أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية















المزيد.....



خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3334 - 2011 / 4 / 12 - 00:30
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
بقلم: خليل كلفت
1: من الطبيعى أن أحمل معى مدينتى (القاهرة والعالم العربى) إلى مدينة أخرى (پيزا وإيطاليا). وكيف لى أن أفارق مدينتى بالروح وإنْ فارقتها بالجسد، خاصةً إلى هذه المدينة الأخرى (پيزا) التى منحتنى حياة جديدة منذ أربع سنوات أنتجتُ فيها الكثير تأليفا وترجمة وحياة حميمة مع الأسرة والأهل والأصدقاء وكل الناس الذين هم مدينتى الحقيقية فى مصر والعالم كله والذين أدين لهم بحياتى ذاتها من أمريكا وكندا غربا إلى الياپان شرقا حيث أحاطونى بكل أنواع العون المادى والمعنوى.
وكان عزيزا علىَّ بالطبع أن أترك القاهرة لهذه الزيارة القصيرة (15 يوما) إلى إيطاليا للمتابعة التزاما بمواعيد مسبقة مع المستشفى. وما كان لى أن أترك القاهرة والعالم العربى والثورة العربية لولا هذه الظروف القهرية، تاركا لهذه العوالم الواعدة قلبى ومركِّزا عليها عقلى. غادرتُ مصر التى تتصارع فيها قوتان كبريان هما الثورة والثورة المضادة، وغادرتُ العالم العربى الذى يشهد نفس هذا الصراع الكبير فى معظم بلدانه بين هاتين القوتين الكبيرتين. وكلها صراعات لم تُحسم بعد بصورة نهائية حتى فى تونس ومصر اللتين جرت فيهما الإطاحة برأس النظام وببعض رجاله مع اشتداد الثورة المضادة المسعورة بكل وسائلها المتنوعة، وفى ليبيا واليمن رغم اقتراب ساعة الخلاص من القذافى وعلى عبد الله صالح، لأن الثورة المضادة مرض خبيث ينشأ مع الثورة وربما قبلها بكثير، وعلينا أن نعمل حسابها حتى فى ليبيا التى استطاع شعبها أن يحقق ما لم يحققه شعب تونس وشعب مصر بفضل ضيق القاعدة الاجتماعية والسياسية لنظام القذافى وبفضل الجغرافيا أيضا، مما أدى إلى بروز قيادة موحَّدة واحدة للثورة فى ليبيا على النقيض من مصر وتونس اللتين تفتقر فيهما الثورتان العظيمتان إلى قيادة ناضجة موحدة، واللتين لم تشهدا حتى الاستقالات الواسعة النطاق والانشقاقات الكثيرة لرجال النظام وچنرالاته ودپلوماسييه وحتى القبائل فى كل من ليبيا واليمن، ففى مصر وتونس لم تكن هناك استقالات أو انشقاقات بل كان هناك على النقيض استعداد مروِّع لحمل الحقائب الوزارية وشغل المناصب العليا حتى فى عهد مبارك وعمر سليمان وأحمد شفيق والمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
كان عزيزا علىَّ أن أبتعد عن هذا الصراع الكبير المفتوح بين الثورة والثورة المضادة، ولهذا فأنا أتابع بقدر ما أستطيع من خلال الكمپيوتر غير المجهَّز للُّغة العربية، والذى يستخدمه غيرى أيضا فى المكان، فلا أستطيع أن أواصل كتابة المقالات على الكمپيوتر كما كنت أكتبها فى مصر عن الثورة وقضاياها فى تونس ثم فى مصر وغيرهما، ولا أستطيع كذلك البحث عن كل ما أريد، غير أن الإنترنت يجعلنى أتابع من خلال بريدى الإلكترونى وفيسبوك وتويتر وبى. بى. سى والجزيرة نت ومواقع وصحف مصرية وعربية وعالمية كثيرة وهذا فضل كبير من أفضال الحضارة الغربية مع كل ما فعلته وتفعله بنا. غير أن كل هذا لا يكفى، ففى مصر، حيث كنتُ، تلتقط الأُذُن وترى العين ويتواصل الحديث المباشر فى البيت والشارع وفى ميدان التحرير أحيانا أو عبر التليفون، ولكنْ: شيء خير من لا شيء، كما يقولون. وبالطبع فإن وجودى فى العالم العربى، عالم الثورة، من مكانى فى مصر، لم يكن يضيف شيئا له وزنه إلى الثورة، فأنا لم أكن طيلة حياتى ولا أثناء الثورة مناضلا جماهيريا، وإنْ كنت قد ذهبت مرات إلى ميدان التحرير لألمس الثورة وأسمعها وأراها وأشمها وأحسها بكل حواسِّى، وكل ما هناك أن كتاباتى المتواترة عن الثورة فى مصر بالذات، مهما كانت قيمتها محدودة ومهما كان تأثيرها ضئيلا، كانت مهمة بالنسبة إلىّ، أن أكتب وأنشر إليكترونيا من خلال موقع يخصنى ومن خلال الحوار المتمدن ومنه إلى فيسبوك وتويتر وإلى مواقع ميديا إليكترونية كثيرة لم أنتبه إليها من قبل، وكذلك من خلال الإرسال من بريدى الإليكترونى إلى مئات الأصدقاء. وبالطبع فإننى أكتب هنا أيضا عن الثورة. غير أن ما أكتبه هنا قليل جدا وقد كتبت بالتحديد مقالا بتاريخ 16 مارس - وهو اليوم التالى لوصولى إلى إيطاليا (روما) واليوم الأول لوصولى إلى پيزا الحبيبة التى هى بمثابة مسقط رأسى الثانى بعد أن كنت مُشْرفا على الموت منذ أربع سنوات - عن الثورة الليبية وعرَّجْتُ فيه قليلا إلى السعودية وبلدان مجلس التعاون الخليجى، بالإضافة إلى ما بدأتُ أكتبه الآن، أىْ هذه الخواطر التى أفكر فيها منذ أيام وأبدأ كتابتها الآن (مباشرة بعد أخذ عينة من كبدى الثانى فى هذه الحياة كما قالت لى الطبيبة التى أجرت أخذ العينة لطمأنتى وتنبيهى إلى ضرورة العناية به). والمشكلة أننى لم أستطع إلى الآن كتابة مقالى عن ليبيا على الكمپيوتر لأن ظروفى لم تسمح لى إلى الآن، ولن تسمح لى على الأرجح فى الأيام الباقية، بالذهاب إلى فلورنسا حيث يعيش الصديق البورسعيدى صلاح إبراهيم ولا أعرف هنا شخصا أجد عنده أو مكانا أجد فيه "الحاسوب العربى" المنشود. وسوف تلقى هذه الخواطر، بالتالى، نفس المصير. وعلى كل حال فإن مقالاتى ليست بالشيء البالغ الأهمية، رغم أن بعض مقالاتى وكذلك تلخيصات بعضها لاقت شيئا من الترحيب والقبول فى ميدان التحرير ذاته.
2: ومهما يكن من شيء فإن الثورة ضد الاستبداد والفساد والاستغلال وفى سبيل الحرية والعدالة والكرامة تنتشر لتمتد إلى كل البلدان العربية ولكنْ أيضا إلى بلدان أخرى مجاورة وحتى إلى بلدان بعيدة. والأرجح أنه لن يسلم منها نظام ديكتاتورى ظالم ولن ينكص عنها شعب حر مقهور (ونسمع عن احتجاجات كبيرة فى السنغال وعن إرهاصات ومخاوف حتى فى الصين وأعتقد أنه لن تنجو منها الجمهورية الإسلامية الإيرانية). أما فى البلدان العربية فقد تحركت الشعوب فى كل مكان، وقطعت أشواطا من مشوار طويل فى تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين. ولكن البدايات والإرهاصات أوسع انتشارا بصورة ملحوظة وأحيانا كاحتقانات وغليانات مكتومة إلى الآن: بدايات واسعة النطاق فى الأردن، والمغرب، والجزائر، والعراق، بدايات واعدة مهما كان نطاقها محصورا إلى الآن فى سوريا، إرهاصات فى موريتانيا، والسعودية، وعُمان، وربما الكويت، وأنا لم أسمع شيئا عن الإمارات أو قطر، ولكننى سمعت عن چيبوتى العضو فى جامعتنا العربية، وهناك بالطبع غليان مكتوم فى السودان، حيث يذبح نظام البشير الشعب فى دارفور، وحيث يجبر بسياساته الجنوب على الانفصال والاستقلال، وحيث تهدد سياساته وممارساته البلاد بالانقسام إلى عدد من الدويلات البائسة اليائسة، وحيث رئيس البلاد وعدد من رجاله مطلوبون للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، ليس لاستبداد النظام وفساده بوجه عام، بل بوجه خاص بسبب أعماله فى دارفور التى ترقى (أو بالأحرى تنحط) إلى مستوى جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وهناك فلسطين التى ترفع مظاهراتها شعار "الشعب يريد إسقاط الانقسام". أما لبنان فإن موجة الثورة لن تمرّ دون أن تقلب معادلاته رأسا على عقب وسرعان ما ستظهر بدايات الثورة ربما بالأخص بعد سوريا. هل نسيتُ أىّ بلد عربى؟ ربما الصومال الثائرة المثوَّرة التى دمر فيها الإسلام السياسى والقاعدة البلاد والعباد، وحيث تدور الثورة الإسلامية المظفرة فوق الخرائب والأطلال.
على أن خريطة الثورة والثورة المضادة بعيدة عن البساطة. والأهم أن نجاح الثورة المضادة فى البلدان الأربعة التى جرت فيها ثورات حقيقية كبرى: مصر وتونس وليبيا واليمن، سيكون عاملا حاسما ضد تطور الثورة فى البلدان العربية الأخرى، أما المزيد من نجاح هذه الثورات وفشل الثورة المضادة فسوف يشكلان معا عاملا حاسما من عوامل انتشار ونجاح الثورة فى البلدان العربية الأخرى، وفى مناطق أخرى من العالم.
3: الخريطة ليست بسيطة. ويبدو أن خادم الحرمين الشريفين قد عثر على حل سحرى لإطفاء نار الفتنة، أىْ لتفادى الثورة فى بلده الأمين، وضرْب الثورة فى محيطه العربى القريب والبعيد. فبعد عودته الميمونة من رحلة العلاج والنقاهة سارع إلى التدخل العسكرى المباشر فى البحرين، مستقويا بالطبع بأمريكا فى مواجهة إيران، وهناك أنباء متواترة عن إرساله أسلحة إلى النظام اليمنى، وهناك أنباء متواترة أيضا عن ضغطه على حكام الأمر الواقع فى مصر، أىْ المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومته، لمنع أىّ محاكمة لمبارك وأسرته باعتبار ذلك إهانة لأصحاب الجلالة والفخامة والسمو، وخاصة عرفانا بدور مبارك فى حرب تحرير الكويت وبكل مواقفه الأخرى مع الخليج، مهدِّدا بطرد العاملين المصريين من الخليج وسحب الاستثمارات الخليجية من مصر! وهو مستعد بالطبع لأكثر من ذلك، غير أن سعيه المنطقى إلى تأمين الأطراف فى اليمن والبحرين وغيرهما عند الضرورة، رغم أهميته لأمن السعودية ذاتها، يمكن أن يشتت تركيز جيشه وأمنه على بلاده.
غير أن العاهل السعودى، باعتباره خادم الحرمين الشريفين، يعتمد فى تأمين بلده الأمين على حل سحرى كما تصوره عن طريق ثورته الكبرى من أسفل منذ عدة أيام. ولأنه يعلم أن المال هو إله العصر، ولأن عنده ما يكفى من المال حتى نهاية الأرض ومَنْ عليها، فقد اعتمد عليه فى الحال: مزيد من المال لزيادة الأجور، ورفع سقف القروض، ولتحسين الخدمات الصحية، ولكنْ أيضا لرفع مستوى دور الدين فى استتباب الاستقرار. ولأنه يعلم أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان فقد ركز على الدين، على المؤسسات الدينية، ورجال الدين، والبحث الدينى، والتعليم الدينى، وأغرق كل شيء دينى فى المال الوفير ليقوم الدين بمزيد من الكفاءة بدوره فى حماية مُلْكه، غير أن الدين يحتاج بدوره إلى حماية أمنية، والمال جاهز للمؤسستين العسكرية والأمنية بالترقيات والامتيازات والمرتبات. واعتمد على كل هذه "الرشَّات الجريئة" لحماية مُلْكه.
