أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 12















المزيد.....



قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 12


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3621 - 2012 / 1 / 28 - 21:57
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


عن المثقفين وأدوارهم ( 1 )
عود على بدء :
كنت قد اختتمت الحلقة الثالثة ، من هذه السلسلة ، بالإشارة إلى أن مواضيع إعادة بناء أعمدة النظام التي سقطت ، وفي مقدمتها الداخلية ، وتوابعها من أجهزة الأمن ، ستكون هي موضوعات الحلقات التالية ، بدءا بالحلقة الرابعة . لكن رياح الثورة جرت على عكس ما تطلبه تخطيطي . جاءت جمعة 29 يوليو –تموز ، التي عرفت بأسماء كثيرة ، منها جمعة قندهار ، وما قدمت من أخطار ماثلة على الديموقراطية ، لتفرض تغييرا على المخطط ، أجلت معه الحديث عن مسألة إعادة بناء الداخلية ، وأجهزة أمنها ، وما يجلبه هذا البناء من استقرار مأمول ، يهيئ لاستكمال أهداف الثورة . لكن الرياح جرت على غير ما اشتهت أشرعة حلقاتي .
فقد فرضت أحداث جمعة 29 يوليو – تموز ، التي أخذت أسماء عدة ، منها جمعة قندهار ، نفسها على المشهد كله ، وقدمت ما رأيته فرصة ذهبية ، تمثلت في إمكانية إجبار التيارات الإسلامية على كشف حقيقة برامجها ودعاواها ، بدل مواصلة الاختباء وراء عموميات تلك البرامج والدعاوى . وهكذا فرض التبديل في الأولويات نفسه على ، وكانت حلقات تيارات الإسلام السياسي ، ومخاطرها على الديموقراطية ، والتي تمددت فطالت ، على غير ما خططت ورغبت .
عثرات :
والآن ، يفترض الانتهاء من الحلقات المعترضة ، العودة لوصل ما انقطع . لكن معترضات كثيرة وقعت ، شكلت إعاقة جديدة لاستئناف عملية الوصل هذه . ففي الأشهر الأربعة الماضية ، التي أعقبت غزوة قندهار لميدان التحرير ، وقعت أحداث ، قالت أن الديموقراطية المنشودة ، ليس هي فقط التي في خطر ، بل وأن الخطر يحدق بالثورة ذاتها . فهناك جهود حثيثة ومتوترة لوأد الثورة ولإعادة إنتاج النظام القديم ، ولكن بوجوه جديدة .
وكنتيجة لتلك الجهود اعترضت الثورة المصرية عثرات عدة ، تجاهد للخروج منها ، وحيث رأى مفجرو الثورة أن إعادة بعثها، واستكمال طريقها ، هو السبيل الوحيد لتخطي العثرات ، فالسير نحو تحقيق الأهداف . والمتابع لمشاهد الثورات العربية ، ومن خلال التركيز على المشهد المصري ، لا بد أن يلاحظ ، فيقف على ، أدوار المثقفين في إنجاح جهود إحداث تلك العثرات . ولا أظن أن القارئ بحاجة لتذكيره بأن المثقفين لا يمكن جمعهم في سلة واحدة . هناك منهم من نجحت نظم الحكم في تدجينهم ، ومن ثم ربط مصالحهم بمصالحها ، وليُسخِّروا ، وهم الأكثرية ، عقولهم قبل أقلامهم ، في تزيين أفعالها ، وفي تضليل جماهير شعوبهم ، وإبعادها عن طريق مواجهة فساد هؤلاء الحكام ، بما في ذلك بقاء بلدانهم خارج إطار التاريخ . وهناك المثقفون الذين يحكم مواقفهم العداء لأمريكا ومؤامراتها ، وانحيازها السافر للأطماع الصهيونية . ويمكن القول عن هؤلاء بأنهم محكومون بعقلية ونظرية المؤامرة . وهم من جهة أخرى ، أولئك المسكونون بالقضية الفلسطينية ونصرتها ، بالدفاع عنها ، وصد المؤامرات المتربصة بها . وهم بسبب ذلك يرون الأحداث وتطوراتها ، من هذه الزاوية وحدها . وفي الغالب يحسب هذا التيار من المثقفين ، على تيارات اليسار العربي ، بأطيافها المختلفة . وأخيرا هناك المثقفون الذين صارعوا واحتفظوا بنقاء ضمائرهم ، وجمعوا إلى هذا النقاء ، انحيازا إلى القضية الفلسطينية ، دون الوقوع في شباك عقلية المؤامرة . وهؤلاء للأسف هم قلة ، من منظور رؤيتي الخاصة . وعليهم وقعت مسؤولية مساعدة جماهير الثورات العربية ، على الإفلات من الفخاخ التي نصبتها لها النظم المستبدة ، وأوكلت للفئة الأولى ، الكبر والأوسع ، تسهيل السبل للوقوع فيها . وعن هذه الفخاخ وعن جهود مثقفي النظم اخترنا حديث هذه الحلقة ، وربما حلقات تتلوها .
وإذن نقول : لعل القارئ ما زال يذكر أن الأنظمة الحاكمة ، وعلى طول مسارات ثورات الربيع العربي ، وفي سائر بلدانها ، واصلت التلويح بما وصفته بمخاطر ، وفي صورة تحذيرات ، ملفوفة بسيلوفان الحرص على مصير ومصالح ومستقبل الوطن ، والزعم بأن الثورة توفر الفرص لتنفيذها . وقد زودته تجارب أيام الثورات أن هذه التحذيرات ، لم تستهدف غير إثارة هلع قطاعات من الجمهور ، ومن ثم تحويل هذه القطاعات من تأييد الثورة إلى الحذر منها في أقل التقديرات ، وليتلوه الانفضاض من حولها ، فالابتعاد عنها . كما لا بد لاحظ أن أثر تناول المثقفين لها ، بكل العك الذي يتقنونه ، لم يتوقف عند تدويخ المواطنين ، وربما بعض قطاعات من شباب الثورات ، بعد سحبهم إلى غياهب المناظرات والتحليلات والمناقشات ، التي تطل على المواطن من كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة . لقد تعدى فعل المثقفين أثر التدويخ إلى تجهيز المواطن لتقبل كل أنواع التهم ، التي تخبئها السلطة في جعبتها ، وهي تتحين الفرص لإلصاقها بالثوار والثورة . وكان أن شكل كل ذلك بعض أفضل أسلحة الثورة المضادة .
