أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 11مخاطر على الديموقراطية 10 الإسلام السياسي والتشريعان : الإلهي والوضعي















المزيد.....



قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 11مخاطر على الديموقراطية 10 الإسلام السياسي والتشريعان : الإلهي والوضعي


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3597 - 2012 / 1 / 4 - 15:26
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


11
مخاطر على الديموقراطية 10 الإسلام السياسي والتشريعان الإلهي والوضعي
بغرض ربط ما يلحق بما سبق ، نبدأ بتذكير القارئ بخاتمة الحلقة السابقة . أشرنا فيها ، إلى أن هذه الحلقة ستكون ساخنة ، وربما سيراها البعض شديدة السخونة . ساخنة لأنها ستتناول موضوعا تحرم تيارات الإسلام السياسي ، كما أرى ، مجرد الاقتراب منه . نعني به موضوع التشريع ، والتقاطع ، أو عدم التقاطع ، بين الإلهي منه ، كما يقولون بنص الشريعة عليه ، والوضعي ، الذي يبادر الناس ، عبر البرلمانات ، أو أية مؤسسات للتشريع ، إلى اقتراحه وإقراره ، سعيا وراء تنظيم شؤون حياتهم .
ولعل القارئ يتابع كيف يتحفنا منظرو هذه التيارات ، وكل ساعة ، بهجماتهم على منظومات القوانين ، الموصوفة عندهم بالوضعية ، وبنعتها بأقبح النعوت ، الأمر الذي يشير ، وبعد نجاحاتهم الكاسحة في انتخابات برلمانات بلدان الربيع العربي ، إلى احتمالية إطاحتهم بمنظومات القانون ، المعمول بها في هذه البلدان ، وإحلال ما يصفونه بالقوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية محلها . ولمن فاتته نماذج من هذه التصريحات ، نشير إلى مطالبة هؤلاء الدعاة بالعودة لتطبيق الحدود ، المنصوص عليها في الشريعة ، ومنها قطع يد السارق ، محل منظومة القانون الجنائي ، فرنسي الأصل ، والمعمول به في مصر ، وفي أكثر من بلد عربي . ولعل ما صرح به الداعية السلفي د . ياسر برهامي مؤخرا ، ونقلته جريدة المصري اليوم ، عدد 25 /12 /2011 ، يكفي لوضع القارئ في صورة ما نذهب إليه . قال الشيخ ، وهو بالمناسبة دكتور في الهندسة ، في مؤتمر انتخابي ، وفي إطار هجومه على الليبرالية والعلمانية ، ورفض تام للديموقراطية ، باعتبارها كفرا ، قال : "هم يطالبون بحق الناس في التشريع وسن القوانين ، ونحن لا نقبل بحق أي طائفة من الناس ، ولا نقر بأن هناك من له الحق في أن يشرع من دون الله عز وجل ، ولا نقبل الديموقراطية التي تقول أن الحكم لغير الله ، وأن الشعب لو أراد خلاف الشريعة فهذا حقه . لكننا نقولها صريحة ، لا نقبل إعطاء حق التشريع لغير الله " وأضاف الشيخ ، مشيرا إلى مهمة مجلس الش ءة تأملية في ثورة الشباب المصري
عب القادم " ليس من حق مجلس الشعب التشريع دون الرجوع إلى الشريعة الإسلامية " .
ولعل القارئ يعرف ، كما يعرف الشيخ برهامي بكل تأكيد ، أن عدد آيات التشريع في القرآن ، هي ستمائة وبضع وثلاثين آية . وبحذف المنسوخ والمكرر منها ، تقف عند حدود مائتين ، وهناك من يذهب إلا أن ساري المفعول منها ، يزيد قليلا عن بضع وثمانين آية فقط . والسؤال الذي كرره عديد من الباحثين يقول : هل يكفي هذا العدد من آيات التشريع ، حتى بدون النظر للمنسوخ منها ، لتغطية كل هذه المساحات الهائلة ، من ميادين حياة الناس الحاضرة والمتطورة باستمرار ؟ وكيف التعامل مع ميادين ، تتطلب التشريع ، ولم يعرفها مجتمع المسلمين الأوائل ، ويخلو القرآن ، كما السنة ، من أية إشارة لها ، ولو من باب التلميح ، ليتمكن المشرع المسلم من القياس عليها ؟
وفي رأيي أن الأسئلة السابقة ، مع وجاهتها ، تدور حول الموضوع ، ولا تتجه نحو الجوهر ، لاستجلاء الحقيقة . ولذلك نسأل : ألم تكن قوانين الشريعة وضعية ، قبل أن تتحول إلى إلهية ؟ وإذا كانت كذلك ، فكيف يفسر لنا السادة الدعاة أن الله لم يأنف عن تبني ، وإقرار ، قوانين ، سبق أن وضعها بشر ، وصفتهم الشريعة بأهل جاهلية ، فيما هم – الدعاة ، ومن يصفون أنفسهم بالعلماء -يأنفون عن استعارة ، واستخدام ، قوانين ، وضعها من هم أكثر علما ومعرفة ، ومن ثم وعيا وفهما وتطورا ، من أهل الجاهلية ؟
