محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 1093 - 2005 / 1 / 29 - 08:24
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
عندما فتحت ثقب الذاكرة ألملم منها ما يخص الشهيد أحمد مهدي,فاحت من ذاك المكان رائحة مقبرة جماعية تشبه تلك المقابر التي تكتشف بين الحين والآخر على امتداد أراضي ما بين الرافدين, ولكن بفارق بسيط , إنها مقبرة أحياء , ترى فيها أصابع مقطعة تمشي, وعيون وأضلاع, أرواح تصتدم بها غيدة وإياب في طريقك إلى أقسام مسلخهم للحصول على اعترافات منا لا تشفع للضحايا سبيها, تسمع صرخات نسائية و رجالية مختلطة بصراخ الجلادين وأغنية لأم كلثوم يوحدها مكان واحد تشهد فيه أكبر حفلات الإستقبال والوداع حيث فتح عزرائيل مكتبا له. فرع التحقيق العسكري أ و بالأحرى مسلخ التحقيق العسكري, مكان ليس مثله مكان, يقولون مثله تدمر, و لكن لا أعرفه ولا أدري إن كان من سوء طالعي أو من حسنه أن لا أكون من نزلائه و إنما حدثوني عنه و آخرهم كان رفيقي آرام كاربيت عندما تهاتفنا بعد أن علمت أنه أصبح جار لي في إحدى بلاد الغربة, وأظن أنه سيكون لآرام حديث طويل مع ذاك المكان. هناك يختلف التوقيت البشري المعتاد, مكان لا نهار فيه ولا ليل, ولا شمس ولا هواء, فقط ظلام دامس, تعرف الأوقات فيه من خلال وجبات الطعام, ترى النهار فيه لما يخرجوك للسلخ وليحولوا كل نهاراتك ليل, لا تشتم الهواء إلاعبر أنبوب معدني طويل يوزع على كل المهاجع و مراحيضها و يكون المكان الأكثر إنعاشا فيه هو المرحاض إن تمكنت من الوصول إليه . مرة أخرى ينفجر داخلي نفس السؤال: لماذا كل هذا الإيغال في دم و حيوات الناس؟ ولماذا هذا الغلو الفظيع في تشويه الأرواح والأجساد؟ لا أظن أنني سأتلقى جواب قبل أن تعقد محكمة للشعب . عندما فتحت ثقب الذاكرة لأفتش عن رفيقي رأيت تلك الليالي الطويلة عندما كانت تطل عيون الجلادين إلينا ونحن مرميين في الزنازين منهكين بعد حفلات تعذيبهم المتواصلة وكأنهم الذئاب تتفقد فريستها إن كانت قد انهارت أم ما زال فيها صبرا و إرادة تنبض, يعوون بصوت هادر(عليك أن تعترف يا ابن....) والواحد منا لايسمع لأنه منهمك في حوارية مصيرية تظللها أصدق اللحظات داخل النفس ويختار الحياة ويختار الصمود, لذا كان لا بد للواحد منا أن يحتمل إلى أن يتعبوا, لحظات تتصورها دهرا, لا تنتهي و أنت تعيشها وتدخل نفقها , يقطعون بعوائهم سموك ويشدوك من عالمك إلى عالمهم( هنا ستموت إن لم تعترف) ونحن لا نموت, نصمد, نحيا, نجتاز النفق كله, ويكون صمودنا ورغبتنا في الحياة أطول من نفقهم, وأقوى من إحتمالهم, فيتركونا. هل مت يا أحمد؟ لا لم تمت , لا أصدق يا صديقي أنك غبت و للأبد, لا يمكن أن أقتنع أنك لم تعد تسمع ولم تعد ترى, ربما ثقلك قد زال, ومطالبك انتهت فلم تعد تزعج أحداَ, لكنك موجود, حبيبان كنا, فأنت حاضر معي بابتسامتك المشرقة الجميلة والمميزة لشخصيتك, بعيونك العسلية الواسعة, والماكرة كعيني طفل. كنت دافئا فتحنوا علينا دون أن تتكلم أو تشعرنا بذلك, أتذكرعندما حدثك حسام أن صوتي جميل طلبت مني والرفيق منير الحصني وحسام علوش أن أغني لكم لمارسيل خليفة أغنيته الحزينة وكأنك كنت تشتهي أن تفجع بموتك أمك فلماذا يا أحمد؟ لماذا تصمد كل هذا وتنهض من الرماد والشظايا من ذاك المكان الذي ما مثله مكان لتموت هناك في مكان بعيد؟ ألم نتعاهد على الإخلاص فلا نموت ولا نركع ولا نخون؟ فلماذا خنتنا وحققت أمنية الجلاد وتموت؟ كنت بين أيديهم عنيدا كالثور, لماذا تموت؟ كان عليك أن تفعل أي شيء غير أن تموت. ثلاثة أشهر فقط من الزمن البشري التي شاركت فيها الشهيد في ذاك المكان اللا بشري واللا زمني, فلا يمكن لساعة بشرية أن تستعمل لذاك المكان في ذاك الزمان, في اليوم نموت ثلاثون مرة ونعود للحياة ثلاثون, لا صباح لا ظهر لا عصر ولا مغرب ولا عشاء, فكان المسلمون فيه يصلون بتقديراتهم هم وليس حسب الأوقات, لا يتوضؤون فالوصول إلى المرحاض يحتاج أحيانا ساعات من الإنتظار في الدور لذا كانوا يتيممون ويحرصوا على عدم شرب الماء الكثير لكي لا يتبولون,هذا في المهاجع, أما في الزنازين فلا يمكنني وصف رحلة الخروج إلى المرحاض ثلاث مرات في اليوم, فهي نار جهنم مفتوحة, يتمنى السجين لو يستطيع دون أكل أو شرب يعيش لكي لا يحتاج الخروج من الزنزانة لقضاء الحاجات, إنه مكان أعجز عن وصفه ولا أستطيع لو أردت, إنه مكان ليس من عالمنا ولا من زماننا و لا أعرف ما أسميه. لا أعرف المكان الذي نقل إليه الشهيد عندما نادى الجلاد باسمه واسم الرفيق حسام علوش(من رابطة العمل الشيوعي, هكذا كان اسم التنظيم سابقا) وفريد حداد الذي كان من نزلاء مهجع آخر ولم يحصل أن رأيته أو تعرفت عليه إلى الآن (اليوم فقط وصلني بريد الكتروني منه مشكورا, وكنت أتمنى لو وصل قبلا لأتمكن من سؤاله عن الأيام الأخيرة من حياة الرفيق الشهيد), و بعد شهر آخر على ما أعتقد نقل الرفيق منير الحصني وبقيت مع الرفيق محسن عسكر إلى أن نقلت من ذلك اللا مكان إلى فرع الأمن السياسي أمانة مسلمة من العسكري لاستكمال التحقيق معي فكان شبه إفراج عني , ثم انضممت إلى الرفاق في سجن القلعة , في قسم منعزل خاص بمفرزة الأمن السياسي, وهناك في إحدى الزيارات الإستثنائية التي حصلت عليها زوجتي أخبرتني أنها كانت تزورني بالنيابة ولما سألتها ماذا تعني بالنيابة فأجابتني أنها كانت تزور الشباب أحمد مهدي وفريد حداد و نسيت من أيضا, الذين كانوا نزلاء القسم المدني من السجن مع القضائيين, لتشتم رائحتي ولتسأل الشباب عني لأنهم كانوا يستطيعون رؤيتنا عندما كنا نخرج للعيادة الطبية والسنية المشتركة بيننا وبين القضائيين, فيطمنوا بذلك زوجتي, وحدث أن تبادلت الرسائل مع زوجتي عن طريق الرفاق هؤلاء بعد أن استطعت إعطائها لأحدهم لا أعرف من هو لأن ذاكرتي تخونني فلا أتذكر بعض التفاصيل, ثم تتابع الحديث مع زوجتي وشعرت أن هناك أمرا تحتال زوجتي على مفرداتها لتخبرني به , ولما شجعتها ألا تتردد في إخباري إياه تلعثمت وترقرقت الدموع في عينيها وقالت بصوت متهدج: أحمد مهدي... ولم تستطع إكمال حديثها لأنها انفجرت بالبكاء فعرفت للفور أن أحمد مهدي قد مات, ولما استطاعت زوجتي أن تتماسك من جديد تابعت بأنه مات إثر إضراب عن الطعام احتجاجا على احتجازه دام 48 يوما. فلماذا يا أحمد تركتهم ينتصرونا علينا لماذا .
أعتذرللقراء عن النقص في المعلومات حول الأيام والساعات الأخيرة من حياة الشهيد لعدم معرفتي بالتفاصيل وأرجو من الرفيق فريد تزويدي بها إن أمكن أو فردها في مقال خاص له نستطيع به أن نكمل ذاكرة استشهاد الرفيق أحمد . و أعتذر أيضا عن شحنة الحزن الكثيفة التي في طيات الذاكرات عن شهدائنا التي سببت لكم بعض الغم, فلقد كانت غيض من فيض, ولا بأس من حين لآخر لشحنة من الحزن في حياتنا نكتشف بها قيمة الفرح عندما يدق أبوابنا, وكما يقول المثل الشعبي الحزن يجلي القلوب, ألم يقل الشاعر الكبير نزار قباني : أن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان.
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