلوم، فإن من المنطقىّ إذن أنْ نتساءل عن العلم المعنىّ أو العلوم المعنيَّة هنا. والحقيقة أننا يمكن أنْ نتحدث عن علوم منها التاريخ والسياسة والسوسيولوچيا والأنثروپولوچيا وحتى الفلسفة وعلم النفس؛ فبفضل استخدامها واستكشافها جميعا باقتدار كان بوسع توكڤيل أنْ يرسم تلك اللوحة النابضة بالحياة لمجتمع يتحوَّل بعمق من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر، وأنْ يحدِّد بوضوح طابع هذا التحوُّل ومنطقه وديناميته ومغزاه.
وإذا كان لنا أنْ نُعَرِّف الثورة الاجتماعية باختصار بأنها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر، فإن الجوهر الحقيقىّ لبحث توكڤيل هو أن هذا الانتقال لا يتمثل فى ضربة عنيفة واحدة هائلة تفتح الباب أمام تحوُّلٍ تاريخىٍّ (مثلا: ثورة 1789 أو بالأحرى ثورة 1789-1794)، بقدر ما يتمثل فى عملية تاريخية كبرى تسبِق وتعقُب مثل هذه الضربة العنيفة الواحدة على مدى عقود وأجيال قبلها وبعدها (وربما بدونها أصلا). وربما كانت هذه الفكرة ليست بالجديدة تماما، بالإضافة إلى أنها صارت مقبولة "بعد توكڤيل"، وربما بصورة مستقلة عنه أحيانا، غير أن فضل مَفْصَلَتِها واكتشافها والبرهنة عليها وإثباتها من خلال دراسة تطبيقية شاملة (حالة الثورة الفرنسية) يعود دون شك إلى توكڤيل.
ونحن نعلم اليوم علم اليقين أن فرنسا قد انتقلت من الإقطاع إلى الرأسمالية، ولا شك فى أن هذا الانتقال حدث خلال عهد بالغ الطول عن طريق أداة اسمها الثورة أو بالأحرى فإن هذا الانتقال هو الثورة ذاتها؛ ولكنْ ما هى الثورة؟ هل هى "حدث" 1789؟ أو "حدث" 1789-1794؟ هنا يأتى توكڤيل بحدسه وعلمه ومنهجيته ومعرفته وعبقريته ليقول لنا إن الثورة الفرنسية هى ما قبل وما بعد حدث 1789 وتشمل كذلك هذا الحدث: الثورة هى النظام القديم كما أنها حدث 1789 كما أنها نتائج هذا الحدث على المدى الطويل؛ الثورة ثورتان ومرحلتان وطوران، أو بكلمات توكڤيل: "ذلك أن الثورة كان لها طوران متميزان تماما: الطور الأول الذى بدا خلاله أن الفرنسيِّين يريدون إلغاء الماضى تماما؛ والطور الثانى الذى اتجهوا فيه إلى محاولة أنْ يستعيدوا من الماضى جانبا مما كانوا قد تركوه فيه. ذلك أن هناك الكثير جدًا من قوانين النظام القديم وأعرافه السياسية التى تختفى هكذا دفعة واحدة فى 1789 والتى تعاود الظهور بعد ذلك بسنوات قليلة، تماما كما تغوص بعض الأنهار تحت الأرض لتعاود الظهور فى مكان أبعد قليلا، لتظهر نفس المياه على شواطئ جديدة".
وكان هذا المفكر السياسىّ المحافظ، كما يصفه ماركس، والمعادى للأفكار الاشتراكية، كما يؤكد هو ذاته كثيرا، ورجل الدولة، أعنى توكڤيل، يتخذ موقفا مزدوجا من النظام القديم وكذلك موقفا مزدوجا من ثورة 1789. وفيما يتعلَّق بالنظام القديم كان كتاب "النظام القديم والثورة" مخصَّصا بكامله لتشريح نظام استغلالىّ يقوم على الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة فى سياق دفاع عميق عن الشعب وحقوقه وحريته ورَصْد دقيق لواقع أننا لسنا إزاء مجتمع إقطاعىّ قروسطىّ بل إزاء مجتمع انتقالىّ تنمو البرچوازية والرأسمالية فى رحمه؛ وفيما يتعلَّق بحدث 1789، كان موقفه المزدوج يتمثل فى تقدير دوره فى إزالة العراقيل أمام اكتمال خروج مجتمع جديد عصرىّ من ذلك المجتمع القديم حيث عاش من جديد مع الفرنسيِّين تَوْقَهم إلى التحرُّر والحرية مع إدراكه فيما كان يكتب بعد ستين عاما أن وعود الحرية كانت قد تبخَّرَتْ ليحلّ محلها واقع الديكتاتورية والإمپراطورية وعهود جديدة من الاستبداد والاستعباد.
ويقول توكڤيل متحدِّثا عن الفرنسيِّين الذين عاصروا الثورة: "وسأعبُر معهم فى البداية هذه الفترة الأولى من ثورة 1789، عندما كان حب المساواة وحب الحرية يعمران قلوبهم؛ عندما كانوا يرغبون فى أنْ يقيموا ليس فقط مؤسسات ديمقراطية بل مؤسسات حرة؛ ليس فقط فى القضاء على امتيازات، بل فى إقرار وتكريس حقوق؛ زمن الشباب والحماس والشهامة والعواطف النبيلة الصادقة، ذلك الزمن الذى – رغم أخطائه – سوف يحتفظ الناس بذكراه إلى الأبد، والذى سوف يَقُضُّ – على امتداد وقت طويل قادم – مضاجع كل أولئك الذين سوف يسعون إلى إفساد هذه الأشياء أو كبحها".
وبعد أنْ تدهورتْ الثورة وانحطَّتْ جارفة معها المجتمع "الجديد" بأسره، يرصد توكڤيل هذا المسار: "وفيما أتتبَّع بسرعة مسار هذه الثورة ذاتها فإننى سأحاول أنْ أبيِّن ما هى التطورات والأخطاء وخيبات الأمل التى انتهت بهؤلاء الفرنسيِّين أنفسهم إلى التخلِّى عن هدفهم الأصلىّ فلم يعودوا يريدون، متنكِّرين للحرية، سوى أنْ يصبحوا العبيد المتساوين لسيِّد العالم؛ وكيف أن حكومة أقوى وأكثر أوتوقراطية بكثير من تلك التى كانت الثورة قد أطاحت بها تسلَّمتْ مقاليد الحكم عندئذ، وركزتْ كافة السلطات فى يدها، وألغتْ كافة هذه الحريات التى دُفِع ثمنها غاليا، وأحلَّتْ محلَّها مظاهرها الوهمية الخادعة؛ وهكذا أصبحتْ سيادة الشعب تعنى أصوات ناخبين لا يمكنهم أنْ يستفسروا، ولا أنْ يتداولوا، ولا أنْ يختاروا؛ كما أصبح التصويت الحرّ على الضرائب يعنى موافقة مجالس خرساء أو خانعة، ورغم تجريد الأمة تماما من حقها فى أنْ تحكم نفسها ومن الضمانات الرئيسية لهذا الحق، حرية التفكير والتعبير والكتابة، أىْ ما كان يمثِّل أثمن وأسمى مكاسب 1789، فإن حكومة الثورة ما تزال تتجمَّل بهذا الاسم الكبير".
والفكرة المهمة هنا هى أن الثورة الاجتماعية ليست عاصفة عاتية تنقضّ فجأة تحت سماء صافية، كما يُقال، وليست ضربتها العنيفة المفاجئة، حسب قول شهير ﻟ ماركس فى معرض حديثه عن "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ"، سوى "الدَّاية" (القابلة أو المولِّدة): "العنف داية كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد. وهو ذاته قوة اقتصادية" Karl Marx, Capital, Vol. I, Progress Publishers, Moscow, 703, 1974. ومن الجلىّ أن المقصود بالعنف هنا هو الثورة السياسية، وفى مدخل "ثورة" فى الترجمة العربية ﻟ "معجم الماركسية النقدى"، الصادر عن دار محمد على الحامى للنشر (صفاقس) ودار الفارابى (بيروت)، الطبعة الأولى، 2003، نقرأ، نقلا عن أعمال ماركس و إنجلس الكاملة: "كل ثورة تلغى المجتمع القديم [...] ثورة اجتماعية، وكل ثورة تلغى السلطة القديمة [...] ثورة سياسية". وإذا كان كل تشبيه أعرج، كما يُقال أيضا، فإن هذا المجتمع الجديد لا يكون فى رحم المجتمع القديم مجرد "جنين" ناضج ("ابن تسعة" ولكنْ كجنين فقط) بل يكون مخلوقا مكتمل التكوين إلى حد كبير ولا يحتاج إلى ضربة عنيفة أو "داية" أو إلى عملية "قيصرية" إلا عندما تكون هناك عقبات وعراقيل وحواجز لا مناص من إزالتها من أمامها عن طريق العنف. وإذا كان هناك طريقان ممكنان لحدوث انتقال، بمعنى ثورة اجتماعية، أحدهما تراكمىّ/تدريجىّ والآخر "ثورىّ" فالحقيقة أن كل طريق منهما ثورة بنفس القدر وعملية تدريجية بنفس القدر، ذلك أن لحظة الضربة لا تنفى وجود عمليات تاريخية تدريجية قبلها وبعدها مهما تنوَّعتْ المستويات والمعدلات والسرعات لأسباب بنيوية أو ظرفية، كما أن الثورة التراكمية/التدريجية لا تنفى احتمال حاجتها فى شروط خاصة إلى دَفْعَة أو ضربة، وربما كان الصواب أنْ نقول إن الثورة الاجتماعية هى مجموع العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأيديولوچية والتقنية والتحديثية العميقة الطويلة المدى والتى قد تشهد ثورات وانقلابات وتحوُّلات علمية أو سياسية أو فكرية أو أدبية أو فنية أو تكنولوچية، إلخ.، على حين أن الثورة السياسية بالمعنى المقصود عادةً بهذه العبارة إنما هى تلك اللحظة أو الضربة أو "الدَّاية" مهما جلبتْ معها من تطورات أو تدابير أو قوانين اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها، ذلك أن الثورة السياسية ليست مقطوعة الصلة بعمليات الثورة الاجتماعية التى تخدمها أو تناوئها أو تعاديها الثورة أو الثورات السياسية.
وإذا كانت الثورة السياسية العنيفة (حتى دون إراقة دماء فى التَّوِّ واللحظة) "داية" أو تحتاج إلى "داية" أو تحتاج بالأحرى إلى آلاف "الدَّايات" اللائى يُحَقِّقْنَ مختلف خطوات وتدابير هذه الثورة القصيرة الأمد والمرتبطة بالاستيلاء على السلطة السياسية وبكل ممارساتها وإجراءاتها وأعمالها وبهجومها ودفاعها ضد الحروب الداخلية والخارجية عليها، فإن الثورة الاجتماعية الطويلة الأمد بالضرورة تحتاج عبر عقودها الطويلة وربما قرونها إلى ملايين ومليارات "الدَّايات" لتحقيق مختلف خطوات مختلف جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والمقصود من وراء كل هذه المجازات باختصار هو أن الثورة الاجتماعية الطويلة العمر هى الأساس وأن الضربات واللحظات والأزمات العنيفة إنما تمثل بعض وسائلها وبعض نتائج تراكماتها وبعض أسباب نجاحاتها أو نكساتها. ولا يعنى نضج الثورة الاجتماعية فى رحم مجتمع قديم أنْ تكون قد حققتْ، قبل الثورة السياسية العنيفة أو قبل تحوُّلها الكامل إلى نظام اجتماعىّ، كل إمكاناتها الكامنة وكل ما هو موجود فيها بالقوة. ذلك أن الثورة الاجتماعية عملية متواصلة قبل وبعد لحظاتها "الثورية"، وحتى عندما تصير هذه الثورة نظاما اجتماعيا من حيث الكثير من عناصرها ومكوِّناتها قبل الثورة السياسية، أو من حيث كل عناصرها ومكوِّناتها بعد ذلك، فإننا لا نكون إزاء نظام اجتماعىّ مغلق إذ إن هذا النظام تتعدد وتتنوع مستوياته وفترات ومراحل تطوره وانتكاساته وأزماته وازدهاراته؛ إلى أنْ تُولَد بداخله وتتطور وتنضج ثورة اجتماعية لاحقة بكل حلقاتها الضرورية قبل الثورة السياسية الحاسمة والمزيد من نضج وتطوُّر الثورة الاجتماعية وبالتالى اكتمال تشكُّل وتكوين نظام اجتماعىّ جديد. وقد يحتاج الأمر إلى ثورة سياسية أو حتى ثورات سياسية عنيفة متعددة وقد لا يحتاج إليها أصلا كما تدلّ نماذج عديدة للانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية (ويتمثل النموذج الأصلى لهذا الانتقال ليس فى استيلاء برچوازية صاعدة على السلطة السياسية بعد تطور تراكمىّ للرأسمالية بقيادتها بل فى "تَبَرْچُز" الطبقة العليا الحاكمة اليونكرية الطراز أىّ فى تحوُّلها إلى برچوازية ورأسمالية كما حدث على سبيل المثال فى پروسيا والياپان).
ومن البديهىّ أن هذه العمليات لا تتمّ فى المختبر وأنها لا تتمّ فى عزلة بل تتشابك فيها شروط وأوضاع داخلية وخارجية، بنيوية وظرفية، لأنها تجرى فى هذا البلد أو ذاك وفى الوقت نفسه فى العالم وأيضا فى التاريخ بالمكوِّنات التزامنية والتعاقبية لهذا الأخير.
ومن الجلىّ هنا أنه لا يمكن لمفكر جادّ أنْ ينكر وجود الثورة الاجتماعية طوال تاريخ البشر؛ لأن مجرد التسليم بوجود نظم اجتماعية اقتصادية متعاقبة يعنى التسليم بالانتقالات التى أوجدتْها، فهذه الانتقالات إنما هى الثورات الاجتماعية ذاتها والتى قد تحتاج أو لا تحتاج إلى لحظات أو ضربات أو ثورات سياسية عنيفة. ولاجدال فى الوقت نفسه فى أن نماذج أو أنماط أو أنواع أو أشكال الثورات الاجتماعية بالغة التنوُّع فلا سبيل إلى إنكار اختلاف الثورات العبودية عن الثورات الإقطاعية عن الثورات الرأسمالية ولا إلى إنكار اختلاف الثورات العبودية فيما بينها والإقطاعية فيما بينها والرأسمالية فيما بينها. وصحيح أن أوجه تماثل الثورات الرأسمالية فيما بينها وحتى النظم الرأسمالية فيما بينها قائمة دون شك غير أن هذه الثورات الرأسمالية والنظم الرأسمالية (المتطوِّرة: أىْ التى تستحق هذه التسمية عن جدارة) تقدِّم لنا لوحة بالغة التنوع فى أشكال وألوان وخصوصيات تحقيقها ووجودها بعيدا عن كل تطابق ولكنْ بعيدا أيضا عن الاختلاف الجوهرىّ فى الخصائص الأساسية التى تجعلها ثورات رأسمالية ورأسماليات. ولا يتَّسع المجال هنا لمقارنات بين أشكال تحقيق ثورات اجتماعية تنتمى إلى نفس النظام الاجتماعىّ الواحد (مثلا: الإقطاع اللاتينىّ-الجرمانىّ والإقطاع الشرقىّ) أو إلى نُظُم اجتماعية مختلفة (مثلا: نظام العبودية المعمَّمة الفرعونىّ والنظام الرأسمالىّ الأمريكىّ).
ويركِّز المؤرخ الأمريكىّ للثورة الفرنسية كرين برينتون Crane Brenton فى كتابه المهم "تشريح الثورة" The Anatomy of Revolution, Vintage Books, New York, 1965، على التماثلات أو أوجه التماثل uniformities بين أربع ثورات كبرى فى العصر الحديث: الثورة الإنجليزية (1688)، والثورة الأمريكية (فى ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر)، والثورة الفرنسية (1789)، وثورة أكتوبر الروسية (1917). ولا يقول هذا المؤلف بوجود أىّ تطابق فما يطرحه هو التماثل مع أخذ التنوُّع فى الاعتبار، ومتأثرا بعمق بكتاب توكڤيل يجعل هذا المؤلف "الثورة" امتدادا لما قبلها على حين أن ما بعدها امتداد لها. ويقول برينتون: "منذ وقت طويل أوضح توكڤيل أن الثورة الفرنسية جاءت لتكمل عمل صف طويل من ملوك فرنسا، لجعل السلطة الممركزة [أو: المركزية] فى فرنسا فعالة ومكتملة" (page 239). ويجعل هذا المؤلف بعض التعابير التى نشأتْ فى سياق بعض الثورات قابلة للامتداد إلى ثورات أخرى (مثلا: تعبير "النظام القديم" و "التيرميدور")، وينقل تعبير "النظام القديم" من الثورة الفرنسية إلى غيرها من الثورات بلفظه ومحتواه: "من فرنسا جاءت عبارة ’النظام القديم‘. وهى تشير، عند تطبيقها على تاريخ فرنسا، إلى طريقة حياة ثلاثة أو أربعة أجيال سابقة لثورة 1789. ولعلّ مما يحقّ لنا أنْ نَمُدّ استعمالها لِنَصِفَ بها المجتمعات المتنوعة التى نشأتْ منها ثوراتنا" (page 27). على أن أىّ استعادة لاحقة للنظام الملكىّ لم تكن تعنى مطلقا استعادة ما دمرتْه ثورة 1789 من ذلك "النظام القديم" السابق عليها، ويستشهد بقول مأثور فرنسىّ: "Toute restauration est révolution" [كل استعادة ثورة]، (page 225).
وينتج عما سبق بصورة منطقية تماما أن الثورة الرأسمالية ليست شيئا آخر سوى تشكُّل ونموّ وتطوُّر وتكوُّن الرأسمالية فى رحم الإقطاع وداخل نطاق إطاره الاجتماعىّ وبالأخص فى أواخر عهده أولا ثم المزيد من هذه العمليات التطورية مع تفسُّخ النظام الإقطاعىّ والمزيد والمزيد من تفسُّخه أىْ دون أنْ تظلّ هذه الرأسمالية داخل محيط إقطاعىّ خالص بل فى إطار أوضاع انتقالية، وقد تأتى الضربات السياسية البرچوازية والشعبية مبكرا وقد تأتى بعد تقدُّم ونضج هذه العملية الرأسمالية وقد لا تأتى أبدا، وفى نهاية المطاف نجد أنفسنا وجها لوجه أمام نظام رأسمالىّ مستقر مهما اشتمل على بقايا للإقطاع أو لأشكال إنتاج سابقة للرأسمالية أو على تشكُّلات جنينية أو مكتملة نسبيا للنظام الاجتماعىّ اللاحق منطقيا أو تحليليا للرأسمالية ذاتها ألا وهو النظام الاشتراكىّ. على أن النظام الرأسمالىّ الذى كان محصلة لذلك التطور الطويل الأمد لا ينغلق باكتماله ونضجه واستقراره، ولا ينكفئ على نفسه، بل تتمّ داخل نطاقه تطورات وثورات علمية ومعرفية وتقنية وتحديثية وغيرها بكل نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبكل هذه الأشياء يعيش النظام الرأسمالى "حياته الطبيعية"، على أن تناقضاته لا تكفّ بدورها عن النموّ والتفاقم مما يقودها فى الأمد الطويل على طريق الركود المزمن والتفسُّخ والانهيار والموت أمام احتمالين كبيرين متناقضين: الاشتراكية أو البربرية. على أن تشكُّل وتكوين وتطوُّر النظام الاجتماعىّ الاشتراكىّ داخل نطاق هذه الرأسمالية هى الأشياء التى تنقذ البشر من الهلاك وتهزم البربرية وتفرض الاشتراكية وليس  أطيافها وأوهامها الجميلة كما فعلتْ الثورات "الاشتراكية" التى شهد القرن العشرون لحظة ميلاد ولحظة موت كل منها .