على أن خادم الحرمين الشريفين نسى شيئا بالغ الأهمية. ففى غمرة إحساسه بأن الجوع وحده هو الذى حرَّك تلك الشعوب الجائعة الثائرة فى بلدان عربية أخرى، ولأنه بماله وفَّر لشعبه أصلا وبإجراءاته الأخيرة مزيدا من الابتعاد عن الجوع إلى الخبز، وبأنه آمن مُلْكه من خوف بتعزيز الأمن والجيش، وبأنه بماله ضمن قيام المؤسسة الدينية بدورها فى تأمين إطاعة العباد جميعا لأولى الأمر منهم، ... فى غمرة إحساسه بكل هذا نسى الملك عبد الله أنه سمع مرة ومرات هنا وهناك عن أشياء اسمها الحرية والكرامة والديمقراطية ونسى أنه ما من شيء يمكن أن يمنع شعبه من التطلع إلى الحرية وللبقاء فى الحظيرة السعودية التى تنتمى إلى القرون الوسطى. وهو ككل المستبدين لم ولن يفهم حاجة الناس إلى شيء اسمه الحرية، ولأنه يتصور أن الناس الذين يأكلون ويشربون ويتلقون العلاج الطبى وغير ذلك يتمتعون بحرية الأكل (نوع الطعام) وحرية الشرب (بعيدا عن المنكر) وحرية العلاج (اختيار كل طبقة لمستوى العلاج الذى يتماشى مع دخلها ما دام أن الله خلق الناس طبقات فوق بعض فى الرزق). غير أنه عندما ينتبه تحت ضغط التطورات إلى أنه نسى هذا الشيء، لن ينسى أن عنده المال أيضا للإنفاق على الخبراء لإعادة الحسابات. ولكنْ ماذا يمكنه أن يعطى إذا قال له الخبراء إن تطلعات الشعوب إلى الحرية والكرامة لا تُشترَى بمال، حتى بمال قارون؟ فماذا يمكنه إذن أن يقدم؟
وقد رفعت الشعوب العربية فى ثوراتها وفى إرهاصات ثوراتها شعارات متنوعة منها شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" (تونس ومصر وليبيا واليمن)، ومنها شعار "الشعب يريد إصلاح النظام" (العراق)، ومنها شعار "الشعب يريد إسقاط الحكومة" الذى سرعان ما انتهى إلى شعار "الشعب يريد إقامة الملكية الدستورية" (الأردن والبحرين والمغرب) بل ذهب ملك المغرب إلى حد إعلان إرادته السامية التى ارتضت "الملكية الدستورية" نظاما لشعبه. فهل يقدِّم خادم الحرمين الشريفين تنازلا من هذا النوع؟ وبالطبع فإنه لا يمكن استبعاد أىّ شيء وسط هذه العاصفة الثورية الهائلة، غير أن المهم هو أن "الملكية الدستورية" التى يقدِّمها ملك المغرب لا تعنى أكثر من سلطة الملك مع زيادةٍ شكلية ومحدودة فى سلطات رئيس الوزراء فى بلد عامر بالأحزاب والحركات والنقابات والحياة الپرلمانية والصحافة فى المغرب. أىْ أن جوهر خدعة ملك المغرب يتمثل فى تسمية الملكية المطلقة باسم الملكية الدستورية، ولا يعنى أبدا ملكية أو إمپراطورية دستورية يملك فيها الملك أو الإمپراطورية ولا يحكم، كما فى بريطانيا أو الياپان. وبهذا المعنى فقط وبه وحده يمكن أن يقدِّم ملك دولة عربية (السعودية، الأردن، المغرب، البحرين) أو أمير دولة عربية (قطر، الكويت، الإمارات) أو سلطان دولة عربية (قابوس عُمان) مثل هذه الخدعة فى أقصى حالات الاضطرار: خدعة ملكية مطلقة تُطْلق على نفسها اسم ملكية دستورية.
ولم لا؟ أليست الملكية الدستورية أهون الضررين، باعتبارها تُبْقى على النظام الملكى على كل حال؟ لا، بالطبع. فعندما تكون السلطة الحقيقية فى يد الحكومة والپرلمان فإن الملك لن يكون سوى رمز متحفى لنظام منقرض، وسوف تهبط مداخيل الملك والأسرة المالكة إلى مستوى منخفض جدا ولا وزن له حتى بدون القياس إلى الثروات الطائلة التى جلبتها السلطة المطلقة للملك وأسرته (وحتى لكل أفراد قبيلة ملكية حقيقية يشكلها أمراء الأسرة المالكة الممتدة الذين يُعَدُّون بالآلاف فى السعودية). فالملكية الدستورية تعنى تجريد الملك من السلطة المطلقة ومن ثروته الفلكية وتجريد الأمراء من أدوارهم ومناصبهم فى السلطة وكذلك من ثرواتهم الفلكية فى كثير من الأحيان. ويمكن أن تجردهم السلطة الجديدة من ثرواتهم التى تكونت باللصوصية والفساد ونهب الأموال المتفجرة من باطن الأرض مع قطع اليد اليمنى لصغار اللصوص. بل يمكن لشعب استطاع أن ينتزع السلطة من الملكية المطلقة وانتقل بها إلى پرلمان وحكومة الملكية الدستورية أن يفكر ثوريا فى التخلص من الملكية بأىّ شكل من أشكالها والانتقال إلى تأسيس الجمهورية بدلا من هذا النظام العتيق الذى يرمز إلى عهود تاريخية سابقة منذ القرون ومنذ الألفيات ولكنْ صار العالم العربى موبوءا به وبمحاكاته عن طريق المشاريع المستوحاة منه فى شكل الجمهوريات الملكية من خلال التمديد والتوريث، فى عصر لا تتجاوز فيه بلدان النظام الملكى فى العالم كله أعدادا قليلة جدا مع أن ملكيات منها تُعَدّ فى الحقيقة جمهوريات تتمتع بديكورات ملكية (بريطانيا) وإمپراطورية (الياپان) لأنها ملكيات دستورية بالمعنى الحقيقى وهى لا تقل ديمقراطية عن أىّ جمهورية رئاسية أو پرلمانية فى العالم المتقدم.
وعندما يأتى الأوان فإن الشعوب التى رفضت وأسقطت مشاريع الجمهوريات الملكية (ومنها بإذن واحد أحد المشروع الذى تحقق بالفعل فى سوريا) سوف ترفض النظام الملكى جملة وتفصيلا. فهل يدهشنا أن يكون خادم الحرمين الشريفين رأس حربة للثورة المضادة فى السعودية والخليج ومصر وكل العالم العربى وغير العربى؟
ومن ناحية أخرى فإنه لن يكون من السهل أن يبقى الشعب السعودى داخل الحظيرة السعودية القروسطية، وقد بقيت تلك الحظيرة قائمة رغم الانقلابات والتغيرات والثورات التى اجتاحت العالم العربى خلال العقود الطويلة السابقة منذ الخمسينات، غير أن هذه الحظيرة لم تبق كما هى، بالإضافة إلى الموجة الثورية الراهنة التى تؤثر فى السعودية كما فى غيرها. لم تبق هذه الحظيرة القروسطية على حالها لسبب مهم هو المال أيضا، أىْ الپترودولار، فرغم أن هذا المال كان عامل استقرار للمملكة فى مرحلة طويلة حيث جرى تفادى ثورات الشعوب الفقيرة أو انقلاباتها العسكرية التى كانت نوعا من الثورات السياسية المحدودة والتى أطاحت بملكيات عديدة فى مصر والعراق وليبيا واليمن، إلا أن هذا المال ذاته صار أيضا عامل تغيير، فى مرحلة تالية. ذلك أن انتشار التعليم محليا والتعليم الواسع النطاق خارج البلاد ونشوء "طبقة" من الكوادر فى مجالات كثيرة، أحدث تغيرا كبير فى نوعية الشعب من حيث وعيه وتطلعاته وإحساسه بكرامته. وكان هذا يصب من جانب فى المشاركة الواسعة من جانب الشباب السعودى فى حركات ومنظمات الإسلام السياسى وبالأخص الأكثر تطرفا منها وصاروا يقاتلون فى أفغانستان ومناطق أخرى من العالم. غير أنه كان وما يزال يصب أيضا فى ثورة التطلعات، فى الحياة العصرية الجديدة التى صارت منشودة.
ومن ناحية أخرى فإن هذه الحظيرة القروسطية تعيش داخل بيئة عالمية تتميز بالتكنولوچيات المعلوماتية الحديثة بكل تأثيراتها فى كل مكان، كما أنها تعيش الآن بالذات فى بيئة عربية تمثل محيطا ثوريا لم يسبق له مثيل حول هذه الحظيرة، والدلائل كافية على أن الشعب السعودى بدوره يعيش فى حالة احتقان، وليس فقط الشيعة كما تحركوا أو كما يريد خادم الحرمين الشريفين أن يصور الحركات الاحتجاجية فى البحرين أو السعودية أو العراق أو شمال اليمن أو لبنان على أنها احتجاجات شيعية طائفية توجهها إيران وتستقوى هى بإيران، بل تعيش فى حالة الاحتقان المكتوم كل القوى الحية فى المملكة.
والحقيقية أن الثورة والثورة المضادة حرب حياة أو موت بالنسبة للحكام كما بالنسبة للشعوب، ولهذا فليس من المدهش أن يمتشق خادم الحرمين الشريفين السلاح. وقد بدأ بالسلاح جهارا نهارا غير أنه بدأ أيضا بثورته المضادة الاستباقية من فوق بتعزيز الأمن والجيش، ورفع مستوى استعداد وجاهزية المؤسسة الدينية ورجالها ومعاهدها، ومحاولة رفع مستوى استكانة وخضوع الشعب متصورا أنه بالخبز وحده يحيا الإنسان.
ومن المؤكد أنه محق تماما من حيث مصلحة مُلْكه وأسرته ونظامه، وهو لم "يدِّيها الطرشا" (لم يُعْطها الطرشاء) كما فعل العديد من الحكام العرب فلم يتنازلوا إلا قليلا وإلا بعد فوات الآوان كما فى تونس ومصر وليبيا واليمن. وبالتالى فإن وعيه الأكثر عمقا بالمقارنة بمبارك والقذافى وزين عابدى الله بن على وعلى عبد الله صالح، وكذلك أمواله الطائلة (حتى بإخراج القذافى من هذا الجزء من المقارنة) ... كل هذا يجعله ممثلا أقوى وأخبث للثورة المضادة.
ويمكن أن نقول كلمة أو كلمتين بخصوص ثورته المضادة الاستباقية فى السعودية عن طريق الإجراءات الداخلية المذكورة آنفا. فكيف تكون هناك ثورة مضادة استباقية، أىْ ثورة مضادة بدون اندلاع ثورة؟ وصحيح أننا نتحدث عن الثورة المضادة بالمعنى الدقيق أو الضيق بمجرد أن يبدأ نشاطها فى مواجهة ثورة فعلية، غير أننا من ناحية أمام ثورة عربية تنتشر كالنار فى الهشيم من خلال عملية دومينو واسعة النطاق، ولهذا تحدث الثورة المضادة فى البلدان التى هاجمتها الثورة وكذلك فى البلدان المهدَّدة بها سواء أكانت عربية أو غير عربية، وبالتالى فإن الثورة المضادة هى مجموع الإستراتيچيات والسياسات والخطط والإجراءات والممارسات التى يقوم بها نظام طبقى وحلفاؤه المحليون والإقليميون والعالميون لتفادى الثورة عندما تظهر نُذُرها والتى تعمل حتى قبل اندلاع الثورة وتصل إلى أقصى مداها عندما تتحول إلى ثورة فعلية. ومن ناحية أخرى فإن النظام القائم محليا، وإقليميا، وعالميا، والحريص على استقراره على أساس الاستغلال والطغيان، والمعادى لكل تطلعُّ إلى التغيير الشامل، يمثل بطبيعته معاداة للثورة أو ثورة مضادة، وهكذا تتواصل ممارساته وأيديولوچياته عبر العقود بصرف النظر عن انلاع ثورة فعلية، ولهذا يقدمون فى مصر كما فى غيرها مجموعة سياسية صغيرة تضم قلة من الأشخاص إلى محاكم أمن الدولة باعتبارهم تنظيما يعمل على قلب نظام الدولة بالقوة؟ لماذا؟ لأنهم يخشون دائما المحصلة النهائية التى تصب فيها حتى الحركات والأنشطة الصغيرة، محصلة الثورة. وباختصار فإن وجود النظام الطبقى ذاته ثورة مضادة استباقية فى مرحلة ومباشرة وفعلية فى أخرى.
