أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية 4 السلفيون و مواجهة الديموقراطية بالشورى















المزيد.....



قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية 4 السلفيون و مواجهة الديموقراطية بالشورى


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3463 - 2011 / 8 / 21 - 18:13
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


5
مخاطر على الديموقراطية 4 السلفيون ومواجهة الديموقراطية بالشورى
........وهكذا نستأنف ، في هذه الحلقة ، محاولة الإمساك بالفرصة الذهبية ، التي وفرها لنا السلفيون ، وجماعة الإخوان ، في جمعة تفريق الصف ، يوم 29 يوليو- تموز الماضي . تمثلت الفرصة ، كما أشرنا في الحلقة السابقة ، في ضرورة ضغط قوى الثورة ، على التيارات الدينية السياسية ، لإزالة الغموض الذي تلف به أطروحاتها وشعاراتها ، في عرض رؤاها لمستقبل مصر . الجماعات ، كما أسلفنا ، يقول بعضها بالدولة الدينية ، وباب الهجرة مفتوح لمن لا يعجبه . ويقول البعض الآخر بالدولة المدنية ، ولكن بمرجعية دينية ، وبالاحتكام إلى صناديق الاقتراع .
وفي الحلقة الماضية كنا قد وقفنا عند بعض سمات الدولة المدنية بالمرجعية الدينية . واختتمناها بأسئلة ، قلنا أن الإجابة عليها ، تعطينا الفرصة للتعرف على سمات أخرى ، هي في رأينا ، أكثر أهمية من سابقاتها ، لأنها تبرز صورة أوضح ، لجوهر ومضامين الدولة المدنية ، ذات المرجعية الدينية . وإذن دعونا نواصل رحلة التعرف على تلك السمات ، ولنبدأ من الشورى .
الشورى :
لا تخفي مختلف التيارات الدينية ، ذات الأجندات السياسية ، كراهيتها ، ومن ثم عداءها للديموقراطية . وغالبا ما تستند في كرهها وعداءها ، إلى منطلقات دينية . وفي تبريراتها تصر على المنطلقات الدينية ، رغم أن واقع حالها يقول عكس ذلك . ما يهمُّنا هنا ما دأبت عليه هذه التيارات ، من معارضة الديموقراطية بالشورى ، بدعوى أن الديموقراطية من وضع البشر ، وضعية ، والشورى وردت في القرآن ، وهي لذلك إلهية . وإذن يتوجب على المسلم الاحتكام لما هو إلهي ، لأنه الأكمل فالأفضل ، وترك ما هو وضعي ، لاستحالة وصوله إلى كمال الإلهي . ولأن مسألة الوضعي والإلهي ، التي تكثر تيارات الدين السياسي اللجوء إليها ، تحتاج وقفة مطولة ، سنفرد لاحقا مساحة مناسبة لها ، يتعين أن نسأل هنا : أليست هناك علاقة تبادلية قائمة بين الإلهي والوضعي ؟ بمعني ألم يكن التشريع الإلهي ، وهنا تشريع الشورى ، وضعيا قبل أن يرد في القرآن ، ليجعل هذا الورود منه تشريعا إلهيا ؟ ونقول نعم ، وفي أكثرية التشريعات ، كان الأمر كذلك . ولعل قارئا يسأل : وكيف كان ذلك ؟ ونجيب :
ورد تعبير الشورى في ثلاثة مواضع في القرآن ، وبتصريفات لغوية ثلاث ، اسم ، فعل ، وصورة ضمنية غير مباشرة . فقد وردت كلمة شورى في الآية 38 من سورة الشورى { ...وأمرهم شورى بينهم ...} وفي مجال توصيف مجموعة الأنصار الذين حضروا بيعة العقبة ، وتوصيف أهل المدينة ، التي سيلجأ النبي إليها، بصورة عامة . وفعل الأمر شاور في الآية 159 من سورة آل عمران {....فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر....} وفي مجال حث النبي على مواصلة التشاور مع أصحابه ، على الرغم من الخلاف الذي سبق ولحق معركة أحد ، نتيجة لهذا التشاور . أما الصورة الضمنية فقد جاءت في الآية 32 من سورة النمل ، وفي مجال عرض ملكة سبأ للرسالة التي وردتها من الملك سليمان ، على مجلس شورى المملكة { قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون }.
يستطيع المتمعن في نصوص هذه الآيات ، أن يرى ، وبوضوح ، أن مجتمعات جزيرة العرب اشتقت لنفسها آليات - نظما - للبحث والتقرير في قضاياها المعيشية – السياسية – ، وأن الأجيال اللاحقة ورثت ، قبلت ، وارتضت هذه الآليات - النظم لنفسها ، وعملت بها . وبتعبير تيارات الإسلام السياسي ، كانت هذه النظم وضعية . لكن وبالعودة للآيات الثلاث السالفة ، يرى القارئ كيف أن التنزيل ارتضى مضمون الآلية - النظام ، الذي وضعه وارتضاه أهل الحجاز لأنفسهم ، نظاما لبحث وتقرير قضايا المسلمين في المستقبل أيضا . وهكذا تحول هذا النظام الوضعي ، بقبول التنزيل له ، بمنطق تيارات الإسلام السياسي ، إلى تشريع ونظام إلهي ، لا يجوز تجاوزه ، ولا يجوز تبديله بنظام وضعي جديد ، حتى ولو كان أكثر استجابة لاحتياجات المجتمعات الجديدة ، والتي طرأت عليها سلسلة كبيرة من التطورات ، فصلتها عن تلك التي نشأ فيها النظام ، الذي تحول إلى نظام إلهي ، لمجرد ورود كلمات عنه في التنزيل .