الثورة الرأسمالية إذن هى الرأسمالية منظورا إليها من زاوية عمليات تطورها قبل وبعد الثورة السياسية وإلى أنْ يتمّ استقرارها كمحصلة لهذه العمليات فى نظام اجتماعىّ؛ فهل حدث أن هذه العمليات المترابطة لتطور الرأسمالية كانت قد قطعتْ أشواطا طويلة بالفعل قبل ثورة 1789؟
الواقع أن توكڤيل يسرد فى حدود التفصيل الملائم لموضوع كتابه قدرا هائلا من الوقائع والتطورات التى تُثْبِت مسيرة فرنسا، مثل باقى أوروپا الغربية، فى طريق الحضارة الجديدة أىْ الرأسمالية، والتى تكشف واقع العقبات والعراقيل والحواجز والكوابح التى تعترض طريق تلك المسيرة والتى تتمثل فى بقايا الإقطاع بكل أعبائها على الشعب والنظام الملكىّ بكل فساده واستبداده واضطهاده لكل الطبقات. وهو لا يصف لنا نظاما إقطاعيا خالصا اندلعت ثورة 1789 للقضاء عليه وتسليم السلطة للبرچوازية، بل يصف لنا هذا النظام الانتقالىّ الذى يسميه "النظام القديم" ويعتبره الثورة الأولى ويخصص له كتابه تاركا مهمة مناقشة الثورة الثانية أىْ ثورة 1789، بمراحل نتائجها اللاحقة، لكتاب كان يتمنَّى أنْ يعيش ليكتبه ولكنْ وافتْه المنية قبل ذلك فلم يترك منه سوى قليل من الفصول المكتملة (فصليْن بالذات) وكثير من المخطوطات وهى كلها مطبوعة ومتاحة على كل حال.
ولا يتسع المجال هنا لسرد تفاصيل الوقائع التى تُثْبِت أن النظام القديم لم يكن نظاما إقطاعيا خالصا بل كان مجتمعا انتقاليا يتجه إلى الرأسمالية بخطى حثيثة، ولهذا سأكتفى ببعض الإشارات القليلة: كانت القنانة التى هى شكل الاستغلال الإقطاعىّ بامتياز قد اختفت تاركة مجرد بقايا وكان الفلاح كمالك عقارىّ صغير قد نشأ وصار واقعا أساسيا مع أن البقايا والحقوق والامتيازات الإقطاعية كانت ما تزال ثقيلة الوطأة على السكان فى الأرياف فى المحل الأول؛ وفى سياق مناقشته الرائعة لتماثل الفرنسيِّين من مختلف الطبقات باستثناء الفلاحين على وجه الخصوص يعود توكڤيل بهذه الظاهرة إلى أصلها الاجتماعىّ الاقتصادىّ: الإفقار المتواصل للنبلاء وهم كبار الملاك العقاريِّين والعمود الفقرىّ للإقطاع وبالتالى هبوطهم، من جهة، والثروة المتزايدة للبرچوازيِّين وبالتالى صعودهم، من الجهة الأخرى؛ وهناك تطور الصناعة والارتفاع المتواصل لعدد المصانع والمعامل والأفران العالية وكذلك اتساع نطاق التجارة والسوق والعلاقات السلعية النقدية فى المدن وتركُّزها فى پاريس، بالإضافة إلى الإصلاحات فى أساليب الزراعة والرىّ والنقل الواسع النطاق للسلع الزراعية؛ وبالتالى بروز طبقة واسعة من رجال الأعمال فى كافة القطاعات الاقتصادية، من جهة، وبروز طبقة واسعة من العمال، من الجهة الأخرى؛ وفى سياق مناقشته البالغة العمق لمسألة المؤسسات التى كان يُعْتَقَد خطأً أنها من منجزات الثورة على حين أن الحقيقة أنها من منجزات النظام القديم حيث تتجلَّى بوضوح وجوه مختلفة لوجود هذه المؤسسات التى تحقِّق الأسس التشريعيَّة التى تلائم المجتمع الجديد بحكم تماثلها وتوحيدها بعيدا عن الامتيازات وتنوُّع القوانين العرفية، من جهة، والتى تقدِّم الجهاز القانونىّ للديكتاتوريات اللاحقة، من الجهة الأخرى، ... فى هذا السياق يركِّز توكڤيل على المركزة التى يصفها بأنها "ليست أبدا إنجازًا للثورة. وعلى العكس من ذلك فإنها نَتَاجٌ للنظام القديم وأضيف أنها الجانب الوحيد الذى بقى بعد الثورة من البناء السياسى للنظام القديم، لأنها كانت الجانب الوحيد الذى استطاع أنْ يتوافق مع الوضع الاجتماعىّ الجديد الذى خلقتْه الثورة". كما يؤكد أن الثورة الأولى التى أنجبتْ كل الثورات الأخرى إنما تتمثل فى المركزة الإدارية والسلطان المطلق ﻟ پاريس (التى كانت عاصمة فرنسا ثم صارت سيِّدة فرنسا ثم انتهت إلى أنْ تكون فرنسا ذاتها).
والحقيقة أن كون "النظام القديم" (أو: العهد البائد) يمثل الثورة الأولى على حين تمثل ثورة 1789 الثورة الثانية لا يعنى أن هذا المفكر السياسىّ يقلِّل من أهمية هذه الثورة الثانية، فقد قامت بالفعل باعتبارها ثورة جذرية بدور كبير بجوانبه المجيدة والسلبية: "ورغم أن النظام القديم لا يزال قريبا جدا منَّا، إذْ إننا نلتقى كل يوم برجال مولودين فى ظل قوانينه، فإنه يبدو الآن أنه غرق فى ليل العصور. والحقيقة أن الثورة الجذرية التى تفصلنا عنه قد أحدثت تأثير قرون: لقد حجبتْ كل ما لم تدمره". وكما يعلم الجميع فقد أزالت هذه الثورة عقبات كبرى من طريق التطور الرأسمالىّ، ومن ذلك تحرير الفلاحين من الالتزامات الإقطاعية (مراسيم أغسطس 1789)، وإلغاء الحقوق والالتزامات الإقطاعية دون تعويض (مايو-يونيو 1794)، ومصادرة أراضى الكنيسة (مرسوم نوڤمبر 1789)، والإطاحة بالملكية (10 أغسطس 1792)، وإعلان الجمهورية (21 سپتمبر 1792). ولسنا هنا بالطبع إزاء تأميم الأرض وتوزيعها على مَنْ يُفلحونها بل نحن إزاء بيع أراضٍ جرتْ مصادرتها ولكن الفلاحين الشارين لم يكونوا يملكون الأرض للمرة الأولى فالملكية العقارية الصغيرة للفلاح كانت ظاهرة قديمة فى فرنسا كما سبق أن رأينا، ويقول توكڤيل: "الثورة باعت كافة أراضى الكنيسة وجانبا كبيرا من أراضى النبلاء؛ غير [....] أن أغلب هذه الأراضى قام بشرائها أناس كانوا يمتلكون أراضى أخرى بالفعل". ولأن الثورة الفرنسية قضَّتْ مضاجع ملوك أوروپا فقد فُرِضَتْ على فرنسا حروب متواصلة شنتْها ائتلافات أوروپية عديدة (الأول فى 1791: النمسا وپروسيا؛ الثانى فى 1798-1802: إنجلترا، ومملكة ناپولى، والنمسا، وروسيا، وتركيا؛ الثالث فى 1805: بريطانيا، وروسيا، والنمسا؛ الرابع فى 1806: بريطانيا، وپروسيا، وروسيا، وساكسونيا، والسويد؛ الخامس فى 1809: النمسا وبريطانيا؛ وفى 1814: دخلتْ الجيوش المتحالفة پاريس؛ وبعد أسبوع: استعادتْ أسرة البوربون عرش فرنسا؛ وفى 1815: هُزِمَ ناپليون فى واترلو وخسر رهانه الأخير على النصر)، وكل هذا بالإضافة إلى الحروب الناپليونية الشهيرة خارج فرنسا ومنها غزوه لروسيا فى 1812 والأسماء التى لا تُنْسَى لمعاركه الشهيرة وفتوحاته ومنها الحملة الفرنسية على مصر، وبالإضافة إلى قمع الانتفاضات المسلَّحة الداخلية. ورغم أنه قد يكون من المضجر أنْ نسرد أسماء حروب ومعارك وفتوحات معروفة وشهيرة، فقد أردتُ فقط أن أضع جنبا إلى جنب عناوين تكشف مدى العنف الداخلىّ والخارجىّ، الدفاعىّ والهجومىّ، الذى كانت تنطوى عليه الثورة الفرنسية، تلك "الدَّاية" الجبارة التى مارستْ مهنتها المعروفة فى فرنسا وأوروپا والعالم.
ويطرح توكڤيل أسئلة ملحَّة متكررة متواصلة تناولها فى القسم الأول من الكتاب بفصوله الخمسة، وهذه الأسئلة هى: "ماذا كان الموضوع الحقيقى للثورة؟ وما هى طبيعتها الخاصة فى نهاية المطاف؟ ولماذا على وجه التحديد تم القيام بها؟ وماذا حققتْ؟". وهو يفنِّد الأحكام المتناقضة عن الثورة مُبَيِّنًا أن موضوعها لم يكن تدمير السلطة الدينية المسيحية ولا إضعاف السلطة السياسية وأنها كانت ثورة سياسية وإنما اتخذتْ مظهر الثورات الدينية بحكم طابعها الفكرىّ العالمىّ وتبشيرها بمبادئ تنسجم مع روح العصر، أما ما حققتْه الثورة الفرنسية بالفعل فقد تمثل فى كونها تكملة لعمل طويل سابق عليها وبدونها كان يمكن أنْ يتحقق هذا العمل ذاته بصورة تراكمية تدريجية طويلة لاحقة لما كان النظام القديم قد أنجزه بالفعل: "ومهما كانت الثورة جذرية فإنها مع ذلك جدَّدَتْ أقلّ كثيرا مما يُفترض عادة: سأوضح هذا فيما بعد. وما يصحّ قوله عنها هو أنها دمَّرتْ بالكامل أو بسبيلها إلى أنْ تدمِّر (ذلك أنها ما زالت مستمرة) كل ما كان يتفرَّع، فى النظام القديم، عن المؤسسات الأريستقراطية والإقطاعية، كل ما كان يرتبط بها بطريقة ما، كل ما كان يحمل منها، بأية درجة كانت، أدنى سمة. وهى لم تحتفظ من العالم القديم إلا بكل ما كان دائما غريبا على هذه المؤسسات أو استطاع أنْ يوجد بدونها. والحقيقة أن الثورة لا يمكن وصفها أبدا بأنها حدث عرضىّ. وصحيح أن الثورة أخذتْ العالم على غِرَّة ومع ذلك فإنها لم تكن سوى تكملة لعمل أطول، النهاية المفاجئة والعنيفة لعمل ظلت تمارسه قبل ذلك على مدى عشرة أجيال من البشر. ولو لم تقع الثورة ما كان لذلك أنْ يمنع انهيار النظام الاجتماعى الهَرِم، هنا أسرع، وهنا أبطأ؛ كل ما فى الأمر أنه كان سيواصل الانهيار قطعة قطعة بدلا من التداعى دفعة واحدة. والحقيقة أن الثورة حققت على نحو مباغت، عن طريق محاولة مفاجئة ومؤلمة، وبدون انتقال، وبدون تحفُّظ، وبدون احتياط، ماكان سيتحقق قليلا قليلا من تلقاء نفسه فى الأمد الطويل. وكان ذلك هو العمل الذى حققتْه".
وهنا تبرز مسألة بالغة الأهمية يدَّخرها توكڤيل للقسم الثالث بفصوله الثمانية: لماذا إذن سارت فرنسا فى طريق الثورة العنيفة؟ ولماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية التى كانت تشترك معها فى نفس مسيرة الحضارة الرأسمالية الحديثة، من جهة، والتى كانت شعوب بلدان منها (ألمانيا بالذات) تعانى معوقات الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة وبقايا القرون الوسطى بصورة أشدّ وطأة بما لا يُقاس؟
ولعلّ من الجلىّ أن التقاطع بين مجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية هو الذى رشَّحَ فرنسا لذلك الحدث الكبير، لاندلاع ثورة 1789 منها: ضعف الإقطاع، ضعف القنانة، إفقار وتدهوُر النبلاء، تطوُّر المِلْكِيَّة العقارية الفلاحية، نموّ الصناعة والزراعة والعلاقات السلعية النقدية، تبلوُر طبقة برچوازية من رجال المال والأعمال، تبلوُر طبقة عمالية واسعة، الثورة الفكرية والأدبية وبروز الفلاسفة والمفكرين والأدباء كقيادة سياسية للشعب، ازدياد الشعور بوطأة الامتيازات والحقوق الإقطاعية والنفور الشديد منها ومن الإقطاع الدينىّ بحكم هذه التطورات التقدمية ذاتها، التهاب كراهية اللامساواة والرغبة فى الحرية، الاندفاع الثورىّ الناتج عن كل هذا، ونستطيع أنْ نقرأ توكڤيل مباشرة وهو يبسط تقاطع واندماج هذه الشروط:
"وإذا أخذنا فى الاعتبار أنه إنما حدث بيننا نحن [الفرنسيِّين] أن النظام الإقطاعىّ كان قد فقد كل ما كان يمكن أنْ يحميه أو يخدمه، دون أنْ يغيِّر ما كان يزعج أو يضايق فيه، سنكون أقل دهشة إزاء واقع أن الثورة – التى كان عليها أن تُلغى بعنف هذا التكوين العتيق لأوروپا – انفجرتْ فى فرنسا وليس فى أىّ مكان آخر.
"وإذا نحن التفتنا إلى واقع أن النبلاء، بعد أنْ فقدوا حقوقهم السياسية القديمة، وكفُّوا، أكثر مما شهد أىّ بلد آخر فى أوروپا الإقطاعية، عن أنْ يديروا ويقودوا السكان، كانوا مع ذلك لم يحافظوا فقط على (بل زادوا كثيرا من) امتيازاتهم المالية ومغانمهم التى تمتَّع بها أعضاء هذه الطبقة بصفة فردية؛ وإذا التفتنا إلى واقع أنهم مع تحوّلهم إلى طبقة ثانوية ظلوا يشكلون طبقة ثرية ومغلقة: بصورة أقل فأقل أريستقراطية، كما سبق أنْ قلتُ فى موضع آخر، وبصورة أكثر فأكثر طبقة مغلقة، فإنه لن يدهشنا بعد ذلك واقع أن امتيازاتهم تبدو غير قابلة للتفسير وبغيضة بالنسبة للفرنسيِّين، وواقع أنه فى مواجهة هذه الامتيازات تأجَّج الميْل الديمقراطىّ فى قلوبهم إلى حد أنه ما يزال يشتعل فيها.
"وأخيرا، إذا أخذنا فى الاعتبار واقع أن هؤلاء النبلاء، منفصلين عن الطبقات المتوسطة، التى كانوا قد طردوها من بينهم، ومن الشعب الذى  كانوا قد خسروا قلبه، صاروا معزولين تماما عن بيئة الأمة، فكانوا فى الظاهر طليعة جيش، وفى الواقع هيئة من الضباط بلا جنود، فإننا نفهم كيف أنه، بعد أنْ كانوا متماسكين على مدى ألف عام، صار من الممكن الإطاحة بهم خلال ليلة واحدة".
ويشير إلى الميْليْن الكبيريْن اللذين كانا يدفعان الرِّياح بقوة لتملأ أشرعة الثورة فى ذلك المكان (فرنسا) وفى ذلك الزمان (1789): الرغبة فى المساواة والرغبة فى الحرية، ويقول:
"وقُرْبَ نهاية النظام القديم، كان هذان الميْلان خالصيْن بنفس القدر وكانا يبدوان مُفْعَمَيْن بنفس القدر. وفى بداية الثورة، تلاقيا؛ واختلطا عندئذ وامتزجا للحظة، وأجَّج كل منهما الآخر بالاحتكاك، وأخيرا ألْهَبا فى آنٍ واحد معا كل قلب فرنسا. ولاشك فى أن عام 1789 كان زمن انعدام الخبرة، ولكنْ زمن السخاء، والحماس، والرجولة، والعظمة: زمن الذكرى الخالدة، التى سوف تستدير إليها بإعجاب وباحترام أنظار البشر، عندما سيكون قد اختفى منذ وقت طويل أولئك الذين شهدوها ونحن أنفسنا. عندئذ كان الفرنسيون فخورين بقضيتهم وبأنفسهم بما يكفى لاعتقادهم بأنه كان بمستطاعهم أنْ يكونوا متساوين ومتمتعين بالحرية. ووسط المؤسسات الديمقراطية، أقاموا مؤسسات حرة فى كل مكان. ولم يقوموا فقط بهدم هذا التشريع البالى الذى كان يقسِّم البشر إلى فئات مغلقة، وإلى طوائف، وإلى طبقات، والذى كان يجعل حقوقهم أكثر لامساواة أيضا من أوضاعهم، بل قاموا أيضا بضربة واحدة بتدمير كل القوانين الأخرى، الأعمال الأحدث للسلطة الملكية، التى جرَّدتْ الأمة من التمتُّع الحرّ بحياتها، ووضعتْ الحكومة إلى جانب كل فرنسىّ، لتكون معلِّمه، والوصىّ عليه و،عند الضرورة، مُضْطَهِدَهُ. ومع الحكومة المطلقة، سقطتْ المركزة".