4: كتبت مقالى (الذى لم يُنشر بعد) عن الثورة الليبية فى وقت كان فيه الحظر الجوى الأممى من حيث القرار، الغربى من الناحية العملية، العربى من حيث التحبيذ أو التأييد (مع دور لا ينكر لبلدان مجلس التعاون الخليجى فى مساعدة موضوعية للثورة فى ليبيا أملا فى علاقات متميزة مع ليبيا بعد القذافى وتصفية حساب سعودية مع هذا الأخير خاصة بعد أن تجاوز جنونه كل الحدود وربما كذلك على أساس بعض التقديرات لطبيعة النظام القادم فى ليبيا)، وعندئذ كان هذا الحظر الجوى وشيكا ولكن فى مرحلة تفاوضية بين الغرب من ناحية والصين وروسيا وبعض البلدان الغربية أيضا من ناحية أخرى. والآن مضت أيام على التدخل العسكرى الغربى ليس فى حدود الحظر الجوى فقط، وليس فى حدود ملاحقة الطيران المنخفض فقط، بل أيضا مع توسيع نطاق تطبيق قرار مجلس الأمن بقصف القوات القذافية البرية كلما اتجهت نحو المدنيين. وكما هو متوقع فقد تمكن التحالف العسكرى الغربى بقيادته الأمريكية إلى الآن خلال هذه الأيام القليلة الماضية من القضاء على أىّ فاعلية كبيرة للسلاح الجوى والدفاع الجوى بعد ضرب العديد من القواعد والمواقع العسكرية، بحيث صار الطيران الغربى حرا فوق الأجواء الليبية واستقر الحظر الجوى تماما، مع التخفيف المحتمل للدور الأمريكى. وهناك خلافات بين دول التحالف فى المدى الذى يمكن أن يذهب إليه التدخل: حماية المدنيين وفقا لقرار مجلس الأمن فى نظر البعض؛ أو تمهيد الطريق لإسقاط نظام القذافى توسيعا لذلك القرار فى نظر البعض الآخر. ومهما كانت طبيعة هذه الخلافات فإن الدول أطراف التحالف جميعا تقوم من الناحية العملية ومن الناحية الموضوعية بحماية كل من المدنيين وقوة الثورة وتقوم بالفعل بتمهيد الطريق إلى إسقاط النظام، ومن المفارقات أن الولايات المتحدة الأمريكية، وهى صاحبة الموقف المتحفظ فى الأقوال، هى التى قامت بالدور العسكرى الحاسم إلى الآن فى الأفعال، فى مجالىْ الحماية والإسقاط باعتبارهما شقين لعملية واحدة فى الحقيقة. ومن المفارقات الأهم بالطبع أن الغرب الذى لا يريد القذافى، أو لم يعد يريده، والذى يخشى احتمال أن تأتى الثورة بنظام إسلامى لا يأمن الغرب جانبه، وبالتالى لا يريد هذه الثورة، هو الذى تجبره ظروف قاهرة على التخلص من القذافى وفتح الطريق أمام نجاح الثورة الليبية، وقد تحدثتُ عن الحسابات المعقدة لمثل هذا الموقف فى مقالى غير المنشور عن ليبيا.
وكان الخيار الأفضل للقذافى، كما قلت فى ذلك المقال، أنْ يتخندق فى طرابلس وما حولها بثلاثة أرباع الپترول الليبى، فلا يزحف شرقا ولا غربا، لإعادة بناء قوته وللاستعادة التدريجية البطيئة فى المستقبل للمناطق التى تسيطر عليها قوى الثورة، وكذلك لتفادى التدخل العسكرى الغربى الذى لم تشتد الضغوط لبدئه إلا بمواصلة القذافى حربا لا هوادة فيها بالطائرات والبوارج والدبابات والصواريخ والمدافع ضد شعبه وضد مقداراته. غير أن خشيته من نضج الثورة فى الشرق وغيره، وتنظيم صفوفها، وتسليحها وتدريبها، وبالتالى زحفها إلى طرابلس الغرب فى مستقبل مواتٍ، واستباقا للتدخل الغربى الذى لم يكن ليحدث لولا مواصلته لحربه المجنونة، دفعت العقيد، أو الزعيم، أو القائد، أو ملك ملوك أفريقيا، إنْ شئت، إلى الضرب فى كل اتجاه فى سباق مجنون مع مصيره ومصير نظامه وجماهيريته، الأمر الذى جعل التدخل أكثر من وارد ثم وشيكا ثم أمر واقعا، وجعل حتى معارضيه يمتنعون عن التصويت (الصين وألمانيا وروسيا) بدلا من استخدام الڤيتو.
والآن تبقى أمامه خيارات أبرزها الانتقال إلى ذلك الخيار الأفضل أى التخندق فى طرابلس ولكن فى أوضاع وشروط أسوأ بما لا يقاس لا تترك له إلا البقاء فترة تكفى لوصول قوى الثورة إليه وهذا ما يبدو الآن أنه يفعله، أو مواصلة نشاطه رغم إعلاناته المتكررة التى لا يلتزم بها عن موقف إطلاق النار من جانب واحد.
وهناك بالطبع عامل جديد مهم من العوامل التى جاء بها التدخل العسكرى الغربى والذى قد تنتقل قيادته إلى حلف الأطلنطى قريبا رغم بعض الخلافات بين بلدان الحلف حول ذلك. هذا العامل هو عامل الزمن الذى يلعب عليه الجميع ويفرض نفسه على الجميع. ولا شك فى أن البلدان الغربية لن تتحمل استمرار التدخل طويلا بسبب العبء المالى وسط الأزمة المالية الغربية العالمية وبسبب العبء السياسى وضغوطه الآتية من قوى عالمية ودول عربية ومن ذلك الموقف المنافق من جانب جامعة الدول العربية التى وافقت على الحظر الجوى ثم عاد وأعلن أمينها العام رفضه للتدخل لأن ما وافقت عليه الجامعة، الساذجة فيما يبدو، كان الحظر الجوى وليس التدخل مع أنه كان من المعلوم للكافة أن الحظر الجوى سوف يتطلب التمهيد بالضربات الجوية الواسعة النطاق، ومع أنه كان من الواضح أن قرار مجلس الأمن يتسع لتفسيرات متعددة. والمهم أن الغرب لا يمكن أن يتحمل الاستمرار طويلا فى هذا الحفظ الجوى للأمن فى ليبيا، كما أنه لا يمكن أن يسحب هذا الحظر الجوى فاتحا الطريق مرة أخرى أمام انقضاض جديد للقذافى واستئناف للحرب الأهلية الليبية بكل ضرواتها ووحشيتها والاضطرار إلى تدخل عسكرى جديد باعتبار أن من مصالح الغرب أيضا ألا تتحول ليبيا بپترولها الخفيف والقريب إلى صومال جديد، فلا مناص من العمل على وجود نظام جديد مستقر فى ليبيا.
والمهم أن الغرب يمكن أن يتجه، تحت ضغط عامل الزمن بشقيه المالى والسياسى، إلى اعتماد تفسير أكثر مرونة من كل ما رأيناه إلى الآن لقرار مجلس الأمن، بحيث يتسع نطاق التدخل العسكرى ليشمل كل الأسلحة الفتاكة للقذافى وتسليح الثورة على نطاق واسع، مع العمل بكل قواه، مستفيدا بمكانته الجديدة بفضل دعمه الحاسم للثورة، على قيام نظام غير معادٍ لأمريكا والغرب، وليس هذا بالأمر البعيد المنال.
ومهما تعددت الحسابات فقد انتهى نظام القذافى، وبعد أنْ كان القذافى يرى أنه قائد بلا شعب فى ليبيا بالمقارنة مع شعب بلا قيادة (فى مصر السادات) فقد آن الآوان لمجئ الشعب الليبى، الذى عانى وتشرد الكثير من أبنائه فى المنافى طوال أكثر من أربعة عقود، إلى الصدارة، وليكنْ بلا قيادة من هذا النوع بالذات، ليترك مكانه لمئات وآلاف من القيادات الحقيقية، كما نحلم فى مصر أيضا وفى كل العالم العربى وفى كل العالم.
وبالطبع فإننى لن أقف طويلا عند الموقف من التدخل الغربى. ولا شك فى أن الغرب يتدخل مدفوعا بمصالحه، وبمصالح سيطرته على العالم، غير أن هذا ليس كل شيء، فهو ليس تدخلا لاحتلال طويل الأمد لليبيا واستعمارها كولونياليا فى زمان غير زمان الاستعمار الكولونيالى، بل هو تدخل طالبت به الثورة الليبية ذاتها بالإضافة إلى أنه صار مطلبا ملحا على مستوى شعوب كثيرة ودول كثيرة فى العالم العربى وباقى العالم، لأنه عندما يحارب رئيس دولة شعبه بالطائرات والبوارج والدبابات والمدافع والصواريخ مع احتمالات الحرب الكيماوية فإنه لا أحد فى هذه المنطقة من العالم يمكنه وقف مثل هذا الجنون عند حده، والمساعدة على إسقاطه، غير الغرب، مادامت مصر متقاعسة رغم أنها قادرة ومادامت روسيا والصين أنانيتين ولامسئولين إلى هذا الحد كما أشرت فى مقالى المذكور عن ليبيا. وذات مرة، فى السبعينات، كان الشيوعى المزعوم پول پوت يدفن الشعب الكمپودى لتنفيذ عقيدة المزارع الجماعية، ويبيده كشعب، ربما بالملايين، وتدخلت ڤييتنام، عندما كانت ما تزال تستحق اسم ڤييتنام، عسكريا فى كمپوديا لوقف المجزرة، وتدخلت الصين عسكريا فى ڤييتنام لإنقاذ حليفتها كمپوديا، وإذا كان ذلك التدخل الصينى جريمة لا تغتفر، فإن تدخل ڤييتنام كان متفقا مع قواعد وضوابط ما صار يسمى بحق التدخل، كما حدث أيضا فى البلقان، وفى دارفور، مع التسليم الكامل بأن الغرب يكيل بمكيالين دائما، وفى هذه اللحظة أيضا، عندما تؤيد أمريكا التدخل السعودى الخليجى فى البحرين لإنقاذ النظام المرفوض، الطائفى، الذى يتهم الأغلبية الشيعية بالطائفية وبالولاء لإيران.
5: ومع أن اليمن السعيد بجنوبه المشتعل منذ وقت طويل وشماله الذى دخل فى حرب مع النظام اليمنى مرشح بحكم الاستجابة المبكرة لكل شعبه للثورة ومواصلة نضاله رغم عنف القمع وبحكم الانشقاقات الواسعة ضده من جانب مسئوليه ودبلوماسييه ومن جانب عسكرييه وحتى انقلاب العديد من قبائل اليمن ضده، للِّحاق بالثورات التى قطعت أشواطا فى طريق النجاح، مثل ثورتى مصر وتونس، جنبا إلى جنبا أو مباشرةً قبل أو بعد ليبيا، فإننى لن أتحدث هنا عن هذه الدولة الفاشلة فى اليمن ولا عن هذا النظام الوحشى، ولا عن هذا الرئيس المتعطش للدماء، وسأكتفى بتأكيد أن الثورة لن تتراجع هناك مهما كانت مخاوف الحرب الأهلية فى هذا البلد المسلّح حتى أسنانه نظاما وشعبا، ومهما كان مصير المناورات المتتابعة للرئيس اليمنى. بل سأذهب مباشرة إلى سوريا التى تشهد بدايات الثورة من درعا فى الجنوب، لأشير إلى الموقف المعقد للغاية فى سوريا. وسوريا هى بلد المشروع الناجح للتوريث قبل أن تضع الثورة العربية حدا لهذه المشاريع فى مصر وتونس وبالتأكيد فى اليمن وليبيا وربما فى الجزائر والسودان أىْ فى بقية بلدان الجمهوريات-الملكية، وكان نجاح هذه المشاريع سيعنى أن هذه البلدان مع البلدان الملكية والأميرية والسلطانية (السعودية والبحرين والأردن والمغرب وقطر والكويت والإمارات وعُمان) أن يغدو العالم العربى (باستثناءات ضئيلة القوة العددية السكانية بالنسبة إلى المجموع السكانى العربى: العراق ولبنان وموريتانيا وفلسطين إلخ.) عالما ارتد إلى النظام الملكى فى عصر يتميز بجمهوريات حقيقية فى الشمال أو الغرب وجمهوريات شبه حقيقية نادرة كما فى الهند بديمقراطيتها وبؤسها وجمهوريات زائفة فى أكثر البلدان مع قليل من الأنظمة الملكية الدستورية أو المطلقة. والحقيقة أن مشاريع التمديد والتوريث مرض خبيث أصاب أغلب بلدان العالم الثالث، لأسباب تتعلق بأننا إزاء نظم مستبدة فاسدة يرتبط فيها الثراء الخيالى بالسلطة المطلقة ولا سبيل فيها إلى حماية الإمپراطوريات المالية الواسعة والثروات الفاحشة المتولدة عن طريق اللصوصية والفساد وزواج السلطة والمال إلا بشيء واحد هو التمديد والتوريث، هو البقاء فى السلطة بشخص الرئيس عقودا ثم توريث الأبناء والإخوة والأصهار، وينطبق هذا حتى على البلدان التى تدعى الاشتراكية والشيوعية والثورية مثل كوبا التى تورِّث الأخ، وكوريا الشمالية التى تورِّث الابن ثم تورِّث من خلاله الحفيد (وذلك منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن).
