أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - خليل كلفت - الديمقراطية .. ذلك المجهول!















المزيد.....



الديمقراطية .. ذلك المجهول!


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3336 - 2011 / 4 / 14 - 09:33
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


مثل كثرة من المفاهيم السياسية ينطوى مفهوم الديمقراطية على التباسات وحتى إشكاليات عديدة. فلكل تعبير سياسى، رغم بساطته الظاهرة، تعريفات متعددة قد تكون متعارضة ومتناقضة. ويتضح جانب مهم من هذا الطابع الإشكالى فى مفهوم سياسى عند تقييمه على أساس معيار طابعه الحقيقى من عدمه، معيار مدى تطابق الاسم على المسمَّى أو التباعد بينهما. وعلى سبيل المثال: ما هو الحزب؟ أو ما هى التعددية؟ أو ما هى الديمقراطية؟ أو ما هو الشعب ذاته؟ ولكى تكون التعددية السياسية حقيقية أو حقيقة واقعة فإنه لا يكفى أن توجد فى بلد ما مجموعة وحتى مجموعة كبيرة من الأحزاب المعبرة عن طبقات أو أجنحة من طبقات، ولكى تكون التعددية القومية أو الإثنية أو الدينية أو الثقافية حقيقية فى بلد ما فإنه لا يكفى مجرد وجود جماعات قومية أو إثنية أو دينية أو ثقافية فيه.
ذلك أن التعددية السياسية أو الحزبية قد تكون زائفة وليست حقيقية، سطحية وليست عميقة، شكلية وليست جوهرية، إذا كنا إزاء مجرد وجود أحزاب صغيرة أو ضعيفة ولا تستحق هذا الاسم، أو غير مستقلة بحيث تكون تابعة إلى هذا الحد أو ذاك للحزب المسيطر ضمن نظام للحزب الواحد يصطنع لنفسه تعددية حزبية زائفة بالسماح بأن توجد حوله أحزاب يعمل دوما على إضعافها وضمان تبعيتها. وينطبق الشيء نفسه على الشعب الذى يقدمه مفهومٌ عند البعض على أنه يتطابق مع مفهوم السكان، أىْ كل سكان بلد من البلدان، على حين أنه يقتصر فى مفهومٍ عند البعض الآخر على الطبقات أو الجماهير الشعبية التى تقع ضحية للاستغلال والقهر فى مجتمع طبقى.
وهنا يأتى مفهوم الديمقراطية الوثيق الصلة بمفهوم الشعب ليرث كل التعارضات التى تنطوى عليها المفاهيم المذكورة وباقى المفاهيم السياسية. فإذا كانت الديمقراطية تعنى حكم الشعب، فما هو الشعب؟ وما هو الحكم؟ وإذا كانت التعددية بكل أبعادها، وفى المحل الأول التعددية السياسية الحزبية، والمساواة بين المواطنين، من حيث هم مواطنون، فى الحقوق والواجبات، من شروط الديمقراطية فما مدى الطابع الحقيقى للتعددية؟ وهل نحن إزاء مجرد وجود أحزاب وإثنيات وجماعات بشرية متعددة الديانات أو اللغات أو الثقافات أو القوميات؟ وهل تعنى الديمقراطية مجرد وجود هذه الهيئات والكيانات والجماعات البشرية المتنوعة أم تعنى حالة بذاتها تسودها ودرجة من التفاعل والتطور والنضج بلغتْها بصورة تراكمية فى بيئة سياسية مواتية أو فى مجرى النضال ضد بيئة سياسية غير مواتية؟
وإذا كان قد قيل: كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيتها الحرية!، فإن الالتباس الذى تنطوى عليه الديمقراطية لا يقل خطورة عن الالتباس الذى تنطوى عليه أنواع من الحرية أو مفاهيم للحرية، رغم بساطة وشفافية ورِقَّة هذه الكلمة الساحرة: الحرية.
ولأن البشر – كمجموعات اجتماعية – لا يمكن أن يتفقوا على معنى واحد لأىّ مفهوم اجتماعى مهما بدا بديهيا لأنه مع كل مفهوم اجتماعى تأتى مختلف المجموعات الاجتماعية لتتصارع كل مجموعة منها دفاعا عن التفسير الذى يخدم مصالحها فإنه لا أحد يملك إلا أن يضع لنفسه معيارا ملائما لفهم المفهوم أو تفسيره أو استيعابه فى سياق مصلحته الخاصة. ومن خلال هذا الصراع الفكرى يجرى تعزيز تصورات ودحض تصورات فى سياق تطوُّر علم السياسة مع تطوُّر السياسة ذاتها، أىْ العلاقات بين الطبقات، ومع تطوُّر المجتمع ذاته، والتاريخ كله.
ولأن كلمات كثيرة تمثل تعابير سياسية وتحيط نفسها بغلاف أسطورى ولا تكشف عن حقيقتها إلا من خلال الممارسة العملية فإنه ينبغى مع كلمة مثل الديمقراطية التى تمثل عنوانا كبيرا من عناوين الصراع الفكرى والعملى بين الاستقرار والتغيير، أو بين الثورة والثورة والثورة المضادة، أن نقف عندها بكثير من التأنى وإنعام النظر، محاولين أن ننزع عنها غلافها الأسطورى فى سبيل كشف حقيقتها باعتبارها وهما أو اكتشاف حقيقة يمكن أن تكون مختبئة خلف أسطورتها، كما يمكن أن تنطوى على مبدأ مرشد عظيم، أو على يوتوپيا قابلة مع ذلك للتحقيق على الأرض، بدلا من إلباس أوضاع تاريخية لباس الأسطورة وظن أنها تجسيد لهذا المفهوم المراوغ.