وهناك مسألة دقيقة يطرحها توكڤيل ويعيد طرحها المرة تلو المرة: المفارقة المتمثلة فى التناقض بين ما أراد الفرنسيون أنْ يحققوه عندما قاموا بثورة 1789 وما حققوه بالفعل، بين الهدف المنشود والمحصلة. وبكلمات توكڤيل: "قام الفرنسيون، فى 1789، بأكبر محاولة كرَّس لها شعب نفسه فى يوم من الأيام، ليُحْدثوا، إنْ جاز القول، انقطاعا فى خط مصيرهم، وليحفروا هوة يفصلون بها بين ما كانوه إلى ذلك الحين وما أرادوا أنْ يكونوه منذ ذلك الحين فصاعدًا. وبهذا الهدف، اتخذوا كافة أنواع الاحتياطات لئلا ينقلوا شيئا من الماضى إلى وضعهم الجديد: لقد فرضوا على أنفسهم قيودا من كل نوع لكىْ يعيدوا تشكيل أنفسهم بصورة تختلف عما كان عليه أجدادهم؛ وباختصار فإنهم لم ينسوا شيئا من شأنه محو سماتهم المميزة السابقة"، ويعلِّق على هذا بقوله: "وقد اعتقدتُ دائما أنهم كانوا أقل نجاحا بكثير فى هذا المشروع الفريد مما كان يُفترض فى الخارج ومما افترضوه هم أنفسهم فى بداية الأمر. وكنت مقتنعا بأنهم، دون أنْ يدروا، احتفظوا من النظام القديم بأغلب ميوله، وعاداته، وحتى بالأفكار التى قادوا بها الثورة التى دمرته، كما كنت مقتنعا بأنهم، دون رغبة منهم استخدموا هذه الأنقاض لتشييد صرح المجتمع الجديد".
ومن الجلىّ أن طرح المسألة بهذه الطريقة يكشف عن تناقض عميق للغاية ومنطقىّ للغاية بين الحلم الذى يُلْهِب الشعوب إبان الثورات وفى فترات الإعداد لها وفى فترات أولى تالية لانتصارها، من ناحية، والإدراك الواعى للمحتوى الحقيقىّ لهذه الثورات، من الناحية الأخرى. وكانت ثورة 1789، كما رأينا، رأسمالية من حيث محتواها، وبالتالى رأسمالية من حيث قيادتها وأهدافها ورسالتها التاريخية وأداة كبرى لتحقيق النظام الاجتماعىّ الاقتصادىّ الرأسمالىّ، والمجتمع الرأسمالىّ، والاستغلال الرأسمالىّ، والاستبداد الرأسمالىّ، فلا عجب إذن فى أنْ يعانى الفرنسيون فى نهاية المطاف استغلاله وقهره بعيدا عن الحرية والمساواة والإخاء التى كانت شعارات تعبئة البشر الذين كانوا وقود الثورة، ولا عجب إذن فى أنْ يصطدم الحلم القائم على الأوهام بالواقع العينىّ الوحشىّ الذى يتحقق بتراكم "طبيعىّ" فى غاية "البراءة"! ولا يعنى هذا أبدا التقليل مما حققتْه الثورة بالفعل، فقد كانت من الأدوات التاريخية الكبرى لرفع الشعب الفرنسىّ إلى مستوى الحضارة الرأسمالية، فهذه الحضارة مرحلة كبرى للصيرورة التاريخية المتصاعدة إلى الأمام مهما بلغتْ وحشيتها ضدّ "مواطنينها" وضد "الآخرين" جميعا، فهى لا تملك بحكم طبيعتها إلا أنْ تكون وحشية، وهل يملك البشر طريقا آخر إلى تحقيق إنسانيتهم الكاملة سوى طرق الآلام والوحشية؟
و توكڤيل، الذى يرثى بكل هذا الحنين زمن الثورة وأحلام وسخاء وتضحيات مَنْ قاموا بها، لا تساوره هو نفسه أىّ أوهام فهو يعلم جيدا (بل هو المكتشف لواقع) أن الفرنسيِّين إنما قاموا بتشييد صرح مجتمعهم الجديد باستخدام أنقاض "الثورة الأولى" أىْ "النظام القديم"، وإذا كانت ثورة 1789 ما تزال مستمرة فى زمنه، كما يقول، فإن تلك "الثورة الأولى" (أىْ "النظام القديم") هى التى كانت مستمرة إذن. وقبل أنْ أستأنف مناقشة هذه النقطة من حيث أبعادها وبالأخص من حيث مغزاها الراهن، أودّ أنْ أشير إلى أننى، خشية الإطالة فى هذا التقديم، تفاديتُ الوقوف عند القسم الثانى من الأقسام الثلاثة لهذا الكتاب، وهو القسم الأكبر بفصوله الاثنى عشر وهو بالذات المخصَّص لدراسة الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، وسيجد القارئ فى تلك الفصول شرحا معمَّقا لطبيعة "النظام القديم" الذى تمثلتْ الرسالة التاريخية للثورة فى تحريره من القيود والأغلال المَلَكِيَّة والإقطاعية والقروسطية لكىْ يندفع كمجتمع رأسمالىّ، بلا نعوت أخرى، كما يُقال، إلى الأمام. كما أن القارئ سيجد عونا حقيقيا فى استيعاب المحتوى البالغ الخصوبة لهذا الكتاب بكل أقسامه وكذلك هذا القسم الثانى من التحليل العميق الذى يقدِّمه فرانسوا فيريه François Furet و فرانسواز ميلونيو Françoise Mélonio، وهما حُجّتان فى الدراسات التوكڤيلية، فى مقدمتهما لترجمة إنجليزية حديثة لكتاب توكڤيل هى ترجمة آلان س. كاهان Alan S. Kahan طبعة The University of Chicago Press, London, 1998، وهى بالمناسبة ترجمة دقيقة وممتازة لنصّ توكڤيل، بالمقارنة مع ترجمات إنجليزية أخرى مثل ترجمة ستيوارت جيلبيرت Stuart Gilbert، البليغة ولكنْ التفسيرية وبالتالى غير الدقيقة تماما (1955)، وترجمة چون بونَّر John Bonner (نيويورك، 1856، أىْ فى نفس عام ظهور الأصل الفرنسىّ). ويوضح فيريه و ميلونيو أن القسم الثانى والرئيسىّ من كتاب توكڤيل يركز على المجتمع الفرنسىّ الأقدم فى سبيل استكشاف الاختلاف بين الأحداث فى فرنسا والتطور العام لأوروپا، ويبحث أصول الثورة الفرنسية خاصة فى أوروپا، ويؤكدان أن الفصول الاثنى عشر للقسم الثانى تشتمل على 6 فصول (2-7) تركِّز على تحليل المركزة الإدارية باعتبارها السمة المميِّزة للنظام القديم، و 4 فصول (8-11) تركِّز على نتائج هذه الظاهرة على حالة المجتمع، على حين يبحث الفصل الأول الحقوق الإقطاعية فى فرنسا فى ذلك الزمن، ويبحث الفصل الأخير (12) تدهور حالة الفلاحين خلال القرن الثامن عشر كاشفا مدى التَّوْق إلى الخروج من هذا البؤس إلى العدالة والمساواة والحرية. ويؤكد هذان الكاتبان أن النظام القديم، عند توكڤيل، لا يعنى حالة اجتماعية بل أزمة حالة اجتماعية، ليس المجتمع الإقطاعىّ أو الأريستقراطىّ القديم بل فترة متأخرة لهذا المجتمع عندما صار ممزَّقا بالمبادئ المتناقضة، وانفصال النظام المدنىّ عن النظام السياسىّ، واللامساواة المدنية (بقايا الإقطاع أو ما أعادت الأريستقراطية اختراعه)، والمساواة السياسية (تَساوِى الجميع فى الخضوع للملك). ويؤكدان على هذا الأساس أن فرنسا هى التى اندلعتْ فيها الثورة لأنها كانت قد بدأتْ فيها بالفعل، مختفية وراء اسم "النظام القديم"، أىْ أن "النظام القديم" كان يمثل الثورة الأولى قبل الثورة، كما يؤكدان أن توكڤيل يطبق تسمية "النظام القديم" على فترة الحكم المطلق أىْ المركزة الإدارية، وأن هذا يعنى أن الصيغة الثورية كان لها واقع تاريخىّ على مدى فترة قصيرة نسبيا فقط، تمتدّ من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791)، أىْ على مدى أكثر من قرن.
ولكىْ نستأنف فإنه لا مناص من أنْ نكرِّر باختصار: الثورة هى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر وقد تحتاج فى فترة من فترات تطوُّرها إلى ثورة سياسية عنيفة بطبعها فى مواجهة المقاومة الداخلية (الحروب الأهلية) والخارجية (الحروب الدفاعية والهجومية)، ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية قد تجلبها تطورات بنيوية وظرفية، داخلية وخارجية، عسكرية واقتصادية، قانونية وپوليسية، ويكفى التوقف قليلا عند بعض التراكمات البدائية لنرى مدى وحشيتها داخل وخارج الحدود بل إن الحرب تكاد تكون شكلا نموذجيا كشرط من الشروط الموضوعية للانتقال مثلا من العبودية إلى الإقطاع وهل يمكن فصل الغزوات الشمالية البربرية للإمپراطورية الرومانية كشرط حاسم من الشروط الموضوعية لانتقال أوروپا من العبودية إلى الإقطاع جنبا إلى جنب مع عناصر للمجتمع الإقطاعىّ الجديد كانت قد نمتْ فى قلب المجتمع العبودىّ وخلال عمليات تفسُّخه؟ وهل كانت الفتوحات المتواصلة فى شرقنا بعيدة عن الانتقال من النظم القديمة إلى الإقطاع (مثلا فى مصر)؟ وناهيك بالتراكم البدائىّ للرأسمالية فى إنجلترا أو روسيا! والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير؟!
وهنا نصل إلى نقطة حسَّاسة بالغة الحساسية من الناحية السياسية بالنسبة للماركسيِّين بالذات بكل أنواع ماركسياتهم، ويمكن تلخيصها فى هذا السؤال: إذا طبَّقنا فكرة أن الثورة هى "الدَّاية" التى تساعد بمهنتها المجيدة كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد على الثورات المسماة بالاشتراكية خلال القرن العشرين، والتى تكشَّفتْ فى النهاية طبيعتها الرأسمالية وأحيانا ما قبل الرأسمالية، فماذا يمكن أنْ نستنتج عن طبيعة تلك الثورات وعن رسالاتها التاريخية وعن "النظام القديم" لكل ثورة منها، وعن طبيعة المجتمع الجديد الذى كان كل مجتمع قديم من تلك المجتمعات حاملا به؟
وهذا السؤال مهمّ لفَهْم حقائق الماضى من أجل استكشاف وُعَود المستقبل. وهناك ردّ سريع ممكن وهو أن المجتمع الروسى القديم مثلا كان حاملا بحفار قبره غير التقليدىّ أىْ الپروليتارىّ وليس الرأسمالىّ أىْ أنه كان حاملا بالأحزاب الشيوعية والمنظمات العمالية والمجالس السوڤييتية. ولا شك فى أن هذا جانب من الحقيقة ولا يستطيع أحد أنْ ينكر هذا الجانب. غير أن المجتمع الروسىّ القديم كان حاملا أيضا بمجتمع جديد مختلف هو المجتمع الرأسمالىّ. وكان هذا أيضا جانبا من الحقيقة لا يمكن أيضا إنكاره، ويكفى الاطلاع على كتاب شهير ﻟ لينين ("تطوُّر الرأسمالية فى روسيا") للتحقُّق منه. وتؤدى المقارنة الموضوعية المتأنية (بعيدا عن الحساسيات الشعبوية والديماجوچية الرخيصة التى لم يَعُدْ لها مبرِّر لأننا لا نقوم بتمزيق جسم حىّ بل نقوم بتشريح جثة) إلى أن الوزن النسبىّ للمكوِّن الرأسمالىّ كان يفوق بلا جدال الوزن النسبىّ للمكوِّن الشيوعىّ أىْ أن حجم التطوُّر الرأسمالىّ كان يفوق بما لا يُقاس حجم النضج الشيوعىّ رغم واقع أن الشيوعيِّين هم الذين استولوا على سلطة الدولة، وهذا أمر لا تستبعده بل تؤكده التطورات المماثلة الكثيرة طوال القرن العشرين. وإذا كنا نجد أمامنا واقع أن المجتمع الروسىّ القديم كان حاملا بجنينيْن لأبويْن مختلفين، بمجتمعيْن جديديْن محتمليْن، وبوزنيْن متباينيْن، فإن هذا من طبيعة الأشياء، وهل كانت الثورة الفرنسية خالية تماما من جنين آخر لا يتمثل فقط فى الجنين الذى كان يمثله الوجود "الموضوعىّ" للطبقة العاملة، بل كذلك فى مستوى بعينه من انتشار الأفكار الاشتراكية التى يُهاجمها توكڤيل بلا هوادة؟ ألم تكن فرنسا بلد المفكر الاشتراكىّ موريللى Morelly (1717-؟) مؤلف كتاب le Code de la Nature [قانون الطبيعة] المطبوع فى 1755؟ خاصة وأن ديدرو و موريللى كانا، فيما يُقال، هما نفس الشخص وأن الكتاب المذكور كان يُنْسَب إلى ديدرو حتى بداية القرن العشرين: ديدرو Diderot (1713-1784) المحرِّر الرئيسىّ للموسوعة (الإنسيكلوپيديا) الشهيرة فى عصر التنوير بكل نفوذه الفكرىّ؟ ألم تكن فرنسا بلد البابوڤية Babouvisme، بلد الثورىّ اليعقوبىّ الجبلىّ جراكوس بابوڤ Gracchus Babeuv (1760-1797) الذى تحولتْ شيوعيته البدائية إلى الممارسة العملية الثورية والذى وضعه ماركس و إنجلس إلى جانب أولئك الذين انطلقوا من "الثورات الحديثة الكبرى"، واهتدوا إلى "صياغة مطالب پروليتارية" (معجم الماركسية النقدى، المذكور أعلاه) (مدخل: "بابوڤية").
وقد اندلعتْ الثورة البلشڤية وسط الدمار الذى أحدثتْه الحرب العالمية الأولى فى روسيا ثم هُوجمتْ من الداخل (الحرب الأهلية) ومن الخارج (التدخل الأجنبىّ) وبالطبع فإن كل هذا أضعف المكوِّن الشيوعىّ والپروليتارىّ الأضعف أصلا فى مواجهة المكوِّن الرأسمالىّ، وعمل لصالح تحقيق المجتمع الرأسمالىّ الذى كان يحمل به المجتمع القيصرىّ، مُضْفِيًا الطابع الرأسمالىّ من الناحية الجوهرية على الدولة والحزب وعلاقات الإنتاج البيروقراطية. وإذا كان من المنطقىّ أنْ نحكم بالنتائج البعيدة المدى لتطوُّر المجتمع السوڤييتىّ فلا مناص من التسليم بأن رأسمالية الدولة هى المحصلة المنطقية للثورة البلشڤية الرأسمالية من الناحية الجوهرية رغم الأفكار والأحلام والمشاعر الاشتراكية والشيوعية التى ناضل بها، وقاتل بها، وتفانَى بها، وضحَّى من أجلها بالأرواح، جيل مجيد من المناضلين الماركسيِّين الثوريِّين.
وقد لحقت بالثورة الروسية ثورات "اشتراكية" أخرى فى أوروپا الشرقية وينطبق على بعضها تقريبا ما ينطبق على الثورة الروسية بفضل تطور حقيقىّ للرأسمالية فيها قبل الثورات، كما لحقت بها ثورات "اشتراكية" فى آسيا وقد كشفت كل محاولات تطبيق نظرية الثورة الدائمة عليها حقيقة أن هذه النظرية أخفقتْ هناك تماما كما أخفقتْ توقعات تروتسكى و لينين و ماركس و إنجلس فيما يتعلق بروسيا وبالأخص فيما يتعلق بتفادى بعض مراحل الرأسمالية فيها من خلال استيعاب منجزات الرأسمالية دون مكابدة ويلاتها، كما كان يقول ماركس نفسه.
ولا جدال فى أن التحليل الموضوعىّ للانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ لاحق على مستوى العالم وطوال التاريخ يمكن أنْ يطرح علينا ألغازا كثيرة، نتيجة تشابُكات وتقاطعات وتفاعلات وتناقضات الشروط البنيوية والظرفية، الداخلية والخارجية، لهذه الثورات بصورة بالغة التعقيد، وبالأخص فيما يتعلَّق بتكوين نظام اجتماعىّ جديد فى قلب نظام اجتماعىّ قديم، ولا شك فى أن نشأة وتطور رأسمالية جبارة (بقيادة الحزب الشيوعىّ أيضا) رغم عدم وجود نواة رأسمالية متماسكة سابقة، ورغم وجود حروب داخلية طويلة الأمد وغزوات خارجية شرسة ولكنْ مع وجود تحالف خارجىّ قوىّ كما حدث فى الصين بوقائع عنيدة مثل النواة الرأسمالية المتواضعة، وحرب الأفيون، ووضع شبه المستعمرة، والمسيرة الطويلة، والغزو الياپانىّ، وخاتمة الحرب الأهلية، ولكنْ مع التحالف والتعاون الواسع النطاق لفترة قصيرة نسبيًّا مع الاتحاد السوڤييتىّ السابق، وبالانفتاح الحالىّ على الرأسمالية العالمية، .... لا شك فى أن الحالة الصينية تطرح علينا، على المستوى النظرىّ، مشكلة بالغة التعقيد تتمثل فى تنظيم تشييد الرأسمالية من موادّ وأنقاض قد تبدو عاجزة عن خلق كيان جديد متماسك، من الناحية المنطقية، ولكنْ الذى يتجه إلى قمة الرأسمالية العالمية، من الناحية التاريخية. وياله من دحض (قبل حلّ هذه المشكلة) لمقولة أن ما هو عقلىّ واقعىّ وما هو واقعىّ عقلىّ، أو لمقولة أن ما هو منطقىّ تاريخىّ وماهو تاريخىّ منطقىّ!
فماذا عن مستقبل الثورات الاشتراكية ذات الغاية الشيوعية فى المستقبل؟ هذا هو السؤال الذى يُؤرِّق الماركسيِّين بعد انهيار وتفكك وتهاوى "الاشتراكيات" فى كل مكان وبعد انكشاف طبيعتها الحقيقية الرأسمالية (وما قبل الرأسمالية) بما فى ذلك انكشاف الطبيعة الرأسمالية للصين بقيادة الحزب الشيوعىّ الصينىّ، وهو يطرح نفسه هنا من منظور يحاول استشراف إمكان خلق نظام اشتراكىّ داخل الرأسماليات القائمة الآن فى العالم. غير أن هذا النوع من التفكير قد يبدو، للوهلة الأولى على الأقلّ، غير معقول، بل أقرب إلى الجنون!