قضايا محسومة :
ومما يثير الدهشة أن المثقفين ، وبينهم من يوصفون بالمحللين الاستراتيجيين ، اندفعوا للعك في قضايا ، رماها الحكام في ساحات الثورة ، كانت وقائع الحياة قد حسمتها ، والمثقفون الذين تناولوها يعرفون ذلك عن يقين ، بأن حكمت ببطلانها .
وحتى لا نبقى في العموميات تعالوا لنسأل : هل هناك بالفعل مؤامرات ومخططات لتمزيق الأقطار العربية القائمة ، وبعثرتها في كيانات صغيرة جديدة ومصطنعة ؟ وهل صحيح أن الثورات الشعبية ، بوسائلها السلمية ، المظاهرات والاعتصامات ، وحتى الاشتباكات العنيفة بالأسلحة البيضاء ، مع أجهزة الدولة الأمنية ، قادرة على تهديد كيان الدولة ؟ وهل قدَّم التاريخ القديم ، قبل الحديث ، نماذج توفر نوعا من المشروعية لهكذا سؤال ، أو تساؤل ؟ وهل كيان الدولة ، ومفهوم الوطن ، يقف عند حدود خدمة مصالح فئة تستأثر بمقدرات وثروات البلد ؟ وهل تحويل هذه الخدمة إلى الجماهير الواسعة ، يعني هدم الدولة وتمزيق الوطن ؟ وهل تحويل مؤسسة الجيش من حماية مصالح الفئة المستأثرة بمقدرات البلد ، لحماية مصالح الجماهير الواسعة ، هو تهديد بهدم الدولة ؟ وهل تفكيك مؤسسة الجيش ، من الناحية النظرية قبل العملية ، تفكيك ونهاية للدولة ؟ وهل معارضة الاستعمار والممانعة لمؤامراته ومخططاته يستلزم تحويل النظام من جمهوري إلى ملكي مستبد ، يقمع الحريات ويطيح بالحقوق باسم الممانعة ، كما هو الحال في سوريا وكما كان في ليبيا ؟وهل صحيح أن الثورات الوطنية لا تحتاج إلى العون الخارجي ، وأن اللجوء لمثل هذا العون يقع في باب الخيانة الوطنية ؟ ومن المسؤول عن دفع الثورات العربية إلى طلب الحماية من أعداء بلدانها التقليديين ، الطامعين في ثرواتها ، مثل دول الناتو وأمريكا ؟ ومن هم االبلطجية ، البلاطجة ، الشبيحة ، الطرف الثالث ، واللهو الخفي بالتسمية المصرية ، وكيف تقف أجهزة الأمن المشهود لها بالكفاءة ، عاجزة أمام تحركات ومؤامرات هؤلاء ؟ وما هي جدوى وجود هذه الأجهزة ، واستمرار نزفها لميزانية الدولة في ظل عجزها القبيح هذا ؟ وما هو مفهوم الأغلبية الصامتة في قواميس الثورات والاستفتاءات والانتخابات ، وكيف يحسب ما لها وما عليها ؟
تعكس هذه الأسئلة بعض القضايا التي رمت بها الأنظمة في ساحات الثورات التي قامت ضدها ، والتي غرق المثقفون وسياسيون ومحللون إستراتيجيون ، في طرحها والحوار حولها ، وما أنتج فعلهم من تشتيت لانتباه قوى الثورات ، ومن تخويف لجماهير عريضة ، تؤثر الدعة وراحة البال ، على انتظار المخاطر التي ذهبت إليها المناظرات والحوارات والتحليلات ...الخ .


ومن جديد أعود لأقول : لا أظن أن القارئ بحاجة لمن يُذكِّره بنجاح الأنظمة العربية في تدجين قطاع كبير من المثقفين ، ومن ثم في تحويل دورهم من توعية الجمهور ، وتنوير السبل أمامه ، بتعزيز قيم الحرية والعدل والديموقراطية والمواطنة والمساواة والحقوق ... الخ ، إلى تبرير أفعال النظم ، من خلال سلوك سبل ، وتبني مناهج ، تقف عند حدود مصالحهم الصغيرة ، وتعاكس بالتالي المسؤولية التي ألقتها الحياة على عاتقهم . لا يحتاج القارئ إلا أن يتمهل مفكرا في أحوال مثقفي بلده ، حتى يرى أن وصم دور هؤلاء المثقفين بالخيانة ، ليس غير توصيف يعكس حقيقة مرة ، ولا يحمل أي قدر من التحامل عليهم . ومع ذلك فسأتوقف عند بعض القضايا ، التي عكستها الأسئلة السابقة ، لأوضح كيف أن المثقفين ، ومن يوصفون بالمحللين الاستراتيجيين ، وبعض السياسيين ، غرقوا ، وأغرقوا الجماهير ، في قضايا وهمية ، حسمتها وقائع معاشة ، معروفة تمام المعرفة ، لهؤلاء الذين تصدوا للخوض فيها ، واعين بخدمتهم للنظم التي ثارت وتثور الجماهير ضدها ، ومسلحين قوى الثورة المضادة بأسلحة فاتكة بالثورة وثوارها . ونبدأ بِ :
عقدة سايكس بيكو وفزاعة تمزيق الأوطان :
ولأن الأنظمة العربية " قرأت على شيخ واحد " ، سارع كل من انطلقت الثورة ضد ه ، إلى الزعم بوجود مخطط أجنبي ، محفوظ منذ زمن بعيد ، في أدراج مكاتب مخابراته ، لتمزيق البلد إلى كيانات صغيرة ، ينتظر الفرصة للبدء في التطبيق . كما سارع كل منها للتأكيد بأن المظاهرات التي اندلعت ، وتزعزع الاستقرار ، تقدم الفرصة ، للعدو المتربص هذا ، وعلى طبق من ذهب . وحتى مصر المعروفة بوحدة ترابها ، منذ ما يزيد على سبعة آلاف عام ، لم تنج من هذا الزعم ، ومن التحذيرات بالأخطار التي سيقت الأدلة ، وأهمها ما يزعم عن مطالب لأقباط المهجر بحماية غربية لأقباط الداخل ، على أنها ماثلة .