وتقول الأسطورة السياسية إن الديمقراطية هى حُكْم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه ليس باعتبارها يوتوپيا يحلم البشر عبر القرون والألفيات بتحقيقها على الأرض، بل كوصف لواقع تاريخى فى الحكم تحقق فى أثينا القديمة وما حولها (أتيكا) فى عصر پيريكليس بعد انتفاضة شعبية قبل ميلاد المسيح بخمسة قرون باعتبارها النقيض المباشر لحكم الأوليجارشية (الأقلية). وعلى هذا فإن الدول الديمقراطية أو الديمقراطيات كما تسمى نفسها فى الغرب أو الشمال تروِّج لفكرة أن هذا النحت اللغوى اليونانى الأثينى القديم ينطبق على نظم الحكم فيها لأن شعوبها تحكم نفسها بنفسها ولنفسها عن طريق پرلمان تشكله هذه الشعوب كل فى بلده عن طريق انتخابات حرة نزيهة من ممثليها أىْ الپرلمان الذى يجسِّد سيادة الشعب ويضمن لكل شعب منها اتخاذ القرارات التى تؤمِّن له تقرير مصيره وتنظيم حياته وفقا لإرادته الحرة، كما تتجسَّد فى الديمقراطية المباشرة (كما فى الاستفتاءات) وفى الديمقراطية التمثيلية (بانتخاب عدد أضيق من ممثلى الشعب عبر وساطة الناخبين).
وتُرَوِّج تلك الديمقراطيات لفكرة أنها، فى سياق رسالتها الحضارية عبر العالم، تعمل على تحويل العالم الثالث بعيدا عن الديكتاتوريات الفاسدة المتخلفة التى تسيطر عليه إلى ديمقراطيات قادرة على السير به إلى الأمام على طريق التقدم بدلا من التخلف، وعلى طريق النزاهة والشفافية بعيدا عن سراديب الفساد.
ومن المؤكد أنه نشأت من داخل شبكة العلاقات السياسية والاقتصادية للديمقراطيات الغربية فى بعض بلدانها أنظمة لا يمكن وصفها بالتعددية الحزبية حيث الحزب الواحد الصريح أو المموَّه هو الحزب الحاكم كما لا يمكن وصفها بالتعددية الثقافية أو الإثنية أو القومية أو اللغوية أو الدينية حيث تسيطر العنصرية والعرقية فى أشكالهما القصوى للشعب السيد؛ على سبيل المثال فى ألمانيا النازية وشقيقاتها الفاشية فى أوروپا والياپان قبل الحرب العالمية الثانية. وفيما عدا النازية والفاشية، كثيرا ما كانت تنمو فى بلدان الغرب اتجاهات بعيدة عن هذا المفهوم الغربى للديمقراطية حيث شهدت بلدان مختلفة منها فى أوقات مختلفة أنظمة ديكتاتورية وحتى عسكرية مثلت إطارها القانونى انتخابات نزيهة وپرلمانات ديمقراطية.
وفى العالم الثالث يسود انعدام الديمقراطية بهذا المفهوم الغربى فى ملكيات أو جمهوريات أو جمهوريات-ملكية عديدة، وتظهر فى كثير من الأحيان كل الشكليات المظهرية للديمقراطية من أحزاب وغيرها فى هذه البلدان، وتُرْبِك التحليل تماما أحيانا تجارب عميقة رغم قلتها لأشكال وتجليات ديمقراطية كما فى الهند منذ الاستقلال أو البرازيل فى بعض الفترات، ونرى انتخابات لا يفوز فيها رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية الذى ينظم تلك الانتخابات (الهند، البرازيل، پاكستان)، فى بعض البلدان من خلال انتخابات نزيهة نسبيا، وفى بلدان أخرى، كما فى أفريقيا، نتيجة توازنات قبلية حيث تقف كل قبيلة للأخرى بالمرصاد فى حرب مختلف مراحل العملية الانتخابية، وفى سياق مقدمات حرب أهلية قد يحول دون استفحالها تقاسُمٌ للسلطة (كينيا، زيمبابوى)، أو فى سياق حرب أهلية كهذه التى أطاحت برئيس كوت ديڤوار (ساحل العاج).
وإذا أخذنا ما يسود الغرب أو الشمال وما يسود الشرق أو الجنوب، بعيدا عن الأوضاع القليلة أو الاستثنائية أو قصيرة العمر فيهما، فإن الشمال والجنوب سيبدوان عالميْن متعارضيْن من حيث الديمقراطية، أىْ من حيث حكم شعوب هذه البلدان نفسها بنفسها لنفسها وفقا للأسطورة من خلال آليات الديمقراطية أو الپرلمانية الديمقراطية فى جمهورية پرلمانية أو جمهورية رئاسية أو ملكية دستورية. وتتمثل حجة الغرب هنا فى أن بلدانه تتمتع بالديمقراطية التى تظل بلدان الشرق محرومة منها لأن قاعدة الشرق هى الحكم المطلق الجمهورى أو الملكى من خلال پرلمان يسيطر عليه الحزب الحاكم الواحد الصريح أو المموَّه أو حتى بدون پرلمان وبدون أحزاب على الإطلاق.