ذلك أنه يبدو إلى الآن أن التفكير العقلانىّ يتمثل فى اعتبار المجتمع الاشتراكىّ الذى يُولَد وينشأ ويتطوَّر وينضج فى رحم المجتمع الرأسمالىّ ليس سوى الطبقة العاملة الثورية ونضالاتها النقابية والسياسية بقيادة الحزب الشيوعىّ الثورىّ ونضالها الطويل وتحالفها الطبقىّ فى سبيل انتصار الثورة الاشتراكية والشروع فى بناء الاشتراكية والشيوعية. ويعنى هذا أنْ نكتفى بالوصفة القديمة رغم النتائج الكارثية التى تمخَّضتْ عنها تجارب هائلة استرشدتْ بتلك الوصفة؟
وحتى مع كل التطوير المطلوب لتلك الوصفة التى صارت قديمة فإنها لم تَعُدْ كافية، ويمكن أنْ يؤدِّى النقد العميق لتلك الوصفة إلى إنقاذ جوهرها بدلا من النضالات السيزيفية التى يمكن أنْ يؤدِّى إليها مجرد تكرارها. وقد تشمل اتجاهات تطويرها على التخلِّى عن مجموعة مترابطة من الأفكار والممارسات وإحلالها بأفكار وممارسات أخرى جديدة؛ ومن ذلك ضرورة التخلِّى عن أفكار ثورات أضعف حلقات السلسلة، وبناء الاشتراكية فى بلد واحد بعيدا عن الأممية، ونظريات حَرْق المراحل والثورة الدائمة، والمبالغة فى أهمية الاستيلاء العاجل على السلطة السياسية على أساس إدراك واضح بأن مثل هذه السلطة لا يمكن أنْ تكون أداة حقيقية لبناء الاشتراكية وتحقيق الشيوعية ما لم تكن ثمرة نضال شامل وعميق وطويل فى سبيل انتصار الثورة الاشتراكية، وكذلك التخلِّى عن مجموعة من مبادئ تنظيم الحزب الشيوعىّ مثل المركزية الديمقراطية وخضوع الأقلية للأغلبية والمستوى الأدنى للمستوى الأعلى بالإضافة إلى الابتعاد عن تقديس التنظيم السرى والاستفادة بالوسائل التى يوفِّرها العصر (مثل وسائل الاتصال الجديدة وبالأخص الإنترنت بكل تسهيلاته) وبعض التطورات (مثلا: حزب كذا تحت التأسيس حاليا فى مصر). على أن كل هذا لا يكفى لجعل المجتمع الرأسمالى "القديم" حاملا بمجتمع اشتراكىّ جديد. وهناك فيما أعتقد مجال واسع للاجتهاد الفكرى والممارسة العملية لبناء اشتراكية جديدة وتربية سياسية وفكرية: انطلاقا من القواعد بالاستفادة من الهيمنة بكل أطوارها على الطبقات التابعة والثانوية وإستراتيچية حرب المواقع التى تلائم الغرب فى مقابل إستراتيچية حرب الحركة التى كانت ملائمة لروسيا وفقا لفكر جرامشى؟ بالاستفادة من بناء سلطات اشتراكية محلية من داخل اللعبة الديمقراطية البرچوازية ذاتها مثلما يجرى انتزاع سلطات المحليات ليس فقط فى بعض بلدان أوروپا بل حتى فى البرازيل وغيرها؟ بالاستفادة من تجارب التسيير الذاتى والمناطق المحررة ولكنْ خارج إطارها الأصلىّ أىْ بدون وجود أوضاع مثل أوضاع يوجوسلاڤيا السابقة وبدون وجود مناطق محرَّرة كتلك التى عرفتْها الحروب الشعبية؟ وغير ذلك مما يحتاج إلى اجتهاد ماركسىّ جسور واسع النطاق بعد الشلل الذى أصاب الجميع فى أربعة أركان الأرض، كما يُقال، نتيجة للزلزال السوڤييتىّ وتوابعه؟ وباختصار: هل هناك احتمال لأن "تتخندق" الاشتراكية بالوسائل القانونية من خلال حرب "مواقع" فى قلب المجتمع الرأسمالىّ أم أن موضوع مجتمع رأسمالىّ حامل بمجتمع اشتراكىّ يطرح إطارا معرفيًّا "پارادايم" مختلفا تماما كشرط حاسم للثورة الاشتراكية على كل حال؟ وفى القسم الأول من كتابه الشهير "الثامن عشر من پرومير لويس بوناپرت (Project Gutenberg s The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte, by Karl Marx) يقارن ماركس من زاوية ما بين الثورات البرچوازية والثورات الپروليتارية فيقول: "الثورات البرچوازية، مثل ثورات القرن الثامن عشر، تندفع بسرعة إلى الأمام من نجاح إلى نجاح، وتفوق تأثيراتها المسرحية بعضها البعض، ويبدو فيها الأشخاص والأشياء محاطين بوهج الماس المتألِّق، وتكون النشوة هى المسيطرة؛ غير أن هذه الثورات قصيرة العمر، فهى تصل إلى ذروتها بسرعة، وعندئذ يغرق المجتمع فى نوبة من ردّ الفعل العصيب قبل أنْ يتعلَّم كيف يتكيَّف مع فترة الإثارة المحمومة التى مرَّ بها. أما الثورات الاشتراكية، مثل ثورات القرن التاسع عشر، فإنها على العكس، تنتقد نفسها بصورة متواصلة؛ وتقطع بصورة متواصلة العمل فى مجراها نفسه؛ وتعود إلى ما يبدو أنه تمّ إنجازه، لكىْ تبدأ العمل فيه من جديد؛ وتزدرى بقسوة تامة نصف تدابير، ونواقص، وحقارات محاولاتها الأولى؛ ويبدو لها أنها تصرع خصومها فقط لتجدهم قادرين على أن يستمدُّوا قوة جديدة من الأرض، وينهضوا ضدها من جديد بقامة أضخم؛ وتتراجع خائفة بصورة متواصلة أمام الحجم البالغ الضخامة وغير المحدود لأهدافها هى - إلى أنْ يتحقق فى النهاية خلق ذلك الموقف الذى يجعل كل تراجُعٍ مستحيلا، وتصرخ الأوضاع ذاتها: Hic Rhodus, hic salta [هنا رودس، اقفزْ هنا: صيغة لا تينية مستمدة من الصيغة اليونانية الأصلية الواردة فى إحدى خرافات إيسوپ Aesop؛ وقد شاعت بفضل هيجل و ماركس اللذيْن استشهدا بها بترجمة خاطئة ﻟ "رودس" إلى "الوردة"]".
وكما يؤكد الماركسىّ الفرنسىّ ألبير سوبول Albert Soboul فى محاضرته الواردة فى الكتاب الذى أعدَّه مركز الدراسات والأبحاث الماركسية ﺒ پاريس: Sur le féodalisme, Éditions Sociales, Paris,1974 فإن "توكڤيل لم يُخطئ [باستعمال لفظة féodalité = إقطاع] ولا يمكن الطعن فى شهادة هذا المراقب الثاقب الفكر [...] وبالنسبة له كانت الثورة معادية للإقطاع من الناحية الجوهرية. ولم تتمثل نتيجتها ’إلا فى إلغاء هذه المؤسسات السياسية التى سادت بلا منازع، خلال قرون عديدة، عند أغلب الشعوب الأوروپية، والتى نشير إليها عادة باسم مؤسسات إقطاعية‘، وقد تمثل عملها فى ’تدمير [...] كل ما كان يتفرَّع، فى المجتمع القديم، عن المؤسسات الأريستقراطية، [...] كل ما كان يحمل منها، بأية درجة كانت، أدنى سمة‘".
لقد أغرتنى خصوبة فكر توكڤيل بالتطفُّل على الموضوع المحدَّد لهذا الكتاب، كما يوضِّح سوبول، ولم يكن بوسعى أنْ أتفادى الانجراف بعيدا مع المحتوى الأوسع للكتاب، داعيا إلى استكشاف دروس الكابوس الذى عبر: قيام وانهيار الثورات المسماة بالاشتراكية وإلى استشراف المستقبل بالاستفادة من فكرة توكڤيلية لا تتناقض مع الماركسية، رغم معاداة هذا المفكر السياسىّ العبقرىّ للاشتراكية، بل تتكامل معها، كما رأينا من نصوص ماركس بهذا الشأن. على أن كل هذا لا يستنفد ما يقدِّمه عمل توكڤيل فى هذا الكتاب وفى كتابه المهم السابق "عن الديمقراطية فى أمريكا" De la Démocratie en Amérique، والحقيقة أن تكامل توكڤيل مع الماركسية يتجلَّى فى تحليله الريادىّ لدور الفكر والأيديولوچية والأبنية الفوقية فى المجتمع وبالتالى فى الثورة، هذا الدور الذى سوف يركِّز عليه فلاسفة مدرسة فرانكفورت فى فترتهم الماركسية على حين لم يركِّز عليها ماركس و إنجلس بحكم أولويات بحثهما. ويذكِّرنا هذا بموقف پول سويزى Paul Sweezy، فى كتابه "نظرية التطوُّر الرأسمالىّ" The Theory of Capitalist Development, Modern Reader Paperbacks, New York and London, 1974 إزاء ناقد بارزا ﻟ ماركس وهو لاديسلاوس فون بورتكييفيتش Ladislaus von Bortkievicz (اقتصادىّ روسىّ وإحصائىّ من أصل پولندىّ: 1868-1931) الذى أدرك كامل مغزى قانون القيمة واستخداماته وأرسى الأساس لبرهنة لا سبيل إلى الاعتراض عليها بصورة منطقية على صِحَّة منهج ماركس، مما يجعل من حقه أنْ يُعْتَبَر ليس فقط ناقدا للماركسية بل أيضا مساهما مهمًّا فى النظرية الماركسية (pages 70-71)، بالإضافة إلى تصحيحه لخطأ منهج ماركس  فيما يتعلَّق بتحوُّل القِيَم إلى أسعار، كما يوضِّح سويزى، (page 115). ويمكن قول الشيء ذاته عن الصلة الوثيقة بين ماركسية جرامشى والفيلسوف المثالىّ والسياسىّ الليبرالىّ الإيطالىّ بينيدتو كروتشه Benedetto Croce  (1866-1952). وناهيك بالعلاقة الوثيقة بين مادية ماركس ومثالية هيجل. فلا غرابة إذن فى أنْ نلاحظ الالتقاء الجوهرىّ بين مفهوم توكڤيل عن الثورة السياسية البرچوازية فى علاقتها بالثورة الاجتماعية البرچوازية، والتصوُّر الماركسىّ عن هاتين الثورتين المترابطتين، ولا غرابة فى محاولة تطبيق نظرية الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر عند ماركس و توكڤيل فى "تكاملهما" المعقَّد بطبيعة الحال على الثورات الاشتراكية الحقيقية والمزعومة.
على أن الاستفادة الكاملة من بصيرة توكڤيل النافذة فى فَهْم الانتقال والنظام السابق واللاحق لا تكتمل إلا ببحث كل أبعاد دراسته النادرة المثال عن الأبنية الفوقية للمجتمعيْن الانتقالىّ والبرچوازىّ وعن دور الفلسفة والفكر والأدب فى الثورة الاجتماعية وعن الطبقات الاجتماعية قبل وأثناء وبعد الثورة من حيث فكرها وتكوينها النفسىّ ومشاعرها وأحلامها ومخاوفها. ويقول توكڤيل إنه لا يتحدث عن أفراد بل عن "طبقات، فهى وحدها يجب أنْ تكون الشغل الشاغل للتاريخ"، كما يؤكد، وهو لا يبحث هذه الطبقات من حيث تكوينها الاقتصادىّ والاجتماعىّ والقانونىّ فحسب، بل يتجاوز كل ذلك إلى علم النفس الجمعىّ من خلال لوحة غنية الألوان والظلال تقدِّم بحثا بالغ الدقة والخصوبة معا عن أفراد ومجموعات مختلف الطبقات حيث يغوص فى أعماق القلوب وأدقّ الميول والأمزجة والمشاعر والأحلام والأوهام والخوف والذعر والخشية والتمنِّى والرغبة والقسوة والوحشية وانعدام الشفقة والحسد والغيرة وروح الانتقام والتضامن الحقيقىّ والكراهية والتربُّص والوشاية، وكل ما يملأ عقول وقلوب ونفوس وصدور البشر الأحياء من لحم ودم فى مباهجهم ومآسيهم الاجتماعية والنفسية، التاريخية واليومية.
وكتاب توكڤيل ليس مديحا للنظام القديم الذى يقوم بتشريحه بمشرط الجرَّاح حيث يفرز بداخله الوعود التقدُّمية الحقيقية للمستقبل والمعوقات التى تتمثل فى البقايا الإقطاعية والقروسطية فى آن معا، كما أنه ليس انتقاما من ثورة 1789 التى يمجِّدها ويحتفى بها ويُقَدِّر مغزاها التاريخىّ التقدُّمىّ ويسجِّل إخفاقاتها وشرورها ومآسيها على المدى الطويل. وبهذا يتجاوز توكڤيل فى وقت واحد إطاره الفكرىّ والسياسىّ المحافظ، من جهة، ومحنته العائليّة مع الثورة، من الجهة الأخرى، إلى أفق أرحب. ذلك أنه، كما نقرأ فى مقدمة ميلونيو لطبعة Flammarion السابقة الذكر لهذا الكتاب، "بالنسبة ﻟ توكڤيل، باعتباره أريستقراطيًّا مناصرا للديمقراطية، لم تكن الثورة الفرنسية ثورة الآخرين، كما أنها لم تكن ثورته هو. كان ما يزال متعلِّقا بالنظام القديم، وكان يريد القبول بالحداثة: موقف حَرِج بين الأمريْن" (page 7). كان توكڤيل أريستقراطيًّا ومرتبطا بإرثه العائلىّ لأنه كان قبل كل شيء "الوريث لاسم، ولدور اجتماعىّ مهيمن، وكان بوجه خاص الوريث لسؤال عن مصير النبلاء فى المجتمع الحديث. وعلى هذا السؤال العائلىّ، الحائر بين الحنين إلى الماضى وقبول الصيرورة التاريخية، لم يقدِّم ردًّا أحادىّ المعنى". وكان والد جده من ناحية الأم، الشهير مالزيرب Malesherbes، صديق الفلاسفة [أُعْدِمَ بالمقصلة فى 1794]، "بعد أنْ دافع عن الشعب أمام الملك لويس السادس عشر، دافع عن الملك لويس السادس عشر أمام الشعب ... مثال مزدوج". كما أن والده إيرڤيه Hervé "كان يشارك فى هذا الولاء المزدوج للشعب والملك، ورغم أنه كان الخادم المتفانى للاستعادة [البوربونية] التى جعلته واليًا préfet ثم نبيل فرنسا pair de france، فقد نشر فى 1847-1850 دراستيْن بروح مونتيسكييه Montesquieu حول أسباب الثورة. واتَّهَمَ فيهما صَمَمَ الملوك إزاء ’روح العصر‘، وتشبُّث طبقة النبلاء بامتيازاتها. ولن يقول الابن شيئا مختلفا". كما أن "العائلة التى عانت بقسوة من عهد الإرهاب، لم تعتنق جميعا ليبرالية التنوير. وكانت أمُّ توكڤيل، التى أنقذها [صعود] التيرميدور Thermidor [وسقوط روبسپيير Robespierre وعهد الإرهاب] من المقصلة، قد أصابها فى هذه المحنة [...] بالتعلُّق، المرضىّ إلى حدٍّ ما، بنظام قديم خيالىّ إلى حدٍّ كبير [...] وكانت تُغَنِّى ﻟ أليكسى الصغير أغانى مأساوية عن موت الملك" (pages 8-9).
أواسط عام 2010
 
 
 
 
 
 
 
2
عرض لكتاب: "النظام القديم والثورة الفرنسية"
تأليف: أليكسى دو توكڤيل
هذا الكتاب مُترجَم ومنشور قبيل الثورة الشعبية السياسية فى مصر منذ 25 يناير 2011. ولهذا تخلو مقدمتى للكتاب من أىّ إشارة إلى ثورتنا التى جعلت الكتاب مع ذلك كتابا يأتى فى وقته، حيث تثور فى سياق ثورتنا أسئلة ملحة عن الثورة ومفهومها وسياقاتها والنتائج الكبرى للثورات بوجه عام. وهو منشور بعد انقلاب 1952 الشهير بثورة يوليو بقرابة ستين سنة وكان توكڤيل يؤلف كتابه هذا بعد ثورة 1789 الفرنسية الكبرى، بقرابة ستين سنة كذلك. ولم يكن من الممكن أن يتنبأ أحد بهذه الثورة أو تلك حيث يستحيل التنبؤ بالثورات بوجه عام مهما قال قائل أو آخر إن حالة اجتماعية سياسية ما تتجه بأمة أو دولة إلى ثورة لا يعرف موعدها أحد. وكما كان على توكڤيل أن يدرس ويحلل ثورة بلاده بعد ستين سنة علينا أن ندرس ونحلل ثورتنا الآن. والفرق هو أنه كان يقوم بتشريح جثة مهما قال إن تلك الثورة كانت ما تزال مستمرة على حين أن علينا أن نقوم هنا والآن بدراسة ثورتنا فى خضم تطوراتها لكى نسير بها إلى الأمام فى مواجهة أخطار كبرى تتهددها وربما كان الخطر الأكبر يتمثل فى سياقها التاريخى ذاته وفى طبيعتها وفى نتائج الثورات فى العالم الثالث بوجه عام. وأعتقد أن كتاب توكڤيل يقدِّم لنا عونا كبيرا فى هذا المجال رغم أن السياق التاريخى لثورته تختلف جذريا عن السياق التاريخى لثورتنا.
على أن علينا أن نركز هنا على الكتاب نفسه. ويحدد توكڤيل منذ الجملة الأولى فى مقدمته لكتابه طبيعة هذا الكتاب قائلا: "الكتاب الذى أقدمه الآن ليس أبدًا تاريخا للثورة الفرنسية، فذلك التاريخ مكتوب بصورة أروع من أنْ أفكر فى إعادة كتابته؛ إنه بالأحرى دراسة عن هذه الثورة". والحقيقة أن الكتاب دراسة للنظام القديم وليس دراسة للثورة، وكان توكڤيل يخطط للجزء الثانى للكتاب الذى كان عليه أن يدرس الثورة وتطوراتها ونتائجها، غير أن المنية وافته قبل إنجاز هذا المشروع تماما كما توجَّس فى سياق مقدمته قائلا: "وقد تمّ إعداد مسوَّدات لقسم من هذا الكتاب الثانى، غير أنه لا يزال غير جاهز للنشر. فهل سأوفَّق إلى إتمامه؟ ومَنْ ذا الذى يَسَعُه أنْ يعرف ؟ إن أقدار الأفراد تظل أكثر إبهاما بكثير من أقدار الشعوب".
ويتألف الكتاب من ثلاثة أقسام: يتناول القسم الأول طبيعة الثورة، ويدرس القسم الثانى بفصوله الاثنى عشر الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، على حين يبحث القسم الثالث مسألة لماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية.
ويطرح توكڤيل أسئلة ملحَّة متكررة متواصلة تناولها فى القسم الأول من الكتاب بفصوله القصيرة الخمسة، وهذه الأسئلة هى: "ماذا كان الموضوع الحقيقى للثورة؟ وما هى طبيعتها الخاصة فى نهاية المطاف؟ ولماذا على وجه التحديد تم القيام بها؟ وماذا حققتْ؟". وهو يفنِّد الأحكام المتناقضة عن الثورة مُبَيِّنًا أن موضوعها لم يكن تدمير السلطة الدينية المسيحية ولا إضعاف السلطة السياسية وأنها كانت ثورة سياسية وإنما اتخذتْ مظهر الثورات الدينية بحكم طابعها الفكرىّ العالمىّ وتبشيرها بمبادئ تنسجم مع روح العصر، أما ما حققتْه الثورة الفرنسية بالفعل فقد تمثل فى كونها تكملة لعمل طويل سابق عليها وبدونها كان يمكن أنْ يتحقق هذا العمل ذاته بصورة تراكمية تدريجية طويلة لاحقة لما كان النظام القديم قد أنجزه بالفعل: "ومهما كانت الثورة جذرية فإنها مع ذلك جدَّدَتْ أقلّ كثيرا مما يُفترض عادة: [......]. وما يصحّ قوله عنها هو أنها دمَّرتْ بالكامل أو بسبيلها إلى أنْ تدمِّر (ذلك أنها ما زالت مستمرة) كل ما كان يتفرَّع، فى النظام القديم، عن المؤسسات الأريستقراطية والإقطاعية، كل ما كان يرتبط بها بطريقة ما، كل ما كان يحمل منها، بأية درجة كانت، أدنى سمة. وهى لم تحتفظ من العالم القديم إلا بكل ما كان دائما غريبا على هذه المؤسسات أو استطاع أنْ يوجد بدونها. والحقيقة أن الثورة لا يمكن وصفها أبدا بأنها حدث عرضىّ. وصحيح أن الثورة أخذتْ العالم على غِرَّة ومع ذلك فإنها لم تكن سوى تكملة لعمل أطول، النهاية المفاجئة والعنيفة لعمل ظلت تمارسه قبل ذلك على مدى عشرة أجيال من البشر. ولو لم تقع الثورة ما كان لذلك أنْ يمنع انهيار النظام الاجتماعى الهَرِم، هنا أسرع، وهنا أبطأ؛ كل ما فى الأمر أنه كان سيواصل الانهيار قطعة قطعة بدلا من التداعى دفعة واحدة. والحقيقة أن الثورة حققت على نحو مباغت، عن طريق محاولة مفاجئة ومؤلمة، وبدون انتقال، وبدون تحفُّظ، وبدون احتياط، ماكان سيتحقق قليلا قليلا من تلقاء نفسه فى الأمد الطويل. وكان ذلك هو العمل الذى حققتْه".
ويدرس القسم الثانى من الأقسام الثلاثة لهذا الكتاب، وهو القسم الأكبر بفصوله الاثنى عشر وهو بالذات المخصَّص لدراسة الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، وسيجد القارئ فى تلك الفصول شرحا معمَّقا لطبيعة "النظام القديم" الذى تمثلتْ الرسالة التاريخية للثورة فى تحريره من القيود والأغلال المَلَكِيَّة والإقطاعية والقروسطية لكىْ يندفع كمجتمع رأسمالىّ، بلا نعوت أخرى، كما يُقال، إلى الأمام. ويركز هذا القسم الثانى والرئيسىّ من كتاب توكڤيل على المجتمع الفرنسىّ الأقدم فى سبيل استكشاف الاختلاف بين الأحداث فى فرنسا والتطور العام لأوروپا، ويبحث أصول الثورة الفرنسية خاصة فى أوروپا، وتشتمل الفصول الاثنى عشر للقسم الثانى على 6 فصول (2-7) تركِّز على تحليل المركزة الإدارية باعتبارها السمة المميِّزة للنظام القديم، و 4 فصول (8-11) تركِّز على نتائج هذه الظاهرة على حالة المجتمع، على حين يبحث الفصل الأول الحقوق الإقطاعية فى فرنسا فى ذلك الزمن، ويبحث الفصل الأخير (12) تدهور حالة الفلاحين خلال القرن الثامن عشر كاشفا مدى التَّوْق إلى الخروج من هذا البؤس إلى العدالة والمساواة والحرية. والحقيقة أن النظام القديم، عند توكڤيل، لا يعنى حالة اجتماعية بل أزمة حالة اجتماعية، ليس المجتمع الإقطاعىّ أو الأريستقراطىّ القديم بل فترة متأخرة لهذا المجتمع عندما صار ممزَّقا بالمبادئ المتناقضة، وانفصال النظام المدنىّ عن النظام السياسىّ، واللامساواة المدنية (بقايا الإقطاع أو ما أعادت الأريستقراطية اختراعه)، والمساواة السياسية (تَساوِى الجميع فى الخضوع للملك). وعلى هذا الأساس كانت فرنسا هى التى اندلعتْ فيها الثورة لأنها كانت قد بدأتْ فيها بالفعل، مختفية وراء اسم "النظام القديم"، أىْ أن "النظام القديم" كان يمثل الثورة الأولى قبل الثورة، ويطبق توكڤيل تسمية "النظام القديم" على فترة الحكم المطلق أىْ المركزة الإدارية، ويعنى هذا أن الصيغة الثورية كان لها واقع تاريخىّ على مدى فترة قصيرة نسبيا فقط، تمتدّ من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791)، أىْ على مدى أكثر من قرن.
الثورة الاجتماعية إذن هى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر وقد تحتاج فى فترة من فترات تطوُّرها إلى ثورة سياسية عنيفة بطبعها فى مواجهة المقاومة الداخلية (الحروب الأهلية) والخارجية (الحروب الدفاعية والهجومية)، ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية قد تجلبها تطورات بنيوية وظرفية، داخلية وخارجية، عسكرية واقتصادية، قانونية وپوليسية، ويكفى التوقف قليلا عند بعض التراكمات البدائية لنرى مدى وحشيتها داخل وخارج الحدود بل إن الحرب تكاد تكون شكلا نموذجيا كشرط من الشروط الموضوعية للانتقال مثلا من العبودية إلى الإقطاع وهل يمكن فصل الغزوات الشمالية البربرية للإمپراطورية الرومانية كشرط حاسم من الشروط الموضوعية لانتقال أوروپا من العبودية إلى الإقطاع جنبا إلى جنب مع عناصر للمجتمع الإقطاعىّ الجديد كانت قد نمتْ فى قلب المجتمع العبودىّ وخلال عمليات تفسُّخه؟ وهل كانت الفتوحات المتواصلة فى شرقنا بعيدة عن الانتقال من النظم القديمة إلى الإقطاع (مثلا فى مصر)؟ وناهيك بالتراكم البدائىّ للرأسمالية فى إنجلترا أو روسيا السوڤييتية! والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير؟!
وهنا تبرز مسألة بالغة الأهمية يدَّخرها توكڤيل للقسم الثالث بفصوله الثمانية: لماذا إذن سارت فرنسا فى طريق الثورة العنيفة؟ ولماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية التى كانت تشترك معها فى نفس مسيرة الحضارة الرأسمالية الحديثة، من جهة، والتى كانت شعوب بلدان منها (ألمانيا بالذات) تعانى معوقات الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة وبقايا القرون الوسطى بصورة أشدّ وطأة بما لا يُقاس؟
ولعلّ من الجلىّ أن التقاطع بين مجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية هو الذى رشَّحَ فرنسا لذلك الحدث الكبير، لاندلاع ثورة 1789 منها: ضعف الإقطاع، ضعف القنانة، إفقار وتدهوُر النبلاء، تطوُّر المِلْكِيَّة العقارية الفلاحية، نموّ الصناعة والزراعة والعلاقات السلعية النقدية، تبلوُر طبقة برچوازية من رجال المال والأعمال، تبلوُر طبقة عمالية واسعة، الثورة الفكرية والأدبية وبروز الفلاسفة والمفكرين والأدباء كقيادة سياسية للشعب، ازدياد الشعور بوطأة الامتيازات والحقوق الإقطاعية والنفور الشديد منها ومن الإقطاع الدينىّ بحكم هذه التطورات التقدمية ذاتها، التهاب كراهية اللامساواة والرغبة فى الحرية، الاندفاع الثورىّ الناتج عن كل هذا، ونستطيع أنْ نقرأ توكڤيل مباشرة وهو يبسط تقاطع واندماج هذه الشروط:
"وإذا أخذنا فى الاعتبار أنه إنما حدث بيننا نحن [الفرنسيِّين] أن النظام الإقطاعىّ كان قد فقد كل ما كان يمكن أنْ يحميه أو يخدمه، دون أنْ يغيِّر ما كان يزعج أو يضايق فيه، سنكون أقل دهشة إزاء واقع أن الثورة – التى كان عليها أن تُلغى بعنف هذا التكوين العتيق لأوروپا – انفجرتْ فى فرنسا وليس فى أىّ مكان آخر.
"وإذا نحن التفتنا إلى واقع أن النبلاء، بعد أنْ فقدوا حقوقهم السياسية القديمة، وكفُّوا، أكثر مما شهد أىّ بلد آخر فى أوروپا الإقطاعية، عن أنْ يديروا ويقودوا السكان، كانوا مع ذلك لم يحافظوا فقط على (بل زادوا كثيرا من) امتيازاتهم المالية ومغانمهم التى تمتَّع بها أعضاء هذه الطبقة بصفة فردية؛ وإذا التفتنا إلى واقع أنهم مع تحوّلهم إلى طبقة ثانوية ظلوا يشكلون طبقة ثرية ومغلقة: بصورة أقل فأقل أريستقراطية، كما سبق أنْ قلتُ فى موضع آخر، وبصورة أكثر فأكثر طبقة مغلقة، فإنه لن يدهشنا بعد ذلك واقع أن امتيازاتهم تبدو غير قابلة للتفسير وبغيضة بالنسبة للفرنسيِّين، وواقع أنه فى مواجهة هذه الامتيازات تأجَّج الميْل الديمقراطىّ فى قلوبهم إلى حد أنه ما يزال يشتعل فيها.
"وأخيرا، إذا أخذنا فى الاعتبار واقع أن هؤلاء النبلاء، منفصلين عن الطبقات المتوسطة، التى كانوا قد طردوها من بينهم، ومن الشعب الذى  كانوا قد خسروا قلبه، صاروا معزولين تماما عن بيئة الأمة، فكانوا فى الظاهر طليعة جيش، وفى الواقع هيئة من الضباط بلا جنود، فإننا نفهم كيف أنه، بعد أنْ كانوا متماسكين على مدى ألف عام، صار من الممكن الإطاحة بهم خلال ليلة واحدة".
ويشير إلى الميْليْن الكبيريْن اللذين كانا يدفعان الرِّياح بقوة لتملأ أشرعة الثورة فى ذلك المكان (فرنسا) وفى ذلك الزمان (1789): الرغبة فى المساواة والرغبة فى الحرية، ويقول:
"وقُرْبَ نهاية النظام القديم، كان هذان الميْلان خالصيْن بنفس القدر وكانا يبدوان مُفْعَمَيْن بنفس القدر. وفى بداية الثورة، تلاقيا؛ واختلطا عندئذ وامتزجا للحظة، وأجَّج كل منهما الآخر بالاحتكاك، وأخيرا ألْهَبا فى آنٍ واحد معا كل قلب فرنسا. ولاشك فى أن عام 1789 كان زمن انعدام الخبرة، ولكنْ زمن السخاء، والحماس، والرجولة، والعظمة: زمن الذكرى الخالدة، التى سوف تستدير إليها بإعجاب وباحترام أنظار البشر، عندما سيكون قد اختفى منذ وقت طويل أولئك الذين شهدوها ونحن أنفسنا. عندئذ كان الفرنسيون فخورين بقضيتهم وبأنفسهم بما يكفى لاعتقادهم بأنه كان بمستطاعهم أنْ يكونوا متساوين ومتمتعين بالحرية. ووسط المؤسسات الديمقراطية، أقاموا مؤسسات حرة فى كل مكان. ولم يقوموا فقط بهدم هذا التشريع البالى الذى كان يقسِّم البشر إلى فئات مغلقة، وإلى طوائف، وإلى طبقات، والذى كان يجعل حقوقهم أكثر لامساواة أيضا من أوضاعهم، بل قاموا أيضا بضربة واحدة بتدمير كل القوانين الأخرى، الأعمال الأحدث للسلطة الملكية، التى جرَّدتْ الأمة من التمتُّع الحرّ بحياتها، ووضعتْ الحكومة إلى جانب كل فرنسىّ، لتكون معلِّمه، والوصىّ عليه و،عند الضرورة، مُضْطَهِدَهُ. ومع الحكومة المطلقة، سقطتْ المركزة".
وهناك مسألة دقيقة يطرحها توكڤيل ويعيد طرحها المرة تلو المرة: المفارقة المتمثلة فى التناقض بين ما أراد الفرنسيون أنْ يحققوه عندما قاموا بثورة 1789 وما حققوه بالفعل، بين الهدف المنشود والمحصلة. وبكلمات توكڤيل: "قام الفرنسيون، فى 1789، بأكبر محاولة كرَّس لها شعب نفسه فى يوم من الأيام، ليُحْدثوا، إنْ جاز القول، انقطاعا فى خط مصيرهم، وليحفروا هوة يفصلون بها بين ما كانوه إلى ذلك الحين وما أرادوا أنْ يكونوه منذ ذلك الحين فصاعدًا. وبهذا الهدف، اتخذوا كافة أنواع الاحتياطات لئلا ينقلوا شيئا من الماضى إلى وضعهم الجديد: لقد فرضوا على أنفسهم قيودا من كل نوع لكىْ يعيدوا تشكيل أنفسهم بصورة تختلف عما كان عليه أجدادهم؛ وباختصار فإنهم لم ينسوا شيئا من شأنه محو سماتهم المميزة السابقة"، ويعلِّق على هذا بقوله: "وقد اعتقدتُ دائما أنهم كانوا أقل نجاحا بكثير فى هذا المشروع الفريد مما كان يُفترض فى الخارج ومما افترضوه هم أنفسهم فى بداية الأمر. وكنت مقتنعا بأنهم، دون أنْ يدروا، احتفظوا من النظام القديم بأغلب ميوله، وعاداته، وحتى بالأفكار التى قادوا بها الثورة التى دمرته، كما كنت مقتنعا بأنهم، دون رغبة منهم استخدموا هذه الأنقاض لتشييد صرح المجتمع الجديد".
ومن الجلىّ أن طرح المسألة بهذه الطريقة يكشف عن تناقض عميق للغاية ومنطقىّ للغاية بين الحلم الذى يُلْهِب الشعوب إبان الثورات وفى فترات الإعداد لها وفى فترات أولى تالية لانتصارها، من ناحية، والإدراك الواعى للمحتوى الحقيقى لهذه الثورات، من الناحية الأخرى. وكانت ثورة 1789، كما رأينا، رأسمالية من حيث محتواها، وبالتالى رأسمالية من حيث قيادتها وأهدافها ورسالتها التاريخية وأداة كبرى لتحقيق النظام الاجتماعىّ الاقتصادىّ الرأسمالىّ، والمجتمع الرأسمالىّ، والاستغلال الرأسمالىّ، والاستبداد الرأسمالىّ، فلا عجب إذن فى أنْ يعانى الفرنسيون فى نهاية المطاف استغلاله وقهره بعيدا عن الحرية والمساواة والإخاء التى كانت شعارات تعبئة البشر الذين كانوا وقود الثورة، ولا عجب إذن فى أنْ يصطدم الحلم القائم على الأوهام بالواقع العينىّ الوحشىّ الذى يتحقق بتراكم "طبيعىّ" فى غاية "البراءة"! ولا يعنى هذا أبدا التقليل مما حققتْه الثورة بالفعل، فقد كانت من الأدوات التاريخية الكبرى لرفع الشعب الفرنسىّ إلى مستوى الحضارة الرأسمالية، فهذه الحضارة مرحلة كبرى للصيرورة التاريخية المتصاعدة إلى الأمام مهما بلغتْ وحشيتها ضدّ "مواطنينها" وضد "الآخرين" جميعا، فهى لا تملك بحكم طبيعتها إلا أنْ تكون وحشية، وهل يملك البشر طريقا آخر إلى تحقيق إنسانيتهم الكاملة سوى طريق الآلام والوحشية؟
و توكڤيل، الذى يرثى بكل هذا الحنين زمن الثورة وأحلام وسخاء وتضحيات مَنْ قاموا بها، لا تساوره هو نفسه أىّ أوهام فهو يعلم جيدا (بل هو المكتشف لواقع) أن الفرنسيِّين إنما قاموا بتشييد صرح مجتمعهم الجديد باستخدام أنقاض "الثورة الأولى" أىْ "النظام القديم"، وإذا كانت ثورة 1789 ما تزال مستمرة فى زمنه، كما يقول، فإن تلك "الثورة الأولى" (أىْ "النظام القديم") هى التى كانت مستمرة إذن.
وينقلنا هذا إلى مقارنة لا مناص منها بين السياق التاريخى للثورة السياسية الفرنسية (1789، 1830، 1848) والسياق التاريخى لثورتنا السياسية المصرية. كانت الثورة أو الثورات السياسية فى البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية متقدمة تجرى فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية التى تتمثل فى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر: التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية فى حالة فرنسا وغيرها من البلدان المتقدمة. ويمكن أن نرصد بوجه خاص ثلاث نتائج كبرى للثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية، رغم كل خصوصية ورغم كل تنوُّع: النتيجة الأولى إزالة العراقيل والمعوقات والحواجز أمام التحول الرأسمالى؛ أىْ فتح أىّ أبواب مغلقة أمام تطور ورسوخ الحضارة الرأسمالية، وهذه نتيجة تقدمية وثورية تاريخية كبرى؛ والنتيجة الثانية قيام ديكتاتورية من أعلى: عهد الإرهاب وغزو الشعوب الأخرى والإمپراطورية والاستبداد والفساد والاستغلال وانقشاع أوهام المساواة والحرية والإخاء وباختصار قيام شكل أو آخر من أشكال ديكتاتورية البرﭼوازية. وهناك مَنْ يُدينون الثورات بصورة مطلقة كالفيلسوفة السياسية حنة أرندت لأنها لا تحقق الحرية ولا تمحو الفقر والعنصرية فيما يمجِّد ماركس الثورة الاجتماعية ويُدين العبوديات الاستغلالية المتعاقبة الناشئة عنها كما يدين الاستبداد الناشئ عن ثوراتها السياسية، وإذا كانت حنة أرندت تستثنى الثورة الأمريكية من هذا المصير المعادى للحرية كنتيجة للثورات فالحقيقة أن الديمقراطية الأمريكية تمثل ديكتاتورية برﭼوازية لا جدال فيها ولا تمثل الحرية؛ والنتيجة الثالثة هى الديمقراطية من أسفل التى نشأت وترسخت فى فرنسا خلال القرن التاسع عشر.
أما السياق التاريخى لثورتنا السياسية المصرية فإنه بعيد تماما، شأنه شأن السياق التاريخى لثورات العالم الثالث أو انقلاباته التى أيدها الشعب، عن سياق الثورة الاجتماعية. ذلك أن مصر وأغلب بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة قد أدخلتها الإمپريالية منذ البداية فى القفص الحديدى للثورة السكانية بدون ثورة صناعية، فلم تتحول إلى بلدان رأسمالية بل صارت حظائر أو أفنية أو زرائب خلفية للرأسمالية العالمية، وصار سياقها التاريخى هو سياق التبعية الاستعمارية، بعيدةً تماما عن الاستقلال الحقيقى رغم الاستقلال الشكلى من وجهة نظر القانون الدولى. فالثورة المصرية، وكذلك باقى الثورات العربية، تجرى إذن فى سياق التبعية الاستعمارية، ويدور الصراع إذن بين هذه الثورة الشعبية السياسية من جهة وهذه التبعية الاستعمارية بملحقاتها المحلية من جهة أخرى، أىْ بين هذه الثورة بكل قواها الحية الديمقراطية والعلمانية والمدنية وبطبقاتها الشعبية المقهورة وبين الثورة المضادة المتمثلة فى مؤسسات الدولة بلا استثناء والإسلام السياسى والطبقات المالكة والرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والرجعية العربية بقيادة المملكة العربية السعودية وقوى الإسلام السياسى الإخوانى والسلفى والصوفى محليا وعربيا وعالميا. وعلى هذه الثورة بالتالى أن تخوض معركة طويلة معقدة ربما لم تتهيأ لها وربما واتتها الفرصة للنمو فى سياقها. وإذا كان الدور التقدمى المتمثل فى فتح الأبواب أمام تطورات تاريخية من استقلال حقيقى ولحاق بالحضارة الرأسمالية غير وارد فى سياق ثورتنا لأن سياق الثورة الاجتماعية غائب عندنا فلا مناص من أن تتجه الآمال نحو الديمقراطية من أسفل التى أخذت تنمو بسرعة والتى تستطيع أن تناضل فى سياق معركة كر وفر فى سبيل حقوق وحريات الشعب، والتى تستطيع وحدها أن تنقذ البلاد من المصير المشئوم للعالم الثالث عن طريق التنمية، ولا مناص كذلك من أن تتجه المخاوف نحو الديكتاتورية واستعادة النظام السابق بدون مبارك ورجاله المباشرين، وبين الآمال والمخاوف يقع الظل. وأعتقد أن مفتاح تطور الثورة يتمثل فى العمل بلا هوادة على تطوير الديمقراطية من أسفل ولن يتحقق هذا إلا من خلال النضال بكل الوسائل التى تقدمها الشرعية الثورية ضد الثورة المضادة بكل قطاعاتها ومؤسساتها.
12 أغسطس 2011
 
 
3
مقدمتى لترجمتى لكتاب
"كيف نفهم سياسات العالم الثالث تأليف: بى. سى. سميث"
هذا كتاب بمثابة موسوعة مصغرة عن العالم الثالث اليوم، عن نظريات التفسير والتغيير المتعلقة به وكذلك عن التطورات الأساسية الجارية فيه.
وهو بمثابة موسوعة غير أنه لا ينظم مادة موضوعه فى مداخل مرتَّبة ألفبائيا، وما يجعله أقرب ما يكون إلى الموسوعة هو أنه يشمل بالبحث التفصيلىّ الجوانب الأكثر أساسية فى نظريات وممارسات واتجاهات وأقدار البلدان النامية أو الأقل نموا أو المتخلفة وفقا لتسميات متعددة لنظريات متعددة لنفس العالم.
وبين سؤالىْ ما المقصود بالعالم الثالث؟ وما فُرَص التغيير أمامه؟ لا يكاد الكتاب يترك أىّ ظاهرة مهمة خارج بحثه. وتتقاطع هذه الظواهر وتتداخل. أىْ أن الكتاب عندما يبحث ظاهرة من ظواهر بلدان العالم الثالث إنما يبحثها من كل أبعادها وبالأخص فى علاقاتها العميقة والمتنوعة مع كل الظواهر الأخرى.
وعلى سبيل المثال فإنه يجرى بحث البيروقراطية بمختلف أبعادها: البيروقراطية بوصفها جهاز الدولة الإدارىّ، البيروقراطية كطبقة حاكمة، البيروقراطية والديمقراطية. وعندما يبحث التفريعات والتنويعات المتعددة لهذه الجوانب فى علاقاتها المعقدة مع مختلف جوانب كل ظاهرة أخرى سنجد أن الهدف يتمثل دائما فى الإلمام الواضح بعلاقة أساسيات وتفاصيل كل ظاهرة بأساسيات وتفاصيل كل ظاهرة أخرى.
ما العالم الثالث؟ ما النظريات التى تفسر واقعه الراهن وتطوراته؟ ما التحديث؟ ما التنمية؟ وحقائق دولة العالم الثالث فى علاقاته بمجتمع العالم الثالث وفى أشكال التحقيق البالغة التعقيد لكل من هذه الدولة وهذا المجتمع؟ ولكى نفهم العالم الثالث المعاصر يجرى بحث الاستعمار الجديد والتبعية، بالنظريات والوقائع والتطورات المعنية. وتتداخل مع كل هذا الأحزاب وطبيعتها وأوضاعها والأنظمة السياسية التى ترتبط بها، وتشابكات ولاءاتها مع الولاء القومىّ العام، والولاء الإثنىّ أو الفئوىّ وغير ذلك. ويجرى بحث كافة أبعاد القوات المسلحة والتدخلات العسكرية وعلاقاتها بالطبقة الوسطى ودورها فى السياسة الداخلية والخارجية كما يجرى بحث علاقاتها بالبيروقراطية والديمقراطية وأشكال الحكم. وتبرز قضايا الانفصال عن الدولة-الأمة أو الدولة القومية على أُسُس إثنية أو دينية أو غير ذلك. كما يجرى بحث "الدَّقْرَطة" democratization([1]) فى علاقاتها بكل هذه الظواهر والتطورات وبالأخص بقضية التغيير. ويصل بنا كل هذا إلى المحصلة العامة لكل هذه الظواهر بكل تداخلاتها: أعنى التغيير باعتباره الثورة التى هى بدورها محصلة جدل الاستقرار وعدم الاستقرار فى بلدان العالم الثالث. والصراع محتدم بين القوى التى تدفعها المصالح الداخلية والخارجية إلى المحافظة على الاستقرار أو استعادته وبين القوى الداخلية العمالية والديمقراطية والاستقلالية المدفوعة بمصالحها إلى عدم النظر إلى الاستقرار على أنه بقرة مقدسة كما تؤدى فاعليتها السياسية إلى زعزعة الاستقرار القائم أو تعميق وتوسيع نطاق عدم الاستقرار عندما تحتدم صراعاته الاجتماعية والسياسية. وتمثل محصلة هذه الصراعات آفاق أو معوقات التغيير وبالأخص فى صورة عملية الدَّقْرَطة.
ومن هنا فإن هذا الكتاب سيكون بالغ الفائدة للدارس الأكاديمىّ للعلوم السياسية، ولكنْ أيضا للسياسيِّين والنشطاء ومناضلى مختلف الأحزاب والحركات والمنظمات الطامحة إلى التغيير. وبدلا من ضيق الأفق القومىّ الذى يحصر أصحابه فى النظر من الزاوية المصرية أو العربية لكل ظاهرة سياسية يضع الكتاب أمام القارئ المصرىّ أو العربىّ تجربة أوسع. ذلك أن العالم العربى أو الشرق الأوسط جزء لا يتجزء، كما يقال، من العالم الثالث، مهما تعددت خصوصياته. وبدلا من الشوڤينية المنكرة التى قد تقدَّم لنا تصورات وردية عن أنفسنا تتناقض تماما مع أوضاعنا الحقيقية، وكذلك بدلا من جلد الذات باعتبار أن العرب هبطوا إلى الحضيض بسبب خصائص ملازمة لهم قوميا أو ثقافيا، وكذلك بدلا من التصورات الساذجة التى مؤداها أن العرب والمسلمين مستهدفون بوصفهم كذلك، أىْ بدلا من عنصرية تمجيد الذات برفعها فوق كل الأمم الأخرى أو عنصرية احتقار الذات (ذلك أن كلا من تمجيد الذات واحتقار الذات عنصرية مقيتة)، بدلا من كل هذا وبدلا من سلبيات فكرية أخرى يجذبنا الكتاب إلى تجربة أوسع ونظرة أوسع إلى كلٍّ من التفسير والتغيير فى عالم أوسع ينتمى إليه العرب والمسلمون، أىْ العالم الثالث الذى تتعدد خصوصياته ذات الكثرة الهائلة ولكنْ تشترك كل بلدانه فى تجربة الاستعمار الكولونيالىّ والاستعمار الجديد والإمپريالية، مع أن هذه العلاقة الاستعمارية والإمپريالية، رغم أنها واحدة فى جوهرها، تمثل كثرة هائلة بدورها من الخصوصيات التى هى محصلة لطبيعة وخصائص ونظريات البلد الاستعمارىّ (إنجلترا، فرنسا، إسبانيا، الپرتغال، هولندا، بلچيكا، إيطاليا، ألمانيا، إلخ.، فى المرحلة الكولونيالية، مع إضافة الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتىّ السابق فى مرحلة الاستعمار الجديد) وطبيعة وخصائص وثقافة كل بلد من بلدان العالم الثالث خضع للاستعمار أو شبه الاستعمار، عندما كان البلد المعنىّ مستعمَرة، وللاستعمار الجديد عندما صار البلد المعنى مستقلا بالمعنى القانونىّ الدولىّ، وبالمعنى الدستورىّ، بعيدا عن الاستقلال الحقيقىّ الاقتصادىّ والسياسىّ.
وينطلق الكتاب من النظر إلى الأساس السوسيولوچىّ للنظرية السياسية الوظيفية والأساس الاقتصادىّ لنظرية التبعية على أنهما مُعْطًى، كما يقول. وتكون المحصلة وضع بلدان العالم الثالث على أرضية ذات خصائص سياسية واقتصادية عريضة تشترك فيها هذه البلدان مع أخذ التنوع الواسع النطاق فى الاعتبار. ويجرى إيضاح ما هو مشترك بين بلدان العالم الثالث بأمثلة مباشرة من كل قارات وبلدان ودول ومناطق وأقاليم هذا العالم كما يجرى إيضاح التنوع من خلال أمثلة من بلدان متنوعة فى كل قارة من القارات الثلاث.
والصورة الكاملة المجمَّعة من هذه الأمثلة وسياقاتها وتفسيراتها وحدود تغييراتها صورة قاتمة بل مأساوية فى حقيقة الأمر: هزال الإنتاج والاقتصاد، هزال التجارة مع العالم، تدهور كافة الخدمات على كل المستويات، وباء الانقلابات العسكرية فى الحياة السياسية، وباء الفساد المنفلت، الفقر والجوع والمرض والأمية والأوبئة، الحقائق الديموجرافية المفزعة، التدخل الأجنبىّ الواسع النطاق فى كل المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية لهذه البلدان بما فى ذلك التدخلات العسكرية المباشرة من خلال الغزو المباشر كما كان الحال بالأمس فى جنوب شرق آسيا وكما هو الحال اليوم فى منطقتنا فى أفغانستان والعراق ولبنان وفى البلدان المرشحة الأخرى فى عالمنا العربى (وبالأخص الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان وسوريا) والشرق الأوسط (وبالأخص إيران وپاكستان).
والمحصلة باختصار هى "متلازمة" الاستقلال السياسىّ الدستورىّ والتبعية الاقتصادية اللذين صارا قَدَر العالم الثالث ومصيره فى غياب مخرج حقيقىّ من هذا المأزق التاريخىّ.
ومآسى هذه "المتلازمة" مفزعة بأبعادها التى تتجسد فى سوء التغذية والجوع والفقر وتدهور الأحوال الصحية والتعرض لأهوال القمع والحروب الأهلية والغزوات والتدخلات الخارجية وأهوال الأوبئة المتفشية. والمنطق الطبيعىّ لهذه السيرورة المأساوية مخيف، ببساطة لأنه لا يوجد فى الحركة الموَّارة لحياة البشر بكل تطوراتها الراهنة شيء من قبيل "مَحَلَّك سِرْ". وإذا كان الملايين وعشرات الملايين من البشر يموتون اليوم كل عام من الجوع والأمراض والأوبئة، وإذا كان المليارات من البشر يحيون اليوم فى معاناة متواصلة لهذه المآسى، فإن الاستنتاج المنطقىّ الوحيد هو أن مليارات البشر فى العالم الثالث يتعرضون على المدى القريب والمتوسط للفناء والانقراض. وفى أزمنة سابقة كنا نقرأ كُتُبًا بعناوين من قبيل "العالم الثالث فى معركة البقاء"، وفى غياب مخرج من هذه الأوضاع تغدو معركة البقاء مهددة بأنْ تغدو دروب الفناء والانقراض، وعلى هذه الدروب ينطلق قطار العالم الثالث بسرعة مُدَوِّخة، وبالأخص بلا سائق، كما قال جورباتشوف ذات يوم عن الاتحاد السوڤييتى الذى صار سابقا، ذلك أن الأنظمة الحاكمة فى العالم الثالث ليست جزءًا من الحل، بل ليست مجرد جزء من المشكلة، إنها فى الحقيقة فى علاقاتها الوثيقة بالقوى الاستعمارية الخارجية المشكلة بشحمها ولحمها، ولا أمل فى أنْ يأتى أىّ حل منها.
فمن أين يأتى الحل؟ وما المخرج من هذا المأزق التاريخىّ؟
ولا شك فى أن بلدان العالم الثالث تضم بين طبقاتها طبقات مدفوعة بحكم مصالحها التاريخية إلى التغيير والثورة، ولا شك فى أن لهذه الطبقات حركات سياسية واقتصادية واجتماعية وأحزاب سياسية ومنظمات متنوعة لا تُحْصَى ولا تُعَدّ، ولا شك فى أننا إزاء حراك كبير موّار فى كل مكان فى العالم الثالث، تحت رايات تمثل أيديولوچيات متنوعة عديدة تترواح بين الأفق العمالىّ الاقتصادىّ الإضرابىّ والأفق الاشتراكىّ الماركسىّ وغير الماركسىّ والأفق الديمقراطىّ العام والأفق الإثنىّ الانفصالىّ وأفق الأصوليات المتنوعة العديدة. وتقدم كل أيديولوچيا نفسها على أنها هى دون غيرها "الحلّ"، فالشيوعية هى "الحل"، والإسلام هو "الحل"، والديمقراطية هى "الحلّ".
غير أننا لا نرى أمامنا أىّ حل، رغم مزاعم كل هذه الأيديولوچيات. لماذا؟ لأن الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ-الثقافىّ هو صانع الأيديولوچيات وليس العكس. لأن الأيديولوچيات لا تصنع الواقع بل هى من صُنْعه. كذلك فإن الأيديولوچيات هى نظريات التغيير وليست التغيير ذاته. فقط عندما ينطلق التغيير التاريخىّ من عقاله تأتى النظريات والأيديولوچيات والأفكار لإرشاده. على أننا لسنا إزاء مرحلة زمنية للتغيير من تحت تأتى عند اكتمال عناصرها مرحلة النظرية المرشدة. والحقيقة أن النظرية الثورية تأتى من المثقفين وتتطور خطوة خطوة غير أنها تنتقل إلى مرحلة النظرية المرشدة لثورة عندما تلتقى بهذه الثورة فى سياق تطورها التاريخىّ، خطوة خطوة، وصولا إلى لحظة جديدة تنتقل فيها النضالات الاقتصادية الجماهيرية الواسعة إلى نضالات سياسية تاريخية مباشرة فى سبيل سلطة الدولة وتنتقل فيها النظرية إلى نظرية مرشدة لهذه الثورة لأنها صارت المكوِّن الرئيسىّ لوعى مناضليها، قياداتها وجماهيرها، حيث يصير الفكر سلاحا فكريا "ماديا" بمعنى أن الجماهير الواسعة صارت مسلَّحة به.
"الحلّ" إذن هو الثورة.
وكان رد "أوديب" عند سوفوكليس على لغز الإسفنكس هو أن حل اللغز هو الإنسان لأنه يحبو على أربع أرجل ثم يمشى على رجلين وأخيرا على ثلاث أرجل، حسب مراحل عمره، وكان رد "أوديب" أندريه چيد بأن حلّ اللغز هو الإنسان لأنه هو الحل لكل الألغاز. وبعيدا عن الكثرة الكاثرة من الأيديولوچيات المعاصرة من الفاشيات المزدهرة فى الغرب والأصوليات المزدهرة عندنا والتى تعلن كل أيديولوچيا وأىّ أيديولوچيا منها أنها هى الحل؛ يتمثل الحل التاريخىّ الحقيقىّ فى الثورة. لأن التغيير الذى تنشده الطبقات المستغَلَّة المقهورة التى تعتمد كل نظرة إلى التغيير على حركتها النضالية وحدها مهما كانت الثورة فاشية أو إسلامية أو شيوعية تقود بحكم منطقها الاجتماعىّ-الاقتصادىّ-السياسىّ-الثقافىّ إلى الثورة الاجتماعية معتمدة على الأيديولوچيا الوحيدة التى ترشدها بوصفها كذلك.
غير أن أوضاع العالم الثالث فى حد ذاتها وفى علاقاتها مع أوضاع العالم اليوم لا تترك فسحة للأمل فى الثورة مفسحة المجال واسعا أمام البربرية المتفشية الآن فى العالم الثالث وفى العالم كله.
وإذا كانت الثورة، قد بدت منذ لحظة بوصفها حلّ اللغز، فإنها تبدو الآن بوصفها اللغز الذى يحتاج إلى حلّ، لأن حالة العالم لا تُنْبئ بثورة فى المدى القريب والمتوسط، لا فى الغرب ولا فى الشرق، لا فى الشمال ولا فى الجنوب. ورغم أن الثورة ليست محالة إلى التقاعد الأبدىّ، فإنها ليست واردة على جدول العمل السياسىّ فى أىّ وقت قريب، ولا أعنى النضال الثورىّ الوارد دائما بل أعنى الثورة الاجتماعية الشاملة التى تشترط الشروط الموضوعية والذاتية. وإذا صحَّ أن الثورة ليست محالة إلى التقاعد وليست واردة فى مستقبل قريب أو متوسط أو منظور، فلا مناص من أنْ تنفتح هنا فجوة زمنية هائلة تمثل الخطر كله على شعوب العالم الثالث بالذات.
وهنا بطبيعة الحال أوهام هى بمثابة تعويذات متنوعة ضد الأخطار المحدقة. هناك مَنْ يتوهمون أن الإمپريالية العالمية لن تسمح بانقراض العالم الثالث فى سبيل الاحتفاظ به كشريك تجارىّ. غير أن مثل هذه الأوهام إنما تنبع من الجهل الفادح بأن التبادل التجارىّ العالمىّ صار يتركز فى التبادل بين الشمال والشمال حيث يتضاءل نصيب الجنوب أو العالم الثالث بصورة متواصلة.