والآن لنا أن نسأل : ما هي آلية - نظام الشورى الذي نشأ في الحجاز ، والآخر الذي سبقه في اليمن ، وقبله الإسلام من حيث الجوهر ، وليصبح نظاما إلهيا غير قابل للتغيير ، حسب منطق تيارات الإسلام السياسي ؟
تعلمنا مؤلفات التاريخ ، كما مؤلفات السير ، بما فيها مؤلفات السيرة النبوية ، أن أهل الحجاز عرفوا دار الندوة في مكة ، التي أنشأها قصي بن كلاب ، رأس قريش ، وسقيفة بني ساعدة في يثرب المدينة ، ثم مجلس شورى القبيلة ، لباقي القبائل الحجازية ، وقبائل جزيرة العرب الأخرى . وبينها يمكن رصد القوائم المشتركة التالية :
1. مكان محدد وثابت لعقد الاجتماعات . صِفٌة - مصطبة – تعلوها ظلة من سعف النخل ، مفتوحة من الجوانب – عريش- ، دار الندوة وسقيفة بني ساعدة . ثم ديوان شيخ القبيلة وهو جزء من بيته ، بيت الشعر، لمجالس شورى القبائل .
2. قوام محدد وثابت للعضوية . صفة اعتبارية ، وتمثيل لبطون القبيلة ، وسن محدد ، فوق الأربعين .
3. لا احترافية أو تفرغ للأعضاء . فالتفرغ والاحتراف لم تكن مجتمعات ذلك الزمان قد توصلت لها ولم تعرفها ، رغم أن مجالس الشيوخ – البرلمان – الرومانية واليونانية ، كانت قد عرفتها ، وعملت بها .
4. رئيس ، أو شيخ ، القبيلة هو من يقوم بالدعوة لعقد الاجتماع ، إذا جد ما يدعو لذلك . ويجري الحوار والنقاش على قاعدة ضمان الحرية الكاملة للأعضاء في طرح أفكارهم .
5. لا تصويت ، في حال الاختلاف في الرأي . ومفهوم الأغلبية والأقلية ، لم يكن معروفا . والنظام يكفل لرأس القوم حق اتخاذ القرار النهائي ، استنادا لما يستصوبه من الآراء التي جرى طرحها .
6. يمكن للجمهور العام متابعة ما يجري داخل المجلس من حوارات ، وذلك من الخارج ، لأن المكان مفتوح الجوانب ، كما أشرنا ، ودون الحق في المشاركة فيه .
7. مجلس الشورى شكل ما يمكن وصفة ببذرة ، أو جنين ، مؤسسة تشريع . فالقرار الذي كان يتوصل له رأس الاجتماع ، أورأس القبيلة ، ظل يتخذ صفة القانون الملزم لأفراد ومجموع القبيلة .
وكان مجلس ملأ سبأ قريبا من هذا ، وإن كانت عضويته تتشكل من أعيان الدولة ، وذوي الصفة الاعتبارية ، وإن ظل اختيارهم من صلاحيات الملكة . وينعقد اجتماعه بدعوة من الملكة ، وفي قاعة مخصصة من قاعات القصر ، و قراره ملزم لها ، كما تشير الآية .
يجدر الانتباه إلى حقيقة أن هذه المجالس ، لم تعرف الاجتماعات الدورية ، وجداول الأعمال المسبقة ، أو الجهاز الإداري الخاص ، كما لم يكن من صلاحياتها التشريع ، كما مساءلة ومحاسبة الملكة أو رأس القبيلة . وهي في مرحلتها الجنينية تلك ، يكون من الممكن مقابلتها بالبرلمان ، الذي هو أحد إفرازات الديموقراطية ، ولكن ليس ، وعلى وجه اليقين ، بالديموقراطية .
الوضعي يتحول إلى إلهي :
جاء الإسلام ، وارتضى هذا النظام ، حسب نص الآيات السالفة ، نظاما لشورى المسلمين ، مع بعض التعديلات ، كما جرت العادة في حالات مشابهة ، التي أصابت قوام المجلس . لقد عرف عن النبي إكثاره من استشارات أصحابه . كما عرف عنه أنه هو من أدخل تلك التعديلات . بداية تناول مسألة المقر الثابت ، مستبدلا إياه بالمسجد تارة ، وبالبيت تارة ، وبخارجهما ثالثة . لحق ذلك بتغيير قوام المجلس ، فكان ، وإن واظب على استشارة الصحاب الممثلين بالعشرة المبشرين بالجنة ، فرادى ومجتمعين ، كلهم أو بعضهم ، كان أيضا يستشير جمع المصلين أحيانا ، أو مجموعة يلتقيها قصدا أو عرضا ، أو زوارا قدموا إلى بيته في أحيان أخرى . والتغيير الثالث طال تحديد السن ، إذ كثيرا ما لجأ لاستشارة الشباب ، كما حدث قبل معركة أحد ، الأمر الذي لم يلق ترحيبا من كبار القوم ، كما سنبين لاحقا .
سار الخلفاء الراشدون على هذا النهج ، ثم الحكام المسلمون بعدهم . وكتب التاريخ ، كما السير ، لا تسعفنا بمثال واحد ، عن خليفة أو سلطان أو أمير ، شكل مجلسا للشورى ، بقوام محدد للعضوية ، أو بمقر ثابت ومعين له ، أو بصلاحيات ، أو بجدول أعمال ما . لكنها – الكتب – تشير إلى أن كلا من دار الندوة وسقيفة بني ساعدة ، بقيتا قائمتين حتى بداية الخلافة الراشدية . وآخر ذكر لسقيفة بني ساعدة ورد عقب انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى ، في تلك الجلسة التي شهدت جدلا وحوارا ساخنا ، تعلق باختيار المسلمين خليفة للنبي ، وأميرا عليهم .
إذن واستنادا لما سبق يصح القول بمقارنة ، أو مضاهاة الشورى بالبرلمان – مجلس التشريع – ولكنها لا تصح بين الشورى والديموقراطية . وفي الأولى يتوجب التنبيه إلى حقائق ، أولها أن الشورى الإسلامية لم تأخذ ، وفي كل عهودها ، صفة المؤسسة . ومجلس المبعوثان ، الذي عرفته الخلافة العثمانية في أواخر عهدها ، جاء على شكل برلمان ، فرضته جملة التطورات العالمية ، وضرورة التحديث للخلافة ، دفعا لحتمية السقوط ، وبعثا للأمل في البقاء . والثاني أن التشريع ظل خارج مهام الشورى ، والذي انحصر في السماء أولا ، وفي النبي ثانيا ، ثم في الخليفة وعلماء المسلمين بعد ذلك . وثالثا لم تعرف الشورى رقابة أو مساءلة أو محاسبة للحاكم ، وهي اختصاصات البرلمانات الحديثة . وقبل أن ننهي هذه الفقرة نود الإشارة إلى أن الدول الإسلامية الحديثة ، السعودية ، إيران والسودان ، حين أرادت ، تحت ضغط المتغيرات ، استحداث مجالس للشورى ، لم تجد غير صورة البرلمان نموذجا للتطبيق . وحتى أن إيران والسودان لم تجد مفرا من أن تستخدم الانتخابات ، آلية لإنشاء هذه المجالس . والناظر لمجلس الشورى السعودي ، يرى برلمانا من حيث الشكل مع افتقاد تام للمضمون .