ومع الثورة ضد التمديد والتوريث التى مهدت لها نضالات وحركات مصرية خلال أعوام سابقة ضد نظام حسنى مبارك وجمال مبارك، لا مناص من أن يشعر الشعب السورى بأن رئيسه فاقد للشرعية الحقيقية منذ يومه الأول. والأهم أن سوريا التى فقدت هضبة الجولان فى حرب 1967 عجزت عن تحرير الأرض وهذا منطقى ولكنها عجزت أيضا عن التوصل مثل مصر إلى سلام تصوِّر الدعاية أنه تحرير للأرض بفضل حرب 1973، مع إخفاء أن المعاهدة كانت تسوية على أساس فاتورة هزيمة 1976 لأن حرب 1973، حرب اللانصر واللاهزيمة كما كانت تسميها الصحافة شبه الرسمية ذاتها فى عهد السادات ذاته، لم ترق إلى مستوى تغيير معادلة الهزيمة التى ساقنا إليها نظام عبد الناصر، جارًّا وراءه سوريا والأردن وفلسطين الضفة الغربية وغزة. ومن المنطقى أن هذا العجز الطويل الأمد (لأن 2011 - 1967 = 44 سنة إلا شهرين وأياما قليلة) يجبر النظام على شن حروب الدعاية الصاخبة ضد العدو الصهيونى من ناحية ويصيب الشعب باحتقان متواصل ضد نظام "أسد علىّ وفى الحروب نعامة" حيث لا يسكته سوى القمع المنهجى الوحشى المعروف عن هذا النظام، واحتضان بعض المنظمات الفلسطينية وحزب الله وامتلاك أوراق ضغط من خلالها ومن خلال توثيق العلاقات مع إيران.
على أن الفقر والبطالة وتردى مستويات المعيشة ومستوى الخدمات الصحية والقمع المتواصل ضد كل تحرك نحو الحرية أو العدالة، عوامل مشتركة بين شعب سوريا والشعوب العربية التى تثور الآن وتلك المرشحة للثورة.
ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بمتى يمكن أن تتحول بدايات درعا إلى ثورة شعبية سورية شاملة، غير أن اندلاع ونجاح ثورة كهذه سوف يقلبان المعادلات حول سوريا، فيما بين القوى السياسية فى لبنان، وفيما بين الفصائل الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالى فى طبيعة صراع الفصائل الفلسطينية فيما بينها وفيما بينها وبين إسرائيل بعد فقدان بعضها للاحتضان السورى، وفقدان حزب الله للتحالف مع سوريا، وهذا بالطبع فى حالة انكفاء سوريا على صراعها الداخلى زمنا غير قصير، وفى حالة أن تعتمد محصلة الثورة المحتملة فى سوريا على معادلات مختلفة فى فلسطين ولبنان. وتفاديا لكل هذا فإن من المتوقع أن تقف إيران بمالها إلى جانب سوريا.
وهناك بالطبع إسرائيل التى تراقب الأوضاع بقلق عن كثب، وهناك مخاوف إسرائيلية من أن يلعب النظام السورى اللعبة الوطنية القومية على الجبهة السورية مع إسرائيل لامتصاص الثورة وتفاديها مع ميل أوساط إسرائيلية إلى التقليل من هذا الاحتمال، وهناك مخاوف إسرائيلية جدية من أن يلجأ النظام السورى إلى تسخين جبهة إسرائيل مع حزب الهخ أو مع غزة، وهناك بالطبع مخاوف إسرائيلية أكثر جدية من أن تؤدى ثورة تطيح بنظام الأسد الابن والبعث إلى نشوء نظام إخوانى أو يلعب فيه الإخوان دورا كبيرا، فيكون معاديا لإسرائيل وقد يكون مستعدا للدخول فى حرب مع إسرائيل، لأن سوريا تتميز أيضا بأن أراضيها محتلة بصورة صريحة مباشرة تختلف عن الاحتلال المموه عن طريق معاهدات السلام، ولأن ثورتها يمكن لذلك أن تختلف عن الثورة العربية فى مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين حيث كانت الثورة بعيدة عن طرح أىّ موقف من إسرائيل وحيث اتخذت الثورة فى مصر موقف احترام كل الاتفاقيات والمعاهدات والالتزامات الدولية. وذلك لإحساس سياسى غريزى بأن أىّ إعادة نظر فى أمور بعينها ستكون مهمة ثورة مظفرة بصورة نهائية.
فكيف سيكون سلوك النظام السورى إزاء إسرائيل فى سياق محاولة تفادى الثورة التى يُحتمل أنها تطرق الأبواب؟ وكيف سيكون سلوك نظام جديد تقيمه الثورة إزاء هضبة الجولان المحتلة وإسرائيل تعبيرا عن خصوصية الثورة فى بلد محتل منذ قرابة 44 سنة؟ أما موقف إسرائيل فمعروف ومعلن دائما: الاستعداد للحرب حتى على أكثر من جبهة فى وقت واحد، وهى حرب كانت واردة على كل حال فى جدول الأعمال حتى قبل الثورة، حتى بدون ثورة، وكان الاستعداد لها على قدم وساق.
6: منذ أربعة أيام (الأحد 20 مارس) زارنى فى غرفتى هنا صديق ألبانى عرفته منذ أربع سنوات عندما جئت إلى هنا لأول مرة لزراعة الكبد ومعى زوجتى، وكان الألبانى بدوره مرافقا لابنته التى كانت تحتاج إلى زراعة الكبد أيضا، ولكنْ قبلى بعامين فيما أذكر، وكان يزور فى غرفة مجاورة أسرة ألبانية جاءت بدورها للزراعة (ولكنْ لزراعة الكلى) لابنها، وقد تأكد لى مع الوقت أنه أقرب إلى عادات منطقتنا، وفى كثير من الأشياء، وتصادقنا، تصادقنا بدون لغة مشتركة فلا أنا ولا زوجتى نعرف الإيطالية التى يعرفها هو بما يكفى للتفاهم على الأقل فى تلك الفترة، وكان يعرف بالطبع لغته الألبانية بالإضافة إلى لغات أخرى لبلدان عاش فيها فترات ومنها الروسية والتركية وربما اليونانية، وكنا أنا وزوجتى لا نعرف هذه اللغات أيضا رغم دراسة زوجتى لشيء من التركية مع الفارسية. ويجب أن أعترف بأن هذه الصداقة ما كانت لتبدأ وتستمر فى الأشهر الأولى إلا بفضل صديقتنا المغربية نجية أحمد الفقهاوى التى تعرف الفرنسية والإيطالية كأهلهما إلى جانب لغتها العربية، وقد كانت نجية هدية من السماء ومن الدكتور ماورو لاتسرى مدير منظمة التعاون الصحى الدولية، فرع پيزا، التى تولت دعوتى وعلاجى على حسابها، منذ أوائل أيام وجودنا فى پيزا، وصارت هى مرشدتنا فى كل خطوة وفى كل شيء طيلة الأشهر الستة الأولى هنا وفى بعض الزيارات اللاحقة التى قمت بها وحدى إلى پيزا للمتابعة. وهكذا عرفنا هذا الصديق الألبانى وزرناه فى مسكنه وعرفنا ابنته وبعض أولاده وأقاربه. وصار صديقا يزور ويُزار ويعرض العون ويقدمه بكل محبة. وكعادته كلما علم أننى هنا زارنى هذه المرة فور علمه. وكان حسنى پاروى، وهذا اسمه، يتندر بأن اسمه حسنى أيضا مثل اسم رئيسنا السابق حسنى، وكان لا يدرك تماما مدى حبنا لرئيسنا السابق غير أنه هو كان يحبه حقا، على الأقل لتشابه الأسماء. وأنا استدعى الآن السنيور حسنى پاروى لأن زيارته غير الطويلة لى يوم الأحد ملأتها مناقشة بدون لغة، أىْ بالإيطالية المتزايدة الإتقان من جانبه ونُتَف متناثرة من الإيطالية من جانبى. غير أن المناقشة كانت ناجحة إلى حد ما، وعلى الأقل عرفت رأيه وعرف رأيى، وسأكتفى بالإشارة إلى قصة قصيرة يتصادق فيها شخصان صداقة حميمة دون لغة مشتركة بينهما للكاتب المجرى العبقرى ديزو كوستولانى بترجمة صديقى الشاعر الكبير محمد سيف عن الفرنسية. والمهم فى سياق هذه الخواطر هو موضوع المناقشة ورأيه ورأيى. فبمجرد أن أشرتُ أنا إلى الثورة فى منطقتنا انفعل غاضبا ليؤكد أن أمريكا تريد السيطرة على پترول العالم العربى، وتتدخل مباشرة فى ليبيا الآن لنفس الهدف، وكان معنى حديثه بأكمله يوضح أن أمريكا هى القوة المحركة للثورات العربية، وأوضحت له بدون لغة أن أمريكا لا يمكن أن تكون وراء ثورات هائلة كهذه للشعوب العربية لأنها لا تستطيع ولا تريد، وهى لا تستطيع لأسباب جلية، وهى لا تريد لأنها إنْ فعلت فسوف تفقد حلفاءها وتأتى إلى الثورة بقوى غير مضمونة وبالأخص معادية لأمريكا ولهذا تخشى أمريكا الثورة بسبب مخاوفها من سيطرة الإسلام السياسى على السلطة فى العالم العربى ولهذا تدعم الثورة المضادة، ولا تدعم الثورة موضوعيا، فى حالة ليبيا بالذات، إلا مضطرة ومرغمة. السنيور حسنى پاروى من ناحيته فند آرائى ودحضها موضحا بلغة لا أفهمها أننى لا ينبغى أن أتوقع أن تظهر لى الأيدى الخفية وراء الأحداث، وقمعته بدورى مؤكدا أننى أعرف ما أقول، واستسلم الرجل فى النهاية نظرا لأننى من المنطقة، وأكبر منه سنا، ولأننى كاتب سياسى أيضا، كما يعرف أصلا. على أن سذاجة السنيور حسنى من بعيد خدعت كثيرا من الناس عن قُرْب وكانت وسيلة من وسائل تضليل الشعوب فى سياق ثورة مضادة مسعورة لكى تنفضَّ عن الثورة، كما جاء فى إشارة السنيور صفوت الشريف فى آخر كلمة له كمسئول فى قمة الثقة المفتعلة إلى أن ما يحدث ليس سوى "الفوضى الخلاقة"، ملمحا إلى العبارة التى استخدمتها إدارة بوش ذات يوم. وكان من شأن التدخل الأمريكى والغربى فى ليبيا أن يشحذ هذا السلاح، فهذا التدخل هو فى نهاية المطاف إضعاف للقذافى الذى لم يعد يريده الغرب، وتقوية للثورة قد تعنى أن الغرب يريدها، مع أنه لم يكن يريدها لا فى ليبيا ولا فى غيرها. وما تصريحات الغرب وتحذيراته للأنظمة سوى نصائح مفيدة لتفادى الثورة ولم يكن الغرب يكف عنها من قبل على كل حال، حتى لا يأتى اليوم غير المرغوب فيه غربيا: يوم انفجار الثورة، كما حدث بالفعل. وعندما تسقط مثل هذه الأنظمة فإنها لا تخسر وحدها بل يخسر معها الغرب بشدة حلفاءه على هذا النحو: حسنى مبارك خسر سلطته وماله وربما نفسه وأسرته ولكنْ خسرته أمريكا وإسرائيل والغرب، وكذلك زين عابدى الله بن على وكذلك على عبد الله صالح، وحتى القذافى الذى خسر خسره الغرب أيضا لأن التلاعب الغربى به ومعه سينتهى إلى صعود سلطة لم يعرف أحد إلى الآن طبيعتها ومواقفها.