والأخطر تلك الأوهام التى تنبع من الأيديولوچيات. فالكثير جدا من الماركسيِّين ينطلقون من تأكيدات نظرية عامة دون أنْ يكلفوا أنفسهم عناء النظر نحو الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ-السياسىّ-الثقافىّ الفعلىّ فى العالم الثالث. فَهُمْ يرون الثورة كما تؤكد النظرية وينسون شروطها التاريخية كما تؤكد النظرية أيضا ويتجاهلون الواقع الفعلىّ، ويواصلون بالتالى تفاؤلهم الساذج وحديثهم الساذج عن الثورة فى العالم الثالث متجاهلين الفجوة الزمنية الفاغرة فاها والتى تبدو بمثابة ثُقْب اجتماعى أسود يهدد بابتلاع العالم الثالث بأكمله. والثورة المنشودة لن تحدث إلا عند تواصُل بقاء البشر، وهذا البقاء ذاته هو الذى تهدده الأوضاع الراهنة.
وللأصوليات ومنها الأصولية الإسلامية أوهامها الواسعة. وإذا كان الإسلام هو الحل، فإن هذه الأصولية تتطلع أيضا إلى الثورة التى هى الحل. ولكن هل تستطيع الأيديولوچيا السياسية الإسلامية أنْ تقفز فوق الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية التاريخية فى سبيل إحداث ثورتها. وماذا عسى أنْ تكون الثورة الإسلامية؟ هل هى ثورة تغيِّر ضمير الإنسان المسلم بفضل الدعوة الدينية فتبقى فى الإطار الدينىّ الدعوىّ أم هى ثورة اجتماعية تتمثل أسلحتها المادية فى الحركة النضالية للطبقات العمالية والشعبية، وهى الثورة التى رأينا بوضوح عقبات عدم توفر الشروط الموضوعية والذاتية الضرورية لاندلاعها وانتصارها؟ وإذا كانت الأيديولوچيا السياسية الإسلامية تصلح كنظرية مرشدة لثورة سياسية، كما كان الحال فى ثورة الإمام الخمينى فى إيران منذ أكثر من ثلاثة عقود، فهل تصلح أيضا كنظرية مرشدة لثورة اجتماعية شاملة وليس لمجرد ثورة سياسية ضمن نفس النظام الاجتماعىّ الواحد فى نهاية المطاف؟
وهنا يظهر تناقض كبير بين الدين والسياسية.
الأديان فى جانب مهم من جوانبها بطبيعة الحال حامل للفضائل المنشودة فى حياة البشر، وهى بطبيعة الحال الفضائل التى بلورتها التجربة البشرية فى مسيرتها الطويلة. ومن هنا فإنه لا يمكن إنكار وجود دور لها فى الحياة الأخلاقية للبشر مع الاعتراف بأن البشر يظلون دائما قاصرين عن تحقيق تلك الفضائل فى سلوكهم فى الحياة. ولكنْ لماذا لا يتطابق هؤلاء البشر مع الفضائل التى تنطوى عليها تجربتهم البشرية وأديانهم ووثنياتهم؟ لسبب بسيط: لأن الأخلاق الفعلية فى الحياة رغم تأثرها بالفضائل الدينية (وهى نفس الفضائل البشرية التى انتقلت إلى الوثنيات والأديان والقوانين الوضعية) تنبع من منابع أخرى للسلوك: تتناقض الأخلاق الفعلية دائما مع فضائل الأخلاق المثالية لأنها تنبع من حياة البشر، من الحياة الاجتماعية الاقتصادية الثقافية التى تنعكس فيها مستويات التقدم التقنى والاجتماعىّ للبشر، وتنعكس فيها علاقات الاستعباد والاستغلال والقهر بين البشر، حيث يتوزع ضمير البشر بين القمع المادى والأيديولوچىّ والتمرد والمقاومة أو الاستكانة والخضوع. وقد أثبت تاريخ كل الأديان وكل الوثنيات وكل الحياة البشرية بكل الفضائل التى تدعو إليها أن الأخلاق الفعلية بخيرها وشرها لم تتطابق مطلقا مع المثل العليا للفضائل والأخلاق الدينية، وكان الانتصار دائما للأخلاق الفعلية التى لا شك فى أنها تنطوى على مبادئ لا تقوم بدونها حياة اجتماعية للبشر، وهذه المبادئ الأخلاقية البشرية ذاتها إنما هى بدورها مثل عليا لا يمكن أنْ تتطابق معها الأخلاق الفعلية للبشر.
وإذا كانت الأديان (وكذلك الفلسفات والقوانين) تقدم لنا، فى جانب من جوانبها، فضائل كبرى فى السلوك فى كل مناحى حياتنا، فى معاملاتنا الحياتية الأخلاقية والاقتصادية، فإن السياسة شيء آخر. السياسة هى علاقات الاستغلال والقهر المتواصلة كما تسجلها حوليات التاريخ البشرى بمداد من الدم والحديد والنار. فكيف يمكن أنْ نتصور أىّ توافق بين هذين النقيضيْن: الدين من جانب كونه دعوة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق والسياسة كعلاقات استغلال وقهر بين الطبقات؟!
وإذا كانت السياسة هى العلاقات بين الطبقات الاجتماعية فإن الدولة هى الأداة التى تدير بها طبقة من هذه الطبقات تلك العلاقات، وهذه الأداة بحكم طبيعتها تحمى مصالح الطبقة الحاكمة وهى بطبيعتها مصالح استغلالية وقمعية وبالتالى فإن الدولة تقوم على إدارة العلاقات بين الطبقات لحماية الاستغلال وتكون أداتها فى ذلك هى القمع المنهجىّ، من خلال الأجهزة الإدارية والقضائية والپوليسية والتمثيلية والأيديولوچية للدولة.
إن استيلاء الأيديولوچيا السياسية الدينية على الدولة فى بلد من البلدان إنما يعنى أنْ تحلّ طبيعة الدولة محل طبيعة الدين، أىْ أنْ تسلك الأيديولوچيا الدينية كدولة فى يد الطبقة الحاكمة تحمى مصالحها وتقمع معارضيها الذين تعتبرهم أعداءها. ذلك أن ما يستولى على الدولة ليس الدين فى سماواته بل البشر على الأرض المنتمون إلى طبقات ومصالح الطامحون لإدارة الدولة لتحقيق مصالحها رغم المشاعر والرغبات والتصورات التى تملأ عقول وقلوب قواعد الحركات التى تتبنَّى هذه الأيديولوچيا الدينية السياسية والتى تتطلع إلى إقامة حياة عادلة على الأرض.
ولكنْ ألا يصدق الشيء ذاته على الثورة الاشتراكية أو الشيوعية والدولة النابعة منها؟ ألا يقوم نفس التناقض بين الأيديولوچيا والمثل العليا الشيوعية من جانب والدولة الاشتراكية التى تتأثر إلى حد ما بهذه الأيديولوچيا غير أنها تتأثر أكثر بالواقع الاقتصادىّ والطبقىّ التاريخىّ الموروث والقائم وبالصراع الطبقىّ المحتدم رغم مزاعم الانسجام؟
والحقيقة، كما أثبت تاريخ الدولة الإسلامية فى أزهى عصورها، عصور الحضارة العربية الإسلامية، وكذلك تاريخ الخلافة العثمانية، وفى العصر الحديث (إيران)، هى أن الأيديولوچيا السياسية الإسلامية، السنية أو الشيعية، يحوّلها الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ إلى عامل من عوامله، أىْ إلى التعبير عن سيطرة وتسلط طبقة حاكمة على بقية الطبقات، وعلى البلدان المجاورة من خلال الفتوحات. ولم نر أىّ نتيجة أخرى تتمثل فى تحرير حياة الإنسان المسلم الذى تواصلت معاناته وتواصل شقاؤه فى سياق علاقات القهر والاستغلال.
ويمكن القول إن الشيء ذاته أثبته (فى حدود تجارب القرن العشرين فقط بطبيعة الحال) تاريخ العلاقة بين الأيديولوچيا الشيوعية والدولة الناشئة عن الثورة البلشڤية. وعندما انقلب العالم الذى ظل يُعْتَبَر عالم الاشتراكية (الاتحاد السوڤييتى وأوروپا الشرقية والصين وبلدان أخرى فى آسيا وأمريكا اللاتينية) واتضحتْ بجلاء الحقيقة الرأسمالية-البيروقراطية لذلك العالم الشيوعىّ أو الاشتراكىّ صار من السخف ألا نعترف بأن التناقض بين المثل العليا للأيديولوچيا الشيوعية والواقع التاريخىّ للدولة التى تنشأ عما سُمِّىَ بالثورة الاشتراكية. فهل كانت تلك ثورات اشتراكية؟ وهل تحققت فيها شروط الثورات الاشتراكية عند اندلاعها أصلا؟ وهل تحققت السيرورة الاشتراكية بعد انتصار الثورة؟
وها هى الثورة الاشتراكية تتحول إلى لغز! وها هى دولتها تتحول إلى لغز!
ونعلم جميعا أن الفوضوية، أو اللاسلطوية كما يفضل تسميتها بعض مناضليها، تقف موقف الرفض من دولة يفوضها التاريخ بالقيام بمهمة تحويل المجتمع الرأسمالىّ إلى مجتمع شيوعىّ. وفى منافشة دارت بينى وبين عدد من المناضلين الفوضويِّين أو اللاسلطويِّين بمدينة پيزا، إيطاليا، منذ أكثر من عام ونصف، فى مكتبة عامرة بالمؤلفات الفوضوية وغيرها وتضم مخطوطات أصلية لكبار مفكريهم، وجدتُ منهم الرفض الكامل لفكرة حزب سياسىّ يعمل فى سبيل قيادة ثورة يتم تنظيمها فى دولة لتحقيق الشيوعية. وقلت لهم إنه ينبغى النظر إلى المستقبل بقدر ما يتعلق الأمر بالفوضويِّين والماركسيِّين على أنه مستقبل يختلف عن الماضى. فالفوضوية شيوعية والماركسية شيوعية وتدور نقطة الاختلاف الكبرى حول فكرة الدولة، وسيكون من الخطأ بعد تجربة الثورات المسماة بالاشتراكية خلال القرن العشرين والدول التى نشأت عنها وإعادة إنتاجها للرأسمالية من خلال سيطرة الدولة والبيروقراطية أنْ نتصور أن الماركسية سوف تحتفظ بنظرياتها عن الدولة والثورة كما هى، فالنضال فى سبيل الثورة سيكون نضالا طويلا ناضجا على العكس من الثورة البلشڤية وبالتالى ستكون الثورة أعمق وجماهيرها أوسع وأنضج وعيا وبالتالى فإنها لن تعتمد على دولة بنفس المواصفات اللينينية أو الستالينية أو الماوية، وستغدو العلاقة بين الدولة والديمقراطية مختلفة تماما عن كل شيء تحدث عنه الماركسيون أو توقعوه أو حققوه. ورغم أننا لا نعلم المدى الذى سيصل إليه هذا التطور فإننا على كل حال إزاء خطوة مهمة للغاية سوف تقطعها الماركسية بعيدا عن الدولة، الأمر الذى ينطوى على احتمال تقارُب من نوع مّا بين الماركسية والفوضوية، ولعل مما يدل على هذا التقارب الآن تلك الأشكال الهَجينة التى تجمع بين الماركسية والفوضوية. وأعتقد أن على الماركسيِّين أنْ يبدأوا مناقشة معمقة تاريخية بمعنى الكلمة حول الثورة والدولة، حول كل منهما وحول علاقاتهما حتى يكون السير إلى الأمام ممكنا.
وإذا عدنا إلى الكتاب الذى أقدمه للقارئ فإن إحدى حسناته الكثيرة تتمثل فى أنه بعيدا عن الأمانىّ والأوهام والتفاؤلات الساذجة، يلفت نظرنا إلى أهمية الحساب. ولم يتناول الكتاب ظاهرة إلا واستغرق فى حساب مختلف احتمالات متغيراته، على سبيل المثال: الإثنية والانفصال؛ فمتى تندفع إثنية أو حركة إثنية فى طريق الانفصال، ومتى تكون محاولتها ناجحة ومتى تفشل، وما علاقة هذا بوضع يتميز بعدد قليل من الإثنيات المتناظرة القوة أو بوضع يتميز بكثرة من الإثنيات مع إثنية مسيطرة أو إثنيتين مسيطرتين، وكيف يكون حساب ميزان الأفضلية/المزايا، فى المفاضلة بين البقاء ضمن إطار دولة قومية متعددة الإثنيات أو الانفصال عنها، وما علاقة المساواة أو اللامساواة الاقتصادية بذلك، ومتى تكون أشكال من النضال المسلح واردة ومتى تكون غير واردة؟ كذلك فإن جدل الاستقرار وعدم الاستقرار وشروط حظوظ كل منهما قضايا تخضع للحساب الدقيق، مثل كل القضايا والظواهر والتطورات الأخرى التى يبحثها الكتاب، ولهذا يكون تقييم مختلف نظريات العالم الثالث من حيث مزاياها ونقاط ضعفها على أساس مثل هذه الحسابات الدقيقة لمعطيات الواقع ومتغيراته بالمقارنة مع تفسيراتها، ولهذا أيضا فإن الديمقراطية، أو التبعية، أو الاستغلال، أو التدخل العسكرىّ الداخلىّ أو الأجنبىّ وكل عنوان آخر (عشرات العناوين فى الواقع) لا يرد العنوان الواحد منها فى مكان واحد أو فصل واحد عند تناول موضوعه بل يتكرر كل عنوان عند تناول كل عنوان آخر، لأن كل هذه الظواهر المتعددة إنما هى تجليات وعوامل ومتغيرات الكل الواحد المتمثل فى الحياة الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية-الثقافية للبشر على الأرض، حيث تؤثر كل ظاهرة فى كل ظاهرة أخرى وتتأثر بها، وحيث يكون المركز فى كل نقطة كما يمرّ المحيط من كل نقطة على العالم ككل وعلى كل ظاهرة فى سياق تطورها. إن هذا الحساب الدقيق للعوامل والمتغيرات عند بحث كل تطور اجتماعىّ-اقتصادىّ يختلف تماما عن عالم الأوهام الذى يعيش فيه كثير من مثقفينا الذين اعتادوا تسجيل المبادئ والمواقف والشعارات متجاهلين ضرورة بحث المسار الفعلىّ للتطورات. وما يميز حسنين هيكل بالذات عن كل مثقفينا اليساريِّين جميعا تقريبا، رغم تكوينه الفكرىّ الغربىّ، هو أنه ينكبّ على تحليل الواقع العينىّ ومساره العينىّ منتهيا بثقة إلى تنبؤات تصيب كثيرا وتخيب قليلا، على حين لا يقوم يساريونا إلا بالشجب والإدانة وإعلان المبادئ وترديد الشعارات دون أدنى اجتهاد.
ويذكر المؤلف فى مقدمته، كما سنرى بعد قليل، أنه فى هذه الطبعة الثالثة من طبعات كتابه (طبعة 2009)، حذف الفصل الخاص (فى طبعتيْه السابقتين) بنظريات الإمپريالية والكولونيالية الذى حلَّل تفسيرات العلاقات بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة التى صارت حاليا ذات أهمية تاريخية، إلى حد كبير، إذْ حلت محلها أشكال الاستعمار الجديد، موضوع الفصل الجديد (الفصل 3). والحقيقة أن الكتاب لا يتجاهل الشروط التاريخية لنشأة العالم الثالث تماما غير أنه لا يبحثها كما ينبغى للسبب الذى ذكره، أىْ لأن تلك الشروط لم تَعُدْ لها سوى أهمية تاريخية، فى نظره، أو لأنه لا يمكن القول إن الحالة الراهنة للعالم الثالث تفسِّرها الكولونيالية التى سيطرت على أراضيها وشعوبها فى مرحلة تاريخية سابقة فى نظر المؤلف أيضا.
على أن بحث التاريخ لا يمكن أنْ يصير "ذا أهمية تاريخية"، خاصةً إذا كان تاريخا كبيرا إلى هذا الحدّ وقريبا إلى هذا الحدّ. ومن بين الاحتمالات النظرية والتاريخية أنْ يكون ذلك التاريخ قد وضع العالم الثالث داخل شروط موضوعية لا مخرج جذرىّ منها إلا على سبيل الاستثناء القابل للتفسير بشروط جديدة تقوم بتحييد تلك الشروط الموضوعية التاريخية الموروثة.
والقصة باختصار شديد هى أن الدول الاستعمارية الأوروپية مع بداية دخولها المرحلة الرأسمالية قامت بفتح أراضى وشعوب ما يسمى الآن ببلدان العالم الثالث (فى القارات الثلاث) والتى كانت قد تأخرت عن الوصول إلى المرحلة الرأسمالية. وفى هذه الحالة نجد دولا (خاصةً إنجلترا وفرنسا وقبلهما إسپانيا والبرتغال وهولندا) تسير بخطى حثيثة على طريق الثورة الصناعية والرأسمالية والإمپريالية استعمرتْ بلدانا متأخرة أىْ قبل-رأسمالية وحوّلتها إلى مستعمرات وأشباه مستعرات وأخضعتها لعلاقات الاستغلال والنهب والقهر والاستعباد. كانت الدول أو البلدان الأخرى قابلة لأنْ يتمّ غزوها وفتحها واستعمارها فصارت مستعمرات، بسبب التقدم الرأسمالىّ المتواصل فى البلدان الاستعماريّة والوضع قبل-الرأسمالىّ الذى تواصل تردِّيه وتدهوره فى ظل السيطرة الاستعمارية. ولا شك فى أن الدول الاستعمارية تقوم من خلال سيطرتها بإدخال أشكال وأنواع من التقدم فى أوضاع المستعمرات. ذلك أن السيطرة الاستعمارية كانت تعنى فى حد ذاتها قيام الدول الاستعمارية والرأسمالية بوجه عام بتصدير السلع الصناعية إلى المستعمرات واستيراد المواد الأولية منها وتصدير رؤوس الأموال إليها (لاستثمارها فى شروط تحقق أقصى الربح فى المستعمرات) وكذلك البشر (سواء بصورة مستديمة من خلال الاستعمار الاستيطانىّ أو بصورة مؤقتة بالأعداد الكافية للإدارة الاستعمارية والنشاط الاقتصادىّ والغزو الثقافىّ فى كل مستعمرة). وهكذا يأتى الاستعمار الكولونيالىّ ثم الإمپريالىّ (منذ بداية القرن العشرين) إلى المستعمرات بالحضرنة والمدن الحديثة والمواصلات الحديثة والكهرباء والأجهزة والمعدات الحديثة الصناعية والزراعية والخدمية وغير ذلك. ولا يمكن تصوُّر الجوانب الحديثة للحياة فى العالم الثالث بدون صعود الحضارة الرأسمالية فى الغرب بكل منجزاتها ومخترعاتها وكذلك بكل توسُّعها. ونكون هنا إزاء علاقة فاعلية ومفعولية بصورة بالغة النقاء فى المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهنا نرى بوضوح كيف يُعيد الغرب الرأسمالىّ خلق باقى العالم على صورته، وليس المقصود بحال من الأحوال تحويل باقى العالم إلى الرأسمالية بل فرض علاقات السيطرة والخضوع والتبعية على باقى العالم وتعنى إعادة خلقه على صورة الغرب إعادة خلقه بما يتلاءم مع سيطرة الغرب ومصالحه وأهدافه، مع الاحتفاظ به بكل الوسائل فى إطار التبعية ومنعه من التقدم الرأسمالىّ الشامل لأن تخلفه شرط لاستمرار السيطرة عليه واستغلاله ونهبه. وهنا يحدث تطور بالغ الأهمية فيما سُمِّى فى مرحلة تالية بالعالم الثالث (أىْ عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات فى السابق): ثورة سكانية بدون ثورة صناعية وتستفحل هذه الظاهرة التى تكون فى مرحلة أولى نعمة (بالقياس إلى تكوين شعوب كبيرة نسبيا فى المستعمرات مع حياة حديثة أو شبه حديثة) وتنقلب فى مرحلة تالية إلى نقمة حقيقة (حيث يعيش مليارات البشر بدون اقتصاد حقيقىّ تقريبا فى ظروف من سوء التغذية والجوع والمجاعات والفقر والحروب الأهلية والتدخلات الإمپريالية).