النظم الإسلامية وحق التعبير :
ذلك عن مضاهاة الشورى بالبرلمان ، وهي في غير صالح الشورى كما رأينا . فماذا عن المواجهة مع الديموقراطية ، التي تصرخ بها تيارات الإسلام السياسي ؟
بداية تتوجب الإشارة إلى أن الديموقراطية منظومة واسعة من العلاقات والحريات والقيم السلوكية والأخلاقية والحقوقية ، وحيث الانتخابات والمجالس المتنوعة الناتجة عنها ، لا تعدو أن تكون وجها من وجوه الديموقراطية ، أو تجليا من تجلياتها ، وإن احتلت المكان الأبرز بينها . ولأنها منظومة واسعة ومتكاملة ، فإن هيكلها لا بد أن يقوم على العديد من الأعمدة ، منها الانتخابات العامة واستطلاعات الرأي ، والاستفتاءات والتقارير الدورية ، والميزانيات ...الخ .أما الشورى فلا تملك غير ذلك الممر الضيق الذي سبق التفصيل فيه .
وحتى لا نتوه في التعميم ، لنتوقف عند بعض التفاصيل ، ولنسأل : هل عرفت النظم الإسلامية ما يعرف بحق وحرية التعبير ؟ ولأن أوجه التعبير كثيرة ، وأدواته أكثر ، سنقصر السؤال على حرية التعبير السياسي ، بمعنى حق الفرد في المجاهرة برأيه السياسي ، خصوصا في مواجهة الحاكم ، ومعارضة ما يقوله ويفعله هذا الحاكم ، ومطالبته بالرجوع عن خطأ وقع فيه ، والجهر بضرورة إنزاله عن الحكم ، في حال تماديه في الخطأ ؟
تحتاج محاولة الإجابة على هذا السؤال إلى مراجعة تاريخية سريعة للنظم الإسلامية ، مسبوقة بوقفة مطولة ، نوعا ، مع دولة الرسول في المدينة ، بصفتها الفترة المؤسسة لهذا النظام ، الذي تواصل ثلاثة عشر قرنا ونيف بعدها .
بداية يتوجب تذكير القارئ بحقيقة ، كثيرا ما يتم تجاهلها ، تقول بأن المسلمين في المدينة ظلوا أقلية في السنة الأولى ، وظل المشركون أغلبية . وهذه النسبة أخذت في الاختلال ، بعد النصر الكبير الذي أحرزه المسلمون في بدر . وترتب على دولة النبي أن تراعي هذا الحال . بعد النجاح في بدر زاد الإقبال في المدينة على الإسلام ، وحيث أسلم بعض رؤساء القوم ، وفي مقدمتهم ، زعيم الخزرج ، عبد الله بن أبي بن سلول ، والذي كانت قبيلته الكبيرة تعد العدة لتتويجه ملكا عليها وعلى حلفائها ، قبيل وصول النبي للمدينة .
لم يمض وقت طويل على معركة بدر، بضعة شهور ، حتى كانت معركة أحد ، وكانت استشارة النبي لأصحابه عن أفضل السبل لمواجهة زحف قريش وحلفائها ، بذلك الحشد الضخم ، عليهم . وكان الخلاف في الرأي ، وانحياز النبي للرأي القائل بالخروج لملاقاة قريش في أحد ، ثم الخلاف الذي نشأ في الطريق ، ورجوع ثلث جيش المسلمين إلى المدينة . وتواصل خلاف الرأي هذا ، بعد الهزيمة ، وفي تحليل أسبابها ونتائجها .
اكتسبت هذه الحادثة ، من وجهة نظر القراءة السياسية ، أهمية كبيرة في قراءة وتحليل التاريخ السياسي الإسلامي . الأهمية هذه استمدت من :
1. كونها شكلت نقطة البدء بالنسبة لما صار يعرف فيما بعد بمسألة المعارضة السياسية ، أو حق وحرية التعبير السياسي .
2. كون موضوع التشاور ، ومن ثم موضوع الخلاف ، كان ومن لحظته الأولى ، دنيوي أو سياسي ، وبامتياز .
3. أن التشاور ، ومن ثم الخلاف ، دار حول الرؤية الأفضل لصالح المسلمين ، ولمواجهة وصد العدو الزاحف عليهم .
4. أن التشاور سبقته رؤيا وقعت للنبي في منامه ، قصها على صحابته ، وفسرها بموقعة ستحدث ، وسيقع فيها قتل للمسلمين ، يصل إلى بيت النبي نفسه .
5. أن بعض من شاركوا في الشورى كانوا حديثي عهد بالإسلام – إسلام ابن أبي لم يكن قد مضى عليه غير بضعة شهور – وكانوا ، كجزء من مجلس شورى سقيفة بني ساعدة ، متمسكين بتقاليد تلك الشورى . وكان النبي في كسره لتلك التقاليد ، بنزوله على رأي شباب المسلمين ، وهم حسب التقاليد من خارج إطار مجلس الشورى ، وممن لا حق لهم في المشاركة وعرض الرأي ، قد أثار حفيظة هؤلاء الشيوخ ، والذين رأوا في هذا الخروج ، انتقاصا غير مفهوم لامتيازات مقرة ومستقرة لهم .
كان من المفترض أن تشكل هذه الواقعة أساسا لاستحداث نظام ، يضع قواعد واضحة ، للتعامل مع الاختلاف في الرأي على القضايا السياسية . لكن ما حدث كان غير ذلك . فقد تطلب إنشاء دولة من العدم ، طاعة مطلقة لقائدها ، وهو النبي هنا . وإذا كان مقبولا طرح رأي مختلف أثناء الشورى ، فإنه يكون من غير المقبول التمسك به ، وأخذ موقف على أساسه ، بعد القرار . ولأن أصحاب الرأي الآخر اتخذوا مواقف خارجة عن المسار ، جرى توصيفهم بحزب المنافقين . وطال هذا التصنيف كل من صدر عنه رأي أو موقف معارض فيما بعد .