والحقيقة أن الطابع الأسطورى أو الزائف لديمقراطية الغرب (ومن باب أولى لحالة العالم الثالث من حيث الديمقراطية) قابل للإثبات ببساطة بمعيار تقييم نتائج هذه الديمقراطية التى لا تدل على أننا إزاء شعوب مارست إرادتها الحرة فاختارت ممثلين حقيقيين لها أدخلوا عبر الپرلمانات تشريعات تحقق مصالحها وحقوقها وحرياتها ومساواتها وقاموا بمراقبة تنفيذ الحكومات المسئولة أمام هذه الپرلمانات للتشريعات المعنية. إن ما نراه فى الغرب الرأسمالى، وطوال تاريخ المجتمعات الطبقية فى الحقيقة، هو أن الشعب لم يحكم، ولم يحكم بنفسه، بل حكمه آخرون، أىْ الطبقة أو الطبقات المالكة والحاكمة التى تستغله وتقهره، ولم تحكمه لمصلحته، بل لمصلحة الطبقة أو الطبقات الاستغلالية وحدها. وكان الشعب دائما محكوما يستغله ويضطهده الحكام. وبقدر ما نسلِّم بمقولة أن مفهوم الشعب يساوى مفهوم السكان فإن الأمر سوف يستقيم إلى حد ما لأن طبقات الشعب أو السكان - فلا فرق فى هذه الحالة - طبقات متناقضة المصالح، ويمثلها بالضرورة پرلمانيون متناقضو المصالح. ورغم أن "الناس اللى فوق" أقلية عددية ضئيلة على حين أن "الناس اللى تحت" أكثرية عددية كاسحة، فإن التشريعات والسياسات والحكومة التى تنفذها تكون "لأمر ما" لصالح تلك الأقلية الضئيلة، ولهذا تسود علاقات الاستغلال التى تقود "الناس اللى تحت" دوما إلى تنظيم أحزاب ونقابات وجمعيات وإضرابات ونضالات متواصلة لتحسين شروط حياتها وعملها. ويكمن السر كله فى هذا "الأمر ما"، الذى يجعل الأقلية أغلبية بحيث تحكم أقليةٌ من السكان أغلبيتهم فتستغلها اقتصاديا وتسيطر على مفاتيح وجودها ومستقبلها وشقائها المسمَّى بالرفاهية.
ويمكن التوصل إلى الطابع الأسطورى الزائف للديمقراطية فى الشمال أو الغرب من خلال تحليل تعريفٍ للديمقراطية. فالديمقراطية المنحوتة من كلمتين يونانيتين تعنى حُكْم الشعب حيث تعنى إحداهما الشعب وتعنى الأخرى القوة أو السلطة أو الحكم أو القيادة أو الصدارة. فما هى آلية حكم الشعب؟ هناك ممثلون للشعب، فى مستوى أدنى من تمثيله، وهم أيضا كيان الديمقراطية المباشرة، لأنهم لا يأتون عن طريق الانتخابات، وهم الذين ينتخبون مستوى أعلى من تمثيل الشعب، أىْ ممثلى الشعب من خلال تمثيلهم لممثلى الشعب فى المستوى الأدنى، أىْ نواب الشعب فى الپرلمان، وإذا كان هؤلاء النواب منتخبين فإن ممثلى الشعب فى المستوى الأدنى، أىْ الناخبين، أىْ أولئك الذين يجسِّدون الديمقراطية المباشرة، يأتون من طريق آخر. إنهم يأتون بصورة آلية ولكنْ وفقا للدستور أو القانون الذى يحدد الأعمار التى تؤهل قسما من السكان لتمثيل الشعب كناخبين، ويختلف العمر المؤهِّل للناخب فيمكن أن يكون سن الحادية والعشرين فى بلد أو الثامنة عشرة فى بلد آخر أو الخامسة عشرة فى بلد ثالث (إيران قبل 2007)، وهكذا.
وإذا سميناهم ناخبين ونوابا فإنه يمكن القول إن ما يجعل منهم ممثلين حقيقيين أو غير حقيقيين كديمقراطية مباشرة (الناخبون) أو كديمقراطية تمثيلية (النواب)، إذا لم ندخل فى حسابنا الآن المغزى الديمقراطى أو اللاديمقراطى للعمر المؤهِّل للناخب ومشكلة أفضل معايير تحديد هذا العمر، يكمن فى كل من حلقتىْ الناخب والنائب. ذلك أن تحليل الناخبين سيوضح انتماءاتهم الطبقية وميولهم السياسية والأيديولوچية التى لا تتطابق بالضرورة مع انتماءاتهم الطبقية المحدَّدة لأن هذه الميول تحددها حالة المجتمع ككل ولا تحددها الانتماءات الطبقية الموضوعية بصورة آلية خاصة عندما تكون الطبقات العاملة والشعبية طبقات فى ذاتها أىْ غير واعية بمصالحها. فما الذى يصنع تلك الانتماءات والميول السياسية والأيديولوچية للطبقات العاملة بما يختلف أو حتى يتناقض مع انتماءاتها الطبقية الموضوعية؟ وبعبارة أخرى: ما الذى يصنع فكر وأيديولوچيا وميول المجتمع بصورة توحِّد بين الطبقات العليا والدنيا، بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، بين الحكام والمحكومين، بصورة تبدو فيها المصالح المتناقضة بين فوق وتحت كأنها مصلحة واحدة قد تمثلها بصورة زائفة كلمات مثل الوطن، الأمة، الشعب، القومية، الوحدة الوطنية، المستقبل الواحد، منجزات الزعامة التاريخية، الفوهرر، وغير ذلك.