ولأن عقدة سايكس بيكو تتلبس مثقفين كثر ، في كل قطر من أقطار الثورات العربية ، فقد سارع هؤلاء لتلقف مزاعم حكامهم ، فقذف شعوبهم بسلسلة من التحليلات ، المدعمة بما يسمونه بالوقائع والحقائق ، عن مخاطر تلك المخططات ، وتوفير الثورات لفرص تطبيقها . قالوا أن دخول الأطلسي لمنع القذافي من ذبح شعبه ، هو نقطة البدء لتقسيم ليبيا إلى أربع كيانات . وتضاربت الأرقام حول عدد الكيانات التي ستنقسم لها سوريا . وحتى مصر قيل عن مخطط لإنشاء كيان قبطي في الصعيد ، وآخر نوبي في أقصى الجنوب وبدوي في سيناء ...الخ . والغريب أن عقدة سايكس-بيكو هذه تنتقل بسرعة عجيبة من جمهور المثقفين هؤلاء ، إلى الجمهور العادي . وفي بلد مثل فلسطين ، قد لا ينجو الرافض لمثل هذه المزاعم ، من الاتهام بالتساوق مع أصحاب المؤامرات ، وربما تلحقها اتهامات بالعمالة ، إن لم تكن بالخيانة . وإذا تصادف ، عزيزي القارئ ، أن تورطت في حوار ، أو مناقشة ، حول زعم بمخطط لتمزيق سوريا مثلا ، فإياك أن تسأل عن المبررات ، أو أن تستشهد بأن الوقائع على الأرض ، العراق مثلا ، تنفي وجود مثل هذه المخططات .
في كتابي " إطلالة على القضية الفلسطينية " الموجود الآن بين يدي قراء الحوار المتمدن ، توقفت عند عقدة سايكس - بيكو هذه . وحاولت ، باستحضار معلومات تلقاها القارئ في المدرسة ، تخليصه من هذه العقدة . أشرت إلى أن الوطن العربي الإفريقي ، جرى انتزاعه ، ومن ثم تقسيمه ، من الخلافة العثمانية ، قبل سايكس - بيكو ، بزمن طويل . ومثله حدث لأملاك الخلافة العثمانية في جزيرة العرب ، على يد السلطان عبد العزيز بمساعدة بريطانية مباشرة . وقبل سايكس – بيكو أيضا أنشأت بريطانيا الإمارات الخليجية ، التي لم تكن تملك وقتها أيا من مقومات الدولة ، وحظرت على السلطان عبد العزيز ، الاقتراب منها ، وتقبل هو ونفذ ذلك الحظر . ومع اقتراب الحرب العالمية الأولى لم يكن قد تبقى من أملاك الخلافة العثمانية العربية غير الهلال الخصيب ، أو العراق والشام . وهذه ، مع تركيا نفسها ، هي من كانت موضوع مؤامرة سايكس – بيكو . لكن ما حصل أن كمال أتاتورك قاد ما تبقى من جيش بلاده وطرد محتلي تركيا ، تطبيقا للمخطط المذكور ، وأنقذ تركيا من ويلات التقسيم . وكان أن حدث أيضا ، أن القيادات العربية ، في منطقة الهلال الخصيب ، موضوع المؤامرة ، وقفت عاجزة عن مجاراة أتاتورك ، وعن إنقاذ بلدانها من ويلات التقسيم . لكنها ، وفي تعارض مع المنطق السليم ، نجحت في تحويل عجزها هذا إلى عقدة تمسك بتلابيب مثقفي بلدانها ، ولتستدعي هذه العقدة كلما شعرت بخطر شعبي يتهدد كراسي عروشها . والطريف أن المثقفين على أهبة الاستعداد لتلبية نداءات أصحاب العروش . وبعد كل هذا تساءلت : انزاحت بريطانيا ، وليس سايكس فقط ، وانزاحت فرنسا ، وليس بيكو فقط ، فلماذا بقي تطبيق المؤامرة قائما . لماذا لم تتوحد بلدان الشام التي مزقتها مؤامرة سايكس – بيكو ، وقد غار أصحابها في ستين داهية ؟ لماذا لم يتوحدوا والكيان الصهيوني الناشئ يهدد بقضم أجزاء من أراضيهم ذاتها ؟ لكن ما حدث أن نشأ وضع أخذ كل قطر يتطور فيه ، وكأنه أمة بتراث وثقافة ، وحتى تاريخ ، يتقاطع ، ولكن يختلف عما هو لدى الأمة المجاورة . واكتوينا ، نحن الفلسطينيين ، بكل ذلك على جلودنا . نعيش أغرابا ، ونعامل كأغراب أعداء في بلدان أشقائنا . ولم يسأل أحد نفسه فيما يبدو : هل ملك سايكس وبيكو من الدهاء ومن الحكمة وبعد النظر ، لإحداث كل ذلك ، وليجعلانا على ما نحن عليه الآن ؟
وفي الكتاب أيضا تساءلت لماذا لم يحدث ما حدث لنا لكل الأمم التي قسم المنتصرون أوطانها بعد الحروب الكبيرة ؟ فالحرب العالمية الأولى ، لم تمزق ، ولم تقض على الخلافة العثمانية فقط ، ولكنها قضت ومزقت امبراطورية النمسا – المجر . ومزقت ألمانيا نفسها وجردتها من مستعمراتها . ونفس الأمر تكرر مع ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية . ولم يحدث لأي منها ما حدث لنا . فلماذا ؟ أليس ذلك بسبب عجز حكامنا ؟
مثال البلقان :
ومع ذلك تبقى ردود المثقفين حاضرة . فقد شهد العقد الأخير ، من القرن الماضي ، تفكك يوغوسلافيا والاتحاد السوفييتي . وشهدت جورجيا محاولات تفكك مماثلة . وفي وطننا العربي انفصل الجنوب السوداني ، وشكل دولة مستقلة . ومازال خطر انفصال دارفور ، ومقاطعات سودانية أخرى ، قائما . والخلاصة أن المسألة ، في رأيهم ، تتعدى عقدة سايكس – بيكو ، إلى وجود أخطار حقيقية ماثلة .