فكما هو معروف وقعت غزوة الخندق بعد سنتين تقريبا . وفيها أخذ النبي بذات الرأي الذي كان موضع الخلاف في موقعة أحد . تحصن المسلمون في المدينة ، وزادوا عليه بحفر الخندق ، نزولا على نصيحة من سلمان الفارسي . ولما طال الحصار ، تذمر مسلمون ، وأبدو شكوكا تجاه نبوءة حيازتهم لملك كسرى وقيصر . هؤلاء أيضا جرى ضمهم لحزب المنافقين ، الذين ظل عمر بن الخطاب يسارع إلى استئذان النبي في قتلهم ، وظل النبي يكرر إصراره على رفض الطلب ، مذكرا أبن الخطاب ، خصوصا بعد اشتداد حدة الخلاف ، عقب غزوة بني المصطلق ، بما سيقوله المشركون عن قتل النبي لأصحابه ، في حال الاستجابة لطلبه . وسن النبي هنا سنة علاج الخلاف السياسي بالحوار السياسي ، وحيث جاءت النتيجة بعزل حزب المنافقين ، ومن وصف برأس الحزب ، وهو ابن سلول . وكان أن أقر عمر بن الخطاب بصحة هذا النهج ، وأفضلية نتائجه ، مقارنة بتصفية هؤلاء الخصوم ، وما كان سينتج عن فعل التصفية من انقسامات في صفوف المسلمين . ويلفت الانتباه في قراءة هذه الأحداث ، أن النبي لم يخرج هؤلاء المعارضين بالرأي من صحبته ، رغم دمغهم بالنفاق ، وتصنيفهم بحزب المنافقين . وهم بدورهم لم يبادروا بالخروج إلى صف المعارضة . فقد ظل ابن سلول يصلي خلف النبي حتى وفاته ، وحيث صلى النبي عليه ، رغم اعتراض ابن الخطاب .
انقلب هذا الحال بعد انتصار الدعوة وتوطد أركان الدولة الناشئة . نزلت آيات تخطئ النبي ، وتمنعه من الصلاة على أعضاء حزب المنافقين ، كما وتحظر عليه الاستغفار لهم ، فالله لن يغفر لهم ، حتى لو استغفر النبي لهم سبعين مرة . هكذا تم إخراج صاحب الرأي السياسي المختلف ، ليس من صفوف المسلمين ، بل ومن الملة أيضا ، بما يوجب التعامل معه بغير أساليب الحوار السياسي ، أي بأسلوب القمع العنيف .
لكن ، وقبل الانتقال لمتابعة تطبيق هذا التطور الجديد ، على سياسة التعامل مع الخلاف السياسي ، يتوجب أن نسأل : هل التزم النبوي بالشورى وفي كل الأحوال ؟ الجواب قدمته كتب السيرة النبوية : لا لم يلتزم . وبناء على عدم التزامه هذا ، هل فهم الحكام المسلمون ، في مختلف العهود ، بعدم إلزامية الشورى ؟ كتب التاريخ أجابت بنعم . كيف ؟
اعتاد النبي في غزواته فرض السرية ، على نواياه ، حتى عن أقرب صحابته . كان إذا أراد تنفيذ غزوة شرق المدينة ، يتجه بمن معه نحو الغرب . وبعد مسيرة معينة ، والصحابة يضربون أخماسا في أسداس ، يستدير نحو وجهته الحقيقية . وقبل الوصول بقليل يطلعهم على هدفها . وكان هذا احتياط ضروري وواجب ، لضمان عدم تسرب نبأ عنها إلى الجهة المقصودة ، نظرا لتشابك العلاقات بين المسلمين ، حديثي العهد منهم على وجه الخصوص ، مع القبائل المختلفة . وحادثة حاطب بن أبي بلتعة ، ورسالته إلى قريش ، يحذرهم فيها من غزوة الفتح معروفة ، ومدونة في مختلف كتب السيرة .
لكن إذا كان عدم التشاور قبل الغزوات ، وقبل ذلك عدم اطلاع المسلمين على النية ، فالغرض من الغزوة ، صحيحا وضروريا لضمان السرية ، ومن ثم نجاح المهمة ، فماذا عن الشورى في القضايا السياسية . تقول لنا كتب السيرة أن النبي لم يلتزم بهذه أيضا . في صلح الحديبية ، وهو أكبر حدث سياسي في عهده ، أجرى النبي المفاوضات ، ثم أبرم الصلح ، دون معرفة أحد من صحابته . وقصة تبرم عمر بن الخطاب ، وإعلانه نية عدم الالتزام بالعقد ، ثابتة لأنها مدونة لإي كافة كتب التراث التي تناولت هذا الحدث ، والرجوع إليها في متناول من يريد الاستزادة . والمهم أن تجاوز النبي للشورى ، في هذا الحدث الخطير ، كاد أن يحدث فتنة ، أو نوعا من التمرد ، لولا حكمة أم سلمة ، زوج النبي ، التي تداركت الأمر ووجدت المخرج منها . وتكرر الحال في غزوة حنين ، وتوزيع الغنائم ، وحيث ذهب النصيب الأكبر منها للمؤلفة قلوبهم ، على حساب الأنصار ، الذين كان لبلائهم فيها ، فضل الانتصار بعد الهزيمة . ومرة أخرى حدثت مشكلة ، كادت تتحول إلى نوع من شق الصف ، لولا أن تداركها النبي بنفسه .