وتعمل كافة المؤسسات التى تخدم أيديولوچيا الطبقة العليا وتنشرها وترسِّخها وسط كل طبقات المجتمع على قدم وساق: النظام التعليمى ومؤسساته، المؤسسات الدينية من معاهد تعليمية ومنها التعليم الأزهرى بكافة مستوياته، دور عبادة وإعلام دينى، مؤسسات الإعلام بكل أنواعها، السوق ودعايتها، الثقافة الجماهيرية باعتبارها صناعة الثقافة، المثقفون التقليديون الآتون من كل الطبقات ولكنْ يرتبطون باستقرار الطبقة الاستغلالية، وبالطبع كل أجهزة القمع المباشر الپوليسى والمخابراتى. على أن نشاط بعض هذه المؤسسات يصل إلى الذروة فى فترات الثورة المضادة ولكنْ أيضا فى فترات الحملات الانتخابية أو مذابح الديمقراطية المباشرة المسماة بالاستفتاءات على الدساتير أو تعديلاتها أو القوانين أو على رئيس الجمهورية قبل إدخال الانتخابات الرئاسية منذ زمن قريب فى مصر. إننا باختصار إزاء غسيل مخ متواصل من المهد إلى اللحد فلا غرابة فى أن تقوم هذه الهوة العميقة بين الانتماء الطبقى الموضوعى والانتماء الفكرى والأيديولوچى لصالح الطبقة المسيطرة فكريا.
وعلى هذا النحو نجد الملايين أو عشرات الملايين من الناخبين الذين تتشكل غالبيتهم الساحقة من أبناء الشعب، من ضحايا الاستغلال والاستبداد والفساد والاضطهاد وغسيل المخ فى المجتمع الطبقى، ينتخبون مع ذلك مئات من النواب الذين يحتكرون اسم ممثلى الشعب وتكون غالبيتهم أكثر انتماءً طبقيا وفكريا إلى الطبقات العليا وأقل انتماءً إلى الطبقات الشعبية، وبالتالى أكثر تمثيلا للمصالح الطبقية السائدة فى المجتمع، وبالتالى مؤهَّلين للتشريع ومنح الثقة للحكومة والرقابة على تنفيذ السلطة التنفيذية وفقا لمصلحة الطبقة الرأسمالية الاستغلالية وضد الشعب.
وإذا أخذنا بتعريف الديمقراطية باعتبارها شكل الحكم الديمقراطى القائم على التعدديات المختلفة، وعلى المساواة بين المواطنين، وعلى الكلمة التى يملكها كل مواطن فى قرارات الپرلمان الذى يقوم بالتشريع ومراقبة تنفيذ حكومته المسئولة أمامه، فإننا لا نجد أىّ ضمان يتمتع به هذا الشكل للحكم لتحقيق الديمقراطية واتخاذ القرارات وفقا لمصلحة الشعب وحاجاته ورفاهيته.
وهنا نقطة سأركز على بلورتها فى هذا المقال وهى أن الديمقراطية بمعنى حكم الشعب لا تتحقق إلا فى سياق النظام الاشتراكى البالغ النضج، وأن أىّ ديمقراطية فى ظل النظام الرأسمالى تعنى حالة يبلغها الشعب من تحت، أىْ حالة مؤسساته ونضالاته وإبداعاته من أسفل، ولا يتحقق هذا بالضرورة فى ظل شكل "ديمقراطى" للحكم الملكى أو الجمهورى (الرئاسى أو الپرلمانى) القائم فى كل الأحوال على پرلمان وحريات وحقوق معتمدة رسميا، غير أن هذا الشكل للحكم يخدم الديمقراطية التى يصنعها الشعب من تحت أفضل من الملكية أو الجمهورية الأوتوقراطية. فالمسألة الحاسمة هى الوجود الفعلى للديمقراطية ومؤسساتها ومساواتها وتعددياتها من تحت وليس شكل الحكم الپرلمانى فى حد ذاته، وهذا الوجود الفعلى للديمقراطية من تحت هو وحده القادر على فرض شكل الحكم الملائم وعلى حمايته وتطويره.
وهناك افتراضان يمكن من خلالهما إجراء المزيد من اختبار وتحليل أسطورة الديمقراطية بوصفها حكما يمارسه الشعب نفسه، بنفسه، ولنفسه.
ويتمثل الافتراض الأول فى أن يتمتع الناخبون بأغلبيتهم الانتخابية، الشعبية بطبيعة الحال، بالوعى الكامل بمصالحهم الحقيقية، وبالتحرر الكامل من أىّ سيطرة أيديولوچية مفروضة عليهم ومن أىّ تزييف مباشر أو غير مباشر لإرادتهم. فى هذه الحالة سنكون أمام شعب يحكم نفسه بنفسه ولنفسه، وما يفترض نزاهة الانتخابات هنا هو أن هؤلاء الناخبين الممثلين للشعب بصورة صادقة هم الذين ينظمون هذه الانتخابات، ويعنى هذا أنه لا يوجد أصلا حكام لا يمثلون الشعب، كما يعنى أن مَنْ لا يمثلون الشعب لا يسيطرون على السلطة ولا على الاقتصاد، ويعنى هذا أخيرا أن مثل هذا الحديث لا ينطبق إلا على الاشتراكية ليس كما زعمت أساطير القرن العشرين أنها تحققت فى الواقع متجسدة فى النموذج السوڤييتى البائد فى روسيا ومستعمراتها الداخلية السابقة وغيرها، والذى ما يزال حيا يُرزق حاليا فى الصين التى يقوم نظامها فى الحقيقة على رأسمالية الدولة والرأسمالية الخاصة والرأسمالية المتعددة الجنسيات بقيادة الحزب الشيوعى الصينى.