وجوابنا أن الأمثلة السابقة تقع تحت خانة " حق يراد به باطل " . فغالب الظن أن مثقفا حقيقيا لا بد يدرك ، ويعي ، حقيقة أن الوقائع التي تلت الحرب العالمية الثانية ، وحتى يومنا هذا ، أكدت على ، وفعََّلت ، مطالب الشعوب بحق تقرير المصير . وما زالت كثرة من الدول تضم قوميات ، أو إثنيات ، منقوصة الحقوق ، وأكثر من ذلك تعاني هذه القوميات بشدة من مصادرة هذه الحقوق . والحركات القومية المطالبة بهذه الحقوق متواصلة على مدى العقود الماضية كلها . والتفات العالم ودعواته للاستجابة لها في تعاظم مستمر . ومعروف أن يوغوسلافيا كانت اتحادا لقوميات عانت من صراعات مزمنة ، شكلت مثلا ، عرفته الشعوب باسم البلقنة . وعندما ظهرت يوغوسلافيا ، عقب الحرب العالمية الثانية ، برز الأمل بقدرة الدولة الناشئة على حل مشكلة صراع قومياتها المزمنة . لكن هذا الأمل تبدد بعد رحيل مؤسسها ، بطل تحريرها من الاحتلال النازي ، جوزيف بروز تيتو . وظهر أن نظام تيتو لم ينجح في عمل طفرة اقتصادية ، قادرة على شفاء جروح الصراعات السابقة ، وعلى توفير أفق يطفح بالأمل ، ويقنع هذه القوميات بأهمية بقائها معا . ولذلك كان التفكك والانفصال ، وعودة الجمهوريات الاتحادية إلى الاستقلال ، أمرا بديهيا . والحال ذاته جرى على جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق . وظلت روسيا دولة اتحادية ، كما جورجيا ، تضم قوميات عديدة ، ذات حكم ذاتي . وما زال بعضها يرى أن مصلحة تطوره وتقدمه تقع في إطار هذه الجمهوريات المتحدة ، فيما يرى البعض الآخر غير ذلك . وكنا شهدنا في العقد الأخير من القرن ، محاولة الجمهورية الشيشانية للانفصال ، ونالت هذه المحاولة تعاطفا عربيا وإسلاميا واسعا ، في حين أنكر نفس المتعاطفين هذا الحق ، على قوميات منقوصة الحقوق ، الأكراد مثلا ، تعيش بين ظهرانيها .
وإذا ما عدنا إلى مسألة انفصال جنوب السودان ، نقف على التناقض الذي يعيشه المثقف العربي ، وعلى تمكن عقدة سايكس – بيكو منه . فجنوب السودان خاض حربا أهلية على طول العقود الماضية ، رفع فيها أهل الجنوب ، وهم قومية غير عربية ، وغير مسلمة ، مطالب تتعلق بالحقوق وبحكم ذاتي . وواصلت حكومة الخرطوم ركوب رأسها ، ورفضها تلبية هذه الحقوق ، واستنكار مطلب الحكم الذاتي . وزاد الطين بلة أن الخرطوم ، بعد انقلاب البشير ، وإقامة ما يوصف بالنظام الإسلامي ، فرضت على قومية الجنوب ، مزيدا من استلاب الحقوق ، وبما طور مطلب الحكم الذاتي إلى الانفصال . وجرت مياه كثيرة من تحت الجسر فكان الاستفتاء فالانفصال والاستقلال . والسؤال المطروح : هل هناك قابلية لتكرار مثال جنوب السودان في بلدان أخرى ؟ والجواب نعم بكل تأكيد ، إذا وجد وتكرر ظرف مماثل في قطر عربي آخر . لكن يبقى أن تجاوز هكذا احتمال قائم وبسيط في ذات الوقت : ديموقراطية ومواطنة تكفل المساواة للجميع . كيف ؟
العراق كمثال :
يتميز العراق مثلا بأنه يضم عدة قوميات ، عانت ، منذ نشأته ، من إنكار حقوقها . وهو لذلك يقدم كمثال على مخطط غربي استعماري ، أمريكي بالأساس ، لتقسيمه إلى دويلات عدة . وفي النقاشات التي خضتها حول هذه المسألة ، لم أنكر على المحاورين احتمالية وجود مثل هذا المخطط المؤامرة . لكنني ظللت أسأل : هل الخطر يتمثل في وجود هكذا مخطط ، أم في بقاء العوامل التي تغذي ، وتقدم الزاد لهكذا مخطط ؟
يتكون أكثر من بلد غربي ، استراليا ، كندا ، الولايات المتحدة ذاتها التي تناهض نظامها كل حركات التحرر العالمي ـ وتتمنى ، وتعمل قبل أن تتمنى ، تفكيك ولاياتها اليوم قبل الغد ، وأكثرية بلدان أميركا اللاتينية ، من تجمعات سكانية ، من كافة أقطار العالم ، فلماذا لا يتحدث أحد عن خطر يهد بتفكيك أي من هذه البلدان ؟ والجواب بسيط : لأن نظمها عملت وضمنت لمواطينها معيشة لائقة ، وحريات وحقوق غير منقوصة ، من خلال تطبيق ديموقراطية ومواطنة حقيقية . ثم أعود وأسأل : وماذا عن السعودية ؟
