أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زياد شاهين - أخطاء ؟!















المزيد.....

أخطاء ؟!


زياد شاهين

الحوار المتمدن-العدد: 3723 - 2012 / 5 / 10 - 04:10
المحور: الادب والفن
    


سأبلغُ مرامي، وسأحقـّقُ أحلامي !
سأجتازُ الامتحان، وسـأكرّمُ ولنْ .. لنْ أُهــان !
خرجتُ من البيت في ساعاتِ ما قبل الظهر، أخذتُ معي حبلاً طويلاُ كنتُ قد حضّرتـُه ووضعتُـهُ في كيسٍ من الخيشِ من ذي قبل، وشرعتُ أقطعُ الطريقَ بسرعة فائقة، دون أن أولي انتباهي لما يحدثُ من حولي، كأنني طلقةُ جفتٍ مصوبة نحو هدفٍ طائر، حتى وصلتُ إلى ضالتي المنشودة، وسدرة منتهاي: "الرندة".
و"الرندةُ" هي مكانٌ مرتفعٌ وعالٍ عن الأرض، ما يشبه التلة أو الهضبة، طبعاً إذا رضيتْ "الرندة" بهذا التشبيه، تكسوها أشجارُ الصنوبر القديمة ذات الجذوع الراسخة في التراب، والفروعُ الممتدة من غابر التاريخ، كنتُ قد أخترتُ إحدى أشجار الصنوبر الباسقة والمتفردة بشموخها وبصمودها، دنوتُ منها ولففتُ الحبلَ حول الجذع القاسي وأحكمتُ العقدة جيداً حتى لا تنفكّ ،عسى عُـقـَـدُ حياتي تنفكُّ، أخذتُ طرفَ الحبل الآخر وركضتُ مسرعاً مثل طلق البارود، حتى وصلتُ إلى ساحة سيدنا أبي أبراهيم الواقعة على مرتفعٍ عالٍ مقابل "للرندة"، وهناك على أحد عواميد الكهرباء المصنوع من حديد حضارة غريبة، ربطتُ طرفَ الحبل وشددتُه جيداً وأحكمتُ العقدة كما فعلتُ من قبل، مُطمْئناً نفسي ومؤْمناً أن مكروهاً لن يحدثً، وإن الأمورَ ستسيرُ على ما يرام. كان الحبلُ الممدود بين الرندة وساحة سيدنا ابي ابراهيم، يرتفعُ عن الأرض ما يقاربُ الخمسين متراً، وتحت الحبل هناك بعضُ البيوت التي بدتْ وكأنها تحدّقُ في الحبل، وبعضُ الأشجار التي كانتْ وكأنها تمدُّ فروعَها الخضراء وتتطاولُ كي تلمسَ الحبل، وهناك وادٍ كذاب يُدعى وادي عيسى هيهات أن تجري المياهُ فيه حتى في فصل الشتاء.
أصبح الحبلُ مربوطاً من الطرفين ومشدوداً في الهواء، وها أنا سأحققُ حلمي، سأقطعُ هذه المسافة التي تزيدُ عن المائتي متراً، مشياً على الحبل وليكنْ ما يكون، لن يظلّ حلمي سـرّاً بيني وبيني يرافقني مثل ظلي، أنا لم أتدربْ على المشي على الحبال من ذي قبل، ولم أدخلْ في أية دورة رياضية ومهنية للتدريب، وأصلاً ليس لي فكرة عن الموضوع، ولكني مصممٌ أن أقوم بذلك مهما كلفني الأمر!