7: وبمناسبة الأصدقاء: تصادقت هنا هذه الأيام مع يونانى مسلم يعرف الإنجليزية ولهذا قالوا له قبل يوم واحد من سفره إلى إيطاليا إنه سيسافر لمعرفته الإنجليزية مع ابنة عمه التى "ستزرع الكبد" أيضا ومع أمها لأن زوج ابنة العم لا يعرف الإنجليزية وعليه أن يبقى مع الأولاد، وكان لا مناص من أن يأتى إلى هنا تاركا زوجته وأطفاله هناك. وهو متخصص فى تعليم اللغات ويعرف الإنجليزية والألمانية والتركية إلى جانب لغته اليونانية وظل يبحث عن شخص يتحدث معه بالإنجليزية أو بأىّ لغة مشتركة وكان سعيدا بأن وجد ضالته فى شخصى بفضل اللغة المشتركة ولكونى مسلما مثله فوق البيعة. وهو شاب ممتاز يحلم بنوع من تضامن إسلامى بين كل المسلمين، ولكنه لا ينتمى إلى الإسلام السياسىّ كما أكد لى بوضوح تام. وتناقشنا أيضا عن الثورة العربية التى هو سعيد بها، وعن القضية الكردية وبالذات فى المنطقة التركية من كردستان، واختلفنا تماما، لأننى مؤيد لحق الشعب الكردى فى العراق وسوريا وتركيا وإيران وأرمينيا فى تقرير مصيره، أما هو فيفضل حصر حديثه عن أكراد تركيا لأنه يعرف تركيا فقد تعلم هناك وعاش هناك وهو ويرى أن الانفصال مستحيل بسبب التوزيع الجغرافى المتباعد لأكراد تركيا. ومن المهم فى سياق هذه الخواطر المتفرقة حول موضوع واحد أنه تحدث طويلا عن أقلية يونانية مسلمة ينتمى إليها وقد لا يتجاوز عدد أفرادها مائتى ألف: الپوماكPomaks وتتنازع على أراضيها ثلاث دول: اليونان حيث هى الآن وتركيا وبلغاريا اللتين لهما حدود مشتركة مع إقليمها. وإذا سمعت منه كيف يجرى اضطهاد هؤلاء المسلمين فى اليونان وحرمانهم والحط من شأنهم والدوس على كرامتهم وحصارهم داخل منطقتهم وعدم السماح لهم بالتحرك إلا بإذن داخل منطقتهم وإلى خارجها (كما تفعل إسرائيل فى الضفة الغربية)، فلن يفوتك أن تلاحظ أن اليونان التى يستشهد بها إسلاميونا السياسيون فى دفاعهم عن المادة الثانية من دستور 1971 الدائم فيما يتعلق بالدين، بأصلها الذى يعود إلى دستور 1923 وبالإضافة السادتية فى تعديل 1980، باعتبار أن اليونان تنص على الديانة المسيحية فى دستورها، هى اليونان التى يجرى فيها اضطهاد أقلية مسلمة مكروسكوپية الحجم على أساس مادة دستورية مشابهة. ويعنى هذا أن هذه المادة الثانية فى دستور 1971 وتعديلها فى 1980 لا تبررهما مواد شبيهة بها فى بعض الدساتير الأوروپية فمثل هذه النصوص لم تُوضع عبثا وإنما كوسائل لغايات سياسية!
ومن المدهش أن يهلل بعض الأشخاص المسيحيين المصريين ويؤيدهم فى ذلك مسلمون مصريون للدكتور يحيى الجمل لتلميحه إلى حذف الألف واللام مرتين من نص تلك المادة على "المصدر الرئيسى" ولإضافة حق الأقليات الدينية فى ممارسة شعائرها، أو شيء من هذا القبيل. وهذه المادة الثانية، بالإضافة إلى مواد أخرى فى الدستور أشرت إليها فى مقالى عن هذه المادة، تبدأ بتقسيم الشعب المصرى بعد التوحيد المنافق له بالمواطنة فى نفس هذا الدستور الساقط، ويستطيع كل مَنْ له عقل أن يتصور إلام ينتهى بنا دستور ساقط أو دستور جديد يستوحيه عندما يبدأ بتقسيم الشعب، ويضع سلاحا فى يد استبداد الأيديولوچية السياسية الدينية التى لا تعرف الرحمة وناهيك بالديمقراطية. وهل يعرف هؤلاء الفقهاء الدستوريون الكبار والمستوزرون فى الوقت ذاته (فى حكومة أحمد شفيق الساقطة بالذات) أنهم يهينون شعبهم ويتنصلون من كل قيم ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة كلما فتحوا أفواههم للحديث الدستورى، تماما كما فعلت لجنة المستشار طارق البشرى لإعداد التعديلات الدستورية، التى جرى فى الاستفتاء عليها تزييف إرادة الشعب، بالمال والتضليل والافتراء وبكل الوسائل الخبيثة التى تدل بوضوح على الطبيعة الحقيقية لهذه التعديلات ولكل ما ينبنى عليها من انتخابات پرلمانية أو رئاسية، مع أن الدستور ذاته سقط، بدليل أنه لا يوجد أىّ أساس دستورى من أىّ نوع لحكم الأمر الواقع المتمثل فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومته وكل المراكز الأخرى الخفية للثورة المضادة التى تلقى الحماية والرعاية باعتبار أن "كلّ الناس اللى فوق" فى مركب واحد مهدَّد بالغرق وعليه أن يشق طريقه عبر العاصفة عائدا إلى المرافئ القديمة.
8: يصدمنى قانون يمنع الاحتجاج أو الاعتصام أو التظاهر المؤدى إلى تعطيل الإنتاج، كما صدم الكثيرين، لأنه جاء من حكومة عصام شرف الذى انعقدت عليه آمال الكثيرين، لأنه جاء بطلب من ثوار ميدان التحرير ولأنه ذهب إليهم قبل أن يبدأ القيام بمهام منصبه قائلا إنه يستمد الشرعية منهم، فى تطور نادر من نوعه. فمَنْ الذى يعطل الإنتاج ويمثل خطرا على الإنتاج؟ ومَنْ الذى ينبغى أن يُعاقَب ومَنْ الذى ينبغى أن يُعاقِب على تعطيل الإنتاج؟ وبطبيعة الحال فإن الإنتاج (وليس بالمقاييس الهزيلة كما ونوعا لعهد مبارك وسابقيه) هدف حاسم للثورة وقواها وفى حالة انهيار الإنتاج لا مناص من انهيار الثورة والشعب كله. وعندما "تُصْدر" الحكومة قانونا كهذا فلا بد أنه يأتى من منطلق أن العمال هم الذين يعتصمون فيوقفون الإنتاج، وينطلق أيضا من فكرة أن هؤلاء العمال السُّذَّج تتلاعب بهم قوى الثورة المضادة وتدفعهم إلى تعطيل الإنتاج للوصول بالبلاد إلى حالة من الفوضى العامة الشاملة مما يسمح بالقمع على نطاق شامل وعودة النظام كما كان و"كأنك يا بو زيد ما غزيت". ويتضمن مثل هذا الفهم من جانب الحكومة أن "المطالب العمالية والفئوية" شيء جديد حرضت عليه قوى الثورة المضادة وكأنها لم تكن الأساس لمعارك مشهودة مع نظام مبارك خلال أعوام سابقة، ويتضمن كذلك أن العمال لا يثورون مطلقا مهما ارتفعت مستويات الاستغلال ومهما تردت مستويات المعيشة ومهما استفحل الجهل والجوع والمرض، أو يتضمن على العكس أن الطبقات الشعبية فى مصر تعيش حياة "أحلى من عيشة الفلاح" كما تنص أغنية شهيرة، وبالتالى فلا شيء يدعوها إلى الثورة إلا تحريض المغرضين. أو تعنى أن الشعب المصرى حضارى إلى حدَّ أن يصبر على جوعه عاما أو عامين أو عقدا أو عقدين فى مثل هذه الظروف حتى لا ينهار الاقتصاد والإنتاج وكل شيء، إلا أنه ساذج بحيث تُغَرِّر به قوى الثورة المضادة لأغراض خبيثة فى نفسها وتدفعه إلى الخروج عن سجيته الحضارية مطالبا بحقوقه الملحة بدلا من الصبر الجميل.
ومن ناحية أخرى فإن الحكومة تعتقد أنها عاجزة ماليا عن تحقيق هذه المطالب فى الأجل القصير، فلا سبيل بالتالى سوى المزيد من الإنتاج لتحقيق المطالب الخاصة بأجور عادلة مرتبطة بالأسعار لأنه بحسبة بسيطة: كيف تعطى الحكومة شيئا لا تملكه إلا بمزيد من الإنتاج يجعلها تملكه، كما كان فحوى الحديث المتكرر لأحمد شفيق رئيس الحكومة السابقة التى رفضها الشعب. الإنتاج يأتى بالمال والمال يسمح بتلبية المطالب، وتعطيل الإنتاج يعنى بالتالى العجز حتى فى المستقبل عن تلبية المطالب ويعنى بالتالى انهيار كل شيء، وهذا ما تريده قوى الثورة المضادة.
وبحسبة بسيطة يتضح تماما أن ما ينقصنا ونحتاج إليه هو المال. فمن أين نأتى بالمال؟ هذا هو اللغز الكبير فى نظر حكومتنا الرشيدة. [أسمع الآن فى بى بى سى أن سوريا قررت ضمن ما قررت كخطوات استباقية لتفادى الثورة رفع الأجور فى الدولة بنسبة ثلاثين فى المائة وعلى الفور، ولا أعرف من أين جاءوا بالمال، ربما من إيران؟ وقد يقال إن سوريا لم يتوقف فيها الإنتاج بعد فتوفر المال واستطاعت رفع الأجور بينما توقف الإنتاج فى مصر فى سياق الثورة فتعذر المال، ولكنْ مَنْ نصح مصر بألا ترفع مستويات المعيشة مبكرا عند أول إنذار]. المال، المال إذن، تلك هى المعضلة؟ المال فى بلد تصل ثروات الكثيرين جدا فيه إلى عشرات المليارات، ويُعَدّ فيه أصحاب الملايين بمئات الآلاف، و يصل فيه الدخل الحكومى الشهرى لكثيرين جدا فيه إلى مئات الآلاف وما يفوق المليونين؟!
وفى الوقت الذى تطالب فيه الدولة الجوعى بالصبر على الجوع استمرارا لصبرهم السابق الطويل، بدلا من تطبيق إجراءات فورية على الحكومة والقطاع العام وتكون ملزمة للقطاع الخاص لزيادةٍ للأجور المرتبطة بالأسعار بضوابط "لا تخرّ الماء"، وتدبير المال اللازم لذلك بوضع حدّ أعلى فورىّ لدخول عشرات الآلاف من "الناس الى فوق" الذين يكفى دخل الواحد منهم لتحسين دخول أعداد كبيرة من "الناس اللى تحت"، بدلا من مثل هذه الإجراءات، وبدلا من وضع يد الدولة فورا على كل مال راكمته السرقات فى أيدى اللصوص، وبدلا من ملاحقة أشخاص لا حصر لهم يجسِّدون الفساد وتحل ثرواتهم كل المشكلة المالية، تطالب حكومتنا الرشيدة الشعب، بالصبر على إحياء دستور سقط مع مبارك، بالصبر على فرمانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة التى تتعجل ترميم النظام بانتخابات پرلمانية ورئاسية متكررة (مجلس الشعب مرتين ومجلس الشورى، هذا الاختراع الساداتى الذى لا لزوم له، مرتين ورئيس الجمهورية مرتين والمجالس الشعبية المحلية مرتين) وبالتالى على ترميق وترقيع دستور جديد، بالصبر على قانون الطوارئ، بالصبر على كل المكاره بما فيها تردى مستويات المعيشة والخدمات الصحية وكل شيء.