ويتمثل الافتراض الثانى فى أن يخوض هؤلاء الناخبون المؤهلون بحكم الأعمار انتخابات ينظمها حكام منفصلون طبقيا عن غالبيتهم، أىْ عن الشعب. وما دام هؤلاء الحكام منفصلين عن الشعب فإننا نتحدث إذن فى عالم اليوم عن الرأسمالية العالمية التى لا تمثل بلدان العالم الثالث سوى أفنيتها الخلفية المفتوحة كساحات للاستغلال الإمپريالى دون أن تكون هى ذاتها رأسمالية، أىْ دون أن تكون بلدانا صناعية حديثة. وما دمنا نتحدث عن حكام رأسماليين ونظام رأسمالىّ ورأسمالية عالمية ذات أفنية خلفية فإننا نفترض مسبقا أننا إزاء طبقات مستغِلة (بكسر الغين) وأخرى مستغَلة (بفتح الغين) وطبقات مضطهِدة (بكسر الهاء) وأخرى مضطهَدة (بفتح الهاء). وهنا سنجد العالم منقسما إلى عالميْن: عالم أول (الغرب أو الشمال) وعالم ثالث. أما العالم الثانى سابقا، أىْ عالم الاشتراكية كما تحققت فى الواقع، كما يقال، فقد انشق إلى عالم متقدم ينتمى إلى العالم الأول، وعالم متخلف ينتمى إلى العالم الثالث.
وإذا عُدْنا إلى الناخبين وفقا للأعمار كممثلين للشعب فى المستوى الأدنى، وباعتبارهم مَنْ يأتون بأصواتهم فى الانتخابات بممثلى الشعب فى المستوى الأعلى أىْ الپرلمان (باعتبارهم ممثلين للشعب من خلال تمثيلهم لممثلى الشعب من المستوى الأدنى، كما سبق القول)، فإن الانتخابات تغدو حجر الزاوية. وما دام هؤلاء الناخبون ينتمون إلى طبقات متعددة فإن مصالحهم الحقيقية "كممثلين لطبقات مختلفة" إنما هى مصالح متعارضة وحتى متعادية بالنسبة لطبقات بعينها. ولأن أغلبهم ينتمون إلى طبقات عاملة وشعبية وفقيرة ومهمشة بالضرورة باعتبارها الأغلبية السكانية فإنهم سوف يكتسحون فى أىّ انتخابات نزيهة ويصلون بممثلى الشعب الحقيقيين إلى السلطة لتنظيم وإعادة تنظيم الدولة وفقا لمقتضيات مصالح الشعب.
وهنا يبدو أن الانتخابات النزيهة وحدها هى الضمان لتحقيق مصالح الشعب. غير أن بالنظر إلى الوضع الفعلى فى العالم كله اليوم بحكم طبيعة أنظمته القائمة على الاستغلال الطبقى فإن السؤال الذى يطرح نفسه، كما يقال، يدور حول طبيعة الانتخابات التى جاءت بكل الأنظمة الحاكمة الآن فى العالم (إذا تركنا جانبا البلدان التى لا تعرف أصلا انتخابات پرلمانية أو غير پرلمانية). والإجابة الطبيعية هى أنها ليست انتخابات نزيهة لأنها لم تأت بممثلين حقيقيين للشعب ومصالحه بحكم الأغلبية الشعبية الكاسحة للناخبين، بل جاءت بأمثال مبارك، وزين العابدين بن على، وعلى عبد الله صالح، وساركوزى، وبوش، وهتلر، وحزب المحافظين البريطانى.
وهناك مزاعم بأن الانتخابات فى بلدان الشمال أو الغرب نزيهة على حين أن انتخابات كل أو معظم بلدان العالم الثالث انتخابات غير نزيهة بل مزوَّرة بصورة مباشرة (وبكل وسائل التزوير).
ومشكلة انتخابات العالم الثالث أكثر وضوحا وبساطة. فهنا تزوير مباشر يبدأ بجداول الناخبين، ويمر بالعملية الانتخابية، وينتهى إلى إعلان النتائج التى تكون محدَّدة سلفا فى كثير جدا من الأحيان. وتقلل من هذا التزوير بعض الأوضاع الخاصة (قوة أحزاب الطبقات الشعبية أو التوازنات القبلية على سبيل المثال). ويعتمد هذا التزوير بوجه عام على الأجهزة الإدارية والپوليسية والقضائية غير المستقلة التى تنظم وتباشر إجراء مختلف مراحل الانتخابات أو الاستفتاءات، ومن أدوات التزوير بالطبع جهل قطاعات واسعة من الناخبين وأميتهم ويأسهم من أىّ دور حقيقى لأصواتهم وعدم تسييسهم وبالأخص عدم تسييسهم بروح مصالحهم الحقيقية بقيادة أحزاب قوية، ومن هذه الأدوات السيطرة الأيديولوچية والإعلامية الواسعة النطاق التى تقوم بإجراء غسيل المخ المتواصل للشعب. وهناك استخدام الأموال الطائلة لتفعيل كل هذه الأدوات، وللقيام مباشرة بشراء الأصوات، بالإضافة إلى الشحن الإدارى فى اللوريات للناخبين من المؤسسات والإدارات والمصالح الحكومية والشركات للتصويت لأشخاص محدَّدين، والاعتماد على أن هذا كله وغيره يأتى على أرضية جاهزة تشمل هزال الأحزاب والنقابات والاتحادات والروابط العمالية والفلاحية والمهنية، فوق الأرضية الأوسع لصرف الشعب عن السياسة بوسائل لا حصر لها، وتسييس أعداد كبيرة منه تسييسا معاديا لمصالح الشعب الحقيقية، كما يتضح من القوة العددية الكبيرة لأحزاب معادية لمصالح الشعب، وبالأخص أحزاب المغانم التى تأتى بها عضويتها كما حدث فى العديد من التجارب وليس فقط فى العالم الثالث (فقد كان هذا ملمحا رئيسيا فى الاتحاد السوڤييتى السابق حتى منذ ثورة أكتوبر وفى مختلف البلدان التى تبنت نموذجه وكذلك فى البلدان الفاشية وبصورة عامة فى الأحزاب البرچوازية الكبيرة فى الغرب أو الشمال).
ومن الواضح على هذا النحو أن البلدان المتخلفة المسماة بالنامية، والتى لا تعدو أن تكون أفنية خلفية للرأسمالية العالمية الإمپريالية، لا وجود فيها للانتخابات النزيهة ولا للديمقراطية حسب التعريف المشهور. وبالطبع فإن هذا لا يقلل بل يضاعف من أهمية الديمقراطية بالمعنى الصحيح فى العالم الثالث بالنسبة لشعوبه كما سنرى لاحقا فى سياق هذا النقاش.
ومن ناحية أخرى فإن الطابع القمعى الوحشى المباشر فى البلدان المتخلفة (وبالطبع فى بلدان رأسمالية أو سائرة بقوة فى طريق الرأسمالية عندما تدخل فى سباق محموم مع الغرب المتقدم لردم الهوة الواسعة وبهدف التفوق كما حدث فى التجربة الفاشية والتجربة السوڤييتية) ينبع مباشرة من التخلف ذاته. ذلك أن الحقوق والحريات التى تعتبر ضرورات لا مناص منها فى البلدان الرأسمالية المتقدمة كالتظاهر والإضراب وحرية تكوين الأحزاب والنقابات وحرية الصحافة والتعبير وغير ذلك تغدو كابوسا مفزعا لهذه الاقتصادات الهشة التى لا تملك الآليات الضرورية لاستيعاب هذه الحريات والحقوق التى نشأت فى الغرب بصورة تاريخية وتراكمية وتدريجية، وقفزت فى وجه البلدان المتخلفة كمطالب ملحة عندما أخذ الغرب يعيد خلقها على صورته أىْ كمستعمرات وأشباه مستعمرات وكأوضاع ما بعد كولونيالية أىْ أنها تشكلت واستمرت تحت السيطرة العامة للإمپريالية العالمية.
وهناك تجارب تبدو استثناءات على القاعدة. والتجربة الأهم هى ديمقراطية الهند، بانتخاباتها التى يمكن أن تأتى إلى الحكم بحزب آخر غير الحزب الحاكم الذى ينظم الانتخابات، وبحريات الأحزاب والصحافة وغير ذلك فيها. غير أن هذا الاستثناء لبلد كبير فى العالم الثالث على قاعدته المعروفة جيدا لا يعنى أننا إزاء بلد ديمقراطى، فالحكم هناك للرأسمالية ولخدمة مصالحها، وباستثناء الابتعاد عن التزوير المباشر نتيجة لقوة الأحزاب ويقظة الأقليات الكثيرة المتنوعة فى مواجهة بعضها البعض هناك كافة الوسائل التى تزيِّف إرادة الشعب والتى تمثلها السلطة وأيديولوچيتها ويمثلها المال وتمثلها كافة الوسائل الموجودة فى متناول الطبقات العليا المتنوعة والزعامات الإقليمية والمحلية المتنوعة، على قاعدة مفزعة من البؤس الهندى المعروف بالفقر والجهل والمرض وكافة الآفات المعادية للديمقراطية. وتؤدى بنا كل هذه الأشياء إلى فهم أن الطابع البراق للديمقراطية الهندية إنما هو ديكور للتزييف المتواصل لإرادة الشعب الهندى الذى يتأرجح بندوله الانتخابى بين چاناتا والمؤتمر. وإذا كانت هناك قطاعات متقدمة فى قمة الاقتصاد الهندى وتدعو البعض إلى اعتبار الهند بلدا رأسماليا فإن هذا يعنى فى الحقيقة تجاهل أن جزيرة رأسمالية داخل بحر من التخلف لا يمكن أن تجعل من البلد ككل بلدا رأسماليا. والحقيقة أن الهند لم تخرج فى يوم من الأيام من دائرة التخلف بسماتها المميِّزة المعروفة فى حالة العالم الثالث.
وإذا كان ذلك كذلك وإذا اتضح أن هذا هو أيضا حال الديمقراطية فى البلدان الرأسمالية المتقدمة التى سأنتقل إليها الآن، فإننا نجد أن "الديمقراطية" مهدَّدة بأن تكون مجرد أسطورة وأكذوبة، إلا إذا عرفنا ما هى الديمقراطية بالمعنى الحقيقى وبالأخص فى عالم اليوم سواء فى بلدان الرأسمالية المتقدمة أىْ الغرب أو الشمال، أو البلدان المتخلفة أىْ الجنوب الذى يمثل حظائر أو أفنية خلفية للرأسمالية الإمپريالية، كما سبق القول.
فماذا عن الانتخابات النزيهة فى الغرب كأساس للديمقراطية فيه؟ والحقيقة أن افتراض أن الانتخابات تكون نزيهة لمجرد أنه لا يحدث فيها تزوير مباشر افتراض خاطئ ولا معنى له فى الحقيقة. فكما رأينا فيما يتعلق بالعالم الثالث هناك وسائل وأدوات وأوضاع كثيرة تستخدمها الرأسمالية المتقدمة لتزييف إرادة الشعب. وهناك نقاط اختلاف مهمة بين عالم الشمال وعالم الجنوب وهذا الاختلاف يجرد حكام عالم الشمال من بعض وسائل حكام الجنوب. وعلى سبيل المثال فإن تراجع الأمية فارق مهم مع أخذ الأمية السياسية فى الاعتبار. كذلك فإن الشمال لم يَعُدْ يعانى الفقر بنفس مستويات الجنوب، رغم واقع الفقر والإفقار وحتى البؤس فى بعض مناطق الشمال. وهناك واقع أن الإدماجية الكورپوراتية، التى تعنى أن الدولة لا تواجه أدوات مستقلة للنضالات الشعبية والجماهيرية من أحزاب ونقابات واتحادات وغيرها بل تستخدم هذه الأدوات بعد أن تكون قد نجحت فى إدماجها فى دولة يندمج فيها الحكم والاقتصاد والحزب الحاكم والأحزاب والنقابات وغيرها (إنْ وُجدت)، تنتشر وتتفشى فى العالم الثالث أو الجنوب وتنحسر فى الشمال إلا فى فترات وشروط وأوضاع خاصة مثل الفاشية، ومثل النموذج السوڤييتى فى روسيا والصين وغيرهما، ويرجع انحسار وانعدام الإدماجية الكورپوراتية فى الشمال إلا فى أحوال وشروط بعينها إلى تطور النضالات السياسية والاقتصادية والأيديولوچية فى الشمال وبالأخص فى أوروپا، وقدرة الأحزاب والنقابات والجمعيات والاتحادات وغيرها على المحافظة إلى حد كبير على استقلالها ومواصلة خوض نضالات تحت رايات مستقلة عن الدولة والطبقة الحاكمة. ولا شك فى أن عدم وجود الإدماجية الكورپوراتية فى الشمال فارق مهم يعمل لصالح الديمقراطية فيه.
ومع كل هذا فإن السيطرة الأيديولوچية والإعلامية للطبقة الحاكمة وكذلك الأموال التى تحت تصرفها بصورة تفوق كل القدرات الأيديولوچية والإعلامية والمالية لدول العالم الثالث تضمن السيطرة لهذه الطبقة، لهذا الجناح مرة وللجناح الآخر مرة أخرى، للحزب الجمهورى تارة وللحزب الديمقراطى تارة أخرى فى الولايات المتحدة الأمريكية، للتحالف الاشتراكى مرة وللتحالف اليمينى مرة أخرى فى فرنسا، وهكذا، إلخ. .. ورغم الحقوق والحريات المتعلقة بتكوين الأحزاب والنقابات وبالتظاهر والإضراب، فإن حربا متواصلة بين النضالات السياسية والإضرابية الشعبية من جانب والطبقة الحاكمة وأحزابها وأجهزتها ودولتها من جانب آخر هى التى تحمى حريات الشعب رغم نجاح الطبقة الحاكمة وسلطتها فى كل مكان فى الشمال فى تزييف إرادة الشعب، بحكم النتائج، ولكنْ أيضا بحكم المقدمات. وسواء أكنا (فى الشمال) إزاء جمهورية رئاسية، مثل فرنسا والولايات المتحدة، أو جمهورية پرلمانية مثل إيطاليا وألمانيا، أو ملكية دستورية أىْ جمهورية پرلمانية تتزين بأزياء وتقاليد إمپراطورية (كما فى الياپان) أو بأزياء وتقاليد ملكية (كما فى بريطانيا) فإننا نجد دائما أننا إزاء پرلمان يقوم بالفعل بالتشريع والرقابة وله دوره المهم فى الدولة وليس ذيلا للسلطة التنفيذية، والأهم أننا نجد الأحزاب التى فى الپرلمان ممثلة لهذا الجناح أو ذاك من الرأسمالية دون غيرها من طبقات ونجد أنها تشكل الأغلبية وتسنّ التشريعات وفقا لمقتضيات مصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة، كما تفهمها بطبيعة الحال.
وعلى هذا النحو يمكن استخلاص أن الديمقراطية غير قائمة فى الشمال تماما كالانتخابات النزيهة التى لا وجود لها رغم المظهر البراق فى هذا الشمال. وإذا كانت بلدان الشمال تصف نفسها بأنها ديمقراطية، وتسمى نفسها بالديمقراطيات، وتعلن العمل على مستوى العالم من أجل نشر الديمقراطية فيه، فإن هذه الأوصاف والتسميات إنما تنطلق من مفهوم للديمقراطية يعنى تداول السلطة وحرية تكوين الأحزاب والنقابات وحق الإضراب وحرية الصحافة الورقية والتليڤزيونية والإذاعية والمعلوماتية (مع أن هذه الصحافة تمثل أيديولوچيات وسياسات مَنْ يملكونها أىْ هذا الجناح أو ذاك من الطبقة). غير أن تداول السلطة داخل أجنحة وقطاعات من الرأسمالية الحاكمة مع استخدام أبناء الطبقات الشعبية فى هذا التداول الرأسمالى للسلطة، لا يجعل هذا التداول الرأسمالى ديمقراطيا، ولا يضفى أىّ طابع شعبى على السلطة لمجرد أن أبناء الشعب يتم استخدامهم جنودا فى الجيوش السياسية والأيديولوچية والحزبية للسلطة الحاكمة.
وعندما نتحدث عن نظام سياسى ديمقراطى، فإننا نعنى فى العادة نظاما يقوم على پرلمان منتخب فى انتخابات نزيهة (أىْ بدون تزوير مباشر) فى نظام جمهورى رئاسى أو جمهورى پرلمانى أو ملكى دستورى، ويقرِّر دستوريا ويمارس عمليا الحقوق والحريات الديمقراطية المتعلقة بالأحزاب والنقابات والصحافة، إلخ. .. ولكنْ هل هذا النظام السياسى هو الذى يحقق الديمقراطية بأىّ معنى من المعانى فى أىّ بلد؟ الواقع أن الجانب الدستورى والقانونى لتداول السلطة وللحقوق والحريات الديمقراطية قد يتوفر فى بلدين كشكل للحكم مع اختلافهما الكامل من حيث الممارسة الفعلية لهذه الشعارات، وعندما نتحدث عن الديمقراطية فى كل من الهند وفرنسا فإننا لا نعنى نفس الشيء على الإطلاق، ذلك أن الحالة العامة للشعب هى الفيصل، ويدخل هنا اعتبار جديد ينبغى إبرازه.
فالديمقراطية – فى ارتباط وثيق باشتقاق اسمها – تأتى من تحت، من "ديموس"، من الشعب، ولا تجرى ممارستها كحُكْم يقوم به الشعب بنفسه ولنفسه إلا فى الاشتراكية كما لم تتحقق من قبل، وبالتالى فإنه لا حُكْم بالمعنى الشامل للشعب ولا للديمقراطية فى ظل النظام الرأسمالى ولا فى ظل أفنية النظام الرأسمالى. والديمقراطية التى تختفى ككنز مخبوء تحت هذه الأساطير الديمقراطية تتمثل بمعناها الحقيقى فى المؤسسات المستقلة للشعب من أحزاب تمثل مصالح الشعب حقا، ومن نقابات مستقلة حقا للعمال والفلاحين وباقى قطاعات الشعب، بما فى ذلك النقابات المهنية التى تمثل المعلمين والمحامين والأطباء والمهندسين والصحفيين وغيرهم، والديمقراطية هى القدرة المتنامية للشعب على ممارسة حقوقه الإضرابية، وهى الصحافة التى تتسلح بها كل هذه الأدوات النضالية الشعبية، والديمقراطية هى فاعلية ازدهار الأدب والفن والثقافة، والتحرر من الأمية، وقدرة مؤسسات الشعب على الوقوف بقوة وفاعلية دفاعا عن حقوقه المتحققة وعملا على تحقيق المزيد، والديمقراطية هى القدرة الكلية للشعب بمؤسساته الحقيقية على الضغط على الدولة والسلطة والنظام لإجبارها جميعا على تحقيق مطالب الشعب، والديمقراطية هى مواصلة النضال فى سبيل الثورة الاجتماعية وإقامة نظام اجتماعى جديد، وباختصار فإن الديمقراطية هى الشعب عندما يمارس من خلال مؤسسات تنتمى إليه كل ما يقتضيه تحرُّره وتقدُّمه وسيره إلى الأمام.
ولهذا فإننا عندما نتحدث عن جمهورية پرلمانية ديمقراطية إنما نعنى شكل الحكم الپرلمانى الذى تحيط به وترعاه حضانة الديمقراطية أىْ المؤسسات النضالية الشعبية الآتية من تحت، والتى تمارس قدرة متزايدة على منح العمق الحقيقى للحكم الپرلمانى باستخدامه لتحقيق مصالح أساسية للشعب إلى هذا الحد أو ذاك بدلا من الاكتفاء بطابعه الشكلى الذى يصب فى مصلحة النظام الاجتماعى الرأسمالى القائم. كما أن الديمقراطية بمعناها الحقيقى أىْ حالة الحركة الشعبية هى التى تعيد خلق وبناء إنسان جديد قادر حقا على النضال من أجل بناء نظام اجتماعى جديد للبشر.
وإذا عدنا إلى البلدان الرأسمالية وأفنيتها الخلفية من حيث علاقاتها بالديمقراطية فإن الفرق بين بلد استطاع أن يمتلك الحضارة الرأسمالية كفرنسا أو إيطاليا مثلا وبلد غارق فى بؤسه مثل الهند رغم شكل الحكم الموصوف بالديمقراطية ينشأ أصلا من الفرق بين حالة كل من الشعبين. وصحيح أن شعبا فى بلد متخلف وتابع يمكن أن يمارس نضالات كبرى تمثله حتى فى شكل ثورات كالتى يشهدها العالم العربى الآن أكثر من بلد رأسمالى متقدم يعيش فى أوضاعه المعتادة غير أن شعب البلد الجنوبى المتخلف التابع لن يُرْسِى دعائم ديمقراطيته إلا عندما ينجح فى ترسيخ أدوات ووسائل كفاحية لا تكون معلقة فى هواء أشكال الحكم بل عندما يكون قادرا، حتى دون أن يحكم أو ينظم البلاد فى سياق ثورة اشتراكية، على ربط ديمقراطيته بأساس راسخ من التنمية الاجتماعية الشاملة وتحويل البلد إلى بلد صناعى وتحقيق تحديث شامل، وإلا فإن الحريات والحقوق التى ستأتى بها الثورات السياسية الراهنة يمكن أن تتبخر وتذوب فى الهواء فى زمن يقصر أو يطول، حتى فى حالة انتصارها بصورة كاملة فى اقتلاع الجذور الحالية للفساد والاستبداد.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
- الحزب الحاكم القادم فى مصر
- الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى
- لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) بيان بقلم: خليل كلفت
- يا شعب مصر ... إلى الأمام ولا تراجع ... التراجع كارثة
- لا للتعديلات الدستورية فى مصر
- مفهوم النحو (مقدمة عن العلم وموضوعه ( مقدمة بقلم: خليل كلفت ...
- المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم (دستور 1971) والعلاق ...
- بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية مقدمة خليل كلفت لترجم ...
- ماذا يعنى حل مجلسى الشعب والشورى؟ [فى مصر]
- الشعب المصرى يريد إسقاط النظام
- ثورة تونس نحو الاستقلال الحقيقي والتنمية الحقيقية


المزيد.....




- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - خليل كلفت - الديمقراطية .. ذلك المجهول!