-2-
قبل سنين كثيرة، لا أذكر متى بالتحديد، كان المرحومُ أبي، كعادته، يجلسُ تحت شجرة التوت، في ساحة الدار في بيتنا القديم في الحارة الغربية، وكان يتحدثُ إلى خاله أبي الهول، وأبو الهول هو لقبٌ أطْـلقَ على المرحوم خاله، لا أعرف كيف ولماذا؟ ولا أدري اذا كان الفراعنة يدرون بذلك أو حكام مصر الحاليين، وأنا كنتُ صغير السن آنذاك، أدفع بنفسي لأجلس بجانبهما، كقطٍّ يتربّصُ متلهفاً لاصطياد فريسة، أفتح أذناي وعيناي على مصراعيهما لأستمع وأستمتع بأحاديثهما وقصصهما الغريبة والتي استهوتني كثيرا جداً .. جداً :
أبو الهول: ماذا عن المشروع الذي تنوي أن تنجزَهُ يا خالي؟ هل أكمل المهندسون الخرائط؟ وهل أنت راضٍ عنهم؟ وهل اتفقتم على كل النقاط الصغيرة والكبيرة؟ وكم سيكلفك هذا المشروع يا خالي؟!
أبي: يا خالي المشكلة ليستْ في الخرائط وليستْ في التصاريح والتنظيم ودائرة الأراضي ولا حتى المهندسين ودائرة الآثار، المشكلة تكمنُ في الجيران، إن الجيران، يا خالي، أبو فخري وأبو شحادة وأبو شهاب لم يوافقوا حتى هذه اللحظة، أن نحفرَ في أرضهم ونضعَ العواميدَ الاسمنتية أو الحديدية حتى نستطيعَ أن نُباشرَ في بناء الجسر!
ويضحكُ أبي وخالــه، وتُجلجلُ ضحكاتُهم مثل البارود المتفجّر، يكفّان قليلا عن الضحك، ومن ثمّ ينفجران ثانية ، وهكذا يقضيان الوقتَ المتبقي لهم في هذه الحياة!
القصةُ وما فيها إن المرحومَ أبي وهو فقير الحال، كان يريدُ أن يقيم جسراً يربطُ مرتفعَ الرندة بساحة سيدنا أبي أبراهيم، وهذا المشروع السياحي العظيم، ذو تكلفة كبيرة، يعجزُ عن تنفيذه كبارُ المستثمرين، أو حتى الدولة أو حتى السوليل بونيه وهي أكبرُ شركة للعمار والبناء آنذاك في هذه الدولة، وقد خطرتْ ببال أبي هذه الفكرة غير القابلة للتنفيذ نظراً لجغرافية المكان ،وإيماناً منه بتطوير السياحة وجذب السياح من خارج البلاد لانعاش القرية وللدلالة على تطوّرنا وحضارتنا، فالموقعُ من أجمل المواقع في جبل الكرمل، يطلُّ على البحر، وتستطيعُ وأنت تتنزَّهُ فوق الجسر، أن ترى السفن على أنواعها، سفن الشحن مثلاُ المحملة بالقهوة البرازيلية على حد تعبير خال أبي، والتي كانتْ في طريقها إلى ميناء حيفا لتفريغ حمولتها ومن ثم نقلها إلى مخازن أبي سعد! في القرية، أبو سعد رجلٌ فقيرٌ يسكنُ في خشّـة عتيقة لا تسعُ كيسَ طحين، وعلى ذمة خال أبي كانت رائحة القهوة تصلُ وتدخلُ بيوت القرية وأنوف الناس قبل أن تصلَ الميناء!
كذلك تستطيعُ أن ترى خلال نزهتك، خاصة في الليل، بيوت كيبوتس نير عتسيون إلى جانب بيوت قرية عين حوض التي تجزأتْ أو جُزّئتْ وانقسمتْ أو قُسّمتْ إلى قريتين: عين حوض العربية وعين هود اليهودية، وكأن الذئب والحمل يرعيان معـاً والأسد يأكل التبن كالبقر، وهكذا وعلى هذا المنوال كان يأتي كل يوم خال أبي إلينا وبعد أن يجلسَ مع أبي تحت شجرة التوت يبدأ في تصويب الأسئلة عليه: أين وصل المشروع يا خالي؟ كم سيكلفك المشروع؟ كم من الوقت يتطلب هذا المشروع؟ هل ستدعوني أن ألقي كلمة في يوم الافتتاح أم أني لستُ أهلاً لذلك؟
كانا يضحكان ويضحكان كأن الضحك نبعٌ لا ينضب، يشربان القهوة البرازيلية، من استيراد الوكيل الوحيد والرسمي أبي سعد، ومن ثم يغادرُ خال أبي، تاركـاً ضحكاتـه وراءه كأنها فقاقيع في مستنقع تكونتْ لتوّها عند سقوط الحجارة!
-3-
سأبدأ السيرَ أو المشي على الحبل وسأقطعُ المسافة كلها ربما أحقّـقُ في ذلك جزءَ من أمنية أبي! من حزن حظي إن اليومَ هو يوم عيد ميلادي والذي يتزامنُ مع عيد استقلال بلادي/ غرّد الطير الشادي/عمتْ الفرحة البلدان/ من السهل والوادي/ كما جاء في أناشيدنا المدرسية، وعندما سمعَ طلابُ المدارس وأصدقائي عن هذه المغامرة التي سوف أقوم بها، هربوا جميعهم من المدرسة، وعلى ذمة الراوي، لم يبق طالبا واحدا في المدرسة الا وأتى كي يشاهدَني بأمّ عينيه ويكون حاضرا وشاهداَ على التاريخ!
دنوتُ من الحبل، وضعتُ قدمي اليمنى عليه ومن ثمّ القدم اليسرى، بسطتُ ذراعاي وبدأتُ المشي البطيء على الحبل من ساحة سيدنا أبي أبراهيم، نظرتُ إلى أسفل فوجدتُ الجموع الكثيرة من الطلاب يهتفون ويغنون ويشجّعوني أن أقطعَ المسافة : زي ... ياد ....زي ..ياد.. زي...ياد، وبين كل هذا الحشد الكبير، استطعتُ أن أرى مدير المدرسة وطاقم المعلمين والرئيس والاعضاء ، كان مديرُ المدرسة يحمل مكبرا للصوت ويصرخُ بكل قوة وجبروت :
انزل يا حيوان. انزل يا كلب. انزل يا واطي. ماذا تفكّرُ أنك تفعل ؟ اليوم عيد الاستقلال وستحضر وزيرة الثقافة إلى القرية وسنقيم مهرجانا كبيرا وسنحتفل أجل سنحتفل، انزل يا منحط يا دون ! ماذا تفعل أيها المغبون والمجنون انزل لقد أفسدت علينا كل شيء ، ماذا تفكر نفسك؟ انـزل يا أهبل ....
فيردُّ الطلاب والجموع عليه : قـَشْ .... شقـلبها يا أستاذ!
ويرد الصدى: أهبل قش ... شقلبها يا أستاذ !
ويتصادى الكلام ويرتفعُ كأنه خارج من بركان: أهبل قش .... شقلبها ! أهبل قش شقلبها ! أ هـ ب ل ق ش ش ق ل ب هـ ا
بقي الحال على ما هو، معركة من الصراخ والضوضاء والكلام والفوضى، حتى وصلتُ إلى نصف المسافة، ونظرتُ إلى الاسفل فرأيتُ وادي عيسى العميق وعلى جوانبه الطلاب والأهالي ينظرون إلى أعلى، ولا أدري كيف زلّتْ بي قدمي ولم أستطعْ أن أثبّـتَ نفسي وأتابع سـيري فسقطتُ في الهواء، وأثناء سقوطي وترنّحي في الهواء سمعتُ الطلابَ والأهالي يصرخون بألــم ومرارة : يا حرام يا زياد ! يا حرام يا زياد!
أما مدير المدرسة فكان يضحكُ، يقهقهُ ويصرخُ بازدراء : مستاهل أكثر من هيك! مستاهل كل اللي يجرالك! انشالله ما بتقوم من هاي الوقعة! انشا لله يا رب العالمين!
وعندما قاربتُ أن أصلَ الأرض التي أعشقُها وتعشقني، رأيتُ ثعباناً كبيرا فاغرا فاهه تحتي، كأنه ينتظرني على أحرّ من الجوع، وسقطتُ في داخله!