المسئول عن تعطيل الإنتاج ليس العمال أو غيرهم من فئات الشعب بل بشكل مباشر الامتناع عن تحقيق مطالب الثورة، ثورة الحليم إذا غضب، والتباطؤ المتواصل، والتسويف المتواصل، حتى فى أمور لم تكن تحتاج أصلا إلى مال. ومن كل هذا يتضح أن مَنْ عطل ويعطل الإنتاج هم الدكاترة فى العناد الذين لا يستجيبون لمطالب الشعب، وإذا كانت هناك قوى بذاتها من قوى الثورة المضادة هى التى تحرض على تعطيل الإنتاج وبث الفوضى ونشر الترويع فلماذا لا يتم اعتقالهم؟ أليست القائمة الكاملة لكل الأجهزة الأمنية الغادرة وكل شبكات اتصالاتهم فى الداخل والخارج فى حوزة حكام الأمر الواقع فى المجلس والحكومة؟ ثم لماذا "الدكترة" فى العناد بحرمان الشعب من حقوقه وتسهيل مهمة قوى ثورة مضادة لا يمكن لتحريضها أن ينجح إلا فى ظل الحرمان من الحقوق المادية والسياسية؟ وهنا يبرز السؤال الحقيقى المتعلق بما هى على وجه التحديد قوى الثورة المضادة، أليست كل أطرافها ومراكزها معروفة لأن النظام هو الثورة المضادة ولأن قواه تحكمنا بصورة مباشرة وغير مباشرة ثم نتحدث مع ذلك عن ثورة مضادة ممنهجة غامضة ملغزة مع أنها معروفة ومطلقة السراح بفعل فاعل وتجلس على العرش؟
وهنا تبرز مشكلة حقيقية ربما جاز أن نسميها رومانسية رئيس الوزراء وقلة خبرته السياسية مما يعطى لقوى النظام أو الثورة المضادة فرصة التلاعب بحكومته، لإفقاده شخصيا كل مصداقية وكل ثقة لدى الشعب بفضل قوانينه القمعية التى يتم إجباره عليها بهذه الطريقة أو تلك، ولاستخدامه وسيلة لتحقيق غايات مشئومة لا تتفق مع نواياه وتمنياته، على طريق العثور على الشخص الملائم لكل أهداف الثورة المضادة وإزاحته فى تلك اللحظة، لماذا؟ لأنه جاء بطلب من ثوار ميدان التحرير ولأنه قال إنه يستمد شرعيته منهم، وكان مُحِقا لأنه لم تكن توجد ولا توجد الآن شرعية أخرى غير شرعية الثوار والثورة.
9: الإخوان المسلمون والحزب الوطنى فى خندق واحد معا فى صفوف الثورة المضادة: لزم الإخوان السلمون الصمت والصبر والتَّقِيَّة، مكتفين بالكلام الصارخ، طوال حكم مبارك، مركِّزين إلى جانب أنشطتهم الخاصة الدعوية والدعائية والبازارية وغير ذلك على النشاط النقابى العمالى والمهنى وبالأخص على النشاط الپرلمانى. وكانوا يتجنبون كل صدام مع النظام إلا بصورة ثانوية حتى عند التنكيل بهم، ويتجلى هذا بوضوح فى الانتخابات الپرلمانية التى قام فيها النظام بالتنكيل بالإخوان بكل عنف ووحشية كما نكلت بكثيرين غيرهم، فقد لزم الإخوان الصبر رغم التزوير الشامل المنهجى ورغم الاعتقالات ورغم حملات التشويه ضدهم. وكان هذا قبل ثورة 26 يناير 2011 بأسابيع. وكان منطقيا بالتالى أن ينأى قيادات الإخوان بأنفسهم عن هذه الثورة فى أيامها الأولى، خوفا من استهداف الإخوان بالذات والبطش بهم فى سياق انتفاضة مجهولة المصير، ومع المزيد من نجاح الثورة ووقوفها على أرض صلبة شارك الإخوان بكل قوة فيها فى كل مكان فى البلاد، والحقيقة التى لا جدال فيها هى أنهم قاموا بتقوية الثورة بمشاركتهم كما قاموا بتقوية أنفسهم بالثورة. غير أن قيادات الإخوان سرعان ما بدأوا يستثمرون المكانة الجديدة التى اكتسبوها عبر الثورة فى سبيل اقتناص الشرعية وجنى الثمار فى حركة تفاوضية واسعة النطاق دخلت فيها إلى جنبا إلى جنب مع المعارضة الحزبية مع عمر سليمان ومَنْ تبعه بإحسان بعد اختفائه الغامض المكشوف، وكان هذا يعنى أيضا انفضاض الإخوان عن الثورة وتركيزهم على التفاوض، بانتهازية الرغبة فى الدخول فى نوع من تقاسم السلطة مع حكام الأمر الواقع، وجاءت تطورات كثيرة لتصب فى مصلحتهم: لجنة التعديلات الدستورية برئاسة المستشار طارق البشرى، رغبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى التعجيل بتلفيق تعديلات غير دستورية لدستور ساقط وبالاستفتاء عليها بسرعة قبل أن يفهمها أحد، وبالاتجاه مباشرة إلى انتخاب الپرلمان بمجلسيه ورئيس الجمهورية بأقصى سرعة ممكنة حتى لا يؤثر نضج محتمل للثورة وبرامجها وصحافتها وأحزابها الجديدة ونضالاتها الثورية على أىّ انتخابات قادمة وعلى الدستور القادم باستفتائه أيضا وعلى الانتخابات الپرلمانية والرئاسية التى ستعقبه. وكان التوافق المتفاوض عليه أو غير المتفاوض عليه بين حكام الأمر الواقع والإخوان والمعارضة الحزبية مثاليا للغاية لأن إستراتيجية المجلس الأعلى كانت ملائمة بصورة نموذجية لكل هؤلاء الذين هرولوا لجنى ثمار ثورة اندلعت بدونهم واستمرت بعد انفضاضهم عنها بدونهم أيضا. ذلك أن الإخوان الذين كانوا يمثلون المستفيد الأوحد أو شبه الأوحد من "ديمقراطية" السادات ومبارك قَدَّرُوا أنهم سيكونون أول المستفيدين على الأقل من التطورات الجديدة التى كان ينبغى استخدامها واستغلالها وانتهاز الفرصة التى فتحتها. ويبدو أنهم محقون فى تصوراتهم الأنانية إنْ لم يكن وراء الأكمة ما وراءها، باعتبار أن لاعبىْ الشطرنج اللذين يلعبان بقطعه على الرقعة لا يجب أن يُنْسيانا مَنْ يلعب بالقطع والرقعة واللاعبيْن جميعا، كما تعلِّمنا قصيدة لبورخس فى سياق مختلف. ولا شك فى أن ثوار التحرير الشباب شاركوا فى اللعبة التفاوضية غير أنهم كانوا مستعدين دوما للنزول إلى الشارع ولمواصلة الثورة فى الجامعات وغيرها وبكل الوسائل المتاحة بما فى ذلك تكوين أحزاب سياسية، والأهم أنهم لم يكونوا يسعون إلى تحقيق مصالح خاصة.
وإذا كان ما سبق يدل على أن الإخوان شاركوا فى الثورة، بكل قوتهم العددية المعروفة وبكل قدراتهم التنظيمية المتميزة، فى مرحلة مهمة من مراحلها تحت رايات وشعارات لم تكن من صنعهم، وإذا كان قد اتضح بسرعة أن الإخوان، ونتحدث بالأخص عن قياداتهم، عملوا بعد تلك المرحلة على استخدام الثورة لمصلحتهم الأنانية، فإنه يتضح أيضا أن مقاربتهم لهذه للثورة كانت تمثل فى حد ذاتها نقطة التقاء من الناحية الموضوعية مع كل ثورة مضادة. وعلى كل حال فإن هدف الدولة الدينية التى ترتدى رداء الدولة المدنية يشكل فى حد ذاته شعارا معاديا للثورة التى طالبت بالثورة المدنية ضد العسكرة وبالعلمانية ضد الدولة الدينية. وإذا كانت لفظة العلمانية لم تبرز بقوة فإن شعارات رفض الدولة الدينية كانت بليغة فى التعبير عنها، أىْ عن فصل الدين عن الدولة.
والإخوان رغم قوتهم لا يستطيعون ضمان الفوز بالأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة منفردين، ولا يتناقض مع مصلحتهم الالتقاء موضوعيا أو التنسيق مباشرة مع الحزب الوطنى، الذى لا ينبغى الاستهانة بقوته رغم عزل رئيسه وعدد من قياداته وإحراق كثير جدا من مقاره وبالتالى إضعاف قدرته الانتخابية وإضعافه عموما. والحزب الوطنى أكثر احتياجا إلى هذا الائتلاف الصامت، لضمان أغلبية من الحزب الإخوانى والحزب الوطنى فى المجلسين يضمن السيطرة من خلالها على إعداد الدستور الجديد القادم وعلى التطورات الكبيرة التالية: الانتخابات الپرلمانية والرئاسية على أساس الدستور الجديد.
ولا شك، على الأقل موضوعيا، فى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ما يزال يسهِّل لهما تطور الأمور فى هذا الاتجاه، برفض حلّ الحزب الوطنى وملاحقة قياداته من ناحية، وبتشكيل لجنة التعديلات الدستورية بصورة ملائمة لأهداف الإخوان من ناحية أخرى، وتسريع العمليات الاستفتائية والانتخابية إلى الحد الأقصى بما يتلاءم مع أهداف الوطنى والإخوان والمجلس ذاته وقوى أخرى كثيرة وهى تتمثل فى ضرورة إعادة تنظيم البلاد بأقصى سرعة قبل أن تملك قوى الثورة أىّ فرصة للتطور والنضج والفاعلية الواعية.
ولكنْ ما هى حسابات المجلس الأعلى والحزب الوطنى وأجهزة الأمن؟ هل هى الحسابات التى تبدو على السطح أم هى الحسابات الخفية التى تستخدم الإخوان إلى حين ومن بعيد دون إدخالهم فى مطابخ السلطة الحقيقية، قبل الإلقاء بهم خارج معادلة استعادة النظام مع التحسينات والتجميلات والديكورات اللازمة؟ وبالطبع فإن علم ذلك عند ربى، وقد يتضح فى نهاية المطاف أن الإخوان الذين يحاولون استغلال الثورة إنما تستغلهم قوة خفية تستمد قوتها من غموضها رغم أنها ظاهرة وتتربع على العرش، ولا أقصد أننا مقبلون بالضرورة على حكم عسكرى طويل، فقد صارت الأنظمة العسكرية مرفوضة فى عالم اليوم، بل أقصد إحياء النظام فى ثوب قشيب حتى مع عودة الجيش إلى ثكناته. والمخططات التى يتم تداول أنبائها بالتفصيل مروِّعة أكثر من كل ما شهدنا من النظام إلى الآن، ونتمنى أن تخيب فلا تصيب. أما الإخوان فإن رفض منهجهم فى الحكم قضية مبدأ وليس أبدا لأن "نقبهم قد يجئ على شونة".
:10 دور الجزيرة والفضائيات الأخرى فى الثورة العربية: قال حسنين هيكل ذات مرة ما مؤداه أنه لوعاش لينين فى عصرنا هذا وأراد أن يقوم بثورة فإنه كان سينشئ قناة تليڤزيونية بدلا من تنظيم حزب. والحقيقة أن هذه طبيعة العصر، فمع أن الحزب والتليڤزيون لا يتناقضان فالثانى يمكن أن يكون وسيلة فعالة من وسائل الأول، إلا أن المعنى الرمزى واضح وصحيح، واليوم أكثر كثيرا من الوقت الذى قال فيه هيكل ذلك. والحقيقة أن ثورة تكنولوچيات المعلومات والميديا صارت تلعب دورا محوريا فى حياتنا ككل وفى حياتنا السياسية والأيديولوچية والثقافية. وهى ليست أداة للثورة فحسب بل هى أيضا أداة للثورة المضادة، هى أداة للاستقرار على الاستغلال والفساد والاستبداد وهى أداة للتغيير إلى الأفضل كثورة وإلى الأسوأ كثورة مضادة. ومن الجلى أن كل الأنظمة السياسية فى عالمنا تعتمد على هذه التكنولوچيات المتواصلة التطور. وكان هذا أيضا حال مصر والعالم العربى حيث اعتمدت الأنظمة العربية كافة، مثل كل الأنظمة الأخرى فى العالم، على الصحافة التليڤزيونية والإذاعية والورقية والإلكترونية إلى جانب كافة وسائل صناعة الثقافة المسماه بالجماهيرية والتى ظلت تدمر كل ثقافة.
وكانت شرارة ثورة 25 يناير 2011 فى مصر تتمثل فى ثورة الفيسبوك فكانت الثورة السياسية بواسطة التكنولوچيا بامتياز، وهى الشرارة التى أحرقت السهل كله إذا استشهدنا بعنوان مقال للمغفور له ماوتسى تونج والإحراق هنا بالطبع تعبير مجازى ولا نقصد العنف أو الإرهاب. ولا غرابة فى أن النظام المصرى اعتمد على إغلاق خدمة الهواتف الخلوية المحمولة والإنترنت وبث الجزيرة لحرمان الثورة من عدد من وسائلها المهمة التى ظلت تواصل العمل حتى بعد إطلاق الشرارة.
