أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 16 تغيير ام إصلاح















المزيد.....



قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 16 تغيير ام إصلاح


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3696 - 2012 / 4 / 12 - 21:41
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


تغيير أم إصلاح ؟
كنت قد أنهيت الحلقة الثالثة ، من هذه السلسلة ، والمعنونة " انفصال الرأس عن الجسد " ، بالوعد أن تكون إعادة بناء ما تهدم ، ومؤسسة الأمن في المقدمة ، هي موضوع الحلقة التالية . لكن تدافع الأحداث ، كما أشرت ، فرض نفسه ، وتتالت الحلقات ، مبتعدة بنا عن المسار الذي رسمت . والآن جاء أوان العودة إلى المسار ، وطرح مسألة إعادة البناء ، ليس لمؤسسة الأمن فقط ، وهي المسألة التي دفعت مصر إلى خضم متاهة ، حمَّلت للثورة والشعب أخطارا ما زالت تتصاعد . لكن وحتى نستطيع وصل ما انقطع ، يواجهنا سؤال ، لا بد من محاولة الإجابة عليه . سؤال يقول : في أي إطار يمكن الحديث عن إعادة البناء ؟ في إطار تغيير شامل تفرضه متطلبات الثورة ، أم في إطار إصلاح للنظام ، تواصل القيادة بفرعيها – المجلس العسكري والحكومة - ، تنفيذه ، ملتزمة بتوجيهات مبارك ، منذ أن عهد إليها بإدارة البلاد ؟
مضمون الشعار :
فحين رفعت جماهير الثورة شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " بدا أن مضمونه غير واضح ، لقيادة الثورة قبل جماهيرها . وبدا أن هناك نوعا من اللبس يتعلق بمفهوم النظام ، أعمدته ومكوناته ، مؤسساته وشبكاتها ، ما هو رئيسي منها وما هو ثانوي . بدا وكأن هناك ما هو غائب ، بخصوص مضمون الشعار ، ومفهوم النظام ، عن ذهن كثيرين ، ليس من القيادات الشبابية للثورة فقط ، ولكن من القيادات الحزبية والسياسية المجربة أيضا . وشت بذلك سلسلة من الأحداث ، والوقائع ، التي تتالت على المشهد آنذاك ، وحتى وقت قريب . كما بدا من نفس سلسلة الأحداث ، أن نسبة لا بأس بها من هذه القيادات ، ما زالت غير مقتنعة بأن ما حدث ثورة ، تستهدف تغيير كامل النظام . تغيير يوجب إسقاط كل أعمدة النظام ، ويعيد إقامتها من جديد ، ولكن على قواعد أخرى . تغيير يطول كل المؤسسات ، صغيرها قبل كبيرها ، لإزالة وتنظيف ما علق بها من فساد . فساد متراكم الطبقات سميكها . وإذن ولإنعاش ذاكرة القارئ ، دعونا نستعيد بعض هذه الأحداث والوقائع ، ونحاول ترتيبها كي يساعدنا الترتيب على قراءتها .
أولا على صعيد النظام : بديلا للاستجابة لمطالب المتظاهرين ، لجأ النظام كعادته لأسلوبه المجرب ، القمع بأقصى درجات العنف . وبعد تأكده من فشل هذا الأسلوب ، بدا وكأنه يستجيب لبعض مطالب الإصلاح ، والتي كان المتظاهرون قد تجاوزوها . أعلن مبارك أنه لم يكن ينتوي الترشح لفترة جديدة . وحمل هذا الإعلان ، ضمنا ، تراجعا عن فكرة التوريث ، وترشيح ابنه جمال بديلا له . عين نائبا للرئيس ، بعد سنوات طويلة رفض فيها مجرد النظر في فكرة كهذه . أقال الوزارة ، وكلف وزير الطيران المدني بتشكيل وزارة جديدة ، مهمتها تنفيذ إصلاحات في جهاز الدولة . أعلن عن إعادة النظر في عدد من مواد الدستور ، وكلف لجنة للقيام بالمهمة . كلف نائبه ببدء حوار مع ممثلي قوى وطنية وشخصيات عامة ، للاتفاق على الإصلاحات المنشودة . أخيرا تنحى مبارك ، وانتقل وعائلته إلى منتجع شرم الشيخ ، الذي كان يمارس مهامه الرئاسية أغلب الوقت . لم يعهد بصلاحياته إلى نائبه ، كما تقتضي الشرعية القانونية ، أو إلى رئيس مجلس الشعب ، كما يقضي الدستور ، بل عهد بها إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة ، بما يعني إلحاق تنحي نائبه بتنحيه .
ثانيا على صعيد قوى الثورة ، والقوى الوطنية والحزبية ، التي بدأت معها ، والتي التحقت بها : أدى الرد بالعنف على مطالب الإصلاح ، التي بدأ بها المتظاهرون ، ومرافقة القمع وتوالي سقوط الشهداء والجرحى ، للإصلاحات المعلن عنها ، أدى إلى رفع متواصل في سقف المطالب ، ولتستقر على مطلب إسقاط النظام . لعب عناد مبارك ، وبطء استجابته لزخم الثورة ، كما أشار هيكل ، دور المحفز والمحرك لتطوير شعارات الثورة ، ورفع سقف مطالب الثوار . لكن حركة المثقفين والسياسيين ، المنضمين والملتحقين بالثورة ، وبمن فيهم كوادر وقيادات حزبية ، ومفكرون وكتاب وناشطون حقوقيون وسياسيون ، لم ترافق ، أو تواكب ، حركة الشباب ورفعهم لسقف المطالب . هكذا ظهر ما وصف بلجان الحكماء ، التي بدأت عمليات وساطة بين شباب الثورة والنظام ، فشلت جميعها . لكن الفشل لم يخف دلالتها وهي أن هؤلاء الحكماء لم يتقبلوا حقيقة أن ما يجري أمامهم ، وما يشاركون فيه ، هو ثورة صممت على إسقاط النظام . دلل على ذلك فعل الوساطة وتمثله في محاولة عقد صلح بين طرفين وقع بينهما عراك – خناقة بالعامية المصرية - ، صلح يقوم على توسيع بنود الإصلاح الذي يعرضه النظام . أكثر من ذلك استجابت قوى سياسية ، وقيادات أحزاب ، من يمين ويسار، الإخوان والتجمع على سبيل المثال ، لنداء الحوار مع نائب الرئيس ، وانعقدت أكثر من جولة حوار ، بان فيها من البداية ، عزم النظام على تنفيذ إصلاحات هامشية ، لا تستجيب للحد الأدنى من مطالب شباب الثورة . وقعت قوى في حالات من التذبذب والتردد ، بين الإقدام والإحجام ، عن مائدة الحوار ، رغم القناعة بانعدام الجدوى ، ومن اللحظة الأولى . مرة أخرى ورغم ارتفاع سقف مطالب الثورة ، واستقراره على إسقاط النظام ، بدأ أن قوى سياسية وحزبية ، لم تتوصل للقناعة بأن ما تشهده وتشارك فيه هو ثورة ، تطرح وتطالب بما هو أبعد بكثير من الإصلاح ، وتلخص في شعارين رددتهما مصر كلها : " الشعب يريد إسقاط النظام " و " عيش ، حرية ، كرامة ، عدالة اجتماعية " .
مفهوم النظام :
وبتنحي مبارك ، وارتحاله وأبنائه إلى منتجع شرم الشيخ ، وانصراف نائبه إلى بيته ، انتهى مشروع التوريث ، ومعه النظام الذي خلط ما بين الجمهورية والملكية ، وحول الأولى ، وبأدواتها ، إلى الأخيرة . ومع هذا الانصراف ، أخلى المتظاهرون ، وليس شباب الثورة وحدهم ، بل ومعهم كل القوى السياسية والحزبية ، المشاركة من البداية – اليسار ، القوميون والليبراليون - ، والمنضمة بعد فترة – الإخوان - ، الميادين ، عائدين إلى بيوتهم ، بعد احتفالات صاخبة بسقوط النظام . وكان الملفت لانتباه أي مراقب من الخارج ، مثلي مثلا ، أن أحدا من هؤلاء جميعا لم يسأل نفسه السؤال الهام جدا آنذاك : هل حقا وفعلا سقط النظام ؟ والأهم هل اقتنع الحكماء والمثقفون ، والقيادات السياسية والحزبية ، بأن ما وقع كان بالفعل ثورة ؟ وإن كان حدث ذلك ، هل سأل أحدهم نفسه السؤال المنطقي : هل تحقق هدف الثورة ؟ وهل يمكن لجهاز الحكم القائم – الوزارة التي عينها مبارك ، والمجلس العسكري الذي عهد إليه إدارة البلاد - تحقيق أي من أهدافها ؟
كان تنحي مبارك ونائبه ، وانسحاب العائلة لمنتجع شرم الشيخ ، قد سبقه انهيار مؤسسة الداخلية ، وتفكك جهاز الأمن ، والاعتداءات على السجون وهروب السجناء . وفي دولة يعتمد بقاء نظامها على قدرة الداخلية ، وأذرع الأمن المختلفة على القمع ، يقع في روع المواطن أن سقوط الداخلية حمل معه سقوط النظام . فهل كان الأمر كذلك ؟ وهل وراء هذا السقوط ، وكان مدويا ، كَمُنَ سر اطمئنان الثوار والقوى السياسية والحزبية ، ومن ثم إخلاؤهم للميادين ، والعودة للبيت ، مطمئنين ومرتاحي البال ؟ .
لم ينتبه الجميع ، فيما بدا لي ، إلى حقيقة أن الداخلية ، بأجهزتها الأمنية المتنوعة والمتشعبة ، وإن شكلت العامود الرئيسي للنظام ، لم تكن عاموده الوحيد . بقيت أعمدة عدة ، لم يقع أي منها ، رغم وقوع ما اعتبره كثيرون ، الرئيسي فيها . ماذا يعني هذا الكلام ؟ تعالوا نسترجع وقائع ما حدث .
حين رحل مبارك وعائلته إلى منتجع شرم الشيخ ترك وراءه جملة الوقائع التالية : 1) حكومة كان هو قد عينها ، برئاسة أحد المخلصين للنظام ، الفريق أحمد شفيق ، وحدد لها برنامج عملها ، ومهامها المباشرة ، وبينها إعادة بناء وزارة الداخلية وأجهزتها التي انهارت . 2) مجلس عسكري - يرئسه وزير دفاع خدم معه أكثر من عشرين عاما ، ويضم جنرالات قام هو بترفيعهم وتنصيبهم في مواقعهم - نقل إليه مسؤولياته وكلفه بإدارة البلاد . 3) لجنة لإعادة النظر في عدد من مواد الدستور ، حددها بنفسه قبل رحيله . 4) برلمان مزور ، استمر قائما بغرفتيه دون أن تمر في خاطر المسئولين فكرة حله . 5) حزب ، رغم حرق أغلب مقراته ، ظل يمسك بمقاليد الحكم ، من خلال سلسلة طويلة من الوزارات ، المؤسسات ، الاتحادات ، النقابات ، البنوك ...الخ ذات العلاقة المباشرة بحياة الناس .
ولأن الوقت في حياة الثورات يشكل عاملا فارقا وشديد الأهمية ، يمكن القول ، بناء على ما سبق ، أن فترة حكومة شفيق ، وهي طويلة بمقياس احتياجات الثورات ، تعدت كونها إهدارا للوقت . فحكومة شفيق ، الذي لم يكن يترك فرصة لإعلان عدائه للثورة ، وقلة احترامه لشهدائها ومناضليها ، استغلت الوقت ، ليس فقط لتزرع ألغاما في طريق الثورة ، بل ولتضيع أهم مكتسباتها . ولعل القارئ ما زال يذكر أن أكثر المواجهات عنفا ضد الثورة ، تلك المعروفة إعلاميا بموقعة الجمل ، وقعت في ظل حكومة شفيق . وليس فقط أن الحكومة ، والمجلس العسكري قبلها ، لم تحقق في الجريمة ، وكان وما زال كشف ملابساتها ممكنا ، بل وسهلا ، بل قامت ، ومن جاءت بعدها ، بالتستر والتعتيم عليها ، في دلالة لا يمكن أن تخفى على أحد .
ولا تسعفنا حكمة التاريخ ، ولا خبرة الثورات ، بمثال واحد لثورة أوكلت مهمة تحقيق أهدافها ، لطرف من خارجها ، ونجحت . والمشكلة تغدو أصعب بكثير حين يأتي هذا الطرف من لب النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه . لقد عُزي ما حدث لرومانسية شباب الثورة ، ولقلة خبرتهم . لكن سؤالا ملحا أخذ يطرح نفسه فيما بعد . كيف غابت هذه المسألة عن ذهن وعقل قيادات مجربة ، بدأت مع الثورة ، أو التحقت بها ؟ أين كان المفكرون والكتاب وسائر الحكماء حين حدث هذا ؟ وقبل ذلك ماذا كان دورهم في الأيام الثماني عشرة في الميادين ؟ ألم يخطبوا ؟ ألم يحاوروا ؟ ألم ينصحوا ؟ ألم يساعدوا على سد ثغرة نقص الخبرة ؟ أم أن شيئا آخر كان يقبع خلف كل ذلك ؟
أشار هيكل مرات عديدة ، عبر حلقات فضائية الجزيرة وغيرها ، إلى ما وصفه بتجريف النظام لبركة السياسة في مصر . ذلك عنى أن القوى السياسية ، وفي مصر عشرات ، إن لم يكن مئات ، أساتذة علوم السياسة في جامعاتها ، أصيبت بضعف القدرة على قراءة الأحداث من جهة ، والتنبؤ بمساراتها اللاحقة من جهة أخرى . انعكس هذا ، بأوضح ما يكون ، ورغم سقوط رأس النظام ، في استمرار عدم القناعة بأن ما حدث كان ثورة ، وثورة شاملة وعميقة الجذور . استهدف اقتلاع النظام ومن جذوره ، وليس مجرد عملية إصلاح فيه . دلل على ذلك شواهد عدة منها :
ثورة 52 :
1. على كثرة ما أشير لمقارنات ومفارقات مع ثورة 52 ، لم يُشَرْ ، لا من قريب ولا من بعيد ، إلى تجربة هامة لها ، تكررت بحكومة شفيق . انحصرت المقارنات في الصراع بين مجلس قيادة الثورة وواجهته ، اللواء محمد نجيب ، وبين عبد الناصر والإخوان . وبين انقلاب الضباط الأحرار على الديموقراطية ، ورفض الدستور . وأغفلت المقارنات حقيقة أن الضباط أسندوا مهمة إدارة البلاد لحكومة مدنية ، لم يشارك فيها ضابط واحد ، ترأسها السياسي البارز آنذاك ، أحمد ماهر . ورغم أن هذه الحكومة المدنية لم تفعل شيئا إزاء تحقيق أهداف الثورة ، رغم استمرارها أكثر من سنة ، إلا أن الضباط فوجئوا بأن الحكومة المدنية ، مدفوعة بقناعة تقول بضعف خبرة الضباط السياسية والعملية ، تندفع في اتجاه الاستئثار بالسلطة ، والاكتفاء بتنحي وخروج الملك ، كأقصى تحقيق لأهداف الثورة . هنا اضطر الضباط لإزاحة الحكومة المدنية ، وتشكيلهم هم للحكومة برئاسة عبد الناصر . وهذا عين ما فعله – الركون لحكومة مدنية ، ثم المطالبة بإقالتها - ثوار التحرير مع حكومة شفيق ، وبعد كل تلك الخسارة للوقت ، وكل تلك العقبات التي كدستها هذه الحكومة ، أمام تحقيق ولو بعض أهداف الثورة ، ومنها مثلا وضع اليد على الأموال المنهوبة ، أو استعادة ما تم تهريبه منها .
2. لم يشكل صرف الضباط الأحرار للحكومة المدنية ، والحلول مكانها ، انقضاضا على السلطة ، ولا استئثارا بها ، كما وصفته المقارنات . شكل ذلك نوعا من تصحيح للمسار من جهة ، ومن إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح ، كما تقضي بذلك حكمة التاريخ ، وخبرة الثورات ، من جهة أخرى . والثورات تعوض افتقاد الحكمة ، و نقص خبرة القادة ، وضعف الحنكة السياسية ، بطاقة الشباب وحماسهم وعزيمتهم ، وإخلاصهم اللامتناهي لأهداف الثورة . وفي المقارنات ، يتناسى المقارنون ، أن ثورة 52 حققت جماهيريتها بعد صرف الحكومة المدنية ، وبعد بدئها تطبيق مبادئ وأهداف الثورة ، وبعد نزول الثوار إلى ميدان العمل الجماهيري ، وإقناع الجماهير بصحة أهداف الثورة .
3. لم تملك ثورة 25 يناير مثل هذه القيادة . ذلك ما يقال في العادة . وقيل أكثر عن نقاء قياداتها وزهدها في شغل المواقع الحكومية . وبعد كل ما مضى من وقت ، وما عايشنا من نتائج ، علينا أن نسأل :هل كان ذلك صحيحا ، أم كان جزءا من مخطط حكومة شفيق والمجلس العسكري لإجهاض الثورة ؟ صحيح أن ضعف الخبرة ينتج أخطاء . لكن الخبرة الثورية العالمية تضع أمامنا حقيقة تقول : أن هكذا أخطاء ، مهما تكن فادحة ، لا يمكن أن تقارن بفداحة العوائق والعقبات التي تضعها حكومة كحكومة شفيق ، على طريق إنجاز أهداف لثورة . ولعل القارئ يتذكر أن ثوار 25 يناير ، اسْتُبعِدوا ، ولم يكن ذلك عن زهد منهم ، عن أية مناصب حكومية . وإذا كان شباب الثورة، لنقص في خبرتهم السياسية ، لم ينتبهوا لحقيقة مخطط أصحاب الثورة المضادة ، والذين يمسكون بمقاليد الحكم ، المجلس العسكري وحكومة شفيق ، فماذا عن الكوادر والقيادات الحزبية ، والمثقفين الثوريين ، والكتاب ، وأساتذة العلوم السياسة ....الخ ؟ هل فات ذلك عليهم كلهم ، وبينهم المجربون المخضرمون ، أم ماذا ؟
4. وكان هناك شاهد شديد الوضوح ، شديد الإبهار في ذات الوقت . كان مبارك ، قبل تنحيه ، قد حدد بضع مواد من الدستور ، وعين لجنة ، لتعديلها . وكان كل ذلك في إطار خطة لإصلاح محدود في النظام ، لا لإسقاطه . غيَّر المجلس العسكري اللجنة ، مبقيا على مهمتها . وانشغل المثقفون والسياسيون بالتشكيل دون المهمة . قليلون صرخوا بأن الدستور ، كعامود من أعمدة النظام ، سقط مع سقوط مبارك . صرخوا بأن الترقيع يعني الإقرار ببقاء النظام ، والذي يحتاج فقط لبعض الإصلاح . قليلون قالوا أن المطلوب ، تأكيدا لنجاح الثورة ، وضع دستور جديد لا ترقيع القديم . لكن هذه الأصوات ضاعت كما لو أنها أطلقت في برية . انشغل الجميع ، وفي مقدمتهم سياسيو الثورة ، بمسألة تشكيل اللجنة ، قانونيته وأغراضه . طال الجدل ، ولكن لم يأخذ أي طرف موقفا حاسما برفض ترقيع دستور سقط . قد يقال بأن أكثر من جهة سياسية اعترضت على التعديل . وهذا صحيح . لكن أي سياسي ، خصوصا إذا كان حزبيا ، يعرف أن الاعتراض وحده لا يكفي . وأن الاعتراض يجب أن يتبعه رفض حاسم ، ودعوات للخروج إلى الشارع ، وذلك لم يحدث .
5. وقدم التصويت على التعديلات شاهدا آخر ، جاء كسابقه في درجات الوضوح والإبهار . قبل التصويت ، وفي برنامج فضائي مشهور ، سئل ممثل المجلس العسكري عن الخطوة التالية للتصويت على التعديلات ، وهي تسعة مواد فقط . قال بوضوح ، لا لبس فيه ، أن المجلس أعد إعلانا دستوريا في حال أن جاء التصويت بنعم ، وإعلانا آخر في حال أن جاء التصويت بلا . الطريف ، وليعذرني القارئ ، أن كل القوى تجاهلت هذا التصريح فيما بعد ، وركزت على أن الإعلان نسف ، في الواقع ، الشرعية التي أتى بها التصويت . لكن ليس ذلك هو المهم في رأيي . التصويت حدث في ظل حكومة شفيق . وعلى ذات المواد التي طلب مبارك تعديلها . وبأسلوب وآليات شبيهة بتلك التي اقترحها . هذا جانب . والأهم أن كثافة المشاركة ، وصورة إخراجها ، أو تصويرها كعرس للديموقراطية ...الخ ، فهمها المجلس العسكري ، وكثيرون من المشتغلين بالشأن السياسي ، على أنها تصويت على إصلاح النظام ، وليس على إسقاطه . وحين فطنت قوى الثورة السياسية ، لهذا المقلب الذي شربته ، كان السيف قد سبق العذل . وكل ما قيل من نقد للتعديلات ، وللإعلان الدستوري ، ولما ترتب عليهما من تعقيدات للوضع ، جاء متأخرا وبدون أية جدوى ، كما أكد سير الأحداث بعدها .
6. ناب القضاء عن المجلس العسكري وحكومة شفيق ، وحل كلا من البرلمان والحزب الحاكم ، مسقطا بذلك عمودين آخرين من أعمدة النظام . بدا لكثيرين أن هذا الفعل شكل خطوة جديدة على طريق إسقاط النظام ، إحقاقا لمطالب الثورة ، يحدوهم الأمل أن تتلوها خطوات أخرى . وبعد بعض الوقت جرى الانتباه إلى حقيقة تقول بأن حكم القضاء بحل الحزب الحاكم ، أصاب الشكل دون الأصل . فبعد الحل بقي أعضاؤه يمسكون بكل مواقع القرار والتنفيذ ، وبكل ما له علاقة بحياة المواطنين . بقي هؤلاء الأعضاء ممسكون بقيادات الإعلام ، بقيادات المال – البنك المركزي والبنوك الحكومية ، وبالبورصة – بمجالس المحليات ، بقيادات المحافظات ، بالجامعات ، بالنقابات والاتحادات ، وبكل الوزارات ...الخ . وبدا ما حصل وكأنه نوع من تبديل للقناع لا أكثر ولا أقل .
7. في وقت مبكر عمت مصر مظاهرات ، وقفات احتجاج ، وقفات مطالبة بتحسين الأحوال ....الخ . وصف الحكم ما يحدث بالمطالب الفئوية . ورغم ضخامة حملات تشويه ما يجري ، إلا أنها فشلت في التغطية على حقيقة أن حجم الظلم ، الذي كان النظام يمارسه ، كان هائلا ، وأنه اتسع ليطول كل فئات الشعب تقريبا . كما كشفت أن الفساد بدوره كان هائلا ، وأنه تجاوز التغلغل في كافة مفاصل الدولة ومؤسساتها ، ليصيب الأفراد أنفسهم . وعكس التساوق مع وَصْف ما يحدث بالمطالبات الفئوية ، وأنها تحدث في غير وقتها ، تجاوبا مع منهج الإصلاح ، لا مع مطلب إسقاط النظام . فلقد كان هناك إقرار كامل بعدالة المطالب ، وأن مكيال الصبر على كل من الظلم والفساد قد طفح ، وأن الثورة منحت المظلومين فرصة التنفيس عما لحق بهم وطال . هكذا كان واضحا أن المعالجة تتطلب وضع خطة شاملة ، تضع أفقا للحلول ، وتتطلب جهدا كبيرا في إقناع أصحاب المطالب ، بحتمية تلبيتها بعد بعض الوقت . وكان ذلك يحتاج إلى حكومة وبرنامج ثورة ، وحركة نشطة من الثوار ، شرحا وإقناعا وتعبئة . أما ما حدث فلم يخرج عن منهج إصلاح النظام . بطء شديد في التحرك ، وتسويف لا ينتهي تجاه المطالب . وإرباك متكرر بافتعال أزمات جديدة . وتحذيرات من تحميل الاقتصاد بأحمال لا تتفق مع طاقاته .
8. أخيرا ظل بارزا إصرار الحكومة ، والمجلس العسكري قبلها ، على عدم الاستجابة لمطلب القصاص من قتلة الثوار . صاحبه ، رغم غزل المجلس العسكري بالثورة والثوار ، بطء في الاستجابة لعلاج الضحايا وتسوية أحوال عائلاتهم .
صحوة أولى :
دفعت جملة الارتدادات التي أحدثتها حكومة شفيق ، والتعديلات على الدستور ، بشباب الثورة إلى الصحوة من حسن نواياهم ، ومما اعتبر رضا منهم بمنهج الممسكين بدفة الحكم . عادوا إلى الميادين ، وبمطلب محدد : إسقاط الحكومة التي كان مبارك قد عينها . وافترض الجميع أن هذا المطلب شمل إسقاط النهج ، الذي سارت عليه هذه الحكومة ، وتصحيح الارتدادات التي كانت قد أحدثتها ، عن مسار الثورة . وافترضوا أنها – المطالب - تشمل أيضا سلسلة إجراءات تحصين مجموعة مبارك من مساءلة متوقعة ، بما فيها قضايا الأموال المنهوبة ، والتي كان تطور الأحداث قد كشفها . وأيضا معالجة الفساد الذي فاق كل التوقعات .
نجح الثوار في الإطاحة بالحكومة التي نصبها مبارك قبل رحيله ، حكومة شفيق . وقدموا مرشحا من ميدان الثورة ، قبله المجلس العسكري ، وهو الدكتور عصام شرف ، أحد رموز النظام السابق ، والمفارق له بملابسات لم تتضح طبيعتها بصورة كافية . انتشى الثوار مرة أخرى بهذا النصر ، ومكررين ذات الخطأ السابق . انسحبوا عائدين إلى بيوتهم قبل أن يفرضوا تشكيلا ثوريا للحومة ، وقبل أن يقيدوا حكومتهم الجديدة ، بمنهج وبرنامج عمل ، يكفل تحقيق أهداف ثورتهم خطوة بعد أخرى . وفيما بدا ، لم ينتبه أحد إلى أن رئاسة الوزارة ، والوزارة ذاتها ، لا تملك من الصلاحيات ، حسب الإعلان الدستوري ، ما يجعلها صاحبة إرادة مستقلة ، وقرار مستقل بالتالي . فرئيس الوزراء والوزارة ، هي حسب الدستور وصلاحيات الرئيس – الذي ناب عنه المجلس العسكري – أشبه بسكرتاريا للرئيس ، لا تملك من أمرها شيئا . زد على ذلك أن الوزارة الجديدة احتفظت بعدد كبير من وزراء شفيق . والآخرون ، أكثرهم ، جاءوا من رحم النظام القديم . وهكذا ، ورغم أن رئيس الوزارة جاء من الميدان ، إلا أن الحكومة كانت حكومة إصلاح ، وليس حكومة ثورة . وتعددت الشواهد على ذلك ومنها :
1. لم تضم الحكومة الجديدة ، رغم وصفها بحكومة الثورة ، ولو وزيرا واحدا من شباب الثورة . ولم يكن ذلك بسبب افتقاد للكفاءة بين هؤلاء الشباب ، أو بسبب ما وصف بتعفف قادة الشباب ، وزهدهم في المناصب الرسمية . كان ضم أي منهم يعني دفعا لمطالب الثورة وبرنامجها ، على حساب منهج وبرنامج الإصلاح ، الذي تعهد به المجلس العسكري ، والتزم بتنفيذه . وكان هناك خوف من أن يقدم اندفاع الشباب وحماسهم ، وصدق التزامهم بقضايا ومطالب الشعب ، نموذجا يروق للجماهير ، ويدفعها للضغط على المجلس العسكري والحكومة ، لتبني هذا المنهج ، ومن ثم استبدال ضعيفي الأداء من الوزراء بشباب من الثورة .
2. أجبر أداء الحكومة الشباب على الصحوة من حسن نواياهم مرة بعد أخرى . لم تنفذ الحكومة مطلبا واحدا من مطالب الثورة بدون مليونية . لكن المدهش تمثل في تكرار انتشاء الثوار بكل نصر صغير يتحقق ، فتركهم الميادين ، أملا بأن تتابع الحكومة تحقيق ما تبقى من مطالب الثورة . وظل يبرز سؤال : أين كوادر القوى السياسية ؟ ولماذا تقاعست عن تبصير شباب الثورة بنتائج خطأ انسحابها من الميادين ، وهو الخطأ الذي تحول ، بتكراره ، إلى خطيئة ؟ وإذا كان شباب الثورة ، كما جرى الترويج له على نطاق واسع ، قد أصيب بفيروس الزهد والتعفف ، عن شغل مواقع الحكم ، فلماذا لم تتقدم الكوادر السياسية المجربة لشغل تلك المناصب ؟ ولماذا غابت خططها لاقتلاع الفساد ، وإحداث التغيير المنشود ؟ ولماذا اكتفت بالظهور في البرامج الفضائية ، بديلا للنزول للشارع ، وتعبئته بمطالب التغيير ، وتبصيره بأخطار ما تكدسه الحكومة من معوقات ، وما تفتعله أذرعها المختلفة من أزمات ؟
3. نجح الثوار ، من خلال مليونياتهم ، في إجبار المجلس العسكري على اعتقال عدد من رموز النظام ، وتقديمهم للمحاكمة . وكذلك على إنهاء دور مبارك ، الذي واصل توجيه الحكم من مقره في شرم الشيخ ، وتقديمه هو وأبناؤه إلى المحاكمة . انتقلت عدوى النشوة ، بهذا النصر ، من الثوار إلى مجموع الناس ، ومثقفيهم على وجه الخصوص . ولأن النشوة غالبا ما تطيح بالحكمة ، رأينا تلك المباهاة ، والتي تجاوزت كل الحدود ، بمحاكمة الرئيس المخلوع ، وأركان حكمه ، وحتى المتهمين منهم بقتل الثوار ، أمام المحاكم المدنية ، وليس أمام محاكم استثنائية ، وبالقانون الطبيعي . وبعد تعبئة مستديمة للجمهور ، في الداخل والخارج ، وبعد إهدار الكثير من الوقت ، صحا المفكرون والمثقفون ، وساسة ، يفترض المرء أنهم مخضرمون ، على قصور القانون القائم عن محاكمة هؤلاء على جرائمهم الكبيرة مثل : إفساد الحياة السياسية ، وما واكبها من جرائم سياسية ، وجرائم التعذيب ، وتخريب الاقتصاد ...الخ ، باقصار التهم على تلك التي يستطيع القانون والمحاكم المدنية التعامل معها ، مثل الرشوة ، والتربح ، والكسب غير المشروع ...الخ . وأيضا انعقدت المحاكمات في ظل إخفاق النيابة العامة عن تقديم الأدلة الثبوتية ، التي كانت حكومة شفيق قد نجحت في تدميرها أو إخفائها . وبديلا للتهليل والمباهاة ، توجهت التعبئة إلى تشكيك الجمهور في نزاهة النيابة العامة من جهة ، وفي عدالة القضاء من جهة أخرى . ومرة أخرى صب كل ذلك في صالح برنامج إصلاح النظام ، بديلا لمطلب الثورة بالتغيير العميق والشامل .
4. كان القضاء ، قبل أن تنقل له ملفات المحاكمات ، بقانون قاصر عن التعامل مع الجرائم الكبرى ، وفي ظل اختفاء الأدلة الثبوتية ، كان قد بادر إلى حل البرلمان المزور ، بغرفتيه الشعب والشورى ، وألحقهما بحل وحظر الحزب الحاكم ، ومصادرة مقراته وأمواله ، وإعادتها للشعب ، مالكها الأصلي . وكان من البديهي أن تضيف خطوات القضاء هذه مزيدا من الهيبة والاحترام ، إلى هذا الصرح الكبير ، الحافل سجله بمواقف ، عززت ثقة الجمهور باستقلاليته ونزاهته من جهة ، وأرست بناء هيبته واحترامه من جهة أخرى .
قبل ذلك ، وفي أيام الثورة الأولى ، عندما نزل الجيش إلى ميادين الثورة ، توجه له الثوار ، كما يحدث في أية ثورة ، مطالبينه بالوقوف إلى جانب الثورة . وبدا أن الجيش استجاب لنداءات الثوار ، ليرتفع شعار " الشعب والجيش إيد وحدة " . وتحول هذا الشعار إلى مبدأ ومن ثم إلى قانون ، ومن جانب واحد ، كما بين سير الأحداث فيما بعد ، وليحكم هذا القانون ، ليس فقط العلاقة بين الثوار والجيش ، وإنما الحياة العامة أيضا .
5- ولأن ما سمي بالوقفات والمظاهرات الفئوية ، كشفت كل ذلك الحجم المذهل من الفساد ، ومن انتشار وعمق الإجحاف والظلم ، كان بديهيا أن يحاول الناس البحث عن جوانب مشرقة ، أو على الأقل غير ملوثة ، وأن يتعلقوا بها . ووجد الناس ضالتهم في القضاء والجيش ، استنادا لمواقفهما السابقة . وكان أن تحول الثناء الذي أغدق عليهما ، إلى نوع من إسباغ القداسة عليهما . ولأن الشعب بطبيعته يغلب عليه التدين ، ومن ثم تتكاثف لديه مشاعر التقديس والقداسة ، فقد ترسخت لديه بسرعة مشاعر تقديس الجيش والقضاء . ولأن المجلس العسكري هو قيادة الجيش ، كان بديهيا أن تنتقل إليه صفات القداسة ، ولتشمل دوره السياسي الجديد . وذات القداسة أسبغت على هيئات القضاء العليا . وكم كان مرا ومعذبا ، فيما بعد ، كشف أن كلتي المؤسستين ، ليستا تماما على الصورة التي قدمتا بها . وكان مرا ومعذبا ، ومحبطا في نهاية الأمر ، اكتشاف أن المجلس العسكري ، بدوره السياسي ، غير منزه عن الهوى . وأن أجندته لا تتفق ، بل وتتعارض مع أجندة الثورة . والأمر ذاته مع النيابة العامة ، وبعض فروع وأفراد القضاء . لقد غاب ، فيما يبدو عن ذهن الثوار ، وسياسيين ومفكرين مخضرمين ، أن نظاما يمارس كل هذا القدر الهائل من الفساد ، لا يسمح بأن تكون مؤسسة من مؤسساته ، بمنجى من هذا الفساد . فهو لو فعل يكون كمن يغرس شوكة في جنبه ، لا تقض مضجعه فقط ، ولكنها تحرمه من مجرد الشعور بالراحة ، ولو لدقيقة واحدة من الوقت . ولكل ذلك فهو لا يدخر جهدا في إدخال ونشر الفساد في هذه المؤسسة . ورغم أن مؤسسات كالجيش والقضاء ، توفر لها أجهزة مناعتها نوعا من الحصانة ، إلا أن اختراقها بأفراد هنا وهناك ، يبقى أمرا محتملا ، بل وممكنا . وهذا الاختراق كان ظاهرا في جهاز القضاء ، الذي تم تحت إشرافه تزوير الانتخابات مرات عدة . وفي مؤسسة الجيش فإن انحياز ضباط كبار ، في جيوش دول الدكتاتوريات ، للنظام يشكل عام ، وللرئيس بشكل خاص ، أمر معروف في دول العالم الثالث ، ومن غير الممكن أن تشكل مصر استثناء عن القاعدة . هكذا صب التقديس ، ثم الخروج عليه ، بالتشكيك في عمل القضاء ، والنظر للمحاكمات كنوع من المسرحيات الهزلية ، والانقلاب من الثقة المطلقة في المجلس العسكري ، إلى شعار يسقط يسقط حكم العسكر ، صب في النهاية في صالح برنامج إصلاح النظام بدل تغييره . فقد بدا الشعار في نظر الجماهير غير منطقي ، ومن ثم غير مقبول . وبدا أن المجلس العسكري رأى في ذلك بداية انكشاف لظهر الثورة ، ومن ثم بداية ظهور لفرص ضربها ، فمتابعة برنامج الإصلاح ، دون منغصات أو مزعجات .
6- فلم يفت أي متابع ملاحظة سير عملية التحول ، في مواقف المجلس العسكري تجاه الثورة والإلحاح على مطالبها . انتقلت هذه المواقف من البطء في الاستجابة لمطالب المليونيات ، إلى إبداء الضيق والتبرم ، ثم إلى التحضيرات فالهجوم لتصفيتها . والمتابع لاحظ كيف انتقل المجلس العسكري من الخروج والمخاطبة المباشرة للجماهير ، إلى الانزواء ، وندرة الاتصال ، ببيانات متباعدة ، من خلال موقعه الرسمي على الفيسبوك . فالاتصال المباشر يعني حتمية الاستجابة للطلبات الملحة والمتكررة ، ويعني الميل عن برنامج الإصلاح لصالح برنامج الثورة .
تقدير المجلس لانكشاف ظهر الثورة ، دفعه بداية لاستخدام خبرة وأسلحة النظام السابق في تخوين قطاعات منها . ويبدو أنه ظن أن اتهام حركة 6 ابريل بالتدرب في صربيا ، وشباب آخرين ، بالعمل لحساب أجندات أجنبية ، سيلقي بالرعب في قلوب قادة الثورة . وجاءت المفاجأة بالرد على التحدي بتحدي أشد منه عزيمة . ورغم اللجوء إلى الاعتقالات والمحاكمات العسكرية ، فقد منيت خطة المجلس هذه بفشل ذريع ، مما اضطره إلى الانتقال لما بعدها . فرغم ترفقه بالاحتجاجات ذات الطابع الطائفي ، وقطع المحتجين الذي تقودهم تيارات إسلامية ، لخطوط السكك الحديد ، والطرق السريعة ، ضرب مظاهرات الثورة بعنف غير مسبوق . سحق الجنود أجساد متظاهرين بعجلات ناقلاتهم . قذفوا أجساد شهداء إلى أكوام الزبالة . سحلوا وعروا وداسوا أجساد فتيات . انتهكوا أعراض أخريات بإخضاعهن لكشف العذرية ....وباختصار أعادوا فعل ما فعله نظام مبارك وأكثر . وظلت المفاجأة أن حاجز الخوف الذي انكسر ، لم يرتفع من جديد ، كما اشتهى المشتهون . وظل الرد على التحدي بتحد أشد منه عزيمة ، وأقوى فعلا – حملة كاذبون مثلا - هو سيد الموقف . وجاء دور السلاح الأمضى . جرى افتعال سلسلة من الأزمات التموينية . أزمات لأنبوبة البوتاغاز . أزمات للسولار والبنزين . أزمات لرغيف العيش ، وارتفاع أسعار دون محاولات لأي ضبط . عودة لانفلات أمني متصاعد ، وصل حد حرق المجمع العلمي . ونتج عن كل ذلك أمران : 1) سقطت القداسة عن سياسة العسكر ، 2 ) وانتقل الموقف إلى نوع من تعادل أو توازن القوى بين الطرفين ، أي تجميد للحال على ما هو عليه .
ترحيل أهداف الثورة :
لكن الانشغال بالشواهد السابقة ، لم ينجح في طمس دلالة شاهد آخر ، ربما هو الأهم منها جميعا . شاهد يقول بأن المجلس ، متضامنا مع حكومة شفيق ، كان قد نجح في مهمة ترحيل تطبيق مطالب الثورة ، إلى بعد ما عرف بالمرحلة الانتقالية . نجح لأنه ، في واقع الحال ، حصل على موافقة ضمنية ، بدت شاملة ، من قوى الثورة ، ومن الأحزاب والحركات والسياسيين والمثقفين .... الخ بذلك . كيف ؟
استقر توصيف ما عرف بحكومة الثورة – عصام شرف الأولى والثانية - على أنها انتقالية أحيانا ، وتسيير أعمال أكثر الأحيان . والتوصيف ذاته التصق بحكومة الجنزوري ، التي شكلت على أساس أنها حكومة إنقاذ وطني . معنى ذلك أن أيا من هذه الحكومات ، غير مطالبة ، لأنها لا تملك لا الإرادة ولا الصلاحية ولا المنهاج ، بتنفيذ أي من مطالب الثورة . وموقفها جميعا من مسألة إعادة بناء الداخلية – وهو يحتاج إلى تفصيل كبير ، سيكون موضوع الحلقة القادمة – أوضح الأدلة والبراهين على ذلك .
في ذات الوقت كان الإعلان الدستوري ، قد رسم ما عرف بخارطة طريق لنقل الحكم – من يد المجلس العسكري - إلى حكومة مدنية . وحسب هذه الخارطة تجري انتخابات للبرلمان بغرفتيه ، تنتقل له صلاحية التشريع والرقابة على أداء الحكومة ، ثم انتخابات لرئاسة الجمهورية ، تصاحبها صياغة وإقرار الدستور الجديد . لم أنتبه في البداية ، كمراقب للشأن المصري ، أن ما يجري هو عملية ترحيل لتحقيق مطالب الثورة ، إلى حكومة منتخبة . ولتذكير القارئ بأحداث تلك الفترة ، أشير إلى تلك النصائح ، التي انهالت على شباب الثورة ، تدعوهم لترتيب أوضاعهم ومحاولة جني شيء من ثمار الانتخابات . واستجاب الثوار للنصائح . حاولوا أن ينظموا صفوفهم ، فتبعثروا في قرابة مائة وخمسين حركة وتنظيما . وبدل تفهم ما جرى ، انهال عليهم الجميع باللوم والتقريع ، لأنه ما كان من المحتمل أن يحصلوا على شيء من غنيمة الانتخابات . ومن ثم لن يكون لهم دور في الحكومة ، وفي تطبيق مبادئ وأهداف الثورة . وكانت عودتهم ، قبل الانتخابات للميادين ، وضغطهم لتطبيق بعض أهدافهم ، محاولة لتصحيح شيء من نواتج هذه الورطة .
وكان أن جماعة الإخوان ، وحزبها – الحرية والعدالة – ، هي أول ، وربما آخر ، من أدرك ووعى مقاصد خارطة الطريق التي رسمها الإعلان الدستوري . أول وآخر من أدرك من أين تهب الرياح ، وإلى أين تتجه . فكرت وخططت لكيفية استغلال هذه الرياح في دفع أشرعة سفينتها ، نحو الغاية التي كانت قد حددتها منذ عشرات السنين .اقتنصت الجماعة اللحظة . وضعت خططها استنادا إليها . خرجت مبكرا من ميادين مواجهات الثورة . وقفت ضدها كثيرا . ركزت كل جهدها على كسب الانتخابات . انقلبت على مواقفها المعلنة ، بخصوص الترشح على نسب محددة من المقاعد . عملت كل ما يتفق أو يتنافي مع الأخلاق التي تدعو إليها . لأنها أدركت أن الحصول على الأغلبية البرلمانية ، يعني الحصول على شرعية تمثيل الثورة . ويعني أن تطبيق برنامجها هي ، هو التحقيق لأهداف الثورة . ويعني أن الدستور كما تراه هي هو دستور الثورة . ورأى المجلس العسكري أن برنامج الجماعة يتفق مع برنامج إصلاح النظام ، ويتعارض مع برنامج الثورة للتغيير الشامل . ومن هنا كان الاتفاق وكان الاختلاف . كان اتفاق ما صار يعرف بقطبي المعادلة السياسية ، واختلافهما هماالاثنان ، مع قطبها الثالث ، قطب الثورة . وفي ضوء كل ذلك يمكن فهم ، فالحديث عن ، ما نصفه بإعادة البناء . وإذن ، إلى الحلقة التالية .







#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 15 المثقفون وأدوارهم 4 سو ...
- آفاق المرأة والحركة النسوية بعد ثورات الربيع العربي
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 14 المثقفون وادوارهم 3 مخ ...
- قرراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 13المثقفون وأدوارهم 2
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 12
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 11مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 10 مخاطر على الديموقراطية ...
- عن دور اليسار في ثورات الربيع العربي
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 9 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 8 مخاطر على الديموقراطية ...
- الربيع العربي وقضايا الأقليات القومية
- قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6 ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 6 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 4 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
- عبود الزمر و العيش خارج حدود الزمان والمكان
- دخول الى حقل المحرمات - 1 -


المزيد.....




- إماراتي يرصد أحد أشهر المعالم السياحية بدبي من زاوية ساحرة
- قيمتها 95 مليار دولار.. كم بلغت حزمة المساعدات لإسرائيل وأوك ...
- سريلانكا تخطط للانضمام إلى مجموعة -بريكس+-
- الولايات المتحدة توقف الهجوم الإسرائيلي على إيران لتبدأ تصعي ...
- الاتحاد الأوروبي يقرر منح مواطني دول الخليج تأشيرة شينغن متع ...
- شاهد: كاميرات المراقبة ترصد لحظة إنهيار المباني جراء زلازل ه ...
- بعد تأخير لشهور -الشيوخ الأمريكي- يقر المساعدة العسكرية لإسر ...
- -حريت-: أنقرة لم تتلق معلومات حول إلغاء محادثات أردوغان مع ب ...
- زاخاروفا تتهم اليونسكو بالتقاعس المتعمد بعد مقتل المراسل الع ...
- مجلس الاتحاد الروسي يتوجه للجنة التحقيق بشأن الأطفال الأوكرا ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 16 تغيير ام إصلاح