-4-
استجمعتُ قواي، تحسستُ جسدي المنهك، وأعدتُ ترتيب تفكيري، وقبل أن يبلعني الثعبان ويهضمني، استأذنتـُه وطلبتُ منه أن يتمهّلَ قليلا:
يا صديقي الثعبان، أنتَ .. أنتَ صديقي وحبيبي، لقد تركتُ أمي الحنونَ في البيت وهي مريضة وبأمس الحاجة ألي، يجب أن أعطيها الدواء في الوقت المناسب، وأنا يتيم الأب، وامي لم تلدْ سواي أرجوك أتوسل اليكَ أوليس لك أم أو أولاد؟ أرجوك أن تفهمني وتطلقَ سـراحي، سأردّ لك هذا المعروف ، جبلٌ وجبلٌ لا يلتقيا كما يقال، ولكنْ أنسانٌ وثعبان يلتقيان، كن رحيماً وشفوقاً، أطلق سراحي، أطلق سراحي!
فجاءة فتحَ الثعبانُ فاهه على مصراعيه ولم ينبسْ ببنت سُـمّ، وخرجتُ وابتعدتُ، ابتعدتُ عن المكان بعد أن قبّـلتُ الثعبانَ وشكرتُه من كل قلبي على هذا العمل الثعباني، والذي يعجزُ عنه الانسان في مثل هذه المواقف، وصلتُ البيتَ، وجدتُ أمي قد أعدّتْ لي طاولة الأكل، وأكلتي المفضلة " منزلة كوسا مع سميد" مع البصل البلدي والزيتون الأخضر وخبز الطابون. سألتني أمي ووجهها يتلألأ من الفرح كعادتها كلّما تراني:
قلُ لي يا حبة عيني، هل ذهبتَ لترى البهلوان الذي أحضروه بمناسبة عيد الاستقلال، أو ربّما بمناسبة عيد ميلادك !، كي يمشي على الحبل الممدود من ساحة سيدنا أبي ابراهيم الى الرندة؟ كيف كان؟ هل فرح طلاب المدرسة ؟ وهل استطاع أن يقطع المسافة ؟ قل لي حدّثني! هل عزمتَ اصدقاءك بمناسبة حفلة عيد ميلادك؟ لا تنسى أحداً منهم كلهم من عظام الصدر، كم منهم سيحضرُ حتى أستطيع أن أقوم بالواجب! هيا .. حدثني!

-5-
يبدو أنني متعبٌ ولن أستطيع أن أستيقظ، أمي تحاول للمرة الثالثة أن توقظني وعندما فرغ صبرها، وقليلا ما يفرغ، سحبتْ عني اللحاف وهمستْ لي بصوتها الساحر:
بعد قليل سيبدأ دوام المدرسة يا عمري، وأنتَ ما زلتَ نائما ، طبعا البهلوان والسهر بمناسبة احتفالات عيد الاستقلال أدتْ بك الى هذه الحال ، قم قم قم يا عضيدي .
وصلتُ الى المدرسة، كان في انتظاري بجانب البوابة الرئيسية مديرُ المدرسة ومربية الصف وبعض المعلمين. مدير المدرسة:
هكذا يا استاذ زياد! ماذا فعلتَ بالأمس، لقد أخطأتَ خطأ جسيماً ، وسوف تتحمّلُ كل النتائج، لقد هرب جميع الطلاب من المدرسة كي يشاهدوك وأنت تسير فوق الحبل، وأنت تعرف أن هذا اليوم هو عيد مهم وكان يجب عليك أن تتقيد بقوانين المدرسة، لقد أفسدتَ كل شيء، أفسدت علينا فرحة العيد، وهذا سيسبب لي وجع رأس ووجع وظيفة مع المفتشين والمعارف والوزارة ....ماذا سأفعل بــك؟!
أحد المعلمين: أنتَ لم تتدربْ ما به الكفاية يا زياد حتى تسيرَ فوق الحبل، السيرُ فوق الحبال رياضة لها قوانين ومريدون وأناس مدربون، أنتَ بحاجة إلى فتّ خبز كثير حتى تستطيع أن تـُـتـقن هذه الرياضة، ثم لماذا اخترتَ هذا المكان وهذا الزمان؟
مربية الصف باستهزاء واضح: يا أستاذ زياد، على هذا التصرف الخاطئ يجب أن تقاص، يجب أن تطرد من بيننا، انت تعرفُ جيدا مدى محبتي إليك، صحيح انك طالب بامتياز وانك حصلتَ على أعلى العلامات في المدرسة، هذا لن يشفع لك، لن يشفع لك، سوف تعتذرُ من الجميع وأمام الجميع، اولا يجب عليك أن تعتذرَ من وزيرة التربية والتعليم وثانيا من مدير المدرسة وثالثا من رئيس المجلس ورابعا من الطلاب الذين هربوا من المدرسة وحرمتهم من الاحتفال وخامسا من المعلمين الذين سهروا الليالي من أجل إعداد برنامج ترفيهي عن عيد الاستقلال وسادسا مني أنا، أنا مربية الصف التي أفني حياتي في إضاءة عقولكم وتربيتكم وسابعا ..
المدير مقاطعاً بعصبية لا ينقطع خيطها : زياد.. أنت لا تستطيع أن تدخل المدرسة ! أغرب عن وجهي أغرب....مدارسنا ليستْ بحاجة إلى مختـلّ وأهبل من أمثالك!
في الحقيقة، امتعضتُ كثيرا لوقوفي كل هذه الدقائق ولعدم سماعي كل هذه الكلمات الواعظة، ولعدم رؤيتي كل هذا التهديد والوعيد. نظرتُ إلى بناية المدرسة وثم إلى طابور المعلمين ومرة أخرى إلى بناية المدرسة، ولا أدري كيف لوّحتُ بيدي اليمنى، بحركة دائرية، كأنني أمسحُ الغبار عن مرآة الفراغ أمامي، فاختفتْ بناية المدرسة مع الطلاب والاشجار والحدائق المعلقة، وجزعَ المديرُ وارتبكَ وخاف، وهرول طابورُ المعلمين وتفرّق، واشتدّ الصراخ والهتاف، والتساؤل: ماذا حدث؟ ماذا حدث؟ زياد ... زياد !
-6-
وصلتُ البيتَ بعد ان تركتُ المكان بدون مكان، كانتْ أمي بانتظاري، وما أن وقعتْ عيناها علي حتى انهالتْ بتقبيلي في وجنتي ويدي وجسدي، كانت تلامسني وتمسكني وتتركني، ودموعُها تسبقُ كلماتها، الأم:
الحمد لله يا ابني انـّك خرجتَ سليماً من هذه الحادثة الحمد لله، سأنذرُ لك خروفا في مقام سيدنا أبي ابراهيم، لا بدّ أن التحويطة التي وضعتُها في جيبك دون علمك قد ساعدتك في أن تنجو من هذه المصيبة، اخبرني كيف حدث ذلك؟ سمعتُ في الاخبار ان الارض انشقتْ وبلعتْ المدرسة والطلاب والاشجار وحتى قاعة مفعال هبايس والملعب الكروي! هل حدث زلزالٌ؟ كيف حال اصحابك عامر وسامر وساهر؟
فجاءة. طرقٌ شديد على باب بيتنا !
أنا :أدخلْ.
نحن من المخابرات المركزية، نريد أن نفتّشَ البيت، لا أحد يتحرك من مكانه مفهوم !
أمـي مقاطعة مثل اللبؤة: هل تملكُ تصريحا بتفتيش البيت ؟
ألشرطي يحك أضراسه بعضها ببعض كمن يحرق علينا الأرم، يفتح ورقة ويدفعها نحو أمي: هذا أمر وتصريح تفضلي شوفي !
أمي بغضب ترعد وهي لا تعرف القراءة والكتابة، تتفحّصُ الورقة : أنا لا أعترف بهذا الأمر وبهذا التصريح وبهذه الأختام أرحلوا من هنا، عودوا من حيث أتيتم ...أنا لا أعترف بكم أذهبوا إلى الجحيم!
الشرطي مقاطعاً :
اقفلْ الباب جيدا أيها المحقق، من يتحرك من مكانه أطلق النارَ عليه، لا تدعْ أحدا يخرجُ أو يدخل، سنقوم بتفتيش البيت . نقطة.
كانوا خمسة من رجال الشرطة بالزي المدني، مدججين بالسلاح، انتشروا في البيت يعيثون فيه خراباُ، وبدأوا يفتحون ابواب الخزانة الخشبية، خزانة جدي، ويفتشون في الاوراق ويقلبون المخدات والفراش، ويلقون الأواني والكاسات الزجاجية أرضاً، الكل منهمكٌ في التدمير الدقيق والتفتيش المبرمج الا شرطيٌ، رضوانٌ واحدٌ يحرس البابَ ويحرسني أنا وأمي.
بيتـُـنا في الحارة الغربية، هو عبارة عن غرفتين واحدة للنوم وأخرى لاستقبال الضيوف ومطبخ صغير، وكان بابُ المدخل من الخشب القديم، ملّ الوقوف والانتظار والدفع والصدّ، فتقوسّ وهرم وارتفع قليلا عن الارض.
نظرتُ إلى باب المدخل المحكم قفله ومن ثم إلى الشرطي ومن ثم إلى باب المدخل، ومددتُ ذراعي وحرّكتُ كفي في الهواء، فخرجتُ من تحت باب المدخل بكلّ دقـّة وسهولة، وجلستُ انتظرُ على كرسي القشّ تحت شجرة التوت التي كان يجلس في ظلالها المرحوم أبي وخاله الضحاك .
- لقد هرب لقد هرب لقد هرب . صوت الشرطي المذعور!
-7-
خرج رجالُ الشرطة من البيت وتقدّم كبيرُهم إلي، يمد سبابتـَهُ متوعدا ومهدداً وكان يصرخ في هستيريا:
- كيف خرجتَ من البيت؟ قل لي كيف خرجتَ من البيت؟ كيف.. كيف؟
أنا بصمت وببرودة اعصاب:
انا لم أكنْ في البيت أصلاُ! أنتم دخلتم البيت وانا بقيتُ انتظركم هنا في الخارج، على كرسي القشّ تحت شجرة التوت، أسلسل أفكاري، واحاور المرحومين أبي وخالي! لا بد أنك تهذي أيه الشرطي أو تحلم يا حضرة الضيف الثقيل، أو أنك شربتَ وثقّـلتَ العيار!
الشرطي المحقق ينظر الى رفاقه ويكاد ينفجر من الغضب:
هل سمعتم ما قاله! أكاد أجنّ... هل سمعتم .. خذوه .. قيدوه مثل الكلب، أمامي الى المركز، سوف يبصرُ إذا كان أعمى ويسمعُ إذا كان أصـمّ.. سأجعلك يا زياد تتكلمُ لغة الإيدش وسأريكَ من أين تبوّلُ الاسماكُ وتنسى الحليبَ الذي رضعته من بـزّ امك التي تنتظرك في الداخل ! انتَ لا تعرفُ ولن تعرفَ ماذا ينتظرك، إما ان تقولَ لي كيف خرجتَ ؟ وإما أخْرجك من هذه الدنيا ، ألغيك وأمحوك !

-8-

في السجن، وضعوني في زنزانة داخل غرفة داخل غرفة تحت الأرض، قاسيتُ كثيرا لأنني كنتُ مشتاقا إلى أمي، أمي مريضة يجب عليها ان تأخذ الدواء كل يوم، لا أحد يعيلها، انني أبكي أشتاق اليها كثيرا، أمي علمتني كيف أحب الناس وأحب الشجر والأزهار، كيف يعاملونها؟ هل أطفأت شركة الكهرباء النور عليها؟ من يحضر لها الخبز والفواكه والخضار؟ من يؤنسها في وحدتها؟ انني أبكي!
ما زلتُ في السجن وقد مرّ زمن كثير، كأنني منسيٌّ، فتشتُ عن طريقة كي أخرجَ من هنا، لا احد يزورني لا احد يراني حتى الهواء لا يدخل إلي!
في أحد الصباحات استيقظتُ على صوت ذبابة وقد ملأ طنينُها الفراغ المخيم ،طربتُ للقاها وتتبعتُ مسراها وراقبتُها جيداً قلتُ في نفسي لا بدّ من وسيلة تهديني، فأجدُ طريقَ الخروج من خلالها ، ونظرتُ بفرح عظيم، إلى الذبابة ومن ثمّ نظرتُ الى الجدران ومن ثمّ نظرتُ إلى الذبابة اتتبعُها، ولا أدري كيف لوحتُ بجسدي، طرتُ وخرجتُ وراءها ووصلتُ مكانا شديد الظلام، لم ار شيئا، كأن العدم قد استوطن هنا. اصطدمتُ بسقف المكان وبقيتُ معلقـاً على حبال الهواء:
أنا من اليوم وصاعداُ لن أثـق بالذباب! ربما سأثـقُ بالثعابين لكن.. لن أثـقَ بالذباب .. لن أثـقَ بالذباب !



#زياد_شاهين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماركس في حيفا
- سأنام قليلاً/ سأنامُ كثيراً
- أحايين أخر
- يوميات(2)
- يوميات مجمع الترجمة المبعثرة للفرح
- جمرةُ سرّ الشاعر
- الكتابة بالضوء
- مضافٌ إليك؟
- الساعة ُ:عالمٌ مفقوءُ العين، مقطوعُ الرأس !
- لا أصلَ للورد لا فصلَ له
- قصيدتان
- حوارية
- يتخذ النحلُ بيوتاً من دمي
- ظلال للسقطات
- السقطات


المزيد.....




- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زياد شاهين - أخطاء ؟!