ولا شك فى أن هذه الشرارة لم تكن عاصفة فى سماء صافية، بل كانت توجهات هؤلاء الشباب محصلة تراكمية لنضالات طويلة فى البلاد، خلقت الوعى ومهدت الطريق. وعلى سبيل المثال فإننا لا يمكن أن ننكر تأثير نضالات عقود طويلة فى عهد السادات وفى عهد مبارك ضد السلام مع إسرائيل وضد الاستبداد والاستغلال فى الداخل، أو تأثير عقود من الصحافة والكتابات اليسارية والديمقراطية والوطنية، ولا تأثير الإضرابات والاعتصامات والكتابات العمالية فى النصف الثانى من السبعينات، والتى تواصلت بعد ذلك، ولا تأثير نضالات أحدث لعمال المحلة وغيرهم ولحركات مهمة مثل كفاية ومثل 6 أبريل وغيرهما ولا المظاهرات التى جابت منذ أعوام ميدان التحرير والشوارع المجاورة رافعة شعارات "يسقط يسقط حسنى مبارك"، وضد التمديد والتوريث، وضد الفساد والاستبداد والاستغلال، بل لا يمكن التقليل من تأثير هامش حرية الصحافة المستقلة والحزبية التى قامت بتعرية واسعة النطاق لمفاسد النظام مع مراعاة الخطوط الحمراء مثل ثروة مبارك وأسرته، ولا يمكن أن ننسى أن الدكتور حلمى مراد هو الرجل الذى تحدى لأول مرة منصب رئيس الجمهورية وحاسب السادات حساب الملكين على صفحات جريدة الشعب وأن مبادرة الجرأة على مقام رئيس الجمهورية جاءت من ذلك الرجل مهما كان اتفاقنا أو اختلافنا معه سياسيا وفكريا. ولا شك فى أن التعرية الشاملة للنظام ومفاسد زعمائه ورجاله ومؤسسساته وأجهزته الشريرة، والتى جاءت بها ثورة 25 يناير، وتعتبر نجاحا كبيرا من نجاحاتها، تمثل مرحلة أعلى وأشمل من كل ما سبق غير أنها لم تكن مقطوعة الصلة بكل التعرية السابقة للنظام خلال عقوده الثلاثية. ولا يجب أن ننسى بالطبع الدور الكبير للظهور المفاجئ للدكتور محمد البرادعى ودعوته للتغيير فى مصر، أما العامل المباشر فكان بلا أدنى شك محمد بو عزيز وثورة تونس وتأثير الدومينو على مصر وغيرها.
وبطبيعة الحال فقد لعبت الفضائيات العربية والغربية التى دخلت كل البلاد العربية "شبرا شبرا، وبيتا بيتا، ودارا دارا، وشارعا شارعا، وزنقة زنقة، وفردا فردا" وفقا للأشعار الدموية لقائد الجماهيرية فى أواخر عهده الكابوسى، دورا هائلا فى رفع مستوى وعى كل شعب وطلائعه بحقيقة وطبيعة وتفاصيل ما يجرى فى البلاد، ولهذا اكتسبت هذه الفضائيات شعبية واسعة فى مصر مع شعبية واسعة خاصة لقناة الجزيرة بفضل قدراتها التى لا تقاس بها الفضائيات الأخرى، إذا تركنا جانبا التناقض بين ما هو مهنى وما هو أيديولوچى فى نظرية وممارسة هذه الشبكة. وبالتالى فإن هذه الفضائيات أحدثت لدى معظم الشعوب العربية أو كلها تقريبا وعيا جديدا بحقيقة الحياة التى تعيشها، وقامت بالتالى بدور كبير فى تراكم الوعى والسخط والاحتقان والطريق إلى الانفجار. وبالطبع فإن الأساس الحقيقى للانفجار "داخلى" (مع الارتباط المعقد بين الداخلى والخارجى) فى كل بلد عربى بلا استثناء: غياب الحرية والديمقراطية والدوس على الكرامة الإنسانية والإفقار المتواصل للشعوب والهبوط بها إلى ما تحت خط الفقر و"حَيْوَنة" الشعوب وفرض حياة السائمة عليها، غير أننا نتحدث هنا عن دور الفضائيات والإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة وهامش الصحافة وحتى النضالات الجماهيرية باعتبارها روافع للوعى والإدراك بصورة تدفع إلى الحركة.
وكان لقناة الجزيرة دور بارز فى كل هذا، فى كل البلدان العربية تقريبا (أىْ باستثناء بعض الجيوب الصغيرة مثل قطر بالذات أىْ الدولة التى تجاوزت حدود حجمها بالمال والذكاء فى استخدامه إلى حد كبير وبقناة الجزيرة بالإضافة إلى عدد من الحركات والجهات الصديقة لقطر والجزيرة). ومن هنا التناقض بين ما هو مهنى وما هو فكرى فى دور الجزيرة فى كل مكان فى العالم العربى بالذات ولكنْ أيضا خارجه.
ولا شك فى الدور المهم للغاية الذى لعبته قناة الجزيرة فى تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وغيرها، وهو دور لا يلغى دور الفضائيات الأخرى غير أنه يتفوق عليها جميعا. وكان هذا الدور عاملا مساعدا ولكن محوريا فى تطور هذه الثورات بعد اندلاعها.
غير أن مشكلة دور الجزيرة فى الثورات الراهنة، كما فى دورها العام فى الأعوام السابقة، تتمثل فى أنه دور مزدوج يساعد على وجه الخصوص قوى بعينها فى هذه الثورات، هى القوى التى تمثل صداقاتها الفكرية والسياسية، وأعنى بالذات موقفها الإستراتيچى الذى يقوم على مناصرة ودعم وتلميع وتشجيع الإسلام السياسى وبالأخص الإخوان المسلمين ليس فى مصر وحدها بل فى كل مكان فى العالم العربى وفى العالم كله. صحيح أن الجزيرة تلعب هذا الدور بالكثير من الذكاء والمهنية حيث تتصل وتتواصل مع كل القوى والحركات والمفكرين والمحللين السياسيين، غير أن هذا لا يخفى مطلقا حقيقة دورها المزدوج.
والدور المزدوج للجزيرة بصفة عامة، ولكنْ بصورة خاصة خلال الثورة أو الثورات، يتطابق مع الدور المزدوج للقوى التى تقف الجزيرة فى صفها. فالإخوان المسلمون فى مصر (وأعتقد أن هذه هى ذات قصتهم خلال هذه الثورات العربية جميعا) وقفوا بعد ترددهم فى الأيام الأولى وقبل انسحابهم فى الأيام الأخيرة إن جاز القول إلى جانب الثورة، غير أنهم سرعان ما أظهروا حقيقة دورهم المزدوج عندما شرعوا مباشرة فى استغلال الشرعية التى أضفتها عليهم مشاركتهم فى الثورة للتفاوض مع نظام مبارك قبل وبعد إسقاطه وللعمل على جنى ثمار الثورة، ووجدناهم فى نهاية المطاف فى خندق واحد مع الحزب الوطنى (بتنسيق أو بدون تنسيق). ويكشف سلوكهم على مدى أكثر من شهرين عن هذا الدور المزدوج أىْ الجمع بين الثورة والثورة المضادة فى صميم موقفهم، لأن سلطتهم المنفردة أو الائتلافية مع حلفائهم "الموضوعيين" الجدد لن تكون سوى ثورة مضادة، ليحل محل قيصر يرحل قيصر جديد وليحل استبداد يتسربل بسربال ربانى محل استبداد مبارك، وليكون الطريق مفتوحا على اتساعه إلى الفساد الذى يتباهون بأنهم لا يمارسونه بل يحاربونه، وإلى قيامهم بالدور التاريخى للإسلام السياسى (ولكل دين سياسى فى الحقيقة) والذى يتمثل فى خدمة الطبقة الحاكمة المستغلة الفاسدة المستبدة، مع استعادتها من خلال دورب متعرجة لنظامها الذى دمر مصر كما دمر العالم العربى والذى يهدد فى نهاية المطاف بالانهيار الشامل والغرق فى الرمال المتحركة لنهاية العالم الثالث.
وقد يدهش البعض هذا الحديث عن الدور المزدوج الذى يجمع بين الثورة والثورة المضادة عند حزب أو قناة تليڤزيونية، غير أن الواقع الاجتماعى والسياسى لا يقدم لنا اتجاهات نقية خالصة تُخْلِص بعقائدية بالغة لمبادئ بعينها فتكون سوداء حالكة أو بيضاء لاشية فيها. وعلى العكس فإن حديثا أكثر تفصيلية من المتاح هنا عن الثورة المضادة من شأنه أن يكشف عن تنوع قواها السياسية، وحتى عن الأفكار والسياسات والمواقف التى تتبناها قوى الثورة وحتى القوى الثورية والتى من شأنها أن تخدم الثورة المضادة إنما هى موضوعيا من أدوات ووسائل الثورة المضادة ويمكن الإشارة فى هذا السياق إلى أن ثوار 25 يناير والأسابيع التالية هم الذين صوتوا بعد ذلك بقليل بنعم فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية الموضوعية لإجهاض الثورة، أىْ أن الجماهير الشعبية الثائرة ذاتها يمكن تضليلها لتكون وقودا ووسائل للثورة المضادة، ولا شك فى أن الإخوان والوطنى ضمن النظام ككل كان لهما دور كبير فى تضليل الناخبين فى الاستفتاء ودفعهم فى هذا الاتجاه الضار بالثورة والمفيد بصورة حاسمة لهما وللنظام والثورة المضادة. والحقيقة أن مختلف القوى تشارك فى الثورة لأهداف متعددة وحتى متضاربة عندما يظهر هدف مشترك يجمعها ثم تنفض الزفة بعد ذلك: مثلا الإجماع على رحيل مبارك، ثم الاختلاف الكامل بعد ذلك فى استثمار هذا الرحيل وفقا للأهداف الأصلية المختلفة لمختلف قوى الثورة من وراء الثورة. وعلى كل حال فإن الإسلام السياسى بوجه عام مطبوع دائما وفى نهاية المطاف بطابع الثورة المضادة بحكم التعريف، وهو يحارب قوى الثورة والقوى الثورية فى كل مراحل وجوده المنظم سرًّا أو علنا. غير أن هذا كله حديث عن برامج وأيديولوچيات أحزاب الإسلام السياسى وقادتها وكوادرها العليا، ولا ينطبق بالطبع على الجمهور الواسع لحركات أو أحزاب الإسلام السياسىّ وهو جمهور أقرب إلى الثورة وأبعد عن الثورة المضادة، ويمكن أن يندمج فى صفوف القوى الديمقراطية حقا، والمناضلة حقا فى سبيل الحرية والعدالة، وليس ما نراه من مواقف لشباب الإخوان قبل وأثناء المراحل السابقة من الثورة إزاء قيادات الإخوان بالأمر الغريب.
11: إبداع جديد فى مجال التوريث: كنا نتحدث قبل الآن عن توريث الأبناء وهو الأكثر (كيم چونج إيل وفى الطريق ابنه (أىْ الحفيد بالنسبة للزعيم الخالد كيم إيل سونج)، وبشار الأسد فى العالم العربى، وحالات أخرى فى أفريقيا مثل على بونجو فى الجابون وچوزيف كابيلا فى الكونغو، ومشاريع توريث الأبناء فى العالم العربى مثل أنجال مبارك والقذافى والبشير وعلى عبد الله صالح، ومشاريع توريث الإخوة مثل الجزائر كما حدث فى كوبا أيضا، ومشروع توريث الأصهار فى تونس، وقد سقطت مشاريع التوريث فى العالم العربى، كلها فيما يبدو، ولم يبق إلا المشروع الذى تحقق بالفعل منذ أعوام وهومشروع الرئيس بشار الأسد الذى تنتشر ثورة شعبه الآن، هذه الثورة التى بدأت من درعا وانتشرت إلى مدن وبلدات وقرى عديدة فى البلاد وصار لها الآن عشرات الشهداء فى مختلف أنحاء سوريا (ربما مائة شهيد إلى الآن وفقا لبعض الأنباء). ويمكن أن نتحدث الآن عن توريث من نوع جديد من إبدعات أمريكا اللاتينية المبدعة دوما، حيث يأتى الآن من هنا، من جواتيمالا، نوع من التوريث هو التوريث بالطلاق، فقد أعلنت السيدة الأولى زوجة رئيس الجمهورية الحالى فى جواتيمالا أنها تعتزم الطلاق من زوجها ليكون بوسعها الترشيح لرئاسة الجمهورية تفاديا لحظر دستورى لترشيح الأقارب إذا ظلت زوجته، ولن تكون هناك شبهة توريث عندما تكون طليقته. والحقيقة أننى لا أعرف تفاصيل المشروع أو الصفقة بين الزوجيْن الرئاسيْين، غير أن هذا يجعلنا نتطلع فى عالمنا العربى إلى مشاريع توريث عن طريق الطلاق أو الخُلْع. ولن ينسينا هذا المشروع للتوريث عن طريق الطلاق، ذلك المشروع الروسى الذى كثر الحديث عنه عند توريث پوتين رئاسته للجمهورية لصديقه مدڤيديڤ، وهو مشروع التمديد عن طريق "المحلِّل" أىْ بحيث تكون عودة پوتين ليحل محل صديقه الرئيس الحالى متفقة تماما مع الدستور الروسى. ولا يخفى أن التمديد عن طريق "المحلِّل" ربما كان أكثر ملاءمة لنا نحن العرب وسائر المسلمين، بدلا من أن يستفيد بابتكاراتنا الأصيلة غير المسلمين وحدهم!
