أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6 تيارات الإسلام السياسي والعلمانية 2















المزيد.....



قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6 تيارات الإسلام السياسي والعلمانية 2


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3497 - 2011 / 9 / 25 - 22:52
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
7
مخاطر على الديموقراطية 6 تيارات الإسلام السياسي والعلمانية (2)
قرب نهاية الحلقة السابقة نفحني الصديق معاوية بملاحظة ، قال فيها أننا ، حتى اللحظة ، قدمنا تعريف تيارات الإسلام السياسي للعلمانية ، وعلى أنها الكفر والإلحاد ومعاداة الدين ، ولم نتطرق لتعريف أصحابها بها . قلت لصديقي : في واقع الحال ، وكما ترى، حاولت ، حتى الآن ، إيصال مفهوم العلمانية ، إلى القارئ ، عبر التدرج في تقديم المعلومات . ولقد اخترت تجنيب القارئ الدخول في متاهة التعريفات . وأضفت : أنت تعرف ، كما يعرف القارئ ،أن مجمع اللغة العربية أخذ على عاتقه ، وفي النصف الأول من القرن الماضي ، مهمة تعريب مصطلحات ، كما الاختراعات والاكتشافات الجديدة في العلوم ، وكذلك نواتج تطبيقات التكنولوجيا الحديثة ، التي ظلت تصلنا بلغات مكتشفيها ومخترعيها . يجتمع الأعضاء ، يبحثون ، يقترحون ، ثم يقررون الكلمة ، أو التعبير ، المقابل ، أو المقارب ، للكلمة الأجنبية . ويأتي بعدهم من لا يتذكر هذه العملية ، ويبدأ في البحث عن أصل ، أو جذر ، أو تصريف هذه الكلمة ، أو التعبير ، ومن ثم يدخلنا في المتاهة التي أشرت إليها .
ظل الغرض ، وما زال ، من هذه العملية ، الحفاظ على نقاء اللغة العربية ، وحمايتها من سيل التعابير الأجنبية ، نتيجة التطور السريع ، الهائل والمتنوع ، للمكتشفات والمخترعات ، ومنتجات العلم وتدفقها على أمتنا ولغتها ، غير القادرة على التجدد وملاحقة هذا الفيض المتدفق . ولعلك ما زلت تذكر أن الكثير من عمليات التعريب هذه كانت مضحكة . وكمثال عربنا السندوتش بالشاطر والمشطور والكامن بينهما . ولأن اللغة ومفرداتها عجزت عن مجاراة تطور العلوم الصاعق ، استسلم مجمع اللغة ، أو أن الناس استخدموا التعابير ، أو المصطلحات ، الأجنبية كما هي ، وصارت جزءا من اللغة ، وحتى أن العامة أبدعوا لها تصريفاتها أيضا .
ما يهمنا هنا أن من أتوا فيما بعد ، نسوا ، أو تناسوا ربما ، الكيفية التي تم بها هذا التعريب . أخذوا المصطلح الجديد ، وتعاملوا معه وكأنه الأصل ، وأننا نحن أصحاب الاكتشاف أو الاختراع ، وليدخلونا في المتاهة التي أشرت إليها . كمثال ، قلت للصديق معاوية : لعلك ما زلت تذكر كيف تعامل بعض المتربحين بالدين مع اكتشاف الذرة . اكتشف علماء الفيزياء الذرة ومكوناتها ، فإمكانية ، وعملية انشطارها ، أو انقسامها ، في مطلع القرن الماضي . مجمع اللغة اجتمع ، بحث وقرر أن الكلمة الأقرب ، المقابلة ، لكلمة Atom هي كلمة أو مصطلح ذرة . ولأن هذه الكلمة وردت في القرآن { ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره .....} الآية ، وجد المتربحون بالدين ، والذين فشلوا ، فيما يبدو ، من التربح بعلمهم ، في هذا التعبير ضالتهم . قالوا فيما وصفوه بالإعجاز العلمي للقرآن ، أن القرآن ، بالحديث عن الذرة ، سبق العلم الحديث بأكثر من ثلاثة عشر قرنا . وأذكر وقتها أننا ، معلمي الفيزياء آنذاك ، اعتبرنا هذا القول نكتة ، وتداولناه كفكاهة . وأذكر أن أحد الظرفاء آنذاك ، اقترح ترشيح أجدادنا ، رعاة الإبل في صحارينا الجميلة ، لجائزة نوبل ، لأنهم عرفوا الذرة ، وتداولوا هذا التعبير ، قبل اكتشاف الذرة ، وقبل القرآن بقرون عديدة ومديدة . وأنا بدوري رشحت جدتي ، وأمي ، وعماتي وخالاتي ، وكلهن أميات ، لهذه الجائزة ، التي افترى الغرب على حقنا فيها ، ومنحها لعالم فيزياء من علمائه . أمي حين كانت تتذوق الطبخة ، وتجدها ناقصة الملوحة ، كانت تطلب مني أن آتيها بذرة ملح ، حتى تذهب بدلوعة الطبخة ، وتعيد لها توازنها . وجدتي كانت تسمي نوعا من النمل ، صغير الحجم جدا ، بالذر . وعلق صديقي صائحا بضحكة صاخبة ، وربما من إحدى هذه جاء اسم الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري .
قلت لصديقي ولمثل هذا – ما تعرض له مصطلح الذرة - تعرض مصطلح العلمانية ، وكانت متاهة التعريفات له . قال : وكيف كان ذلك ؟
عبور آمن :
تقول الموسوعة الحرة – ويكيبيديا – أن مصطلح العلمانية هو المصطلح المقابل لمصطلح secularism بالإنجليزية . وتقفز بعدها رأسا وللقول : وتعني اصطلاحا فصل الدين والمعتقدات الدينية عن السياسة . ثم تقدم تعريفين آخرين . يقول الأول أن العلمانية قد تعني عدم قيام الحكومة أو الدولة على إجبار أي أحد على اعتناق أو تبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب ذاتية أو موضوعية . أما التعريف الثاني فيقول : وقد ينطبق نفس المفهوم ، أي مفهوم العلمانية ، على الكون والأجرام السماوية ، عندما يفسر بصورة دنيوية بحتة ، بعيدا عن الدين ، في محاولة لإيجاد تفسير للكون ومكوناته .