وهكذا تنغلق الآفاق أمام حاضر ومستقبل هذه البلدان. ولم تمثل الاستقلالات والتنميات مخرجا جذريا من هذه الحالة، الحالة العالم-الثالثية. فالتنميات لم تكن تنميات اقتصادية واجتماعية وثقافية شاملة تقوم على الصناعة وثمارها على الزراعة والمجتمع والتحديث الثقافىّ. والنتيجة إخفاق التنميات والدخول فى مرحلة من التراجع التاريخىّ على كافة المستويات الاجتماعية-الاقتصادية-الثقافية. ومع هزال التنميات وإخفاقها تستمر وتتواصل وتتفاقم وتستفحل التبعية الاستعمارية لهذه البلدان التى يبقى استقلالها مجرد استقلال قانونىّ ودستورىّ إذْ تظل سياستها أيضا تابعة.
وتتواصل هذه الثمرة الخبيثة التى كانت محصلة للتفاعل بين عمليتين متزامنتين هما عملية وصول بلدان غربية إلى الرأسمالية أولا وبالتالى سيطرتها على باقى العالم، وعملية استمرار المجتمعات والاقتصادات والتكوينات السياسية والثقافية قبل-الرأسمالية، وهى عملية إعادة إنتاج للتخلف والتدهور، فى باقى العالم، الذى يصير موضوعا للفتح والغزو والسيطرة.
ومن الخطأ اعتقاد أن هذا التاريخ غير البعيد ليس له سوى أهمية تاريخية، لسبب بسيط هو أن الوضع الناشئ عن الفتوحات الاستعمارية لا يكاد يترك منفذا للخروج منه، والدليل الدامغ هو إخفاق الاستقلالات والتنميات واستمرار التبعية الاستعمارية فى العالم الثالث.
على أن انقسام العالم خلال أكثر من نصف قرن فى القرن العشرين إلى غرب رأسمالىّ وشرق شيوعىّ كما تصوره الغرب وكما تصوره العالم الثالث أيضا فتح فى الواقع الفعلىّ حينا وفى عالم الأحلام الوردية أحيانا إمكانات وفُرَصًا أمام بلدان العالم الثالث، ليس فقط فى حدود اللعب على الحبال دون إحداث قطيعة مع علاقات التبعية، بل أيضا فى الأفق الأوسع للتحول الاجتماعىّ التاريخىّ فى بعض البلدان بعيدا عن التبعية أو تحسينا لشروط التبعية.
وهنا قصور فادح فى الكتاب الذى أقدمه إلى القارئ. فرغم تركيزه العميق للغاية على التنوُّع البالغ القائم بين بلدان العالم الثالث فإنه يحاول الابتعاد عن تمزيقها إلى مجموعات أبعد من مجموعات الدخل ومعدل النمو ونصيب الفرد كما تقدمها المؤسسات الاقتصادية الدولية. ويؤدى به هذا إلى تجاهل بلوغ التنوع فى بعض الحالات إلى الاختلاف العميق الذى قد يفتح الباب للخروج من خصائص وسمات مصير العالم الثالث بالنسبة لبعض البلدان. ورغم الاختلاف المعترف به بين بلدان أفريقيا جنوب الصحراء من ناحية والنمور الآسيوية القديمة والجديدة من ناحية أخرى، يتجاهل المؤلف أهمية بحث المصائر المحتملة لهذه النمور أو التنانين بعيدا عن قَدَر العالم الثالث ومصيره.
ويبدو الوضع الخاص للنمور، بانفلاته المتحقق أو المحتمل من مأزق الحالة العالم-الثالثية مناقضا تماما للقفص الحديدىّ الذى وضع فيه الاستعمار الكولونيالىّ والإمپريالىّ العالم الثالث بلا مخرج محتمل منه. غير أننى أشرتُ فيما سبق إلى الاستثناء. ذلك أن أوضاعا تاريخية خاصة ترتبط بالأزمات الكبرى للرأسمالية العالمية من جانب وبظروف خاصة فى بعض مناطق العالم من جانب آخر، يمكن أنْ تؤدِّى إلى سير بلدان تنتمى تاريخيا إلى عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات أو حتى العالم الثالث نحو الرأسمالية بلا نعوت من خلال دروب خاصة.
وإذا كانت بلدان عديدة قد تأخرت عن رأسمالية أوروپا الغربية ثم لحقت بها مثل ألمانيا وروسيا وإيطاليا والياپان وغيرها، وهى بلدان لم تكن من مستعمرات الغرب الرأسمالىّ، فإن النمور القديمة والجديدة تمثل مجموعة جديدة تسير فى نفس الطريق رغم أنها لم تَعْبُرْ بَعْدُ بصورة حاسمة كل الحواجز والعقبات التى تعترض سبيل صيرورتها الرأسمالية، ولم تكن هذه البلدان، مستعمرات وإنْ كانت فى وقت ما أشباه مستعمرات، بأغلبيتها أىْ واقعة بوجه عام تحت التأثير الاقتصادىّ والسياسىّ والثقافىّ العميق للكولونيالية والإمپريالية دون احتلال عسكرىّ مباشر أو إدارة استعمارية مباشرة.
وتمثل التجربة الصينية الماوية الكبرى، أىْ الثورة الفلاحية بقيادة ماركسية تهدف إلى الاشتراكية والشيوعية، التقاءً فريدا بين هذا الظرف التاريخىّ فى تلك المنطقة من العالم والظرف التاريخىّ الدولىّ المتمثل فى وجود الاتحاد السوڤييتىّ وقوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتحت نفس الرايات الماركسية والشيوعية. ومن الناحية الموضوعية فإن بلدا رأسماليًّا كبيرا وقويًّا وجديدا على المسرح الدولىّ، وجديدا فى كونه تكوينا رأسماليا ناشئا عن ثورة رأسمالية ذات قيادة ماركسية وشيوعية ساعد الصين الشبيهة بروسيا من نواح عديدة وبالأخص من حيث الثورة الشعبية ذات المحتوى الرأسمالى والقيادة الشيوعية على تفادى الوقوع تحت السيطرة أو التبعية الاستعمارية الجديدة، وبناء دولة رأسمالية عملاقة توشك على إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية والسياسية الأساسية فى العالم، وتوشك على الدخول كقوة حاسمة فى عالم متعدد القطبية.
وبطبيعة الحال فإن الأراضى الصينية الأخرى مثل تايوان وهونج كونج وكذلك كوريا الجنوبية سارت فى طريق التطور الرأسمالىّ من دَرْب آخر هو درب الالتقاء بين ظروف هذه البلدان التى كان يلقيها الخوف من الصين وروسيا والشيوعية فى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية التى كانت تتلمظ على إدخالها فى برنامجها لتطويق وحصار الصين والاتحاد السوڤييتى ليس فقط عسكريا، بل أيضا من خلال خلق واجهات أو "ڤتارين" رأسمالية متقدمة ومتوهجة (رغم الديكتاتوريات التابعة فى هذه البلدان)؛ وذلك على العكس من التوجه الرأسمالىّ العالمىّ العام: عدم السماح (بكل الوسائل) لباقى العالم بالتحول إلى الرأسمالية الحقيقية أو إلى الاشتراكية والشيوعية. وإذا كان الغرب الرأسمالىّ قد ساعد بقوة على انهيار كل تطور محتمل نحو الاشتراكية والشيوعية، ونجح أيضا فى منع تطور باقى العالم إلى الرأسمالية، فقد فشل فى منع تحول الصين إلى الرأسمالية، وساعد بنفسه فى تطور رأسماليات أخرى ابتلعتْها الصين (هونج كونج) أو ستبتلعها (تايوان)، بالإضافة إلى كوريا الجنوبية.
وبدلا من هذا نجد الصين فى هذا الكتاب فى قائمة واحدة مع السعودية، ومع زامبيا، ومع السودان، وغيرها، تحت عنوان واحد مضلِّل هو العالم الثالث.
وتبقى ملاحظة أخيرة على الكتاب.
فى سياق بحثه العميق للعالم الثالث من حيث التفسير والتغيير، والاستقرار وعدم الاستقرار، والعوامل المتنوعة المؤدية إلى حفز أو تثبيط الثورة، لا يجد المؤلف، محقا فى ذلك كل الحق، أفقا قابلا لمجرد النقاش سوى عملية الدَّقْرَطة فى العالم الثالث، على أن هذا النقاش بدوره سلبىّ ففى عالم الاستغلال، واللامساوة الاقتصادية، والقمع، والانقلابات والتدخلات العسكرية الداخلية والخارجية، والبيروقراطيات والدول المفرطة النمو، والحروب الأهلية، والحركات الانفصالية، والأصوليات والإثنيات المتناحرة، والثقافات قبل-الرأسمالية، وغير ذلك، لا تستطيع الدَّقْرَطة أنْ تكون عملية عميقة ناجحة.
وهنا لا تبقى سوى الأخطار الكئيبة التى تُحْدِق بالعالم الثالث، ولا يتجاهل المؤلف تلك الأخطار التى يدركها جيدا ويتناولها كتابه دون مواربة.
غير أن هذا لا يكفى. لا يكفى أنْ نتحدث عن الأخطار البيئية والأوبئة والمجاعات والحروب الأهلية واستفحال الفساد وتدهور الرعاية الصحية وتفشى الفقر والجهل والمرض. لا يكفى الحديث عن هذه الأخطار وكأنها وضع فظيع دائم وثابت يسبب المعاناة والشقاء فى عالمنا الثالث. فالوضع الراهن ينبغى النظر إليه من زاوية تغيُّره ومستقبله، فإذا كان هذا الوضع لا يتحسن ولا يتطور ولا يتقدم فإنه لا يظل على حاله. إن عدم السير إلى الأمام يعنى التراجع إلى الوراء. وعندما نتحدث عن التهميش طوال عقود طويلة فإن الاستمرار فى الحديث عن التهميش يصير مضلِّلا للغاية. وإنما يقود المزيد من التهميش المتواصل إلى أشكال قصوى من التدهور والانهيار. وهنا تندمج الأخطار المتنوعة التى نتحدث عنها خطرا خطرا فى خطر كبير واحد مؤداه الانهيار والانقراض.
والحقيقة أنه قد يكون من الأدب والتهذيب أنْ نكفّ عن إيلام الناس بالحديث عن الأخطار القصوى، غير أن الحديث عنها بكامل أبعادها هو الذى يمكن أنْ ينقذ منها، وإنْ بصفة جزئية، وبدلا من دفن رؤوسنا تحت الرمال ينبغى أنْ نَنْتَبه ونُنَبِّه إلى الأخطار القصوى المُسْلَطة فوق رؤوسنا مثل سيف ديموقليس. ولعل هذا أنْ يدفعنا إلى التفكير العميق، والبحث العميق، على كافة المستويات للتوصُّل إلى مخرج حقيقىّ، قبل أنْ نصل إلى نقطة اللاعودة. وينبغى أنْ ندرك جيدا أنه يوجد شيء اسمه نقطة اللاعودة.
وأنا شخصيا لا أعرف مَخْرَجا حقيقيا مما نحن فيه! وأعتقد أن ما يواجهنا فى عالمنا الثالث هو هذا التحّدى: التحديث الشامل السريع، الصناعىّ والثقافىّ، فى سباق مع الزمن، أو الانقراض، فهل نكون على مستوى التحدِّى؟! ولكنْ مَنْ المفوَّض تاريخيا بتحقيق هذا التحديث الشامل: الطبقات الاستغلالية التى تقهر الشعوب أم الطبقات العاملة المضطهدة والمقموعة والمقهورة وبالأخص غير المسيَّسة وغير الواعية فكريًّا؟! والطبقات من النوع الأول تدفعها مصالحها وبالأحرى جهلها حتى بمصلحتها فى الاستمرار بعيدا عن التحديث الرأسمالىّ الشامل والطبقات من النوع الثانى مقهورة ومقموعة رغم حركاتها الاقتصادية والإضرابية مع أن مصالحها التاريخية تتمثل فى الاشتراكية فيما تتمثل مصلحتها المباشرة على الأقل فى مجرد البقاء فى سياق أىّ تقدم منقذ حتى وإنْ كان فى إطار نظام رأسمالىّ حقيقىّ. ذلك أن ما ينقذ العالم الرأسمالىّ فى الغرب أو الشمال ليس سوى الرأسماليّة المتقدمة رغم استغلالها وقهرها لشعوب الغرب مهما كان ما ينقذ مستقبل شعوبها يتمثل فى الاشتراكية والشيوعية.
شرم الشيخ، 27 أكتوبر 2010                      
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
كلمة الغلاف
يستطيع القارئ أن يتابع عبر هذا الكتاب تغطية متواصلة لتطورات الثورة المصرية بوجه خاص والثورات العربية بوجه عام خلال الفترة بين أواخر يناير وأوائل ديسمبر 2011. وتبدأ هذه المقالات بمقال عن الثورة التونسية التى ألهمت الثورات العربية جميعا فى سياق حالة نموذجية من حالات نظرية الدومينو بحكم الحالة العامة المتشابهة للشعوب العربية التى تعانى الفقر والقهر على أيدى أنظمة حاكمة استبدادية فاسدة، ملكية أو جمهورية-ملكية بحكم وباء التمديد والتوريث أكثر من أىّ منطقة أخرى فى العالم.
وقد تطورت الثورات العربية كثورات كاملة الأوصاف فى بلدانها الخمسة ( تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا) التى يدور فيها جميعًا إلى الآن صراع كبير مفتوح بين الثورة والثورة المضادة، أو البلدان التى ظهرت فيها بدايات وإرهاصات للثورة، عاصفةً فى مكان ومعتدلةً فى آخر، متواصلةً فى مكان ومقهورةً أو مكتومةً أو متقطعةً أو مقطوعةً أو منقطعةً فى مكان آخر، كما رأينا بالفعل ونرى فى البحرين والمغرب والأردن والجزائر والعراق والسعودية وسلطنة عُمان وموريتانيا وحتى چيبوتى وحتى فلسطين! ولم يكن بمستطاع أحد أن يتنبأ بحدوث هذه الثورات فهذه طبيعة الثورات الشعبية فى كل مكان وزمان مهما كانت الأحوال منذرة أو بالأحرى مبشِّرة. وكانت طريقة التعامل معها هى المعضلة التى واجهتها كل القوى المتصارعة ذات الأهداف المتناقضة.
وعندما تفجَّرتْ هذه الثورات كان علينا أن نحاول فهمها وإذا استطعنا إرشادها وحمل الوعى إليها بقدر الإمكان بشأن طبيعتها وآفاقها والمخاطر التى تُحْدِق بها. وفى هذه المقالات محاولة لبلورة رؤية للثورة ومناقشة قضايا الثورة العربية فى ضوئها وتطوير هذه الرؤية ذاتها فى ضوء تطورات ونضالات ونجاحات وإخفاقات هذه الثورة. ذلك أن أىّ رؤية ذات منطلقات نظرية عن الثورات ينبغى أن تتعلم من الممارسة تماما كما تسترشد الممارسة بالنظرية.
 


[1]: أعتقد أن لفظة "دَقْرَطة" أفضل من لفظة "مَقْرَطة" لابتدائها بالحرف الأول من لفظة "ديمقراطية"؛ أىْ الحرف الأول من لفظة "ديموس" dēmos أىْ "شعب" باليونانية، كما تتفق مع الصرف العربىّ فى الرباعىّ المجرَّد وخُماسيِّه واشتقاقاتهما مثل "مَقْرَطة" أيضا فى هذا الجانب؛ كما أن "دَقْرَطة" أفضل من "دَمَقْرَطة" التى صارت شهيرة أيضا فمع أن لهذه اللفظة الأخيرة ميزة أنها تأخذ حرْفيْن من بداية الأصل اليونانىّ بترتيبهما إلا أنها تدخل فى مشكلة مع قواعد وأصول النحت والاشتقاق لأنها لا تتفق مع الميزان الصرفىّ العربىّ فى أىّ وزن من أوزانه مما يخلق مشكلة اشتقاقية حقيقية – المترجم.
 



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الأول
- القرن الحادي والعشرون: حلم أم كابوس؟
- الذكرى الأولى للثورة تقترب والمجلس العسكرى يسير بنا على الطر ...
- الحوار بين الثورة والواقع
- مطالب وأهداف الموجة الثورية الراهنة
- موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية الجديدة
- مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر
- الاحتجاجات المسماة بالفئوية جزء لا يتجزأ من الثورة
- مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية من ضرورات استمرار الث ...
- مذبحة ماسپيرو تضع الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة
- مقدمة خليل كلفت لترجمته لكتاب: -كيف نفهم سياسات العالم الثال ...
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها تقديم للمؤلف خليل كلفت
- كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية
- الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها
- الديمقراطية .. ذلك المجهول!
- خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
- الحزب الحاكم القادم فى مصر
- الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى
- لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) بيان بقلم: خليل كلفت
- يا شعب مصر ... إلى الأمام ولا تراجع ... التراجع كارثة


المزيد.....




- بآخر تحديث للجيش العراقي.. هذه نتائج انفجارات قاعدة الحشد ال ...
- شاهد اللحظات الأولى لانفجارات ضخمة داخل قاعدة للحشد الشعبي ف ...
- فيدان: زيارة السيسي لتركيا ضمن جدول أعمالنا
- الميكروبات قد تحل ألغاز جرائم قتل غامضة!
- صحة غزة: 4 مجازر خلال 24 ساعة وإجمالي ضحايا الحرب تجاوز 34 أ ...
- الحرمان من النوم قد يقودنا إلى الإصابة بـ-قاتل صامت-
- مكمّل غذائي شائع يمنع الإصابة بنزلات البرد والإنفلونزا
- العثور على -بكتيريا مصاصة للدماء- قاتلة متعطشة لدم الإنسان
- -واتس آب- يحصل على ميزات شبيهة بتلك الموجودة في -تليغرام-
- لجنة التحقيق الروسية تعمل على تحديد هوية جميع المتورطين في م ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الثانى