في بحث أفرغته في كتاب " قراءة سياسية في العهدين المحمدي والراشدي " ، وقفت عند مسألة أصل ومصادر التشريعات ، المنصوص عليها بآيات قرآنية . وفي الكتاب أشرت إلى حقيقة تقول بأن هذه التشريعات ، وقبل أن تتحول ، مع بعض التعديلات الطفيفة ، إلى تشريعات إلهيه ، كانت إما عادات ، أو تقاليد ، أو أعراف حجازية . وفي محاورات ، تلت صدور الكتاب ، واصلت القول بأنني أتحدى أيا كان أن يشير إلى تشريع واحد ، لم يكن قبل النزول ، عادة أو تقليدا أو عرفا حجازيا . وفي خاتمة الجزء الأول من الكتاب ، وفي الصفحة الأخيرة كتبت : " وإذا ما أصر الوعاظ ، وهم في الحقيقة يفعلون ، على أن النظام الإسلامي ، الاجتماعي ، الاقتصادي ، التربوي ، الثقافي ، المعرفي ، السياسي ...الخ ، هو نظام صالح لكل زمان ومكان ، لأن السماء مصدره ، نقول إذا ما أصروا على ذلك ، فهم مطالبون بإعادة النظر تجاه من يصفونهم بالمشركين وبالجاهلية " . وأضفت :"إذا كان النظام الحقوقي مثلا ، صالحا لكل زمان ومكان ، مع أنه الابن الشرعي لتلك البيئة وذلك الزمان ، فإن القائلين به مطالبون بإعادة الاعتبار لبعض واضعي شرائع ذلك النظام الحقوقي . مثلا إذا كانت البشرية تفخر بحمورابي وقانونه للعقوبات ، فعلينا أن نفخر بعبد المطلب وقانونه للديات ، وأن نفخر بالوليد بن المغيرة وقانونه بقطع يد السارق " . ومضيت في القول :" وإذا كانت بريطانيا ما زالت تفخر بآدم سميث وفتوحاته في الاقتصاد ، فإن علينا أن نعيد الاعتبار لقصي بن كلاب ، وأن نفاخر بريطانيا به ، لسبقه في وضع قانون العشور مثلا .." . وأكتفي بهذا القدر .
وبعد : هل وقعت عزيزي القارئ على مصدر السخونة في هذه الحلقة ؟ ثم لعلك تسأل : وكيف لنا أن نصدق أن التشريعات الإلهية ، كانت في الأصل ، إما عادات ، أو تقاليد أو أعراف حجازية ؟ هل علينا أن نقر بصحة هذا القول ، لأنك أشرت إلى بحث ، أصدرته في كتاب ، هو ليس بين أيدينا ، وأتحفتنا باقتباس من خاتمته ؟ وأقول معك حق ، ولذلك سنعاود قطع بعض ذلك المشوار في هذه الحلقة ، وبدون اقتباسات من كتابي المشار إليه . لكن قبل ذلك دعنا نعمد إلى بعض التلطيف ، قبل الاصطلاء من سخونة البحث .
وقفة مع الواقع :
من المؤكد أن الشيخ السلفي ، د. ياسر برهامي ، وصل إلى المهرجان الانتخابي ، الذي أطلق فيه تصريحاته ، التي اقتبسنا بعضا منها ، في سيارة أولا ، من بيته إلى محطة القطارات ، ثم في القطار ، إلى المدينة – المنيا – التي رعت المهرجان . وفي هذه الرحلة ، تقيد سماحته بسلسلة من القوانين المستوردة من "بلاد الكفر!" ، حسب قوله ، وأقرها أناس دون الرجوع إلى شرع الله ، لاحسا تهديده بعدم قبولها . ولا نظن ، وسماحته يعرف ، أن مجمعا إسلاميا انعقد يوما ما ، وفي مكان ما ومهر حزمة القوانين هذه بأختامه الكريمة ، حتى يمكنه القول أنها ، بهذا الإقرار ، غدت قوانين إسلامية . ويعرف سماحته أن العربية السعودية ، حيث مرجعيته الدينية ، تطبق هذه القوانين ، رغم استيرادها من دار الكفر ، وبلا اعتراض من المرجعيات الدينية فيها ، وبدون مهرها بأختامهم الكريمة .
ولأن الشيخ البرهامي ، وزملاءه من حملة الدكتوراة في العلوم المختلفة ، يجوز الافتراض أنهم خرجوا أكثر من مرة من مصر ، إلى الحج على الأقل . وهم من لحظة الخروج من البيت ، ومرورا بالميناء ، الجوي أو البحري ، وركوب الطائرة أو السفينة ، لا بد خضعوا لسلسلة إجراءات ومعاملات ، مستندة إلى منظومة قوانين ، قادمة بأصغر تفاصيلها من "بلاد الكفر! " . ولا نظن إلا أن هؤلاء السادة الشيوخ يعرفون يقينا أن هيئات علماء بلدان النظم الإسلامية ، إيران ، السعودية ، السودان ، تركيا ...الخ ، لم تجتمع ، ولم تتكرم على المواطن بمهر منظومات القوانين تلك بأختامها المباركة ، كي تؤسلمها . ومع ذلك فإن السادة الشيوخ أنجزوا المعاملات ، وانصاعوا للتعليمات ، المستمدة من قوانين الكفر هذه ، دون اعتراض .
ويمكن المضي قدما في عرض نشاطات حياتية ، يمارسها هؤلاء السادة ، دون احتجاج أو اعتراض ، رغم خضوعها لمنظومات قوانين قادمة من "برلمانات الكفر!" ، لم تمهرها تواقيع أصحاب الفضيلة لأسلمتها . منها ، دون إطالة منظومات القوانين التي تنظم عمل وسائل الاتصال المختلفة ، والإذاعة والتلفزيون والصحف ، التي يطلون علينا منها .
نخلص إلى الإشارة لحالة تعدد ، ولا أقول ازدواج الشخصية ، التي يعيشها هؤلاء الأفاضل ، وجعلوا الناس يعيشونها معهم . هم يصورون مثلا أن أوروبا ، بلاد الكفر ، لا شيء فيها غير ما يصفونه بفساد الأخلاق ، وبانحطاط العلاقات بين الجنسين . ورغم أن وسائل الاتصال ، والإعلام المرئي والمسموع ، لم تترك ركنا صغيرا في الدنيا مجهولا ، ولا يطل المرء عليه ، ليعرف تفاصيل الحياة فيه ، يفاجئك أنصار هؤلاء الدعاة ، ومن اختاروا تغليف عقولهم بورق القصدير – الألومنيوم فويل - ، بنكران أية جوانب إيجابية في حياة غير المسلمين . وإلى حد الزعم أن كل شيء عندنا ، رغم ما نشهده من فساد الأخلاق ، وتراجع القيم ، ورغم قسوة الظروف والنقص في سائر الخدمات ، وانعدامها أحيانا ، أفضل بكثير مما هو عند غير المسلمين .
وإليكم هذا المثال : في قريتي ترئس سيدة فاضلة بلديتها . وفي أحد الأيام تم توزيع قصاصات – ببيونات – تحملا حديثا منسوبا للنبي يقول : "ما فاز قوم ولوا أمورهم امرأة ". قلت لمن أعطاني القصاصة : هذا الحديث غير صحيح . رد علي إمام المسجد ، الذي تصادف وجوده معنا ، بأن الحديث صحيح وأنه ورد على لسان الصحابي الجليل أبو بكرة ، ومثبت في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث المعتمدة . قلت أعرف ذلك ، ومع ذلك فالحديث غير صحيح ، ومستعد أن أخرج لك ، ومن صحيح البخاري ، أكثر من حديث غير صحيح . وأضفت : لا المنطق ولا العقل يقبل أن يكون النبي قد قال حديثا كهذا . لم يعجب الشيخ قولي ، لكنه أرجأ النقاش معي لوقت آخر لم يأت . ذهب الشيخ وقلت للباقين : ما رأيكم إذن في ألمانيا وقيادة أنجيليكا ميركل لها ؟ رد علي أحد المغلفة عقولهم بورق القصدير قائلا : شو يعني ألمانيا ، حياتنا أحسن منهم بكثير . تساءلت : حياتنا هنا ، في قريتنا المتواضعة هذه ، أفضل من مثيلتها في ألمانيا ؟ قال بكل كبرياء وعناد : نعم هنا أحسن ، عندنا الشرف وعندهم الفساد . وسكت . إذ كما قال المثل، قطعت جهيرة قول كل خطيب .
في موقف آخر ، ردد محاوري الزعم ، الذي يلقنه دعاة السلفية ، بأن لا شيء في وسائل ونظام حياتنا يقارب ، ولا أقول يماثل ، نظيرا له في الغرب . قلت : انظر لنفسك وقل لي : انظر لنفسك ابتداء من رباط حذائك ، فلباسك ، إلى ربطة عنقك ، ومقص تشذيب شاربك ، وانتقل إلى مأكلك ومشربك ،ما الذي فيه ليس من نتاج العلم فالعقل الغربي ، ثم عد لبيتك ، وقل لي ما الذي فيه إسلامي ، أثاثه ، تنظيم غرفه ، شبكة الكهرباء ، شبكة الماء ، الصرف الصحي ، المطبخ وأدواته ؟ ثم ما هو الشيء الذي نستخدمه في حياتنا ، وتعيشه أنت ، وينظم العلاقات والمعاملات ، من لحظة خروجك من البيت إلى عملك ، وحتى لحظة عودتك ، وحتى منامك ، لم ينتجه عقل العلم الغربي ؟ قال : لقد سخرهم الله لخدمتنا ، هم يكدون ، يخترعون وينتجون ، كي نستهلك نحن ؟ وسألت وبعد أن ينفذ بترولنا ، كيف سيكون حالنا ؟ ولماذا هذا الموقف من قوانينهم التي استوردناها ، لأننا لا نملك إمكانيات إنتاجها ؟ رد : لا أعرف ولا أريد أن أعرف . قلت : عاش ورق القصدير والسيلوفان الذي هو مستورد أيضا .
من أين نبدأ :
وبعد هذه المقدمة الطويلة ، التي آمل أنها لم تكن مملة ، نعود إلى صلب موضوعنا . وهو الإلهي والوضعي من القوانين ، وكيف تحول الوضعي إلى إلهي في الشريعة ، ورفض دعاة الإسلام السياسي للوضعي ، بميادينه الواسعة ، والتي لم تكن الشريعة قد اقتربت منها وقت نزولها . ولعلنا نسأل : ولكن من أين نبدأ ؟
وجوابا نقول أن قادة تيارات الإسلام السياسي ، قبل وبعد فوزها في الانتخابات المصرية ، تركز على ضرورة العودة لتطبيق الحدود ، وإن ظلت تطرح الجنح ، أو الجنايات المخففة ، منها ، أي السرقة وتطبيق حد قطع اليد عليها . ولأن الجنايات ، ومنها القتل ، تتقدم عليها . فلنبدأ بها .
الجنايات " جرائم القتل " :
نصت الآية 178 من سورة البقرة على التالي : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب عظيم } . ونصت الآية 179 { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } .
الآية الأولى ، ولها نص مماثل في التوراة ، منقولة حرفيا من شريعة حمورابي ، التي وضعها هذا الملك البابلي قبل الميلاد ب1750 سنة . ومؤرخو القانون ، أو بعضهم ، ذهب إلى القول بأن شريعة حمورابي لم تقدم مساهمة قانونية للبشرية ، كونها استندت إلى مجتمع ، فتشريع عبودي ، يثبت هذا التمييز الصارخ بين البشر . والآية ، كما هو واضح جلي من نصها ، اعتمدت هذا التمييز بين البشر . فلا يقتل الحر بالعبد ، كما لا يقتل الرجل بالمرأة ، مع أن العكس قائم ، أي تقتل الأنثى بالذكر ، ويقتل العبد بالحر . والمهم أن هذا القانون الوضعي ، الذي يبدو أنه كان ساريا في الحجاز قبل الإسلام ، تحول بهذا النص إلى إلهي . وبعبارة أخرى لم يأنف الله ، وهو الخالق لكي شيء ، ومسير هذا الكون الشاسع ، عن قبول هذا الوضعي ، وتنزيله باسمه ، رغم أن شارعه وثني .
الديات :
نصت الآية 92 من سورة النساء على التالي : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصّدّقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما } . وتبعتها الآية 93 والتي نصت على : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } .
نحن هنا لا نريد التوقف عند كيفية تطبيق أحكام هذه الآيات ، بعد أن انتهى عهد العبودية ، وبات من غير الممكن إيجاد الرقبة المؤمنة لتحريرها . كما لا نريد الوقوف عند الفروق التي تضعها هذه الآية بين المؤمنين بسبب انتماءاتهم – القبلية وقت نزولها ، والقومية بعد ذلك ، ومواقع سكناهم . نريد التوقف عند مسألة الدية المسلمة الواردة في الآية مرتين متتابعتين . ما هي هذه الدية ، وما أصلها ، ومتى وكيف جرى سنها ؟ نسأل لأن الآية ، وغيرها من الآيات لا يقول لنا شيئا عن مقدار أو أصل هذه الدية .
حكاية الدية هذه أعلمتنا بها كتب السيرة النبوية ، ومنها سيرة ابن هشام ، ابتداء من الصفحة 157 ، المجلد الأول ، طبعة دار المنار ، وتحت عنوان : "ذكر نذر عبد المطلب وذبح ولده " ، نلخصها بالتالي : نذر عبد المطلب ، وهو يحفر بئر زمزم ، إن بلغ أبناؤه عشرة ومنعوه ، أي شكلوا لها سندا مانعا بين قومه ، أن يذبح أحدهم لله – إله قومه - عند الكعبة ، أي عند قدمي هبل . بلغ أبناؤه عشرة ، وحان وقت وفائه بالنذر . أبلغ أبناءه الذين انصاعوا لمشيئته . كتب أسماءهم على عيدان خشبية متماثلة تمام التماثل ، توضع داخل وعاء ، وليجري السحب عليها – القرعة- فيما كان يعرف آنذاك بضرب القداح ، الموكل عمله لكاهن يجلس عند قدمي الإله هبل . سحب الكاهن القداح - أجرى القرعة - فخرجت على عبد الله ، والد النبي ، الذي كان أحب أبناء عبد المطلب إليه . سحبه عبد المطلب من يده ، وبيده الأخرى شفرة الذبح ، متوجها إلى الكعبة . كان الخبر قد انتشر في مكة ، التي خرج ملأها متصدين لعبد المطلب ، رافضين إتمام العملية ، لأنها ستتحول إلى عرف يلزمهم بذبح أبنائهم أيضا . طلب عبد المطلب منهم حلا ، فدلوه على عرافة تقيم بخيبر ، يمكن أن تقدم له هذا الحل . توجه إليها ، وعرض عليها المشكلة . استغرقت على عادة العرافين في التفكير ، وأعمال العرافة الأخرى . ولما أفاقت سألته عن مقدار دية المقتول آنذاك ، فقال لها : هي عشرة إبل . قالت له أن يذهب إلى الكعبة وأن يجري القداح بين عشرة الإبل وعبدالله ، وأن يزيدها عشرة كلما خرج القداح على عبد الله ، وحتى ترضى الآلهة . وهكذا فعل . ظل الكاهن الجالس عند قدمي هبل يجري القداح ، ويزيد الإبل عشرة عشرة حتى بلغت مائة ، وعندها رضيت الآلهة ، ونحرت الإبل ونجا عبد الله . ومن يومها تحولت دية المقتول من عشرة إبل إلى مائة ، وليستعيرها الشرع لتصبح الدية المسلمة ، التي ورد ذكرها في الآية ، والتي يعرفها الفقهاء بالدية المحمدية .
ونحن هنا لا نريد الوقوف على تفاصيل هذه الحكاية ، وما حملته من مدلولات تتناقض مع الدين ، فقط نشير إلى أن الشرع استعار هذا التشريع الذي كان جاهليا ، وسنه عبد المطلب ، ليحوله إلى تشريع إلهي ، يصر دعاة الإسلام السياسي ، على عرض وجهه الأخير ، والعودة إلى تطبيقه ، بعد أن غدا مستحيلا ، إن جرى التقيد بظاهر النص . وأيضا لا نريد الإشارة إلى أن الآية خلت من النص على الحق العام ، الذي ثبتته نصوص القوانين الوضعية المعمول بها . ولا ندري إذا ما كان دعاة الإسلام السياسي ، سيعمدون إلى إلغاء هذا الحق العام ، لأن الآيات لا تنص عليه ، وهي شرع إلهي .
الجنايات المخففة :
وعن الجروح والقصاص منها ، وفي الحديث عن التوراة وبني إسرائيل ، نصت الآية 45 من سورة المائدة على : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون }.
وإذا حدث وذكرت قاعدة العين بالعين ، أمام شخص حائز على بعض التعليم ، أو شذرات من الثقافة ، رد عليك ، وعلى الفور : هذه شريعة حمورابي . وهي كما يرى القارئ ثاني مرة تتم فيها استعارة الشريعة لهذه القاعدة . وفي تطبيقها ينبغي العودة للقاعدة الأولى ، أي أن تطبيق القصاص بموجبها يتم على أساس التمييز حسب القاعدة الاجتماعية . أي لا تناظر عين الحر عين العبد ، كما لا تقابل عين الأنثى عين الذكر . وهكذا هو الحال بالنسبة للجراح الأخرى . فإذا قطع حر يد عبد ، فإن القصاص يتم على أساس إعادة تثمين العبد ، ليدفع الفاعل الفرق بين الثمن القديم والجديد . وغير ذلك فإن الأحكام الوضعية الجديدة التفتت إلى الحق العام من جهة ، واستبدلت قصاص بدل الأعضاء هذه بعقوبة السجن . إذ لا يعقل في عقوبات كهذه ، وبعد انقضاء عهد العبودية ، العمد لمضاعفة أعداد ذوي العاهات ، أو ما نصفه اليوم بذوي الاحتياجات الخاصة . ورغم أن الأدبيات الإسلامية ، لا تقول لنا شيئا عن عقوبات مجتمع الحجاز لمثل هذه الجنح – أو الجناية المخففة – إلا أن عدم معارضة المكيين ، ومن بعدهم باقي الجزيرة ، لهذه العقوبات ، يشير إلا أنها كانت قائمة عندهم ، قبل نزولها تشريعات في القرآن .
السرقة وقطع اليد :
جاء الإسلام ومكة تحتل مركزا للتجارة العالمية . أهَّل مركز مكة هذا ، العديد من أهلها ، لتكوين ثروات كبيرة ، ظلت محط أنظار ، ومطمع كثيرين من المحيطين بها . ولما كانت الحجاز تفتقر لوجود دولة ، ومن ثم تفتقر مكة لأجهزة أمن ، يستند إليها أصحاب الثروات لحماية أموالهم ، ولما كان الفقراء ، من غير قريش ، الذين كانوا يسمون الأحباش ، يسكنون أـسفل مكة ، إلى جانب الأغنياء الذين يسكنون أعلاها ، ولما كانت مكة قبلة الحج لسائر القبائل العربية ، كان بديهيا أن يبحث ملأ مكة عن وسائل ، وأن يسنوا قوانين ، وأن يشرعوا عقوبات ، تحفظ لهم ثرواتهم ، وتردع الطامعين فيها . منها ذلك الاتفاق ، الذي عرف بالإيلاف ، مع شيوخ القبائل ، الساكنة على طرق التجارة ، وحيث يدفع تجار مكة مبالغ مالية سنوية ، مقابل حماية القوافل من غارات اللصوص .هذا الإيلاف ، كما بتنا نعرف ، ذكره لقرآن في سورة الإيلاف : { لإيلاف قرش* إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * .......} .ثم كانت مسألة اللصوص الفرادى والحاجة لمعالجتها بعقوبة رادعة . ولما كانت مكة لا تملك أجهزة أمن ، ولا وجود لنظام السجون تبعا لذلك ، ظلت عقوبة السجن ، ليس فقط مستبعدة ، وإنما غير واردة . وجرى التفتيش عن عقوبة قابلة للتنفيذ في التو واللحظة .
كالعادة لا تقول لنا الأدبيات الإسلامية شيئا ، بصورة مباشرة ، عن مثل هذه الإجراءات ، أسوة بسائر أحوال مجتمع ما قبل الإسلام . لكنها ، وهي لا تستطيع إغفالها ، تمر عليها بصورة عابرة ، وهي تشير إلى المجتمع الجديد ، والتغيرات التي حدثت على أحواله . ومن هذه الجمل العابرة يكتشف الباحث أن ملأ مكة ، وفي رواية الوليد بن المغيرة ، ورواية أخرى عبد المطلب جد النبي ، وثالثة العاص بن وائل ، والد عمرو بن العاص ، سن عقوبة قطع اليد للسارق ، كعقوبة رادعة لهؤلاء اللصوص الفرادى . وأرجع البحاثة فكرة سن هذه العقوبة ، أو الحد ، لأحد هؤلاء الثلاثة ، لأن كل واحد منهم كان يتمتع بمكانة تؤهله ، ليس فقط لسن مثل هذا القانون ، ولكن لإلزام مكة ، والعرب من حولها ، بوضعه موضع التنفيذ .
العاص بن وائل ، بالإضافة لإشغاله موقعا متميزا بين ملأ مكة ، كان يمارس حرفة الجزارة ، أي كان جزارا . ومن علاقته باللحم وتقطيعه ، سن عقوبة قطع يد السارق . وتقبلت مكة ونفذت . مكانة عبد المطلب ، ومسؤوليته عن أحوال مكة ، وحفظ أمنها لا تحتاج إلى شرح . أما الوليد بن المغيرة فيحتاج إلى وقفة .
كان الوليد كبير بني مخزوم ، سنام مكة ، ومخزن ثروتها . والوليد الذي كان أثرى أثرياء بني مخزوم ، وفي رواية ، سائر العرب قبل الإسلام ، كان إلى جانب ثروته الطائلة ، التي قدرت بمليوني دينار آنذاك ، الوليد هذا تمتع بمجموعة من الصفات ، منها كثرة ولده - منهم خالد بن الوليد ، القائد التاريخي المعروف – إلى جانب ضخامة ثروته ،قد أهلته هذه الصفات ، كي تطلق عليه مكة وصف الوحيد ، أي الذي لا يضاهيه أحد من أهل زمانه . هكذا كان الوليد مؤهلا لسن عقوبة قطع يد السارق هذه ، وإلزام مكة والعرب بالتقيد بها وتطبيقها .
ولما كان الوليد مناهضا للنبي ورسالته ، وكان محاورا ذكيا وبليغا ، خصه التنزيل بعشرين آية ، في سورة المدثر ، مخاطبا إياه بلقب الوحيد الذي أطلقه عليه أهل مكة . وهذه الآيات تبدأ بالآية 11 وهي : { ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيدَ * .........} .
ما يعنينا أن التنزيل قَبِل هذا التشريع الوضعي ، ولا نقول استعاره ، عقوبة قطع يد السارق ، ولتتحول هذه العقوبة ، أو الحد ، بهذا القبول ، إلى تشريع إلهي ، يرى دعاة الإسلام السياسي ، ضرورة سريانه إلى الأبد ، أو صلاحيته لكل زمان ومكان . رغم معرفتهم أن ظروفا خاصة ، وعابرة ، قد جاءت به .
الكبائر وعقوبة الزنا :
ولأنه يعرف عن العرب اعتزازهم ، ومن ثم تفاخرهم وتباهيهم ، بأنسابهم ، كان طبيعيا اتخاذهم مواقف صارمة ، من العلاقات التي تمس بهذه الأنساب . وكما تخبرنا كل أدبيات التراث ، اعتبروا العلاقة خارج إطار الزواج ، رغم تعد أنواع الزيجات عندهم ، خطيئة ، توجب توقيع عقوبة قاسية على فاعليها . وأكثر من ذلك اعتبروا هذه الخطيئة كبيرة من الكبائر ، وأطلقوا عليها تسمية الزنا ، وحيث استخدم التنزيل ذات التسمية – اقرأ حكاية عبد الله ، والد النبي مع المرأة التي طلبت مضاجعته ، في كتب السيرة ، ابن هشام مثلا ، ومثلها فخر النبي بأن خمسمائة من قريباته ، أمه ، جداته ، عماته ، خالاته ، جدات جداته ، وإلى آخر سلسلة نسبه ، لم يرتكبن خطيئة الزنا - . لكن هنا يتوجب على قارئ التراث الانتباه إلى حقيقة الوضع الاجتماعي آنذاك ، والذي كان عبوديا . فحين يجري الحديث عن الزواج ، فإنه يتناول زواج الأحرار ، أو الحر بالحرة ، والذي كان على جانبه معاشرة الحر للأمة ، معاشرة الزوج للزوجة ، وناتجها من بنين وبنات ، يحق له الاعتراف ببنوتهم ، عدم الاعتراف . ومن ثم فإن الحديث عن القيم ، ومنها الخطايا ، يأخذ بالحسبان الزوايا المختلفة لمجتمع العبودية ذاك .
صحيح أن الأدبيات الإسلامية – لا وجود لأدبيات مكتوبة قبلها – لا تقول لنا ، في هذا الأمر ، شيئا ، كما هو الحال مع سائر الأمور الأخرى ، عن العقوبة التي ظل أهل ما قبل الإسلام يوقعونها على مرتكبي خطيئة الزنا ، إلا أن الباحث يستطيع الوقوع عليها بين السطور . ففي أسباب نزول آيات الملاعنة ، سورة النور ، يقع الباحث على حقيقة أن الصحابة تذمروا ، ولا نقول سخطوا ، وحتى أن بعضهم اعترضوا، على أحكام آيات الشهود الأربعة ، الخاصة بإثبات وقوع جريمة الزنا ، لسبب أنها تقيدهم ، أو تمنعهم من تطبيق العقوبة التي اعتادوها ، وهي قتل فاعلي الجريمة . ويمكن للباحث أن يلاحظ أن الصحابة ، بصورة عامة ، رأوا في الآيات الخاصة بتطبيق حد الزنا ، نوعا من تليين العرف السائد في التعامل مع هذه الجريمة .
وبسبب هذه المعارضة ، أو الضيق والتذمر، ربما ، كانت استعارة الشرع الإسلامي للشرع التوراتي بقتل المتزوجين فاعلي الزنا ، أو ما عرف بحد الرجم . وأظنه لا يغيب عن بال القارئ الفطن أن حد الرجم هذا غير منصوص عليه في القرآن ، وأن عمر بن الخطاب ، وهو على فراش الموت ، حذر عائديه من احتمالية تجاهل المسلمين تطبيقه ، وقال قولته المشهورة ، ومضمونها لولا خوفه أن يقول المسلمون أن عمر أحدث في القرآن لأدخل الآية التي تقول : والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة .
لكن القارئ الفطن ، وهو يتذكر أنواع الزواج التي كانت قبل الإسلام ، وهدم الإسلام لبعضها ، وأن المجتمع كان مجتمعا عبوديا ، وأن منظومة القيم والأخلاق ، وبالتالي معايير الحكم على الأمور ، كانت كلها طبقية ، هذا القارئ لا بد يتساءل عن كيفية ، ومدى ، تطبيق عقوبة الزنا ، على قطاعات الشعب المختلفة . ولعل القارئ من مراجعته للنصوص القرآنية ، وأسباب نزولها ، يقع على حقيقة تقول أن العقوبات على فاعلي هذه الخطيئة ، إنما تخص الأحرار فقط . أي أن حدود الزنا الواردة في التنزيل ، التزمت بهذا التصنيف الطبقي ، ولتطبق على الأحرار فقط . أما العقوبات الخاصة بالعبيد فشيء مختلف ، مخففة إلى أقصى درجات التخفيف ، وهي تطال المرأة المعتقة ، التي واتتها الظروف بزواجها . اقرأ آيات الزنا ، واقرأ فقه حدوده في كتب الفقه المختلفة . وأشير أنني كنت قد عرضت هذه المسألة ، وبالتفصيل ، في كتابي " المسلمة الحرة " الذي آمل أن أضعه بين يدي قارئ الحوار المتمدن في فترة قريبة .
لكن ما يلفت النظر أن دعاة تيارات الإسلام السياسي ، وهم ينادون الآن بالعودة لتطبيق حد الزنا ، تجاهلوا هم وسلفهم ، حقيقة أن المسلمين ، في كل بلاد الإسلام ، تراجعوا عن قبول أحكام ثبوت الزنا ، وإيقاع عقوبته ، كما وردت في القرآن . وأكثر من ذلك رجعوا إلى تشريع ، وتطبيق حد قتل المشتبه بهن من النساء ، بارتكاب هذه الجريمة ، ومنح حق التنفيذ لأحد الأقرباء ، كما كان الحال قبل الإسلام . وأكثر ظلوا يدافعون بشراسة عن القوانين الوضعية ، التي تحمي القاتل ، على خلفية ما يوصف بشرف العائلة ، غير المعترف به في الشرع ، وفيما يعرف بقوانين العذر المحل والعذر المخفف . وكما يفهم من أقوال دعاة الإسلام السياسي ، هناك مواصلة لرفض أحكام الآيات الخاصة بشهود إثبات جريمة الزنا ، لكونها مستحيلة في ظروفنا الحاضرة ، وكذلك مواصلة رفض أحكام آيات الملاعنة ، وحيث يفهم من أقوالهم أن المطالبين بكل ما سبق ، يستهدفون إشاعة الرذيلة ، وهدم أخلاقيات المجتمع الإسلامي . هذا أيضا عرضته بإسهاب في كتاب المسلمة الحرة . ولا أظن إلا أن هؤلاء الدعاة يعرفون الحديث الشريف :" لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة فقد ظهرت فيها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها " . وفيما يبدو من منطقهم ، فهم لا يقبلون هذا الحديث ، كون تطبيق حد الزنا ، يقوم على الاستناد للشبهة ، الأساس في وقوع جرائم القتل على خلفية ما يعرف بشرف العائلة ، هذا الشرف الذي لا يصيبه ، ونقيضا لصريح الشريعة ، غير خطأ الأنثى ، ضحية كانت أو خاطئة .