ومع أن التفسير ، أو التعريف الأخير ، هو التعريف الملائم ، إلا أن الموسوعة تقفز عنه سريعا ، ولتركز على مسألة فصل الدين عن السياسة ، وأيضا لتجاري العديد من الباحثين ، الذين يأخذونك في مشوار البحث عن الأصل ، والتصريف اللغوي لمصطلح العلمانية . لشرح هذا المصطلح – العلمانية – ، وهل هو مشتق من العلم ليكون عِلمانية بكسر العين ، أو من العالم ليكون عَلَمانية بفتح العين ، وربما بفتح اللام بعدها . وكل ذلك دون محاولة للبحث عن معنى secularism في قواميس اللغة . ومن يفعل ذلك ، يفاجأ بابتعاد معنى العلمانية ، عن تلك المعاني التي قدمتها لنا الموسوعة الحرة .
في المورد وهو القاموس الأكثر استخداما عندنا ، انجليزي عربي ، يأخذ المصطلح معاني عدة ، حسب موقعه من الكلام . ف secular قد تعني دنيوي ، إذا كان الكلام عن المصالح والاهتمامات ، وقد تعني غير ديني ، إذا كان الكلام عن عمل درامي ، وتعني مدني غير إكليركي ‘ إذا كان الكلام عن القضاء ، وتعني عالمي ، غير قانوني ، غير منتسب إلى رهبانية ، إذا كان الكلام عن الوعظ ، وقرني ، حادث مرة كل قرن ، منتقل من جيل إلى جيل ، إذا كان الحديث عن ظاهرة أو تقليد ، وأخير عامي ، أي واحد من العامة ، إذا رجعنا لأصل الكلمة في اللغتين الفرنسية والإغريقية – اليونانية - . وعليه يكون معنى مصطلح secularism ، هو الدنيوية التي تعني عدم المبالاة بالدين أو بالاعتبارات الدينية ، وsecularist , secularity ، هو الملتزم بالدنيوية ، والشيء الدنيوي ، أو الصفة الدنيوية ، أو المدنية . وفي قاموس أوكسفورد فإن secular لفظيا أو ماديا تعني غير متدين غير روحاني ، و secular power تعني أن الدولة هي في تعارض مع الكنيسة ، كما تعني العيش خارج الرهبنة . وعليه فإن secularism تعني الرأي القائل بأن الأخلاق والتعليم لا يجب أن تقوم على قاعدة الدين . أما secularist فهو الشخص المعتقد بِ ، المؤمن بِ، أو الداعم لِ أل secularism .
ولقد سبق وأشرنا أن التعريف الثاني للعلمانية ، في الموسوعة الحرة ، وفي الحقيقة هو الثالث ، والذي يعني أنه محاولة تفسير الكون ومكوناته ، هو الأقرب للصحة أو للدقة . لماذا ؟ قلت لصديقي : أنت تعرف ، ولا شك ، كما يعرف القارئ ، تعبيري فيزيقا وميتا فيزيقا . أو القوانين الخاصة بالطبيعة ، وتلك الخاصة بما وراء الطبيعة ، حيث فيهما يكمن السر كله . لكننا هنا محتاجون مرة أخرى إلى وقفة ، نرجو أن تساعدنا في محاولة استجلاء هذا السر .
نور الشرق وظلام أوروبا :


قلت لمعاوية ، كثيرا ما نسمع من رموز تيارات الإسلام السياسي ، وحتى من مفكرين متنورين ، ذلك الحديث عن عصور الظلام التي لفت أوروبا ، وعن النور ، مجال تباهينا وفخرنا ، الذي سطع على شرقنا ، في نفس الفترة . وكيف أن هذا النور تحديدا هو الذي أخرج أوروبا من ظلماتها ، لتتقدم علينا به . وبدل أن تحفظ الجميل عملت على نهب خيراتنا ، واستعبادنا ، وتكريس تخلفنا . فهل لديك فكرة عن ماهية ، أو مضمون ، أو طبيعة ، كل من النور والظلام الذي يجري الحديث عنه ؟ قال صديقي : الأمر بسيط ، فالنور هنا هو نور العقل ، متمثلا في إغناء الحضارة بمنجزات العلوم المختلفة ، التي أبدعها علماء المسلمين ، مثل الرازي وابن سينا والفارابي وابن الهيثم وجابر بن حيان وعمر الخيام .... وغيرهم كثير . والظلام هو تقييد العقل وتحييده ، وحلول الخرافات والغيبيات مكانه ، وسيطرتها ، بل قيادتها للشعوب الأوروبية في تلك العصور البائسة . قلت : ذلك صحيح ، وعليه لنتوقف هنا قليلا .
ولنبدأ بسؤال كيف حدث أن سطع نور العقل ، ليتلوه نور العلم في شرقنا ، وغاب أو احتجب عن أوروبا ؟ ثم لماذا تبدل الحال بعد بضعة قرون ، وكيف وبأية أيدي حدث ذلك ؟ ولأنه جرت عادة بعض كتابنا وباحثينا ، على التركيز على جزء من كأس الموضوع ، المليان أو الفارغ ، توجب علينا ، وفي عرض الموضوعين ، الانتباه للكأس كله ، ما هو مليان وما هو فارغ فيهما . ولنبدأ مع نور الشرق .
لقد حدث أن حمل لنا عهد عمر بن الخطاب ، بشرى باحتمالية الانفتاح على العالم المحيط ، والأخذ ممن سبقونا فيه . بدأ عمر ، كما هو معروف تثبيت وبناء صرح دولة ، في منطقة – الحجاز – لم تعرف تجربة الدولة . ولما جاءت الفتوحات ، واتسعت رقعة الدولة ، وتشابكت وتعقدت مهماتها ، وجد عمر لزاما عليه استعارة نظم إدارة ، تحتاجها الدولة ، وسبقته إليها دولتا الفرس والروم . وبالفعل كان عمر منفتحا واستعار منهما نظم الدواوين ، ومنها نظام العطاءات ، والتأريخ ، وحتى إنارة المسجد ليلا ، لتعقبه إنارة بعض طرقات المدينة . وأيضا ترك عمر للبلدان المفتوحة ، صلاحية سريان نظم إدارتها السابقة ، وحتى قيام موظفين سابقين عليها . لكن هذا الانفتاح الذي بشر بإمكانية تحديث دولة ، لم تخرج من رحم البداوة بعد ، لم يتواصل إلا ببطء شديد . وعلى عكس المتوقع أحدث عمر انتكاسة مدوية ، اعتاد مفكرونا ومؤرخونا ، إما الصمت عنها ، تجاهلها ، والأغلب إنكارها.
لقد حدث أن فوجئ فاتحو بلاد فارس ، بمكتبات ضخمة في مدنها المختلفة . ولأن الكتب ليست من الغنائم ممكنة التوزيع ، حسب النظام المعروف ، بعثوا لعمر يسألونه عن كيفية التصرف بها . جاء جواب عمر بالأمر بإغراقها ، لأنه إن كان بها خير ففي القرآن ما هو خير منها ، وإن كان بها شر يكون الله ، بإغراقها ، قد كفى المسلمين شرها ، حسب ما جاء في توجيهاته لهؤلاء القادة . ونفذ القادة الأمر ، فأغرقوا وأحرقوا كل انجازات العلم والثقافة الفارسية . وإلى هذه الواقعة استند آخرون ، من المؤرخين ، في اتهام عمر بحرق مكتبة الإسكندرية ، في حادثة وقعت قبله بمئات السنين .
ويبدو أن عمر استند ، في قراره هذا ، إلى واقعة حدثت له مع النبي قبل ذلك . كان عمر قد قرأ ، عند بعض أصحابه ، شيئا أعجبه من التوراة . ولما نقل ذلك للنبي ، قابله النبي بسورة غضب ، ومنبها إياه ، وسائر المسلمين ، أن القرآن جاء أكمل من التوراة ، وبالتالي فهو يفضلها . وتلا ذلك ، وغضبه لم يفارقه ، أن نهاه ، والمسلمين ، عن قراءة الأقل كمالا ، والاقتصار على قراءة القرآن الأفضل والأكثر كمالا . وأضاف ما معناه ، أن موسى لو كان حاضرا ما كان بإمكانه إلا " أن يتبعني ".
تحولت هذه الحادثة عند الفقهاء إلى تنظير بعدم جواز اطلاع المسلمين على التوراة ، بدعوى أنها محرفة ، رغم أن النبي لم يقل بذلك ، وكانت الضرورة تقضي به لو كانت كذلك . والأهم أن انفتاح عمر على استعارة نظم لإدارة الدولة ، رافقه ، بأمر إغراق المكتبات ، ما اعتبره علماء الأمة ، قانونا بتحريم الاطلاع على فكر الآخرين .
هكذا مضى العهد الراشدي ، ثم الأموي – قرابة قرن وربع القرن – دون أن يقدم هذان العهدان الجديدان ، والفكر الجديد ، شيئا للبشرية ، غير ما يحويه القرآن ، وما يمكن أن يوصف بعلومه . ولعل القارئ يتذكر أن عهد النبي ، ثم صدر العهد الراشدي ، شهدا نأيا عن الشعر ، الذي عرف بالجاهلي ، حفظه وإلقائه ، حتى ضاع أكثره . وبعد أن تغير الموقف منه ، نجا أقله .
تنبه الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ، إلى خطر ضياع السنة ، بسبب تعاقب الأجيال ، وابتعاد الزمن ، كما ضاعت أكثرية الشعر الجاهلي . فكان من فضائله أن أمر بتدوين السنة ، التي كان جده عمر بن الخطاب قد أوقفها ، ومنعها ، بدعوى منع مضاهاة القرآن بكتاب آخر ، كما حدث في المسيحية واليهودية ، يمكن المسلمين من المداورة على بعض أحكامه . لكن أهمية توجيه الخليفة الأموي سطعت في بدء عصر التدوين ، الذي ظل تداول التراث قبله يتم شفاهة . وحدث أن العصر الأموي انقضى قبل وضع هذا التوجيه ، وانطلاق عصر التدوين ، موضع التطبيق .
تكمن أهمية هذا القرار ، الذي انتظر بداية التطبيق ، حتى صدر العصر العباسي الأول ، في نقل سكان الدولة الإسلامية ، إلى التعامل مع الكتاب ، بعد أن كان جل اهتمامهم منصبا على السماع ، في تعرفهم على التراث المنقول لهم شفاهة ، وفي نهلهم من ينابيع المعرفة والثقافة الأخرى .
التدوين :
اقتضى تدوين التراث ، السنة ، الحديث ، التاريخ ، التفسير ، السيرة النبوية ، سير الصحابة والتابعين ....الخ ، اقتضى شحذ ، وخلق ، جملة من المهارات ، في مقدمتها الاهتمام بالتعليم الذي لم تكن الدولة الإسلامية قد وضعت له نظاما ، فبروز باحثين في مختلف الاختصاصات . ولأن البحث يحتاج ، إضافة للسعي وراء المعلومة ، إلى التدقيق في صحتها ، ومن ثم غربلة كم المعلومات المتحصلة ، فقد أنتج البحث بالضرورة عملية تحفيز لنشاط العقل ، على حساب آلية النقل التي ظلت سائدة على مدى الزمن الماضي . وكان أن مهد ذلك لنشاط عقلي في مجالات جديدة ، ومتعددة ، لم تكن في الحسبان قبل بدء انطلاقة عمليات البحث للجمع فالتدوين .
وتعرفنا المصادر التاريخية ، على أن مسيرة النشاط العقلي – الفكري - ، كانت إرهاصاتها قد أطلت قرب نهاية العصر الأموي . وربما عاد ذلك للنشاط ، فالصراع السياسي ، الذي كان قد بدأ في النصف الثاني من خلافة عثمان ، واحتدم في خلافة علي ، ثم تواصل على طول مسار الخلافة الأموية ، كما سبق وأشرنا في حلقة سابقة . وكان أن ظهر لهذا النشاط رموز ، من بينهم الجعد بن درهم . إلا أن الخلافة الأموية اتخذت ، تجاه هذا النشاط ، موقفا صارما ، قضى باجتثاثه ، عن طريق التخلص من رموزه ، بطرق وحشية . منها أن والي الكوفة ، خالد القسري ، وبأمر من الخليفة ، هشام بن عبد الملك ، قبض على الجعد وأودعه السجن ، في انتظار تنفيذ الحكم بقتله . وحدث أن القسري تباطأ في التنفيذ ، الأمر الذي أثار حفيظة الخليفة ، فبعث إليه موبخا . نفذ القسري الحكم صبيحة عيد الأضحى . أمّ الناس ، وبعد إتمام المراسيم ، أوعز لهم بالانطلاق لنحر أضاحيهم ، مشيرا أنه سيفتتح النحر بنحر أضحيته ، التي هي الجعد بن درهم . وكان الجعد قد جيء به من محبسه مقيدا بالسلاسل ، فقام الوالي ، خالد القسري ، بنحره في صحن المسجد ، وأمام جمع المصلين . ولم يكن رموز الفكر الآخرين بأوفر حظا منه .
تبنى العباسيون سياسة أكثر انفتاحا تجاه رموز الحركة الفكرية وتطورها . لكنهم ، وفي ذات الوقت ، اعتمدوا السياسة الأموية في مواجهة تحولات الأفكار إلى سياسات مناهضة للحكم . وهم بدل عقاب الخصوم على قاعدة السياسة ، لجأوا إلى إلصاق تهمة الزندقة بهؤلاء الخصوم ، وبالتالي برروا وحشية العقوبات استنادا لتهمة الزندقة هذه . وكثيرون وقعوا ضحايا لهذه السياسة ، ومنهم عبد الله بن المقفع ، والحلاج ، على سبيل المثال لا الحصر . ولعل القارئ يتذكر الطريقة البشعة التي استخدمت في تعذيب وقتل ابن المقفع في عهد الخليفة المنصور . كان منها قطع أجزاء من لحمه ، وشواؤها ثم إجباره على أكلها . واستمر فعل التعذيب هذا حتى موته .
لكن هنا يتوجب علينا الإشارة إلى أن بدء عصر التدوين لم يقتصر على البحث فجمع المعلومات الخاصة بالسنة والحديث ، وعلوم القرآن ، والتاريخ ، والسيرة النبوية وسير الصحابة . لقد برزت أهمية هذه البداية في إطلاقها لعلوم اللغة العربية أولا ، من نحو وصرف وعروض وبلاغة ، وما تحوي من جناس وطباق وترادف ...الخ ، وكذلك فتح الطريق أمام تطور فروع أخرى ، من آداب اللغة ، إضافة للشعر والخطابة والحكم والنوادر والأمثال والأنساب ...، وكان أن ظهر عدد كبير من التحف الأدبية ، مثل كتب : البخلاء للجاحظ ، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، ومقامات الحريري والعقد الفريد لابن عبد ربه وغيرها كثير كثير . وفي بداية هذا العصر ظهرت تباشير بزوغ فجر العلوم الطبيعية ، كما انعكست في كتاب الحيوان للجاحظ . وفي ذات الوقت بدأ الانفتاح على الحضارات الأخرى ، وتدشين عصر الترجمة ، كما انعكس في الكتاب الفلسفي ، المعروف باسم كليلة ودمنة ، والذي نقله ابن المقفع عن الهندية .
هنا وقبل المواصلة لا بد من السؤال : لماذا تزامنت هذه المرحلة الكبيرة مع بداية الخلافة العباسية ، في حين ظلت محجوزة طوال الخلافتين ، الأموية والراشدية ، واللتين استمرتا لقرن وربع القرن تقريبا ؟
بين عروبية الخلافة وأمميتها :
في توطئة للإجابة على السؤال السابق سنعرج قليلا على ذاكرة القارئ . فالقارئ لا شك أن لفت ، ويلفت ، انتباهه ، ومن ثم اهتمامه ، أسماء أولئك الباحثين الكبار ، الذين أنجزوا عملية التدوين ، والذين أنشأوا مجموعات علوم القرآن ، وحتى علوم اللغة العربية وقواميسها، وقبلهم عدد من المبدعين ، في آداب اللغة العربية ، والشعر في المقدمة . فهذه الأسماء الكبيرة حملت أصولا غير عربية ، وبعضها حمل اسم المدينة التي ينتمي إليها وهي غير عربية . وحتى الأسماء التي يبدو ، من ظاهرها ، أنها عربية ، يبين البحث عن الأصول أنها ليست كذلك . ولإنعاش أكثر لذاكرة القارئ ، نشير ، ونحن ما زلنا نتحدث عن البدايات ، أن عبد الله بن المقفع ، والجاحظ ، وبشار بن برد ، كأمثلة ، جاءوا من أصول فارسية . ومثلهم أساطين اللغة العربية ، سيبويه وأبو الأسود الدؤلي ، والخليل بن أحمد الفراهيدي . ولعل القارئ لا يحتاج إلى تذكيره بحقيقة أن جامعي الصحاح الستة في الحديث ، وفي مقدمتهم البخاري ومسلم ، كلهم من أصول فارسية ، ومثلهم كبار المفسرين ، وكتاب السير ، وكبار المؤرخين ، ومؤسسو علوم القرآن مثل أسباب النزول ، والنسخ في القرآن ، والبيان والتبيين ، وجمع القرآن ....الخ ، كلهم من أصول فارسية ، وغير عربية . وبعد هذا نعود للسؤال ومحاولة الإجابة عليه .
الإجابة قدمها ابن خلدون في مقدمته ، التي شكلت مدخل علم الاجتماع الحديث . يشير ابن خلدون إلى أن الخلافة الأموية كانت عروبية بامتياز . ليس فقط لأنها اعتمدت على العنصر العربي ، في الحكم وإدارة الدولة ، بل ولأنها انشغلت في الفتوحات ، وتأكيد خضوع أهلي البلدان المفتوحة لسلطانها . انشغلت أكثر في تأكيد سيادة العنصر العربي على سائر أرجاء الدولة . ولأن الدولة ، إلى جانب العوامل السابقة ، كانت ما زالت قريبة من أصولها المتبدية ، أو شبه البدوية ، أو غير المنخرطة والفاعلة في الحضارة ، جاء اهتمامها بالنهضة العلمية ضعيفا ، أو غير ملموس . كان ذلك رغم قيامها على أنقاض حضارات عريقة ، الرومانية والفارسية والمصرية ، ورغم وقوفها على مقربة من ، أو باحتكاك مع ، حضارات أخرى كالهندية والصينية . والأمر كان معكوسا مع الخلافة العباسية .
الخلافة العباسية ، وكما هو معروف ، اعتمدت على العنصر الفارسي في صراعها ، وحسمه لصالحها ، مع الخلافة الأموية . وهكذا كان العنصر الفارسي ، ومن البداية ، عنصرا شريكا ، ليس فقط في إقامة الدولة ، وإنما في إدارتها وبنائها أيضا . لم يضعف هذا الواقع انقلاب أبو جعفر المنصور على أبي مسلم الخراساني وقتله ، بدعوى فك قبضة العنصر الفارسي عن رقبة النظام ، ولا انقلاب الرشيد على البرامكة ونكبتهم . ما يعنينا هنا أن الفرس ، وهم أصحاب حضارة ، تقدمت كثيرا على حضارة العرب ، وجدوا الفرصة ، واغتنموها ، لإعادة إحياء وتطوير تلك الحضارة . وكان قد بدا ، لبعض المؤرخين ، أن أصول هذه الحضارة اندثرت ، بتطبيق أمر الخليفة عمر بن الخطاب بإغراق مكتباتها . لكن ولأن الدولة الفارسية كانت تملك نظاما تعليميا ، بدلالة عثور الفاتحين العرب على مدارس للطب ، في مدن جنديسابور ونصيبين - قيل بوجود أربع مدارس في الأخيرة – أمكن الحفاظ على أجزاء كبيرة من هذا التراث ، رغم أن حركة الترجمة والتعريب اللاحقة ، لم تتنبه لنقله للعربية .
وهناك حقائق أخرى ، كثيرا ما يتم تجاهلها في البحوث المتخصصة بتلك الفترة . أولاها أن العرب واصلوا ، ليس فقط إهمال بناء نظام تعليمي ، وإنما أيضا وقف تطور ، إن لم يكن تعطيل النظم التعليمية القائمة في البلدان المفتوحة ، من خلال استبدالها بنظم التعليم القائمة في المساجد ، هذه النظم التي وصلتنا في شكل نظم الكتاتيب البائدة . وثانيها أن التعليم في البلدان المفتوحة واصل انتشاره ، فيما حافظ العرب على وصف الأمة الأمية ، نظرا لانتشار هذه الأمية بينهم . وبسبب ذلك ، وكما يحدث في كل أمة ، انكب كثيرون من أبناء البلدان العربية على تعلم العربية ، وحتى النبوغ فيها ، وتجاوز أبنائها في الكثير من مجالاتها ، بما في ذلك الشعر – اقرأ أبو نواس وابن الرومي وبشار بن برد كأمثلة - . وهكذا كان منهم من وضع علوم اللغة كما أسلفنا ، ومن شد الرحال للبحث ، فجمع السنة والحديث وكتابة التاريخ وعلوم القرآن ، وما إلى غير ذلك . والثالث أن الحكم العربي للشرق لم يتجاوز القرنين بكثير . ففي حضن الخلافة العباسية ، وفي دورها الثاني ، تمرد هذا الشرق ، وقامت فيه ممالك ، أعادت بناء حضارتها القديمة . وعلى سبيل المثال أعاد الوزير السلجوقي ، نظام الملك ، بناء النظام التعليمي ، عن طريق إقامة سلسلة من المدارس ، عرفت بالنظامية ، في سائر المدن الرئيسية ، وبدءا من بغداد العاصمة . وهذه المدارس ، والتي كانت قائمة قبلها ، هي التي تخرجت منها تلك السلسلة من العلماء ، الذين يشار لهم كبناة للحضارة الإسلامية ، وموضع تباهينا، وفخر التيارات التي ناصبتهم العداء ، والتي دكت صرح هذه الحضارة ، ومنها تيارات الإسلام السياسي الحديثة . هكذا ، ومع وصول الخلافة العباسية كانت التربة قد تهيأت ، ونشأ وتوطد مناخ ، لانطلاق حركة العقل ، ومن ثم ظهور وتقدم وتطور حضاري ، عرف فيما بعد بالحضارة العربية الإسلامية ، والتي هي موضع فخرنا ، وتفاخرنا على الغرب الآن ، كما سبق وأشرت .
هنا قد يبادر قارئ ، غير صبور ، إلى السؤال : وماذا عن حضارة الأندلس ؟ ونجيب : يلاحظ القارئ للتراث الإسلامي ، تشكل مركزين للحضارة العربية الإسلامية . الأول شرق الفرات ، بما في ذلك بغداد ، وهو الذي استحوذ على عرضنا حتى الآن ، والثاني في الأندلس . كما لا بد أن يلاحظ أن مساهمة المساحة الواسعة ، وهي العربية ، والواقعة بين هذين المركزين ، إما أنها كانت ضعيفة أو شبه معدومة . ولا شك أن أسئلة كثيرة ستجول في عقله ، وستخطر على لسانه ، من مثل : لماذا جاءت مساهمة المغرب العربي ، رغم قربه ، وملامسته للأندلس ، ومساهمة مصر ، أم الحضارة الفرعونية العريقة ، بهذه الندرة ، أو بهذا الضعف ، في تشكيل الحضارة العربية الإسلامية ؟
ومرة أخرى يقدم ابن خلدون جوابه على هذا السؤال . يقول أن العرب الذين دخلوا الأندلس ، وانغلقوا على ذاتهم إثر انتقال الخلافة ، من الأمويين إلى العباسيين ، وجدوا أنفسهم مجبرين على الاحتكاك ، فالتعايش ، مع أهل البلاد الأصليين . وهؤلاء كانوا في الأصل أهل حضارة – الحضارة القوطية - ، ورثوا الجزء الأكبر منها عن الدولة الرومانية . هذا الاحتكاك ، ليس فقط أنه عرفهم على مزايا هذه الحضارة ، بل ودفعهم إلى التخلص سريعا من حالة البداوة ، أو شبه البداوة ، التي قدموا بها . وكان أن شكل حكام الأندلس المسلمون ، والعرب ، حاضنة هذه الحضارة ، وفتحوا الأبواب على مصاريعها ، بعد أن هيأوا المناخ والتربة ، لنشأة وتطور العلماء وعلومهم الحديثة . بمعنى آخر نشا مناخ لانفتاح العقل وتجاوزه للحدود المفروضة . وعلى العكس كان الحال في المغرب العربي ، حيث ظلت روح القبلية هي السائدة ، وانشغال الحكام في أمور السياسة ، بعيدا عن العلم والعلوم وهمومها . كما ويشار أن القلة التي قدمت إسهامات في علوم الحضارة ، ومنهم ابن خلدون نفسه ، انحدرت من أصول أمازيغية – بربرية – وغير عربية .
نور الحضارة الإسلامية :
ونعود إلى جوهر موضوعنا ، وهو ما يعرف بنور الحضارة العربية الإسلامية ، وسطوعه في مشرقنا ، في ذات الوقت الذي خيم فيه ظلام البربرية على أوروبا ، لنقول : رافقت بدايات عصر الترجمة ، أو النقل عن الحضارات العالمية ، أو زامنت عصر التدوين ، كما أشارت ترجمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة عن الهندية . ووصلت هذه العملية قمتها في عصر الخليفة المأمون ، وبالتركيز على الثقافتين الإغريقية – اليونانية – والسريانية . وجاءت النتيجة ، مع اتساع مدرسة الترجمة ، تزويد المكتبة العربية - الإسلامية ، بثروة ضخمة من أمهات كتب العلوم والفلسفة والفلك ... والتي كانت معروفة في ذلك الوقت ، ولتغدو في متناول طالبي العلم من كل لون . استمر هذا الحال أكثر من ثلاثة قرون بقليل ، وليثمر نهضة علمية غير مسبوقة ، هي ذاتها التي يشار إليها بالحضارة العربية الإسلامية ، وهي التي سطع نورها على شرقنا ، وكانت وما زالت موضع تباهينا وفخرنا حتى يومنا هذا .
لم يكتف من قاموا على ترجمة علوم الأمم الأخرى ، بمغنم حفظها من الضياع ، أو بنيل جائزة نقلها للأجيال القادمة . لم ير هؤلاء هذه المهمة ، على جلالها ، بغيتهم الأخيرة . رأوا جلال المهمة في وضع هذه النفائس بين يدي طالبي العلم من كل لون . وهكذا حدث أن انكب طلبة العلم ، وجيلا بعد جيل ، على دراسة ترجمات العلوم ، من مصادرها المختلفة . وكما يحدث في كل مسارات تطور البشرية ، لم يقف العديد من طلبة العلم ، عند حدود الاطلاع والمعرفة ، بل وأضافوا إلى استيعاب هذه المعارف وهضمها ، مهمات البناء عليها ، والإضافة لها . وهكذا لم يمض كبير وقت ، حتى بدأ بزوغ فجر ظهور كواكب من العلماء ، ملأت أسماؤهم السمع والبصر ، وقدمت أبحاثهم ، اسهاماتهم ، اكتشافاتهم ومخترعاتهم ، والتطوير الذي أدخلوه على علوم بعينها ، كالطب مثلا ، ثروات لا تقدر بثمن ، من حيث الإسهام في تطوير وتقدم الحضارة الإنسانية . وبقيت أسماء هؤلاء العلماء ، الرازي ، ابن سينا ، الخوارزمي ، البيروني ، ابن الهيثم ، الخيام ، الفارابي ، جابر ابن حيان ، الإدريسي ، ابن رشد ، ابن خلدون .....نجوما ، بل شموسا ، تضيء سماءنا حتى يومنا هذا . وهؤلاء النجوم هم من نباهي بهم الأمم أيضا حتى يومنا هذا .
ومن يقرأ سيرة واحد من هؤلاء قد تنتظره أكثر من مفاجأة . إحداها أن الواحد منهم أبدع في أكثر من مجال ، من مجالات العلوم ، كما نعرفها اليوم . تراه قد أبدع في الفلسفة ، وأضاف إليها ، في الطب ، في الفلك وفي الرياضيات ....الخ . وأخرى أن كل واحد منهم ترك للمكتبة العربية الإسلامية عشرات المؤلفات أو المخطوطات ، وليسأل القارئ أين هي ؟ وأين ذهبت ؟ وكيف ولماذا ضاع أكثرها وبقي ، إن بقي ، اقلها ؟ وأين يقبع هذا الأقل الذي بقي ؟ ولماذا هو بعيد عن متناول طلبة العلم من أبنائنا ؟ وعشرات الأسئلة الأخرى . وثالثها أن كثيرين من هؤلاء النجوم ، موضع فخرنا وتباهينا ، لقي ، بديلا لتكريم يليق بإبداعاته ، مصيرا بشعا ، أو مات محسورا ، على إنتاجه الذي تم حرقه أو إغراقه ، أمام عينيه . ورابعها أن نور هؤلاء النجوم ، والذي سطع على شرقنا ، وعلى مدار ما يقرب من ثلاثة قرون ، جرى إطفاؤه بفعل فاعل ، ولحقه طمس هذه الثروات الحضارية ، ومنع أي استفادة منها ، قبل تطويرها أو البناء عليها . ولتعقب هذا النور ظلمة ، خيمت على شرقنا لأكثر من ثمانية قرون .
هنا ، وقبل المضي إلى أمام ، نرى لفت انتباه القارئ إلى مسألة هامة وهي أن علوم ذلك العصر ، وإن شملت بدايات العلوم الحديثة ، لم تعرف تقسيماتها الحالية . فالرياضيات ، وما شملته من علمي الجبر والهندسة مثلا ، لم تشكل علما مستقلا وقائما بذاته . ومثلها العلوم الطبيعية ، حيث لم تكن هناك علوم مستقلة في الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء . وعلى العموم ظلت علوم ذلك الزمان ، من طب وفلك وكيمياء ورياضيات ...الخ تشكل كلا واحدا تجمعها الفلسفة ، والتي أخذت اسمها أم العلوم من هذا الواقع ، وهكذا كان أن العالم ظل يجمع معارف من هذه العلوم كلها ، ويكتب أو يؤلف فيها كلها ، واستمر هذا الحال حتى القرن الثامن عشر ، أو قريبا منه .
والآن وقبل أن نقول وكيف حدث أن انطفأ هذا النور ، لا بد أن نشير إلى أن فترة النور هذه ، شملت مجالات أخرى عديدة ، تشكل جوانب من بناء أية حضارة إنسانية . منها مثلا مجال الموسيقى . في هذا المجال شهد هذا العصر الزاهي من الحضارة العربية الإسلامية ، قفزة هائلة في رقي هذا الفن العظيم . وبرز فيه نجوم كبار منهم من ارتقى بهذا الفن ، ومنهم أضاف تطويرا مشهودا في الآلات الموسيقية ، مثل ابراهيم واسحاق الموصلي ومثل زرياب وغيرهم كثيرون .
وفيما يخص مجالات الفنون الأخرى ، كالرسم والنحت ، وبسبب تحريم الدين لكثير من وجوهه ، كان أن اتجه الإبداع إلى الخط ، وحيث تشير زخرفة المساجد والمقامات ، إلى نتائج مبهرة فيه .
نصف الكأس الآخر :
ولكي نجيب على السؤال : متى وكيف انطفأ النور ، ومن أطفأه ، ومن حال دون إعادة إشعاله ثانية ؟ لا بد أن نشير إلى أن ما سبق كان قراءة في نصف الكأس المليان . والإجابة تتطلب قراءة ، لا نريدها مسهبة ، لنصفه الثاني ، الفارغ .
يذهب البعض إلى إلقاء التبعة على الاحتلالين ، المغولي والصليبي ، لبلدان الشرق الإسلامية . ويشيرون إلى إغراق مكتبة بغداد ، واصطباغ مياه دجلة باللون الأزرق ، في إشارة إلى فداحة الكارثة . وإلى المذابح وحرق المدن والزراعات التي اقترفها الطرفان . وأخيرا حيلولة الطرفين بين شعوب البلدان المقهورة ، وبين استئناف حياتها ، بما في ذلك وصل وترميم ما انقطع في مسار العلم ، ومن ثم ، إعادة بعث الحياة في هذه الحركة .
ورغم أن هذا القول يحمل بعضا من أوجه الصحة ، إلا أنه لم يشكل العامل الحاسم في وقف مسيرة العلم ، وإطفاء نور الحضارة الذي سطع قويا في شرقنا . والحقيقة التاريخية المؤكدة تقول بوصول المغول ، أو التتار ، في القرن الثالث عشر ، عقب وقوع الكارثة . وإذا كان الصليبيون قد وصلوا قبلهم بقليل ، القرن الحادي عشر ، فهم لم يقبضوا على مراكز إشعاع العلم . ومع ذلك فإن المذابح ، والتدمير الذي وقع ، ساعد في الحيلولة دون انبعاث حركة علمية جديدة ، من خلال القضاء على الكثير من المخطوطات العلمية .
لكن تقصي هذا الأمر يوقفنا على جملة عوامل ، تعدت قوة فعلها قوة فعل العامل السابق كثيرا ، نعرضها كالتالي :
1. كان قد رافق ، أو زامن ، الحراك الذي ولده عصرا التدوين والترجمة ، في نهضة العلوم ، حراك مماثل في العلوم الدينية . وإذا كانت ارهاصات هذا الحراك قد برزت في نهاية العصر الأموي ، كما سبق وأشرنا ، فإنها تسارعت كثيرا في العصر العباسي . فليس فقط أن هذا العصر شهد ولادة عدد من علوم الدين ، بل وشهد ولادة الفرق والطوائف الإسلامية ، واشتداد الصراع الفكري بينها . وداخل هذه الطوائف أفرخت حركة الاجتهاد عددا من المذاهب ، زادت على التسعين عند السنة ، أعادها الصراع ، بعد قرون عدة ، إلى خمسة ، ولتستقر على أربعة ، بعد انحسار مذهب الأوزاعي . ويمكن القول ، بدون وقوع في الخطأ كبير ، أن صراعات الفكر الطائفية ، انتظمت في تيارين عريضين هما : تيار العقل وتيار النقل .
2. وكما يحدث في ظل تحالفات السياسة والدين ، ومع اشتداد الصراع بين التيارين ، الذي لم يكن فكريا وسلميا دائما ، ظل انحياز الخليفة ، السياسة ، لأحد التيارين ، يقرر فوزه ، فغلبته على ساحة الصراع . وحدث أن الخلفاء العباسيين ، فيما يعرف بالعصر العباسي الذهبي ، انحازوا لتيار العقل ، وحيث ارتفع نجم المعتزلة عاليا في سماء الدولة ، وهي الفترة الذهبية في الحياة العلمية ، والتي نتج عنها سطوع نور الحضارة على شرقنا ، ثم عادوا وانحازوا للتيار الثاني ، تيار النقل ، في الفترة الثانية ، فترة انحطاط الدولة العباسية . وقد دشنت بداية هذه الفترة بداية انطفاء نور الحضارة .
3. ولما كان أن فترة سيادة تيار العقل ، قد فتحت كل الأبواب أمام البحث والتقصي ، وبالتالي الاكتشافات وازدهار العلوم ، فقد فتحت الأبواب للنقاش في علوم الدين ذاتها ، وبما في ذلك القرآن ذاته ، وحيث نتج رفض المعتزلة لفكرة وجدوه من الأزل ، وحفظه في اللوح المحفوظ إلى الأبد ، وليستقر رأيهم على القول بخلقه ، ولتدور معارك فكريه واسعة وهائلة بهذا الشأن . بديهي أن حراكا عقليا من هذا النوع ، كان لا بد أن يذهب عند البعض لما هو أبعد من ذلك . وكان أن أوصل تحري الحقيقة البعض ، ليس فقط إلى نقد ، بل وإلى نقض الفكر الديني برمته . ولما كان مناخ الحرية الفكرية ، ما دامت غير موجهة للسياسة ، حيث سلاح إشهار تهمة الزندقة ، فعقوبة الموت بالمرصاد ،لما كان هذا المناخ يكفل حرية التعبير ، شهدنا خروج مفكرين بإعلان إلحادهم ، والدعوة لمنهجهم هذا ، كأبي العلاء المعري وابن الراوندي ، على سبيل المثال لا الحصر . ولا أظن أن القارئ بحاجة لتذكيره بان هذا المستجد ، شدد من عزيمة أهل النقل على محاربة التيارات العقلية ، وعلى رأسها ، علم وعلماء العلوم الطبيعية ، الذين أضاءوا نور الحضارة .
4. ولما كانت بعض المذاهب لا تعترف بعلم لا ينضوي تحت بند علوم الدين ، كان بديهيا أن يلجأ هؤلاء لمحاربة العلماء وعلومهم الوضعية . وفي العصر العباسي الثاني ، ومع انحياز السياسة لتيار النقل ومذاهبه ، لم تحدث فقط عملية الوقف للاجتهاد ، بل وحسم هذا التيار معركته مع تيار العقل ، بتحقيق نصر كامل نهائي عليها ، تمثل في اقتلاعها تماما ، وفي سيادته المطلقة على الساحة ، على مدار كامل القرون اللاحقة .
5. ولأن الحركة العلمية ولدت وترعرعت في ظل حركة العقل ، ولأن العلماء – من غير علماء الدين- كانوا على رأس قائمة مستهدفي تيار النقل ، فقد وقعت هذه الحركة في مقدمة ضحايا نصر تيار النقل هذا . ونتج عن ذلك ليس فقط استهداف العلماء ، بما في ذلك قتل البعض منهم ، وإتلاف وتدمير وإحراق معاملهم ومخطوطاتهم ن ومطاردة الناجين منهم ، وبما لم يسمح بإعادة استئناف عملهم . ولعلنا هنا نكتفي بتذكير القارئ بما حدث لمرصد عمر الخيام الفلكي . ولعله ما زال يذكر كيف أن مهاجمي المرصد الفلكي ، والذين قادهم رجال دين ، لم يكتفوا بتدمير المرصد وحرقه ، وبالتالي القضاء على كل ناتج فكر الخيام ، بل وطاردوا الخيام ، الذي اضطر للاختباء ، باقي سنوات عمره ، ولعل القارئ أيضا يتذكر الطريقة التي تم بها إخفاء مخطوطة رباعياته ، وعثور رحالة غربي عليها ، وهي التي تتحفنا أم كلثوم بشدو عدد من مقطوعاتها .
6. ولما كانت النظم الإسلامية كلها لم تعر أي اهتمام لإقامة نظم تعليمية ، بما في ذلك إقامة شبكات مدارس ، ولما كان قد تم حرق المكتبات ، وعلى مراحل مختلفة ومتكررة ، لم يتوفر، في شرقنا ، أي ملاذ لحفظ الناجي من مخطوطات هؤلاء العلماء ، إلا ما ندر ، وممن وجد طريق هروب إلى جامعات أوروبية ، كانت قائمة آنذاك ، كما سنوضح لاحقا . والمحزن أكثر أن ما نجا من هذه المخطوطات ، وفي منطقة آسيا الوسطي كثير مما نجا ، حيل بينه وبين إعادة الاستفادة منه ، فالبناء عليه ، والإضافة له ، كما جرى في الغرب ، وكما سنبين لاحقا .
هكذا إذن حدث ، وبأيدي وأفواه جماعات منا ، إطفاء هذا النور الذي غمر شرقنا قرابة أربعة قرون . وبذات الأيدي والأفواه تم اسدال الستار على هذه الحقبة المضيئة . وبذات الأيدي والأفواه جرى تكريس حقبة من الظلام ، أسدلت ستائرها على شرقنا منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا . لماذا ؟ لأن حركة النور هذه حركة عقل ، ولأنها كذلك فهي مناقضة لحركة النقل . وأختم بالقول : في ندوة عقدت بجامعة يورك – تورنتو – كندا حول موضوع العلمانية ، وتراجعها في شرق ، قلت ما ملخصه أن المعركة التي تدور في شرقنا – وصورتها صارخة الآن في مصر – يقع عقل المواطن في بؤرة استهدافها . وتتلخص في السؤال : لمن ، في واقع الحال ، يجب أن تؤول ملكية عقلي وعقلك ؟ لي ؟ لك ؟ أم لهذا الذي يدعي بحمل تكليف من الله لإعلاء شأن دينه على الأرض ؟ وبعد ذلك هل تبقى هناك ضرورة للسؤال لمن ستؤول ملكية أجسادنا ، جسدها ، جسدي وجسدك ؟
والآن وقد بلغنا هذه النقطة أعود وأستسمح القارئ في وقفة استراحة ، ولنعاود مواصلة مشوارنا في الحلقة التالية .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 6 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 4 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
- عبود الزمر و العيش خارج حدود الزمان والمكان
- دخول الى حقل المحرمات - 1 -
- وحدة الأضداد بدون صراعها
- هل هي مبادرة؟!
- ويا بدر لا رحنا ولا جينا


المزيد.....




- مشهد صادم.. رجل يتجول أمام منزل ويوجه المسدس نحو كاميرا البا ...
- داخلية الكويت تعلن ضبط سوداني متهم بالقتل العمد خلال أقل من ...
- مدمن مخدرات يشكو للشرطة غش تاجر مخدرات في الكويت
- صابرين جودة.. إنقاذ الرضيعة الغزية من رحم أمها التي قتلت بال ...
- هل اقتصر تعطيل إسرائيل لنظام تحديد المواقع على -تحييد التهدي ...
- بعد تقارير عن عزم الدوحة ترحيلهم.. الخارجية القطرية: -لا يوج ...
- دوروف يعلّق على حذف -تليغرام- من متجر App Store في الصين
- أبو عبيدة: رد إيران بحجمه وطبيعته أربك حسابات إسرائيل
- الرئاسة الأوكرانية تتحدث عن اندلاع حرب عالمية ثالثة وتحدد أط ...
- حدث مذهل والثالث من نوعه في تاريخ البشرية.. اندماج كائنين في ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6 تيارات الإسلام السياسي والعلمانية 2