فعلى مدى عشرات السنين السابقة ، ظل يقال بمخطط أمريكي لتقسيم السعودية إلى كيانات ، منها الحجاز وعسير ونجد والمنطقة الشرقية ، وربما أخرى غيرها . وحين تسأل ؟ ما مصلحة أمريكا في مثل هذا التقسيم ، الذي سيخرج دولا ضعيفة الموارد ، تحتاج للاعتماد على المساعدة الأمريكية ، أكثر مما تقدم النفع لها ؟ يأتيك الجواب : لترهيب الأسرة الحاكمة من جهة ، ولضمان بقاء واستمرار المصالح الأمريكية ، المتمثلة في استمرار السيطرة على أكبر منابع النفط العالمي ، وعلى أكبر احتياطي عالمي لهذه المادة الإستراتيجية من جهة أخرى . وتجري السنين مبينة أن هذا المخطط ليس أكثر من وهم ، ومؤكدة أن دولة بحجم وقوة السعودية ، وثباتها على الإخلاص ، فالولاء ، حد التماهي، مع أمريكا ومصالحها في المنطقة ، هي في واقع الأمر ما يقدم الضمانة الأكبر ، والأشد فاعلية ، ليس فقط في الداخل السعودي ، وليس فقط في دول منظومة التعاون الخليجي ، وإنما يتجاوزه ذلك إلى المحيط الإقليمي . ومع أن هذا الواقع ينفي المصلحة الأمريكية في مخطط لتقسيم السعودية ، لكن هذا المخطط يرفض مغادرة الكثير الكثير من أدراج عقول المثقفين ، الذين يواصلون استلاله من وقت لآخر .
ذلك يعيدنا إلى ما يقال عن مخطط لتمزيق العراق . ومع أن الوقائع ناقضت ، وواصلت مناقضة ، مثل هذا القول ، ورغم أن العراق الحالي خرج من رحم اتفاقية سايكس – بيكو سيئة الذكر ، إلا أن المرء يواجه ، بإصرار عنيد ، بترديد الزعم عن وجود هذا المخطط . فالعراق فسيفساء قومية وطائفية . وهو في ذات الوقت فسيفساء هدر لحقوق القوميات والطوائف . ولأن العراق يقف على أرض متخمة بألغام هدر الحقوق ، فإن تفجيرها ، إن وقع ، يحمل بالفعل مخاطر تمزيقه . وهذا الخطر ، كما هو في الحقيقة ، خطر داخلي ، وليس خارجيا ، وإن كان الخارج يقف منتظرا ومتربصا ، غذاه ، وحتى التخمة ، صلف الأنظمة التي توالت على حكم العراق ، والتي عبَّدت كل الطرق أمام التدخلات الخارجية .
فقبل عشرات السنين اضطر الأكراد للانتقال إلى الثورة المسلحة ، بعد فشل كل محاولاتهم السلمية ، لتحقيق مطالبهم في المساواة التي تضمنها المواطنة في عراق حر وديموقراطي . وعلى مدار عقود ثورتهم المسلحة ، ورغم فداحة خسائرهم ، ووحشية قمع نظم بغداد ، لم يطرح أكراد العراق مسألة الانفصال ، ودولة كردية مستقلة ، تشكل نواة جمع الأمة الكردية ، في دولتها المستقلة ، حقها الطبيعي غير القابل للجدل ، والتي تقرها منظومة الحقوق الدولية . وفي العقدين الماضيين توفرت أكثر من فرصة لتحقيق هذا الاستقلال ، لو أنه كان مطروحا من قبل القومية الكردية العراقية . فعقب ما وصف بحرب تحرير الكويت ، فُرضت على جنوب وشمال العراق مناطق حظر جوي ، شل قدرة نظام صدام على فرض إرادته على الشمال الكردي ، وقام ، في واقع الحال ، نظام حكم ذاتي ، طالما سعى له الأكراد هناك . ولقد تشكل واقع ينفي قدرة نظام بغداد على منع انفصال الشمال ، لو كان هذا هو هدف الثورة الكردية، ولو كانت المصالح الدولية ، التي يقاال بأنها تقف وراء مخططات تقسيم العراق ، تسمح بذلك . وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق ، ووجود أكثر من مائتي ألف جندي للتحالف على أرضه ، توفرت الفرصة لتطبيق مخطط التمزيق لو وجد . نقول لو وجد ، لأن المخطط أمريكي ، كما يشار له ، وأمريكا هي من يحكم العراق ، والنظام العراقي الجديد ، الذي نشأ في ظل هذا الاحتلال ، يفتقر لأي قدرة على مواجهة تطبيق مثل هذا المخطط ، مرة أخرى ، لو وجد . ومضت الأيام وخرجت قوات التحالف من العراق ، وبقي العراق موحدا . ولم يتقبل المثقفون حقيقة أن أمريكا وحلفاءها ، إضافة لمصالح أهل الإقليم ، هي من يعارض ، ويمنع قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق . لكن عودة النظام الجديد لمسيرة سابقيه ، في انتقاص حقوق القوميات ، وفي الانتصار لطائفة على حساب أخرى ، هو ما ينذر بإطلال شبح الصراعات ، فأخطار الانفصال والتمزيق من جديد . وكل ذلك مع أن إمكانيات إبعاد هذا الشبح متوفرة ، ومع أن ضمان الحقوق والمساواة متوفر ، كما يضمنه أفضل دستور تحقق في بلاد العرب حتى الآن .