ونعود إلى مسألة استبدال الحوار بالقمع ، في التعامل مع الخلاف السياسي . برز هذا التحول ، أوضح ما يكون ، في تعامل الخليفة أبو بكر مع من وصفوا بالمرتدين . والمتمعن في تلك المرحلة يفاجأ بذلك القدر من الجهد المبذول في طمس الحقيقة . يكتشف المتمعن أن قبيلة واحدة فقط ارتدت إلى دينها الذي كانت عليه ، قبل إسلامها . أما المجموع العام فكان ارتداده لأسباب سياسية . بعضها أراد العودة لما كانت عليه حرية ووحدانية الولاء للقبيلة . بنو تميم مثلا ، واليمن . وأخرى بسبب رؤيتها لحق القبيلة بالمشاركة في الأمر ، أي باقتسام النفوذ مع قريش ، ومنهم بنو حنيفة وبنو أسد . ومُدٌعو النبوة في هذه القبائل لم يتجاوزوا في دعاواهم ، حدود التعبير عن هذه المطالب . وأخيرا احتجت قبائل أخرى على اختيار أبي بكر ، بدعوى أن فرعه ، بنو تيم ، لا يرقى في نسبه إلى نسبهم ، هم الملوك أبناء الملوك ، كبني كندة مثلا . وأخيرا هناك قبائل امتنعت عن إرسال صدقاتها إلى المدينة ، بدعوى أن فقراءها أحق بها .
رد أبو بكر على هذه الخلافات السياسية بإعلان الحرب ، مستهدفا إخضاع هؤلاء المعارضين بالقوة ، وبالقوة وحدها . عارضه عمر وبعض الصحابة الكبار في البداية ، لكنهم عادوا وساروا معه فيما بعد . ومقولته " والله لو منعوا عني حبلا من ضفير لقاتلتهم عليه " ، وقولته لعمر : " أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام ؟ " أكثر من مشهورة . هذا مع العلم أن بعض الصحابة انتزعوا حق محاولة الحوار مع قبائلهم ، وإقناعها بالعودة ، وكان أن حققوا في هذا المجال مكاسب ونتائج ، أكثر وأفضل مما حققته الحرب . لكن هذا الفعل بقي في إطار الخاص – الشاذ – دون العام . والقارئ المتبصر لأحداث تلك الفترة ، لا بد أن يقف مشدوها أمام شدة وعنف وصايا أبي بكر لقادة جيوشه ، وأمام حجم القسوة التي نفذت بها الجيوش تلك الوصايا ، مضافا إليها حجم القتل وغزارة الدم الذي سال ، وحجم السبي للنساء والأطفال الذي تم .
نشأة الأحزاب :
لكن الدارس المحايد لتلك الفترة ، لا بد وأن يقدر حكمة أبي بكر ، باتخاذه لهذه الإجراءات ، التي استعاد بها وحدة الدولة الناشئة ، وتدشينه لمرحلة الانطلاق في الفتوحات اللاحقة . لكن أبا بكر في ذات الوقت ثبت قواعد التعامل مع المعارضة السياسية ، وما نصفه في لغتنا المعاصرة بحق وحرية التعبير . هذه القواعد التي آل تطبيقها إلى وقوع الفتنة الكبرى ، في عهد عثمان ، وانتهت بمقتله . ولأننا تطرقنا إليها في الحلقة المعنونة بِ "عبود الزمر والعيش خارج المكان والزمان " ، فلا نجد ما يدعو إلى العودة لها . ولمن يريد الإستزادة يمكنه مراجعة كتابنا " قراءة سياسية في العهدين المحمدي والراشدي " بجزئيه . وفقط نذكر القارئ بأن عثمان ضاق بالرأي المخالف ، لدرجة استخدام العنف ، وبنفسه ، ضد مخالفيه . نفى أبا ذر من المدينة ، وضرب عمار بن ياسر في ساحة المسجد ، وأحدث له فتقا في بطنه ، وضرب عبد الله بن مسعود ، وجرجره خلف حصان وكسر عددا من أضلاعه، بسبب رفضه تسليم نسخته من القرآن لحرقها ، بعد أن تم توحيد النسخ في تلك المعروفة باسم مصحف عثمان . وقصة الفتنة وعجز النظام عن تقديم حل لها ، لخلو نظام الشورى من أية قواعد للتعامل مع هكذا خلاف ، وقتل الخليفة عثمان ، وهو شيخ كبير ، هي الأخرى معروفة ، ومدونة في كل المراجع التراثية . ولكن ربما يسأل قارئ : وماذا عن مبايعة المسلمين للخليفة ؟ ألم تعرض هذه المبايعة ، بالإجماع الذي تمت به لأبي بكر وعمر ، صورة ناصعة للشورى ، وطريقة مثلى لحل الخلافات السياسية ؟ ثم ماذا عن موقف عمر ، الخليفة العادل من معارضيه ؟
تخبرنا كتب التراث أن عددا من الصحابة ، على رأسهم علي والزبير وطلحة ، وقبلهم فاطمة الزهراء ، رأوا في خلافة أبي بكر تجاوزا لحق علي ، وآل البيت ، فيها . وكل ما فعلوه أن اعتصموا في بيت علي ، وتخلفوا أو تغيبوا عن المبايعة . لم يرض أبو بكر ، كما لم يرض عمر، بموقفهم هذا . حاصروا البيت ، هددوهم بحرقه ، ثم أخرجوهم وأجبروهم على المبايعة . وقيل أن علي ، بدعم من فاطمة ، لم يبايع إلا بعد وفاتها . ومقولة أبو بكر ، وهو على فراش الموت ، معروفة . تمنى أبو بكر أنه لم يفعل ثلاثا ، إحداها كشف بيت فاطمة . وبالمناسبة شكلت هذه الحادثة أحد مرتكزات الشيعة ، في كراهيتهم لأبي بكر وعمر .
تكرر نفس الأمر مع عبد الله بن الزبير في خلافته . حاول الحسين بن علي التخلف عن المبايعة ، ومعه بعض الصحابة . ورغم أنهم لم يناهضوا ابن الزبير ، فإن تخلفهم لم يرضه . اضطر الحسين إلى الخروج من المدينة ، لكن ابن الزبير لاحقه وأجبره فيما بعد على المبايعة . والملفت للنظر في سلوك هذا الخليفة الذي اشتهر بزهده ، وبنقاء إيمانه ، وبخشوعه في الصلاة لدرجة أن حمام الكعبة كان يقف على رأسه وكتفيه أثناء الصلاة ، لجأ إلى استخدام العنف ، الضرب لإجبار معارضيه على المبايعة .