12: بدأ الحديث عن مبادرات أحدث للرئيس اليمنى عن رحيله بشكل "مشرِّف"، ويبدو على كل حال أن على عبد الله صالح "مُشْرِف" على النهاية. الله! الله! هذه الثورة تذكرنا ب هرقل وهو يكنس إسطبلات أوچياس، فإلى مزبلة التاريخ، وعقبال جميع الباقين إلى الآن، ولا أقصد القذافى فهو فى طريق السقوط السريع بمشيئة واحد أحد، لتنتهى المذبحة.
13: طبيعى ألا يكون شعار "ثورة" الاحتجاجات الشبابية الفلسطينية فى مظاهراتها واعتصاماتها الحالية "الشعب يريد إسقاط النظام"، بل "الشعب يريد إسقاط الانقسام" ومؤداه أن "الشعب يريد خلق النظام"، أىْ الوصول إلى إنهاء للانقسام بين فتح وحماس وحول هذه الحركة أو تلك، وخلق "نظام" بدلا من الحرب الدعائية التى تنقلب كثيرا إلى القمع المتبادل والاعتقالات المتبادلة وحتى الاقتتال الفلسطينى-الفلسطينى، فالمطلوب شبابيا إذن هو الوحدة، والحكومة الوطنية، والسلطة الموحدة. وبالطبع فإن هذا يمكن أن يقود إلى اتفاق، وإلى إجراءات وتدابير، تحت الضغط الشعبى المحلى الذى ينضم الآن إلى الضغط الرسمى والشعبى الإقليمى أىْ العرب وبعض القوى الإقليمية. غير أن هناك حسابات أخرى تجعل كل اتفاق مؤقتا للغاية وكل تقارب قابلا للتبخر السريع. ففيم يفيد الاتفاق: الواقع أن جميع المراقبين متفقون على أن الصف الفلسطينى الواحد ينزع من إسرائيل وأمريكا ذريعة أن إسرائيل لا تجد طرفا فلسطينيا موحدا تتفاوض معه، ولكن إسرائيل لا تريد حماس وتريد (على سبيل مضيعة الوقت أساسا) الطرف التفاوضى المتمثل فى السلطة. ولكنْ لنفترض موافقة إسرائيل وأمريكا على حماس كشريك فى السلطة والمفاوضات بعد إجبارها على إعلان قبولها للتفاوض مع إسرائيل على دولة فى حدود 1967، وهى الدولة التى تضعها حماس دائما تحت الطاولة فلا تركِّز عليها ولا تعلنها إلا قليلا. ولنفترضْ أن كل الأطراف توافقت وتراضت على التفاوض فهل تقبل سلطة الرئيس محمود عباس ما رفضته فى المفاوضات مع إسرائيل وأمريكا لأن حماس انضمت إليها؟ أىْ هل سيكون الاتفاق المأمول بين فتح والسلطة وحماس على المزيد من التنازلات لتكون المفاوضات قابلة للنجاح خاصة ونحن نعرف ماذا تريد إسرائيل. وهذا يعنى أنه حتى إنهاء الانقسام إذا أتى بمزيد من المرونة والتنازلات بدلا من المزيد من التشدد فى المفاوضات مع إسرائيل مباشرة أو من خلال أمريكا وباقى الوسطاء لن يحل العقدة المستعصية بين إسرائيل والشعب الفلسطينى، لكنْ لنفترضْ على العكس أن حماس نجحت فى جعل إنهاء الانقسام على أساس إستراتيچيتها أىْ المقاومة بدلا من المفاوضات. فى هذه الحالة سنسمع من الجميع فى الضفة والقطاع أن المقاومة قد تعنى هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل. لماذا؟ لسبب حقيقى هو ميزان القوى بين الشعب الفلسطينى وإسرائيل.
ويعيدنا هذا إلى الواقع الحالى: حماس تقاوم بالهدنة تحت نيران حرب دعائية كثيفة ضد السلطة الفلسطينية والعدو الصهيونى، والسلطة تقوم بإدارة مفاوضات متقطعة (غير متواصلة) لأنها لا تستطيع قبول ما تطرحه إسرائيل. أىْ أننا إزاء مفاوضات عبثية ومقاومة كلامية مدججة بسلاح الهدنة! والهدنة بالطبع موقف اضطرارى لا مناص منه إلا فى حالات الهجوم الإسرائيلى، فالناس لا يذهبون إلى الحرب طلبا للهزيمة وتلقى المزيد من الضربات. والموقف المؤدى إلى الانقسام هو أن السلطة وحماس كلاهما فى هدنة مع إسرائيل، ولكن السلطة تتفاوض وحماس تهاجم هذا التفاوض رغم أنها تراقبه عن كثب لجنى الثمار إذا سمحت إسرائيل بدويلة فلسطينية مجردة من كل المقومات الحقيقية لدولة، فوق أنها مقطعة الأوصال، ومحاطة بإسرائيل بصورة مباشرة أو غير مباشرة (عن طريق التزامات المعاهدتين مع كل من مصر والأردن) من كل جانب. وإذا كنا نتحدث الآن عن حصار غزة فالواجب أن نتذكر أن حصار الضفة الغربية أفدح، فهى ليست محاصرة من كل الجهات فحسب، بل هى مقطعة الأوصال، والأهم أن أراضيها تتحول بسرعة مذهلة إلى مستوطنات إسرائيلية ستتحول فى نهاية المطاف إلى جزء لا يتجزأ من إسرائيل. وعندما يأتى أوان الترانسفير فإن أىّ دويلة فلسطينية قد تسمح بها إسرائيل للفلسطينيين ستكون الهدف المباشر للتفريغ من السكان الفلسطينيين: سكان الضفة إلى الأردن، وسكان غزة إلى سيناء، وربما تم ترحيلهم جميعا إلى البرازيل أو القمر. فماذا تعطى الدويلة أكثر مما تعطى هدنة طويلة الأمد دون مفاوضات إلا الإجبارية منها فى إطار الترتيبات التى لا سبيل إلى تفاديها مع قوة احتلال؟ غير أن المشكلة تتمثل فى أن إسرائيل ليست مجرد قوة احتلال، ككل قوة احتلال، بل هى استعمار استيطانى يريد الأرض ولا يريد البشر الذين يعيشون عليها، والأرض عنصر ثابت والبشر عنصر متحرك، كما كان يقول التحالف الحاكم تاريخيا أىْ المعراخ بزعامة حزب العمل. وهذا يعنى أن الدولة الفلسطينية والهدنة كإستراتيچية بدون مفاوضات هما شيء واحد فلا يوجد فرق حقيقىّ بينهما.
وتأتى الانتفاضة الشبابية الحالية للضغط على فتح وحماس وما حولهما لتوحيد الصفوف فى سياق ثورة سياسية شعبية عاصفة من المحيط إلى الخليج. ومن المنطقى أن تخلق هذه الثورة السياسية ثورة تطلعات هائلة لدى الشعوب العربية وكذلك وربما بالأخص للشعب الفلسطينى. ثورة تطلعات هائلة تشمل انقلابا فى ميزان القوة بين الشعب الفلسطينى وإسرائيل بفضل انقلاب منشود فى موازين القوة بين البلدان العربية من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى. غير أن ثورة التطلعات إزاء الثورات السياسية الشعبية العربية يمكن أن تؤدى بسرعة إلى نكسة إحباط ويأس وتشاؤم لدى الفلسطينيين بالذات. لأن الثورة السياسية لا تعنى القفز إلى انقلاب فى موازين القوى، ولأن الثورة السياسية لن تمنع من إجبار مصر على تشديد الإجراءات بصورة أشد من كل ما سبق مع قطاع غزة بذريعة أن الإخوان قد يحكمون هنا فى مصر كما يحكمون هناك فى غزة وبذريعة خطورة التواصل الجغرافى بينهما، ولأن الثورة السياسية لن تعنى إلغاء مصر للمعاهدة مع إسرائيل، حيث يرى البعض أن إلغاء المعاهدة قد يقود إلى صراع مسلح مع إسرائيل رغم أن ميزان القوة لصالح هذه الأخيرة فيما يرى البعض الآخر أنه فى حالة إلغاء المعاهدة الآن بعد كل هذه العقود لن تجرؤ إسرائيل رغم أن ميزان القوة لصالحها على الدخول فى حرب مع مصر، فقد جرت مياه كثيرة فى أوضاع مصر وأوضاع المنطقة العربية وأوضاع العالم كله، رغم أن المعاهدة تقدم الأساس القانونى لإعادة احتلال سيناء.
كذلك فإن ثورة التطلعات لدى العرب وبالأخص الفلسطينيين وبالأخص التطلع إلى عودة مصر كقوة وطنية وعروبية ومعادية للصهيونية وإسرائيل والإمپريالية تتجاهل الصراع الكبير بكل الوسائل فى مصر والعالم العربى بين الثورة المضادة الحاكمة بالفعل والثورة السياسية الشعبية التى حققت بالطبع أهدافا مهمة غير أنها ما تزال فى أول الطريق، ذلك أن مصر رغم الثورة الشعبية "يحكمها" العسكريين والثورة المضادة.
والنتيجة أنه إذا كان من المفارقات أن تحالفا غربيا أطلنطيا بالقيادة الفعلية لأمريكا (هو تحالف يمثل مركزا من أهم مراكز الثورة المضادة العالمية ضد الثورات العربية) هو الذى يحمى الثورة الليبية، رغم خشية الغرب من عواقبها، ويدخل فى حرب فعلية ضد القذافى، وبالطبع مدفوعا بمصالحه، وبمشاركة أنظمة عربية، غير أن الشعب الفلسطينى لن يجد فى الظروف الراهنة نجدة من العرب أو العجم أو الفرنجة. والحقيقة التى ينبغى أن نضعها نصب أعيننا هى أن القضية الفلسطينية لن تُحَلّ إلا بالقضاء على دولة إسرائيل لإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية يعيش فيها العرب واليهود معا، وهو شعار يعود من الماضى، ولكنْ فى وضع عالمى أسوأ بما لا يقاس، فى انتظار مستقبل قد تنجح الشعوب العربية فى خلقه على مدى أطول مما تتصور ثورة التطلعات الحالية.
وينبغى أن يكون واضحا أنه ما لم تمهد الثورات السياسية العربية الحالية الطريق أمام ثورات اجتماعية أى انتقال البلدان العربية باقتصاداتها البائسة رغم الثروات الفلكية ذات الطبيعة الاستخراجية والريعية بمعظمها إلى بلدان صناعية حديثة من خلال السباق مع الزمن فى عملية شاملة من التصنيع والتحديث واكتساب كل منجزات الحضارة الرأسمالية الراهنة فى الشمال أو الغرب، رغم أن الثورة المضادة العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تشكل عقبة كأداة فى طريق الثورة الاجتماعية العربية فى سبيل التحول إلى بلدان صناعية متقدمة، كما تقف الآن ضد الثورات السياسية الشعبية وتعمل على إجهاضها وتصفيتها والقضاء عليها.
پيزا، إيطاليا، 23-26 مارس 2011



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحزب الحاكم القادم فى مصر
- الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى
- لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) بيان بقلم: خليل كلفت
- يا شعب مصر ... إلى الأمام ولا تراجع ... التراجع كارثة
- لا للتعديلات الدستورية فى مصر
- مفهوم النحو (مقدمة عن العلم وموضوعه ( مقدمة بقلم: خليل كلفت ...
- المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم (دستور 1971) والعلاق ...
- بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية مقدمة خليل كلفت لترجم ...
- ماذا يعنى حل مجلسى الشعب والشورى؟ [فى مصر]
- الشعب المصرى يريد إسقاط النظام
- ثورة تونس نحو الاستقلال الحقيقي والتنمية الحقيقية


المزيد.....




- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية