أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها تقديم للمؤلف خليل كلفت















المزيد.....


ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها تقديم للمؤلف خليل كلفت


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3499 - 2011 / 9 / 27 - 13:04
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


تقديم المؤلف
يستطيع القارئ أن يتابع هنا تغطيتى الشخصية ككاتب سياسى خلال الفترة بين أواخر يناير وأواخر سپتمبر 2011 من عمر الثورة المصرية بوجه خاص والثورات العربية بوجه عام. وتبدأ هذه المقالات بمقال عن الثورة التونسية التى ألهمت الثورات العربية جميعا فى سياق حالة نموذجية من حالات نظرية الدومينو بحكم الحالة العامة المتشابهة للشعوب العربية التى تعانى الفقر والقهر على أيدى أنظمة حاكمة استبدادية فاسدة، ملكية أو جمهور-ملكية بحكم وباء التمديد والتوريث أكثر من أىّ منطقة أخرى فى العالم.
ولم يكن بمستطاعى بطبيعة الحال ولأسباب متنوعة أن أكتب عن كل الثورات العربية التى تطورت بالكامل كثورات مثل الثورة الكاملة الأوصاف فى بلدانها الخمسة ( تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا) التى يدور فيها جميعًا صراع كبير مفتوح بين الثورة والثورة المضادة، أو البلدان التى ظهرت فيها بدايات وإرهاصات للثورة، عاصفةً فى مكان ومعتدلةً فى آخر، متواصلةً فى مكان ومقهورةً أو مكتومةً أو متقطعةً أو مقطوعةً أو منقطعةً فى مكان آخر، كما رأينا بالفعل ونرى فى البحرين والمغرب والأردن والجزائر والعراق والسعودية وسلطنة عُمان وموريتانيا وحتى چيبوتى وحتى فلسطين! فلم أركِّز إلا على بعضها ولم أخصص مقالا كاملا إلا لكلٍّ من ثورة تونس والثورة والحرب الأهلية فى ليبيا مكتفيا بإشارات طويلة أحيانا إلى ثورات أو ثورات مضادة أخرى وكان تركيزى بطبيعة الحال على الثورة السياسية الشعبية الكبرى التى تدور صراعاتها الكبرى فى مصر، والتى خصصت لها مقالات متعددة يضمها هذا الكتاب بالإضافة إلى مقالىْ تونس وليبيا وكذلك بالإضافة إلى ملاحق تشمل مقدمتيْن لكتابيْن من ترجمتى قبل الثورة (كتاب أليكسى دو توكڤيل "النظام القديم والثورة الفرنسية"، وكتاب بى. سى. سميث "كيف نفهم سياسات العالم الثالث: نظريات التغيير السياسى والتنمية")، والمقدمتان مكتوبتان قبل الثورة غير أنهما قد تكونان مفيدتيْن فى مناقشة بعض الأسئلة التى تثيرها الثورات العربية الراهنة، كما تشمل عرْضا لأحد الكتابيْن (كتاب توكڤيل) وهو مكتوب بعد الثورة.
وما من شك فى أننى، مثل غيرى، كنا أمام ظاهرة جديدة لم نَعِشْ مثيلا لها من قبل. ولم يكن بمستطاع أحد أن يتنبأ بحدوث هذه الثورات فهذه طبيعة الثورات الشعبية فى كل مكان وزمان مهما كانت الأحوال منذرة أو بالأحرى مبشِّرة. وكانت طريقة التعامل معها هى المعضلة التى واجهتها كل القوى المتصارعة ذات الأهداف المتناقضة: القوى التى تريد أن تسحقها لاستعادة نفس النظام الاستغلالى الفاسد حتى بالتضحية بكباش فداء ثمينة من رؤساء وقادة تلك الأنظمة، والقوى التى تريد أن تطوِّرها لتحرير الشعوب من أنظمة الاستغلال والفساد والقهر والاستبداد سعيًا إلى تحقيق الحرية والعدالة والكرامة، والقوى السياسية التى تريد أن تستغل الثورة من أجل خلق أوضاع متغيرة تقفز فيها على السلطة السياسية فتنتزعها من الأيدى التى تمسك بها أو تكون شريكا قويا لها فيها. ومن هنا المواقف السياسية المتناقضة: الدفاع المستميت من جانب النظام عن نفسه مستخدما كل وسائل الدفاع والهجوم فلا تستبعد حتى شن حرب حقيقية على الشعب باستخدام الجيش بكامل قوته وعدته وعتاده (باستثناء تونس ومصر بسبب الانقلاب العسكرى المبكر على رئيسىْ الجمهورية) إلى جانب مختلف أجهزة الأمن والمخابرات؛ والنضال الباسل العنيد المستميت من جانب القوى الأكثر إخلاصا لثورة الشعب الذى رفض حياة العبودية مقدِّما ثمن الحرية بدماء الشهداء وبكل أنواع المعاناة؛ أما القوى الرجعية الانتهازية فى كل مكان فى مصر وفى العالم العربى فقد تجسَّدتْ عبقرية موقفها فى السعى المستميت إلى التحالف مع النظام والمعاداة المريرة للقوى الحقيقية التى تناضل فى سبيل تطوير الثورة، فى سبيل الحرية السياسية والثقافية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الصناعية العميقة والسريعة باعتبارها مفتاح الاستقلال الوطنى الحقيقى.
إنه لا أحد يتنبأ بالثورات غير أنه كان علينا أن نحاول فهمها وأن نحاول إذا استطعنا إرشادها وحمل الوعى إليها بقدر الإمكان بشأن طبيعتها وآفاقها والمخاطر التى تُحْدِق بها. وفى هذه المقالات محاولة لبلورة رؤية للثورة ومناقشة قضايا الثورة العربية فى ضوئها وتطوير هذه الرؤية ذاتها فى ضوء تطورات ونضالات ونجاحات وإخفاقات هذه الثورة. ذلك أن أىّ رؤية ذات منطلقات نظرية عن الثورات ينبغى أن تتعلم من الممارسة تماما كما تسترشد الممارسة بالنظرية. وتقدِّم بعض هذه المقالات وجهة نظر تقول بأن مصائر كل الثورات السياسية الشعبية أو أفضل الانقلابات العسكرية التى أيدتها شعوب فى مصر أو فى العالم الثالث، وهى مصائر غير ملهمة على الإطلاق بأغلبيتها الساحقة، وانكسار الأحلام التى تُطْلِقها فى حينها، لا ينبغى أن تردعنا عن حقنا فى أن نحلم، عن حقنا فى أن نحلم باحتمال أن يكون بمستطاع الثورة المصرية والثورات العربية أن تنضم إلى استثناءات قليلة على تلك المصائر منذ بداية حركة التحرر الوطنى إلى يومنا هذا.
وتتمثل وجهة النظر النظرية الأكثر أهمية فى خلفية أغلب هذه المقالات، وكموضوع مباشر لبعضها، فى أننا ينبغى أن نفكر فيما وراء أىّ ثورة سياسية عن السياق التاريخى للثورة السياسية، وأن التاريخ الحديث يقدِّم لنا سياقيْن تاريخيَّيْن مختلفيْن تماما هما سياق الثورة الاجتماعية وسياق التبعية الاستعمارية. والمقصود بالثورة الاجتماعية ليس الإصلاحات الاجتماعية التى يمكن أن تقوم بإجرائها أىّ ثورات سياسية وحتى الانقلابات العسكرية فى كثير من الأحيان بل التحول الاجتماعى الذى ينقل من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر، مثلا من الإقطاع إلى الرأسمالية فى العصر الحديث.
وأمثلة السياق الأول هى الثورات السياسية التى حدثت فى سياق الثورة الاجتماعية فى البلدان الصناعية (الرأسمالية) المتقدمة الآن، وأمثلة السياق الثانى هى الثورات السياسية التى حدثت فى سياق التبعية الاستعمارية فى العالم الثالث أىْ فى بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة. وببساطة لأن كل "إناء ينضح بما فيه" ولأن "السماء لا تُمْطر ذهبا ولا فضة" فإن نتائج الثورات السياسية الناجحة تبنى المجتمع الجديد باستخدام أنقاض المجتمع الذى جرى هدمه؛ بمعنى أن ما يستمرّ بعد الثورات السياسية هو ما كان يسبقها، ويتوقف الطابع التقدمى تاريخيا للثورة السياسية فى طبيعة ما كان يسبقها.
وعلى هذا النحو نجد كمثال على ثورات البلدان الصناعية حاليا أن النظام القديم أىْ السابق للثورة الفرنسية الكبرى (1789) هو الذى استمرّ بعدها. فذلك النظام القديم أىْ فترة الملكية المطلقة التى استغرقت أكثر من قرن فى فرنسا لم يكن نظاما إقطاعيا بل كان نظاما انتقاليا على طريق التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية وذلك بفضل عمليات الثورة الاجتماعية الرأسمالية التراكمية فى الصناعة الحديثة والرأسمالية الزراعية والسوق طوال ذلك القرن. وعلى هذا كان ذلك النظام القديم السابق للثورة الفرنسية العظمى لا يمثل الماضى بل المستقبل، ولهذا استمرّ، أىْ استمرّ التحول الرأسمالى، قرنا آخر تقريبا بعد تلك الثورة التى لحقت بها ثورتان سياسيتان فى 1830 و 1848 اندلعتا فى فرنسا وأوروپا الغربية بوجه عام.
وكانت النتيجة الكبرى الأولى لهذه الثورة أو الثورات السياسية فى فرنسا هى الانتقال إلى النظام الرأسمالى المستقر والحضارة الرأسمالية الراسخة.
وهناك نتيجة كبرى ثانية لتلك الثورة فى سياق التحول الرأسمالى، أىْ فى سياق الثورة الاجتماعية، وهى بدورها استمرار لشيء سابق للثورة السياسية، فالبرچوازية الصاعدة قبل الثورة كانت تتجه تاريخيًّا ليس فقط إلى تخليص التحول الرأسمالى فى البلاد من النظام الملكى وبقايا الإقطاع والإقطاع الدينى (الأملاك الإقطاعية للكنيسة) ومن بقايا القرون الوسطى ومن الأريستقراطية التى كانت قد فقدت وظيفتها واحتفظت مع ذلك بامتيازاتها الواسعة، بل كانت تهدف أيضا بالضرورة إلى انتزاع السلطة السياسية وهذا ما تحقق لها من خلال الثورة السياسية.
وتمثلت النتيجة الثالثة الكبرى فى تحوُّل الرفض العميق من جانب الشعب الفرنسى للنظام الملكى وبقايا الإقطاع واستغلال الرأسمالية التى كانت تتطور بسرعة هائلة فى سياق النظام القديم والعهد البائد إلى الديمقراطية من أسفل التى نشأت وتطورت وازدهرت فى فرنسا خلال القرن التاسع عشر على وجه الخصوص وطبعت بطابعها المجتمع الفرنسى منذ ذلك الحين.
أما أحلام وتطلعات الشعوب فى فترة الثورة السياسية فإنها تتبدد حيث جاءت الرأسمالية كنظام اقتصادى استغلالى، والديكتاتورية المسماة بالديمقراطية كنظام سياسى، وانقلبت المساواة إلى طبقات متصارعة من الأغنياء والفقراء، وانقلبت الحرية إلى الاستبداد وشكل من أشكال الديكتاتورية البرچوازية، فيما انقلب الإخاء إلى استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وإلى حرب الكل ضد الكل.
وأعتقد أن هذه النتائج الثلاث الكبرى تنطبق بوجه عام وبتفاوتات وفوارق وخصوصيات لاسبيل إلى تفاديها على كل الثورات السياسية التى حدثت فى سياق الثورة الاجتماعية فى العصر الحديث.
غير أن النظام القديم الذى يمثل المستقبل كما رأينا يقتصر على الثورة السياسية فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية فلا يمتدّ ليشمل الثورة السياسية فى سياق التبعية الاستعمارية. وقد فرضت الكولونيالية الإمپريالية الغربية هذه التبعية الاستعمارية منذ نشأة السوق العالمية منذ أكثر من خمسة قرون بوجه عام وبالأخص منذ احتلال بلدان ما يسمى الآن بالعالم الثالث فى أوقات مختلفة وتحويلها إلى مستعمرات وأشباه مستعمرات وفرْض معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية" عليها. وعلى هذا النحو لم يَعُدْ هناك مجال للثورة الاجتماعية بل قامت علاقة التبعية الاستعمارية الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والعسكرية (المباشرة وغير المباشرة)، وتواصلت، فتبلور السياق التاريخى للتبعية الاستعمارية وأحاطت بكل الثورات السياسية الشعبية وبكل الانقلابات العسكرية فى بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات، وهى البلدان المتخلفة التابعة التى يجرى تدليلها فى العادة باسم البلدان النامية.
وكان من المنطقى نظريا، ومن التاريخى عمليا، أن يستمرّ هذا الماضى السلبى من كل النواحى، أىْ التبعية الاستعمارية، عبر كل ثوراتنا السياسية فى كل مكان فى العالم الثالث. فرغم ظاهر الاستقلال الدستورى الشكلى وفقا للقانون الدولى تواصلت التبعية الاستعمارية وتفاقمت واستفحلت مع الزمن مخترقة ثورة 1919 الشعبية وانقلاب 1952 العسكرى ومن المنطقى أن تتواصل بعد ثورة 25 يناير 2011 الراهنة كذلك، إذا كان للقاعدة العامة للعالم الثالث أن تنتصر فى نهاية الأمر.
وباستمرار التبعية الاستعمارية والرأسمالية عبر الثورات السياسية الشعبية والانقلابات العسكرية يكون الماضى الذى لا يمثل المستقبل، بل يمثل الماضى وحده، بل يمثل الماضى المتواصل التفاقم والتدهور، هو الذى يستمرّ، وهو لا يتفاقم بسبب الثورات بل يتفاقم نتيجة سياقه الأصلى حيث تتدهور أوضاع ومكانة العالم الثالث فى كل مكان ليس فى اتجاه التهميش المتواصل فحسب بل فى اتجاه الانهيار الشامل. ولا مناص من أن تتسلح الرأسمالية التابعة بالديكاتورية من أعلى، مع أن الرفض الشعبى العميق الثائر ضد النظام السابق يترجم نفسه إلى هذه الديمقراطية الناشئة من أسفل فى مصر وفى البلدان الأخرى للربيع العربى. وهكذا كانت التبعية الاستعمارية المتواصلة والديكتاتورية العسكرية أو الپوليسية من أعلى والديمقراطية من أسفل هى النتائج التى لم يستطع أحد تفاديها فى العالم الثالث إلا على سبيل الاستثناءات القليلة التى استطاعت فيها بعض البلدان أن تتحول إلى بلدان صناعية رأسمالية مثل النمور أو التنانين الآسيوية الأصلية (كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورة) والصين، رغم مشكلات سياسية وثقافية كبرى فى هذه البلدان، لتلحق بالبلدان الرأسمالية بعد أن كان قد فاتها طوال تاريخها الحديث قطار اللحاق بالغرب.
وينبغى أن أوضِّح هنا أن هذه النظرة التى قلتُ إنها تشكل خلفية عامة لهذه المقالات كانت آخذة فى التبلور عندى قبل الثورة بوقت غير قصير، وبالتحديد منذ قرأت كتاب توكڤيل "النظام القديم والثورة" وتأثرت به بعمق وبالأخص منذ بدأت العمل فى ترجمته، حيث يميَّز توكڤيل بين ثورتين: ثورة سياسية عاصفة، وثورة "اجتماعية" سبقت الثورة السياسية، وقد حاولت أن أصقل فكرة توكڤيل العميقة فجعلتُ الثورة الاجتماعية أىْ الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية فى عصرنا الحديث تساوى التحول الرأسمالى قبل وبعد الثورة السياسية التى تجرى فى سياق الثورة الاجتماعية.
على أن الخطوة النظرية الأخرى التى تبلورت عندى بعد الثورة وبعد مقالاتى الأولى عنها هى فكرة السياقين التاريخيَّيْن المختلفيْن المتمثليْن فى سياق الثورة الاجتماعية للثورات السياسية فى البلدان الصناعية الرأسمالية فى الغرب أو الشمال فى الوقت الحالى، بالمقارنة مع سياق التبعية الاستعمارية للثورات السياسية فى المستعمرات وأشباه المستعمرات أىْ فى الشرق أو الجنوب أىْ فى عالمنا الثالث، وبالتالى فكرة النتائج الثلاث الكبرى المتباينة من حيث النظام الاجتماعى الذى يعقب الثورة السياسية لكلٍّ من هذين السياقيْن التاريخيَّيْن، وكذلك فكرة استمرار النظام السابق للثورة السياسية بعدها وإنْ كان هذا يحدث بطريقة جدلية بحيث يكون الاستمرار ليس مجرد تكرار للماضى أىْ النظام السابق للثورة السياسية الذى يمثل المستقبل فى أحد السياقيْن بل تسارع تطور الرأسمالية ويمثل استمرار التبعية الاستعمارية مع استمرار تدهورها المتواصل فى السياق الآخر.
ومن الواضح أننا لا يمكن أن نتحدث عن انتقال من نمط الإنتاج الإقطاعى إلى نمط الإنتاج الرأسمالى فى حالة حدوث ثورة اجتماعية فى بلد من بلدان العالم الثالث فالانتقال إلى البلد الصناعى فى الإطار التاريخى لنمط الإنتاج الرأسمالى إنما يحدث فى هذه الحالة انطلاقا من وضع الأفنية أو الحظائر أو الزرائب الخلفية للرأسمالية العالمية فى بلدان العالم الثالث وهى بلاد حولتها السيطرة الكولونيالية الإمپريالية فى أفضل النماذج بعيدا عن الإقطاع دون أن تسمح لها بالتحول إلى بلدان صناعية أىْ رأسمالية بالمعنى الحقيقى للكلمة.
ويمكن أن يجد القارئ فى مقدمتى لكتاب توكڤيل بداية بلورتى لنقطة انطلاق هذه الأفكار، غير أن القارئ قد يجد ما يصدمه وما قد يعتبره تشاؤما فى مقدمتى للكتاب الآخر حيث يمكنه أن يقرأ ما يلى: "وإذا كانت الثورة، قد بدت منذ لحظة بوصفها حلّ اللغز، فإنها تبدو الآن بوصفها اللغز الذى يحتاج إلى حلّ، لأن حالة العالم لا تُنْبئ بثورة فى المدى القريب والمتوسط، لا فى الغرب ولا فى الشرق، لا فى الشمال ولا فى الجنوب. ورغم أن الثورة ليست محالة إلى التقاعد الأبدىّ، فإنها ليست واردة على جدول العمل السياسىّ فى أىّ وقت قريب"، غير أننى أوضحتُ بعد ذلك على الفور وفى نفس الفقرة أننى: "لا أعنى النضال الثورىّ الوارد دائما بل أعنى الثورة الاجتماعية الشاملة التى تشترط الشروط الموضوعية والذاتية"، وكان المقصود كما هو واضح الثورة الاجتماعية التى تنقل من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر وليس الثورة السياسية على الإطلاق، ومن هنا استمرارى الحالى فى الحديث عن صعوبة تصور حدوث "ثورة اجتماعية" فى سياق الربيع العربى رغم الثورات السياسية التى نعيشها فى الوقت الراهن.
فهل تتحول بلدان الربيع العربى أو حتى مصر إلى استثناء، إلى بلد صناعى، وإنْ فى السياق التاريخى للرأسمالية، باعتبار أن من الشطط أن يتوقع أحد ثورة اشتراكية فى العالم كله وليس فى العالم الثالث أو مصر فقط فى أىّ مدًى مرئىّ بحال من الأحوال؟ ولا شك فى أن المستحيل تقريبا قد يترك مكانه لما هو ممكن وعملىّ على سبيل الاستثناء عندما تخلق أوضاع تاريخية خاصة هذا الاستثناء.
وإذا كان هذا الاستثناء قد تحقق للنمور الآسيوية الأصلية بفضل جهود جبارة وتعاون تاريخى مع الغرب وبالأخص مع الولايات المتحدة فى سبيل خلق ڤتارين رأسمالية فى وجه المدّ السوڤييتى والصينى فى تلك المنطقة من العالم، بينما تحقق للصين انطلاقا من فترة تعاون الصين بكل حجمها السكانى والجغرافى ومواردها الهائلة مع الاتحاد السوڤييتى السابق، فإن غياب مثل هذين السياقين النادرين لا يترك لنا سبيلا للاستثناء سوى تطور هائل وجبار للديمقراطية من أسفل الناشئة فى مصر، عندما تصل هذه الديمقراطية من أسفل إلى ذروة استثنائية بحيث تكون قادرة على فرض إرادتها على دولة التبعية الاستعمارية المتواصلة، ولن يتحقق هذا الشرط بين عشية وضحاها بل يحتاج إلى استمرار عملية الثورة سنوات طويلة، وانتصارها الإستراتيچى على الثورة المضادة الحاكمة، ورغم الصعوبة الهائلة لمثل هذا التطور إلا أن من حقنا أن نحلم بتربيع الدائرة وتحقيق المستحيل، أو المستحيل "تقريبا". ولا جدال فيما أظن فى أنه لن ينقذ أىّ بلد من بلدان العالم الثالث ومنها مصر من مصير الانهيار الشامل الذى يتجه إليه العالم الثالث بسرعة مفزعة سوى تحقيق هذا الذى يبدو مستحيلا حقا.
لقد حدثت فى مصر ثورة لا سبيل إلى الشك فى أنها ثورة سياسية شعبية كاملة الأوصاف، وحدث فى الوقت نفسه انقلاب عسكرى، لا شك فى أنه انقلاب عسكرى كامل الأوصاف أيضا، قاده المجلس الأعلى للقوات المسلحة لحماية النظام مع التضحية ب مبارك وأسرته والحلقة الضيقة من رجاله المقربين وليس لحماية الثورة أو الشعب اللذين لم يكونا بحاجة إلى حماية من أحد نظرا لأن كل الثورات السياسية الناجحة فى العالم الثالث انتصرت فيها شعوب عزلاء على جيوش مدججة بالسلاح تقمعها بكامل قوتها. ودخلت الثورة المضادة بكل أقسامها فى صراع مرير مع الثورة. ويدور الآن فى مصر (وكذلك بأشكال مختلفة فى مختلف بلدان الربيع العربى) صراع كبير مفتوح بين الثورة والثورة المضادة.
وتتشكل القوى الأكثر إخلاصا للثورة بكل أهدافها المتصاعدة من القوى المدنية واليسارية والعلمانية والليبرالية اليسارية التى استطاعت رغم ضعفها العددى النسبى أن تجذب عشرات الملايين من المصريِّين بل إلى الثورة. أما الثورة المضادة فتتمثل بصورة منطقية فى النظام القائم بقمم كل مؤسسات دولته ومن طبقته المالكة ومن حلفائه الطبيعيِّين المحتملين الذين يُعَدُّون ممثلين سياسيِّين لقطاعات من الطبقة الرأسمالية التابعة العليا كقوى الإسلام السياسى (البازار المصرى) والليبرالية اليمينية. وهناك تناقض جذرى بطبيعة الحال بين قوى الثورة ككل وقوى الثورة المضادة ككل. وهناك بالطبع تناقضات لا ينبغى الاستهانة بها بين مؤسسات الدولة وقوى الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية، وكذلك فى صفوف قوى الإسلام السياسى من إخوان وسلفيِّين وغيرهم فيما بينهم. ولا شك فى أن هذه التناقضات تفعل فعلها منذ اندلاع الثورة وفى الوقت الحالى وفى المستقبل.
وتملك الثورة المضادة بالطبع ميزة القوة العددية الضخمة والموارد المالية الطائلة غير أنها تخسر قلب الشعب لوقوفها ضد نضالات طبقات الشعب لتحقيق مطالبها الأكثر ضرورية كأصحاب عمل من جانب قطاعات من الثورة المضادة وككاسرة إضراب أيضا من جانب قطاعات أخرى منها. وتفتقر القوى المخلصة حقا للثورة إلى القوة العددية اللازمة للمبادرات الثورية والاستفتاءات والانتخابات كما تفتقر إلى الموارد، غير أنها تملك ميزة أنها هى التى فجرت الثورة واستمرت بها، وأنها تقف موقف التأييد بنشاط وحزم إزاء المبادرات النضالية والمطلبية للطبقات الشعبية.
وسوف تتوقف الترجمة النهائية لكل هذا فى مختلف التفاعلات السياسية القادمة، من مبادرات نضالية ومشروعات لمختلف قطاعات الثورة المضادة وانتخابات پرلمانية ورئاسية واستفتاءات وغير ذلك، على قدرة الثورة على الاحتفاظ بقوة دفعها، وعلى التسلح المتزايد بمزيد من الوعى بطبيعة الثورة وما يترتب على ذلك من مواقف وأهداف ومبادرات وأشكال نضال، كما أنها سوف تتوقف على الصراعات الكبيرة المحتملة فى صفوف مختلف قطاعات الثورة المضادة. وينبغى أن يبتعد الثوار عن التصورات الشعبوية عن الانسجام الكامل بين قوى الثورة المضادة؛ مثلا التصورات المتعلقة بتوافق بين أمريكا والسعودية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة على تولية الإخوان المسلمين، كما يُشاع رغم صعوبة ذلك.
والحقيقة أن نقطة ضعف خطيرة إلى جانب نقاط ضعف أخرى فى صفوف الثورة المضادة تتمثل فى التناقض فيما بينها وهو تناقض ينطوى ليس فقط على التوترات الحالية والخديعة المتبادلة الراهنة بل تنطوى على صراعات وصدامات طاحنة محتملة، على حين تتمثل ميزة كبيرة فى صفوف القوى الحقيقية للثورة فى أن تناقضاتها الداخلية لا تنطوى على صراعات طاحنة فيما بينها رغم تمزقها إلى منظمات وأحزاب وتيارات ومجموعات وحلقات واتحادات وتلاوين لا حصر لها.
وأعتقد أن شعار "الثورة أولا" الذى برز فى فترة من فترات الثورة فى مواجهة شعارات مثل "الدستور أولا" أو "الانتخابات أولا" قد انطلق من غريزة ثورية تعى جيدا أن القضية المطروحة ليست قضية انتخابية أو دستورية، انطلاقا من واقع أن الوضع الراهن يفتقر أصلا إلى أىّ شرعية دستورية بل يستند إلى المقتضيات العملية لانقلاب عسكرى يهدف إلى المحافظة على النظام بعد التضحية الاضطرارية برأسه، وليس من المتوقع أصلا أن يلتزم قادة الانقلاب بأىّ نزاهة انتخابية أو أىّ ضمانات حازمة ضد التزوير المباشر لأن مصالح النظام والطبقة المالكة هى التى ستحدد طبيعة سلوك الانقلابيِّين إزاء قوى تسعى إلى القفز على السلطة بما يمكن أن ينقلب فى نهاية المطاف على مصالح الانقلابيِّين والنظام الذى أتوا للدفاع عن استمراره مع أىّ أخذ محدود فى الاعتبار بطبيعة الحال للعبر والدروس المستفادة من سلوك حكم الشخص وأسرته ورجاله مدفوعين بشراهة لا تُشبعها أموال قارون ولا كنوز الأرض، ومن جبروت مفزع، بدلا من عقلانية كافية للالتزام بدرجة من التوازن والحساب والإدراك للمصير المحتوم للطمع المنفلت فى المال والسلطة.
ومن هنا أعتقد أنه ينبغى إعطاء الأولوية لتطوير الثورة بصورة متواصلة من خلال تطوير الديمقراطية من أسفل ليس من خلال تكوين أحزاب أو نقابات أو غيرها فى غرف مغلقة يجرى تشكيل لجانها وهياكلها وإعداد برامجها بمواصلة خلق هذه الأشكال النضالية بل من خلال مواصلة المعارك العنيدة لتحقيق أهداف الثورة وخوض معاركها ضد الهجوم المتواصل من جانب مختلف قوى وقطاعات الثورة المضادة، بكل الوسائل التى تملكها الشرعية الثورية.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية
- الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها
- الديمقراطية .. ذلك المجهول!
- خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
- الحزب الحاكم القادم فى مصر
- الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى
- لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) بيان بقلم: خليل كلفت
- يا شعب مصر ... إلى الأمام ولا تراجع ... التراجع كارثة
- لا للتعديلات الدستورية فى مصر
- مفهوم النحو (مقدمة عن العلم وموضوعه ( مقدمة بقلم: خليل كلفت ...
- المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم (دستور 1971) والعلاق ...
- بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية مقدمة خليل كلفت لترجم ...
- ماذا يعنى حل مجلسى الشعب والشورى؟ [فى مصر]
- الشعب المصرى يريد إسقاط النظام
- ثورة تونس نحو الاستقلال الحقيقي والتنمية الحقيقية


المزيد.....




- تحليل لـCNN: إيران وإسرائيل اختارتا تجنب حربا شاملة.. في الو ...
- ماذا دار في أول اتصال بين وزيري دفاع أمريكا وإسرائيل بعد الض ...
- المقاتلة الأميركية الرائدة غير فعالة في السياسة الخارجية
- هل يوجد كوكب غير مكتشف في حافة نظامنا الشمسي؟
- ماذا يعني ظهور علامات بيضاء على الأظافر؟
- 5 أطعمة غنية بالكولاجين قد تجعلك تبدو أصغر سنا!
- واشنطن تدعو إسرائيل لمنع هجمات المستوطنين بالضفة
- الولايات المتحدة توافق على سحب قواتها من النيجر
- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها تقديم للمؤلف خليل كلفت