أما عن عمر ، فقد أشرنا في حلقة سابقة إلى شدته وعدم رضا المسلمين عنها .ومعروف أن سعد بن عبادة زعيم الأنصار ، والذين رشحوه للخلافة في سقيفة بني ساعدة ، سعد هذا رفض مبايعة أبي بكر ، كما قاطع الصلاة وراءه . وبسبب موقفه هذا ، وفقدان أبو بكر وعمر القدرة على إجباره بالمبايعة ، جرى دمغه بالمنافقة . واصل سعد موقفه هذا مع عمر . ولأن نطاق المضايقة اشتد عليه اضطر للمهاجرة . ولكنه لم يكد يتجاوز الأردن حتى تم اغتياله . وتناقلت إخباريات التاريخ مزاعم نسبت إلى صبية من المدينة ، بأن الجن هم من اغتالوه ، بدعوى أنه بال واقفا . ودشن هذا الاغتيال الأول في الإسلام ، لمعارض سياسي مسلم ، وصحابي بارز ، كان من ذوي السابقة والفضل ، في الدعوة الإسلامية ، منهجا مثل علامة بارزة في مسار كل النظم الإسلامية اللاحقة .
أما تحول الخلاف إلى معارضة منظمة ومناهضة للحكم ، فقد وقع في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب . تمثل ذلك في ظهور الخوارج ، إثر خدعة رفع صحائف من القرآن على أسنة الرماح في صفين ، ثم خدعة التحكيم التي لحقتها . فقد دارت مطالب الخوارج حول الحكم وكيفية اختيار الحاكم ، أو الخليفة ، ودون حصره في قريش . ولما كانت هذه المطالب سياسية بامتياز ، فلم يكن بمقدور قياداتها الخروج على ثقافة العصر ، وكذلك من لحقهم فيما بعد ، وعرضها خارج ثوبها الديني .
علي بن أبي طالب عمد إلى محاولة الحل من خلال الحوار . وفشل الحوار . وكان الصراع ومحاولة اجتثاث هذه المعارضة بالإبادة ، كما حدث في معركة النهروان ، وليستمر هذا النهج على طول مسارات الحكم الإسلامي .
ولقد شهد العصر العباسي تطورا ملفتا للنظر في مسألة التعامل مع المعارضة السياسية ، الفردية وغير المنظمة . جرت تصفية المعارضين ، لكن بتهمة الزندقة ، كما حدث مع بشار بن برد وابن المقفع كأمثلة .
ونخلص إلى القول بأن كل نظم الحكم الإسلامي لم تتقبل شيئا اسمه المعارضة السياسية ، وبالتالي لم تعرف ما يمكن وصفه بحق وحرية التعبير . وأكثر دمغ ذلك العنف ، الذي فاق حدود الوصف ، ضد الخصوم السياسيين ، سائر العهود الإسلامية . ولعلنا أخيرا نذكر القارئ أن كل نظام قام في قطر من أقطار الإسلام ، لجأ إلى محو كل آثار النظام الذي سبقه ، حارما الأجيال اللاحقة من حق الاستفادة مما أنتج هذا النظام من انجازات حضارية . وكمثال دمر العباسيون كل أثر للأمويين ، بما في ذلك قصورا كانت آية في جمال فنها المعماري . والأمر طال كل التراث المكتوب أيضا .
الحريات وحقوق الإنسان :
دأب المتحدثون باسم تيارات الإسلام السياسي ، على ترديد القول ، بأن الإسلام حوى من الضمانات ، وكفالة حقوق الإنسان ، وحرياته الخاصة والعامة ، ما يفوق بكثير تلك الواردة في مواثيق حقوق الإنسان ، الصادرة عن الهيئات المختلفة ، في الديموقراطيات الغربية . ويذهب أكثرهم ، في تعليل رفضه لتلك المواثيق ، إلى تصنيفها بالبدع التي لا تتفق وصحيح الدين . ويقول آخرون : بما أننا نملك الأفضل فلماذا نقبل الأقل . ويعاودون القول بأن المسلمين عاشوا في ظل الدولة الإسلامية سواسية كأسنان المشط ، لا فرق بين أسود وأبيض ، وبين مسلم وغير مسلم ...الخ ، تأكيدا على سبق الإسلام في إقرار وتطبيق الحريات والحقوق ، كما ورد في مقال طاهر أبو زيد ، الذي أودنا بعض المقتطفات منه في الحلقة الماضية . ونقول : إذا ما ركن الناس في مصر إلى مثل هذه الأقوال ، من جماعات الإسلام السياسي عندهم ، فسوف ينتظرهم الكثير من الويل والثبور في قادم الأيام . لماذا ؟ لأن القول بضمان الإسلام للحريات وكفالته لحقوق الإنسان التي وردت في المواثيق الدولية ، ومن ثم تبرير رفض الإقرار بها والتوقيع عليها ، ليس فقط مخالفا للحقيقة ، ولكنه تزوير فاضح ووقح للدين نفسه . كيف ؟
لا نظن إلا أن الكافة يقرون اليوم ، بصحة ما ذهب إليه التاريخ الاجتماعي في القول بأن البشرية عبرت في تطورها ، مراحل عدة ، مرحلة العبودية إحداها. في هذه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية ، التي سادت في أجزاء واسعة من قارتي أوروبا وآسيا ، انقسم الناس إلى فئتين متمايزتين : أحرار وعبيد . وسرت عليها شرائع ، أعراف وتقاليد ، قوانين وسنن ، نظمت العلاقة بين الطرفين ، وبحيث أعطت للأحرار الكثير من الحريات والحقوق ، وحرمت العبيد تماما منها .
وقارئ التوراة والأناجيل والقرآن ، حتى ولو كان غير متبصر ، يلحظ ، وبوضوح ، أن الديانات الثلاث نزلت في هذه الحقبة ، حقبة العبودية ، من تطور البشرية . وليس فقط لم يبادر أي دين من الأديان الثلاثة إلى مناهضة هذا الظلم البشري الصارخ ، فالعمل على رفعه عن كاهل البشر ، ولكنها فعلت العكس تماما . لم تقف الأديان الثلاثة عند حد قبول نظام العبودية هذا ، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك . ذهبت إلى حد تقنين هذا الوضع ، واستبدال الأعراف والتقاليد السائدة ، بقوانين وتشريعات حاكمة . وأكثر من ذلك ، وإذا ما أخذنا بالحسبان صلاحية التشريعات الدينية لكل زمان ومكان ، فإن الأديان الثلاثة قضت بديمومة وسريان نظام العبودية إلى أبد الآبدين .