وماذا عن بلدان الربيع العربي الأخرى ؟ :
غرق المثقفون والمحللون الاستراتيجيون ، كما سبق وأشرنا ، في عرض أخطار التقسيم التي حكى الحكام عنها ، وتوفير الثورات ، التي اندلعت ، الظروف لتطبيقها . ولقد جرى حديث كثير عن مخطط لتقسيم ليبيا إلى أربع كيانات ، استنادا لطبيعة البلد القبلية . وحين كنا نرد بأن التكوين القبلي ، خصوصا بهذا الكم الكبير من القبائل ، وعدم وجود قبائل كبيرة ، قادرة على بسط الهيمنة على القبائل الأخرى ، وانتفاء وجود مطالب قبلية ، لا تقرها الأعراف الدولية حتى الآن ، لا يوفر أرضية ، أو عوامل للانفصال ، كان يقال بأن البترول ، والمطامع الغربية فيه ، والطلب إلى الناتو ، وتدخله في الصراع ، يوفر كل الأسس والأسانيد لتطبيق مخطط التقسيم المؤامرة ذاك . وسقط نظام القذافي ، وقام نظام الثورة الجديد ، وبقيت وحدة ليبيا ، ومعها بقيت القناعة بمؤامرة التمزيق ، ولتنتقل إلى سوريا أولا ، بعد تخطي اليمن لهذه العقبة ، ومصر بعدها .
لقد طرح اضطرار الشعب الليبي لطلب مساعدة دول ، يعرف أنها طامعة في ثروته النفطية ، في صراعه مع نظامه الحاكم ، طرح على المثقفين العرب سؤالا ، تهربوا حتى من محاولة الإجابة عليه . قال السؤال : ما الذي يدفع شعبا عربيا للجوء إلى طلب مساعدة أعدائه العسكرية ، رغم معرفته بما ستجره عليه هذه المساعدة من ويلات ، وفي مقدمتها بسط السيطرة على ثرواتها ونهبها ، للخلاص من ظلمات نظامه الحاكم ؟
لقد كال المثقفون ، والمحللون الاستراتيجيون ، الكثير من اللوم للشعب الليبي على استنجاده بحلف الناتو ، الذي تطمع دوله الرئيسية في نفط ليبيا . ولم يسأل احدهم نفسه بصدق : ماذا كان على الشعب الليبي ، الذي كانت ثورته السلمية قد نجحت في تحرير المنطقة الشرقية ، بعاصمتها بنغازي ، المدينة الثانية بعدد سكانها بعد طرابلس العاصمة ، ماذا كان عليه أن يفعل غير ذلك ؟ لقد طرق أبواب إخوته العرب ، وكرر الطرق مرة بعد مرة وما من مجيب . ثم انتقل لطرق أبواب تركيا ولم تجب . وعرف الكل أن القذافي ، بعد خطبه التي وصف شعبه فيها بالجراذين ، سينفذ حملة إبادة غير مسبوقة . وكان ثوار ليبيا قد وعوا ضرورة نجاح ثورتهم دون تدخل خارجي ، لكنهم وعوا أيضا أن الاستنكاف عن طلب هذا العون الخارجي ، عنى تسليم ، ليس رقابهم فقط ، بل رقاب عشرات الآلاف ، وربما مئات الآلاف ، من الجماهير العادية للذبح . والسؤال الذي مازال المثقفون يرفضون الإجابة عليه : من استدعى العون الخارجي ، الثوار المسالمون المهددة رقابهم بالذبح ، أم النظام الذي بلغ حمقه حد دفع شعبه إلى طلب حماية الأجنبي ، الطامع في بتروله ، لإنقاذ رقابه من الذبح ؟
وكان طلب الحماية والاستجابة . وسقط النظام ومعه كل مؤسساته ، وفي مقدمتها الجيش وأجهزة الأمن ، ومعها خراب للاقتصاد ، وتدمير للبنية التحتية ، وعشرات آلاف الشهداء والجرحى . لكن ليبيا ، الوطن والدولة ، بقيت بدون تقسيم . ونشأ نظام للحكم جديد ، بدأ عملية إعادة للبناء ، بما فيها مؤسسات الدولة ، وفي مقدمتها الجيش ، ولكن على أرضية نظيفة . فهل يا ترى اقتنع المثقفون ، ومعهم المحللون السياسيون ، بأن مخطط التمزيق ، وإقامة دويلات ليبية ، مجرد وهم ، لا أساس ، أو مكان ، له على أرض الواقع ؟ ويرد المثقفون : ولكن الوضع لم يستقر بعد ، وما زالت أخطار عدم الاستقرار ماثلة ز ونقول ولكن ليس بينها أدنى خطر بالتقسيم .
والمثير في الأمر ، لمن يريد استغلال ما وهبه الله من عقل ، أن الثوار اكتشفوا ، وكشفوا للعالم ، أن بترول ليبيا ، الذي يستدعي كل هذا الخوف من طمع الغرب ، لم يكن لأهل ليبيا . وهم بصمتهم في البداية ، قالوا أنهم ما ملكوا نفطا ، يوجب بعث الخوف عليه من أطماع الآخرين . وصدق صمتهم الذي فاق كل صراخ ، أن هذا النفط ، في الحقيقة ، ملكه هؤلاء الطامعون ، وصبت كل خيراته في جيوبهم . ومن يعاند في رؤية ، فقبول ، هذه الحقيقة ، عليه أن يقرأ أرقام الإيداعات الليبية في البنوك الغربية ، ويقارنها مع حال الشعب ، الذي ظلت مدنه وقراه ، قبل باديته ، تفتقر لأبسط أشكال البنية التحتية .
وعودة إلى العراق :
ومن ليبيا نعود مرة أخرى إلى العراق . إذ ما زالت ترن في آذاني عبارات إعلامي همام ، من إحدى الفضائيات العربية ، استضاف مناضلا شيوعيا عريقا ، هو فخري كريم ، قبل بدء الغزو الأمريكي للعراق ، وهو يُعيِّر ذلك المناضل العريق ، بأنه سيعود للعراق على ظهر دبابة أمريكية . ومع ذلك فقد أكبرت ذلك الإعلامي الهمام لأنه ، وهو على الهواء مباشرة ، لم يبلغ به السفه ، أو الشطط ، حد وصم الشيوعي العريق ، بالعمالة لأمريكا ، وبالخيانة لوطنه العراق . وما زالت ترن في أذني كلمات كريم ، وهي تخرج من حلقه مخنوقة بالأسى : ولكنني للأسف ، لم أجد دبابة عربية أعود على ظهرها لبغداد . ولا أظنني بحاجة لتذكير القارئ بأن الشيوعيين العراقيين ، لم يكونوا من بين الذين طلبوا العون الأمريكي لتخليص عراقهم من نظام صدام .
كان الشيوعيون ، ومعهم كل الوطنيين ، قد جربوا كل السبل ، وفي مقدمتها ثورة مسلحة تواصلت لسنوات طوال ، للخلاص من قمع وعنف نظام صدام . ولما انسدت كل هذه السبل في وجوههم ، وتفرقوا في بلدان العالم ، لاجئين سياسيين وغير سياسيين ، كان لا بد من البحث عن عون يعيد للعراقيين ، ولهم ، وطنهم . وكان ذلك الغزو لجيوش التحالف ، بالقيادة الأميركية .
ألم يكن الوطنيون ، الذين توجهوا لطلب العون الأميركي ، على دراية بالدوافع ، ومن ثم الأغراض ، الأميركية التي حركت الاستجابة لطلب العون ذاك ؟ هل فاتهم توقع عواقب غزو عسكري أمريكي لوطنهم ؟ لا أشك أنهم أدركوا كل ذلك . أدركوا أن الزعم الأمريكي بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل ، لم يكن أكثر من غطاء لتبرير الغزو . أدركوا أن الدعاية الأمريكية عن الحريات والحقوق والديموقراطية وحقوق الأقليات ، ليست أكثر من تمويه على هدفهم الأساسي في وضع اليد على ، واحتكار ثروة النفط ، وعلى احتياطاته التي تشكل ثالث الاحتياطات العالمية ، ولعشرات السنين إلى أمام . ولا أظنهم اشتروا ، ولو للحظة ، المزاعم الأمريكية ، عن عزمهم إقامة منارة ديموقراطية في العراق . وما أظنهم إلا أنهم كانوا يعرفون ، أو على الأقل يقدرون ، حجم الدمار الذي سيلحق بوطنهم العراق ، بما في ذلك كم الضحايا من أبناء وطنهم .
والآن ، وبعد كل هذه السنين ، وبعد الخروج العسكري الأميركي من العراق ، وبعد ما جرى في ليبيا واليمن ، وبعد ما هو منتظر أن يجري في سوريا ، كيف يتوجب علينا أن نقيم موقف هؤلاء القادة الوطنيين ، مما جرى ، أو مما " جروه !" على العراق ؟ . كيف نتجاوز تلك الأحكام ، المتسرعة في نظري ، التي وصفتهم بما لا يليق بماضيهم وكفاحهم الوطني النبيل ؟
صحيح أن من بين من ركبوا الموجة ، كان هناك عملاء لأمريكا خصوصا ، وللغرب عموما . وصحيح أن كان منهم من تصدر واجهة العرض ، عقب سقوط صدام . لكن ماذا عن مشاركة القوى الوطنية ، ومنها تشكيلات اليسار ، في الوزارات التي قامت في ظل الاحتلال ؟
قد يقال جوابا على تساؤلاتي بأن المقاومة العراقية الباسلة قطعت كل الكلام ، وقدمت أكثر من جواب شافي على كل ما تقدم . وأنا ، ومن واقع تقديري للمقاومة العراقية ، أقول أن المقاومة نفسها تحتاج إلى إعادة قراءة ، وإلى إعادة فحص بأكثر من مجهر . وبداية لعلني أسال : هل وجد العائدون للعراق أن ثروة بلدهم النفطية كانت ملكا لشعبهم ، تعمل عائداتها على حل مشاكله ، وتحسين وتطوير معاشه ؟ وهل هم بما فعلوه أضاعوا هذه الثروة بتمكين الأمريكان من احتكارها ؟
لا مجال للإنكار بتعدد أشكال نهب هذه الثروة بعد سقوط نظام صدام . لكن الغريب أن عائدها للشعب ، بعد كل عمليات النهب ، تجاوز بكثير ما كان أيام صدام . وصحيح ما يقال عن استشراء الفساد . ونسأل : هل كان ذلك بالأمر الجديد على العراق ؟ أم أن ما جرى وقع في بيئة ملائمة ، هيأ النظام السابق تربتها جيدا ، وعلى مدى طويل ؟
أما عن المقاومة ، فلم يفت أي مراقب تركزها في الوسط ، حيث الأغلبية العربية السنية ، التي تمتعت بكل امتيازات نظام صدام . ولم يكن هدوء الجنوب راجعا لكونه شيعي ، أو لأن المحتل بريطاني زودته تجارب استعماره السابقة ، بمعرفة أفضل في التعامل مع أهل هذا الجنوب . والأمر ذاته مع الشمال ، حيث تتركز الأقليات القومية ، الكردية والتركمانية والآشورية . وأكثر لم يفت المراقب أن عمليات المقاومة استهدفت مدنيين عراقيين أكثر مما استهدفت قوات الاحتلال . وليس أدل على ذلك من أرقام الخسائر البشرية بين الطرفين . كذلك لم يفت انتباه المراقب وكأن عمليات استهداف المدنيين ، حملت صورة نوع من الانتقام ، أو صورة التأديب إن شئت ، على سلوك ، أو تعامل مع المحتلين ، لم يرق لهؤلاء المقاومين . وأخيرا لم تعرض فصائل المقاومة ، وهي تفجر المدنيين ، برامج أو رؤى ، لما سيكون عليه العراق بعد طرد المحتلين ، اللهم إلا ما قيل عن دولة الفلوجة الإسلامية ، ومواقع متناثرة أخرى مشابهة .
نخلص من كل ذلك إلى السؤال التالي : ترى ألم يكن أجدى لمستقبل شعوبنا ، لو توجه المثقفون ، والباحثون ، ومعهم المحللون الاستراتيجيون ، للسؤال عن ، وفهم ، الأسباب والعوامل ، التي دفعت الوطنيين العراقيين ، لطلب هذا العون الأميركي ، رغم معرفتهم بعواقبه الكارثية على وطنهم ؟ لا شك أنه قد صعد إلى خشبة المسرح العراقي ، عملاء متعاونون مع أمريكا . وهؤلاء ليس هم من يتوجب التوجه له بالسؤال . وعليه وختاما أعترف أنني لم أتقبل يوما فكرة تجريم هؤلاء الوطنيين ، كما نادى بها مثقفون وسياسيون كثر . ودوما بقيت أشير بأننا أضعنا الكثير من الوقت ، والكثير من الفرص ، لفهم طبيعة التطورات التي جرت على عالمنا ، وأنتجت ما أنتجته في العراق وغيره من البلدان . وما زلت على قناعة بأن المفتاح ما زال في أيدي هؤلاء الوطنيين العراقيين ، والذي يمكن أن يعيننا على فهم أفضل لعالمنا ، مما كنا قد ذهبنا إليه في الأعوام السابقة .
وفي الختام :
مرات عدة سمعت الكاتب الكبير ، محمد حسنين هيكل ، يشير كيف أن نظام مبارك جفف ما وصفه ببركة السياسة في مصر . وربما أن هيكل تجاوز الإشارة إلى أن نظم جمهوريات الممالك العربية فعلت ما هو أكثر من هذا . فليس فقط أن سقوط نظام صدام ، بالقوة الأمريكية ، كشف أن بركة السياسة في العراق كانت شديدة الجفاف ، وإنما أيضا قد ترسب فيها من الأوحال الكثير .
ففي بداية الاحتلال شهدنا نهب المتحف العراقي ، من بين مؤسسات وقصور حكومية كثيرة . حينذاك أصر المثقفون على أن عسكر الاحتلال ، هم من نفذوا عملية نهب المتحف ، رافضين رؤية أن جماهير عراقية كبيرة شاركت في عملية النهب تلك ، ودون أن يظهر من يتصدى ، أو أن يدافع ، عن هذه الثروة الوطنية هائلة القيمة . وتكرر الحال مع حديقة الحيوان في بغداد ، وبما فيها إطلاق حيوانات مفترسة من أقفاصها . وفيما بعد أخذنا نسمع عن العصابات التي تنهب وتهرب البترول ، خام ومكرر . وحينما كنا نتساءل عن أسباب ، عن دوافع ، وعن حقيقة ما حصل ، كنا نواجه بإلقاء مسؤولية كل ذلك على الاحتلال ، وهو جواب صحيح لكنه ناقص .
آنذاك كان هناك رفض لقبول حقيقة صادمة . وهي أن هذه الأنظمة ، الموصوفة من قبل المثقفين بالوطنية ، والمعادية للاستعمار ، والرافضة لمخططاته ، والواقفة في وجه مؤامراته ، أوصلت مواطنيها حد الكفر بوطنهم . حد القناعة برفضه لهم . حد القناعة بعدم انتمائهم له . حد الاستعداد ، فالمباشرة في تدمير آثاره النفيسة ، كما ظهر في اجتياح المتحف الوطني ، وفي استباحة وتخريب معالمه ، وحتى عدم محاولة منع أجنبي يقوم بسرقة كنوزه ، وأكثر مشاركته في فعل السرقة ، رغم عدم السارق الوطني لقيمة المادة المسروقة . وبعد ذلك يقال أن هناك من يتآمر على الوطن ، وهناك مؤامرات ومخططات أجنبية لتمزيقه .
وفي ختام هذه الحلقة نسأل : وماذا عن سوريا ومصر وحكايات مخططات التمزيق واصطناع كيانات هزيلة ؟ ولأن هذه الحلقة طالت لأكثر مما خططت ، فسأترك محاولة الإجابة للحلقة القادمة



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 11مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 10 مخاطر على الديموقراطية ...
- عن دور اليسار في ثورات الربيع العربي
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 9 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 8 مخاطر على الديموقراطية ...
- الربيع العربي وقضايا الأقليات القومية
- قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6 ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 6 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 4 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
- عبود الزمر و العيش خارج حدود الزمان والمكان
- دخول الى حقل المحرمات - 1 -
- وحدة الأضداد بدون صراعها
- هل هي مبادرة؟!
- ويا بدر لا رحنا ولا جينا


المزيد.....




- رصدته كاميرات المراقبة.. شاهد رجلًا يحطم عدة مضخات وقود في م ...
- هل تعلم أنّ شواطئ ترينيداد تضاهي بسحرها شواطئ منطقة البحر ال ...
- سلطنة عُمان.. الإعلان عن حصيلة جديدة للوفيات جراء المنخفض ال ...
- في اتصال مع أمير قطر.. رئيس إيران: أقل إجراء ضد مصالحنا سيقا ...
- مشاهد متداولة لازدحام كبير لـ-إسرائيليين- في طابا لدخول مصر ...
- كيف تحولت الإكوادور -جزيرة السلام- من ملاذ سياحي إلى دولة في ...
- محاكمة ترامب -التاريخية-.. انتهاء اليوم الأول دون تعيين مُحل ...
- حزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني في عمان يتقبل التهاني ...
- كاتس يدعو 32 دولة إلى فرض عقوبات على برنامج إيران الصاروخي
- -بوليتيكو-: الاتحاد الأوروبي بصدد فرض عقوبات جديدة على إيران ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 12