هنا قد يعترض قارئ بالقول أن ما قيل هو مجرد افتراء على الدين لا سند ولا أساس له . وقد يضيف : وعلى العكس تماما فقد تحدثت آيات كثيرة عن المساواة ، وتبعتها أحاديث نبوية عديدة . وأكثر من ذلك ضمن الإسلام مبادئ ، وشرع قوانين ، إنهاء العبودية . هذه القوانين التي لو طبقت تطبيقا صحيحا لكانت العبودية قد انتهت منذ زمن طويل . ونقول : هذا قول صحيح ولكنه مجزوء ، وأقل كثيرا من نصف الحقيقة . فقد ورد في القرآن بضعا وثلاثين آية تتحدث عن الرق وملك اليمين والعتق . وتوضح التفاسير وأسباب النزول أن العتق كان قائما قبل الإسلام ، وظل ، قبل الإسلام وبعده ، فعل فردي وآني غير متواتر ، في حين ظل الاستعباد فعلا جمعيا ، مستديما ومتواترا . وهذا يفسر اتساع نطاق العبودية في الإسلام ، رغم الآيات الحاضة على الإعتاق . ويفسر لماذا توفي النبي وعنده وعند زوجاته عبيد ، ولماذا توفي الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ...وعندهم الكثير من العبيد . ويفسر لماذا استمرت العبودية في أكثرية بلاد المسلمين حتى ما بعد منتصف القرن العشرين .
وما يهمنا هنا أن العبودية تتنافى تماما مع حقوق الإنسان . وإذا كان الدين يضمن مساواة البشر أمام الله في الآخرة ، فإنه أقر ثم ثبٌت عدم المساواة هذه في الدنيا . وببساطة قسم البشر إلى ناس ، وإلى لا ناس .ناس بحقوق وحريات ، ولا ناس بلا أية حقوق وبحرمان تام من أية حريات ، حتى حرية الانتساب إلى أب وأم . والقارئ لتفسير آيات العبودية لمفسرين محدثين ، مثل الشيخ الشعراوي ، ومثل سيد قطب في مؤلفه الضخم ، في ظلال القرآن ، يقف مشدوها أمام تبريرات ، تظهر وبوضوح عدم قناعة قائلها بها . تبريرات لنكوص الدين عن المبادرة لتخليص البشرية من هذا الظلم الرهيب ، ومن هذا الداء الوبيل . ونختم هذه الفقرة بالإشارة إلى أن إخراج مقولات من سياقاتها ، كقول عمر بن الخطاب متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ، لا يخدم الحقيقة . الحقيقة التي تقول بأن الأديان السماوية الثلاثة لم تتضمن أية تشريعات لضمان حريات وحقوق الإنسان . وأن هناك ضرورة للاعتراف ، والتوقيع على مواثيق حقوق الإنسان ، كما فعل الغرب المسيحي ، الذي أقر بأن المسيحية لم تشرع ولم تكفل هذه الحقوق . ولهواة الجدال والمناكفة نسوق هذه الحادثة المدونة في كل كتب صحاح الحديث . تقول الحادثة أن النبي ، في طريقه إلى المسجد ، مر على الساحة التي كان الأسرى يحشرون فيها ، قبل توزيعهم أو بيعهم عبيدا، أو إماءا أو ملك يمين . لفت انتباه النبي أن أما وأطفالها يبكون ويعلو نحيبهم . سأل ، فجاءه الجواب أنهم سيباعون وسيفرق البيع بينهم . وكان الحل أن أمر بعدم التفريق بين أم وأولادها وذلك ببيعهم معا . ونختم بالسؤال : كيف يكون حديث عن حقوق الإنسان وطفل يباع في السوق ، مثله مثل أي سلعة ؟ وطفلة أو امرأة تهدى ، مثلها مثل لعبة باربي ، أو علبة شوكولاتة ؟
المرأة والرئاسة :
وفي إطار محاولات إثبات تعارض الديموقراطية مع الدين ، أقحمت بعض جماعات الإسلام السياسي مسألة حق المرأة في شغل المناصب العليا ، بما فيها منصب الرئاسة ، على ساحة النقاش العام . ونتج عن هذا الإقحام إنشغال النخبة المثقفة في حوار وجدل ، حول هذه المسألة ، امتد لأسابيع طويلة . ولم يكن هدف هذا الإقحام ، كما رأيت ورأى غيري ، غير تذكير الناس لرفض هذه الجماعات للديموقراطية ومكوناتها المختلفة . ذلك لأنه إذا كان ترشح المرأة للتنافس على منصب الرئاسة موضوع الساعة – آنيا – فإن احتمال فوزها بالمنصب ما زال بعيدا – غير آني - ، والجدل حوله لا يقترب من قائمة الأولويات المستحقة للحوار والجدل . وقبل الاستطراد لا بد من التذكير أن النقاش الذي جرى إقحامه ، تجاوز موضوع حقوق المرأة التي توفرها الديموقراطية ، وتقف عند حدود الصفر في الإسلام . ويمكن لمن يرغب في مزيد من المعرفة ، الجوع إلى كتابنا " المسلمة الحرة ". وعليه نحن أيضا سنلتزم بهذه الجزئية التي أقحمها إسلاميو السياسة على دائرة النقاش .
ارتكز بعض أقطاب الجماعات ، في طرحهم إلى حديث نبوي شريف ، منسوب إلى الصحابي الجليل أبو بكرة ، ومثبت في كتب الصحاح . يقول الحديث : " ما فاز قوم ولوا شؤونهم امرأة " ، ويدلل على عدم قبول الدين لتولي المرأة مقاليد المناصب العامة ، وفي المقدمة أعلاها ، أي منصب رئيس الجمهورية . والطريف ما جاء في طرح الدعاة ، لما وصفوه بالتبرير العلمي لعدم صلاحية المرأة تولي هذا المنصب ، بمسؤولياته الضخمة . زعموا أن المرأة في فترة الحيض تعيش حالة من الضعف ، يسببها خلل في توازنها العقلي والنفسي ، يفقدها القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة ، في ظروف قاسية أو صعبة ، قد تتعرض لها البلاد .
ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة هذا الزعم العلمي الذي استند إليه هؤلاء الدعاة ، لنستعيض عنه بوقفة مع الحديث المنسوب للصحابي أبو بكرة ، والمثبت في كتب الصحاح . يقول خبر رواية هذا الحديث أن أبو بكرة تذكره عقب موقعة الجمل ، التي تولت أم المؤمنين عائشة أمر قيادتها ، وما أعقبها من الهزيمة التي لحقت بجماعتها ، ومقتل هذا العدد الهائل من الصحابة ، وفي مقدمتهم اثنان من المبشرين بالجنة ، الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله .
وقبل موقعة الجمل الفاصلة ، كانت عائشة قد قادت ، وفي محيط البصرة ، أكثر من موقعة ، حققت الفوز فيها جميعا . لم يتذكر أبو بكرة الحديث أثناء تلك الوقائع ، رغم شهوده لها . ويقول أبو بكرة أن النبي قال هذا الحديث في معرض تعقيبه على الأنباء الواردة آنذاك من عاصمة كسرى ، وتنازع الورثة على العرش ، حتى آل ، بعد تعدد صعود ونزول الأبناء ، إلى إحدى بنات كسرى . وتعقيبا على النبأ قال النبي الحديث ، والذي دللت هزيمة عائشة ومعسكرها ، على صحة حكم هذا الحديث بعدم جواز تسلم المرأة لشأن قيادة من هذا الحجم أو أقل منها .
ونحن هنا نسأل السادة الذين تذكروا هذا الحديث الآن ، وأقحموا الجدل حوله على الشارع ، نسألهم : هل يتهمون النبي بالتقصير في تعريف وتعليم المسلمين بشؤون دينهم ، ومنها هذا الشأن الخطير في الحكم ، حتى يقعوا فيما وقعوا فيه في معركة الجمل ، وما قبلها وبعدها ؟ نسأل لأن تذكر أبو بكرة لهذا الحديث ، الحكم ، بعد كارثة الهزيمة في موقعة الجمل ، تدلل أن أبو بكرة نفسه لم يعر هذا الحديث كبير اهتمام . فهل كان النبي قد أسره له في أذنه ، ولم يطلع باقي المسلمين عليه ، حتى لا تعرفه عائشة ، ولا يعرفه أحد من جمع الصحابة ، الذين ولوها أمرهم ، في مخالفة صريحة لمنطوق الحديث ، فكانت هذه الهزيمة المنكرة ؟ ونسأل أيضا : ترى لو كان خصمها واحدا غير علي بن أبي طالب ، بقدراته القيادية والعسكرية الفذة ، وانتصرت عائشة ، كما سبق في المواقع الصغيرة السابقة لموقعة الجمل الفاصلة ، هل كان أبو بكرة سيتذكر هذا الحديث ، الحكم ؟
وربما لا يتذكر السادة الدعاة أن مسألة حكم المرأة ، وصلاحيتها لتولي المناصب العامة ، عرض لها القرآن ، في سورة النمل وباثنتين وعشرين آية ، من الآية 23 ,على الآية 44 . والآيات تحكي قصة ملكة سبأ مع الملك سليمان ، ونقل الهدهد للرسائل بينهما . وقارئ الآيات ، وتفسيرها وأسباب نزولها ، لا يقع على أي تلميح أو إشارة لعدم صلاحية المرأة لتولي شؤون الحكم . وعلى العكس يقع على إشادة بحكمتها ، وتقدير الملأ ، وهم مجلسها للشورى حسب النص ، لمواهبها ولقدراتها القيادية ، وتسليمهم بذلك . ومن جديد يبرز السؤال : إذا كان الدين ، حسب الحديث السالف ، يقطع بعدم صلاحية المرأة لتولي الشأن العام ، فلماذا لم تنص عليها تلك الآيات ، وقد عرضت لولاية المرأة ، من خلال الملكة التي عرضت لها تلك الآيات ؟ ألا يقول لنا السادة الوعاظ والدعاة ، أن الله هو الآخر ، كما النبي ، قد قصر في إبلاغ البشر بأحكام تعاليمه ؟ أليس واجبا في حكم بهذه الأهمية ، كما يزعم السادة في تيارات الإسلام السياسي ، أن يعار لإبلاغه أهمية أعلى من أن يسره النبي في أذن أبي بكرة وحده ؟ أم أن المسألة تنحصر في معاداة الديموقراطية التي يذلل لها كل صعب ؟
إذن وفي ختام هذه الحلقة ، وقد أطلنا على القارئ ، نذكر القارئ بأن مشوارنا مع باقي الأسئلة ، التي ختمنا بها الحلقة السابقة ، ما زال طويلا ، سنسأنفه في الحلقة التالية .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 4 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
- عبود الزمر و العيش خارج حدود الزمان والمكان
- دخول الى حقل المحرمات - 1 -
- وحدة الأضداد بدون صراعها
- هل هي مبادرة؟!
- ويا بدر لا رحنا ولا جينا


المزيد.....




- الكشف عن المدينة الأكثر ملاءمة للعيش بالعالم في عام 2025
- قطر.. الشيخة مريم تلفت لـ3 نقاط بصراع إيران وإسرائيل
- هل ما زال بنفس القوة؟.. ما هو وضع علي خامنئي بعد حكم إيران ل ...
- الأردن.. فيديو يرصد رد فعل برلمان أوروبا على كلمة الملك عبدا ...
- أوريشكين: التغيرات الديموغرافية العالمية الحالية أسوأ مما ك ...
-  الإعلام العبري: الإسرائيليون يهربون من القصف الإيراني إلى أ ...
- سودانيون في إيران: أنهكتنا الحروب في الوطن وفي دولة النزوح
- هل تتدخل روسيا إلى جانب إيران في المواجهة مع إسرائيل أم أن ل ...
- إيران تعلن أنها تسيطر على سماء تل أبيب بفضل صاروخ فتّاح الفر ...
- تصعيد بين إسرائيل وإيران وسط ترقب للدور الأمريكي في النزاع


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية 4 السلفيون و مواجهة الديموقراطية بالشورى