نخلص إلى القول بأن الإسلام ، وفي هذه القضية الخطيرة ، أستعار أيضا ، مع بعض التلطيف ، أحكاما وضعية ، وحيث تحولت إلى إلهية بورودها في التنزيل .
اللباس :
ننتقل من قضايا الحدود وتشريعاتها ، إلى قضايا أسهل ، نبدؤها باللباس ، الذي يستأثر بالنصيب الأكبر من جهد هؤلاء الدعاة ، وحيث يستندون فيه إلى ما يصفونه بمجموعات القيم والمثل والأخلاق الإسلامية .
واسمح لي ، عزيزي القارئ ، أن أبدأ بسؤالك : كيف ، في تصورك ، كان لباس أمم وشعوب الأرض ، قبل مائة سنة من الآن ؟ للجواب ، سوف تستغرق دقائق في التفكير ، لتقول بعدها ، أن لباس الأمم كان متنوعا ، بدليل ما يوصف بالزي القومي لكل أمة وشعب منها . وفي كل أمة يتنوع اللباس بفعل عوامل عدة ، منها البيئة الجغرافية ، البيئة المناخية ، الوضع الاجتماعي ، والموقع من العمل وطبيعته ...الخ . ونعود نسأل : هل كان في ظنك ما هو مشترك بينها جميعا ؟ وبعد الاستغراق في التفكير ستجيب : نعم كان هناك ما هو مشترك ، وهو أن اللباس للجنسين ، كان ساترا لكل أجزاء الجسم ، باستثناء المناطق الاستوائية المطيرة ، حيث ما زالت بعض قبائلها ، حتى يومنا هذا ، تحافظ على العري شبه الكامل في لباسها . ونعود لنسأل : وكيف كان ، في تصورك ، لباس أهل الحجاز قبل خمسة عشر قرنا ، أي قبل بدء الدعوة الإسلامية ؟ ستجيب مباشرة ، وبدون الحاجة لوقفة تفكير ، كان مماثلا لحال باقي الدنيا ، كما سبق وأشرنا إليه ، مع إضافة أن البيئة الصحراوية تغلب على مناخ الحجاز ، الأمر الذي يتطلب أن يكون اللباس أكثر سترة للجسم ، وأن يكون أكثر خشونة ، أو أكثر سماكة ، من مثيلاته في مناطق العالم الأخرى . ونقول أن كل ذلك صحيح ، مع اقتضاء بعض الإضافة للباس أهل الحجاز .
أشرنا إلى أن الوضع الاجتماعي يشكل أحد محددات شكل ونوع اللباس . والحجاز ، مثل أجزاء أخرى من جزيرة ، ساد فيه النظام العبودي . ولأن هذا النظام يسلب من المرء إنسانيته ، فمن البديهي أن يسلبه حقه في تقرير نوع لباسه . ففي الوقت الذي تمتع فيه الأحرار ، من الجنسين ، بحق ستر أجسادهم ، بما في ذلك الرأس ، حُرم العبيد من هذا الحق . وهكذا فرض النظام على العبيد ، وبصفتهم بضاعة آدمية ، رجالا ونساء ، كشف رؤوسهم ، وأجزاء أخرى من أجسادهم ، تمييزا لهم عن الأحرار . وأكثر لم ير ذلك المجتمع في كشف أجزاء من جسد المرأة الأمة ، ما يشكل خطرا على قيمه الأخلاقية ، كون هذه الأجزاء المكشوفة تستفز شهوة الرجال الأحرار .
كان هذا هو الحال ، وقت بدء الدعوة الإسلامية . والمدقق في السور المكية ، يلاحظ عدم ورود أي إشارات استنكار فيها لهذا الحال ، رغم أن أكثرية الذين استجابوا للدعوة كانوا من العبيد ، المفروض عليهم تعرية أجزاء من أجسادهم . وأكثر من ذلك تجاهل التشريع المكي ، ثم المديني ، حتى ما بعد فتح مكة ، وحجة الوداع ، واقعا ظل قائما طوال تلك المدة ، وتمثل في طواف الحجاج ، من الجنسين عراة حول الكعبة ، كأحد مناسك الحج . وفيما بعد ، وبعد توطد نواة الدولة الإسلامية في المدينة ، جاءت التشريعات الخاصة باللباس ، ولكنها خصت النساء الحرات دون النساء العبدات أو الإماء . والمدقق في آيات اللباس ، سواء كانت { ....وليضربن بخمرهن على جيوبهن ...} أو { ...أن يدنين عليهن من جلابيبهن ...} يلاحظ أنها أولا تعاملت مع اللباس الذي كان سائدا ، ولم تقدم بديلا جديدا له ، وأنها ثانيا تخاطب الحرات فقط ، دون الإماء ، وأنها ثالثا أجرت تعديلات طفيفة ، على كيفية التعامل مع اللباس ، مثل إسدال الخمار على الصدر ، لتغطية النحر وفتحة الصدر ، بدل إسداله للخلف ، كما كان سائدا ، قبل ذلك ، وأخيرا توسيع الفارق بين لباسي الحرة والأمة لتسهيل التميز بينهما ، وحماية الحرة من التحرش الذي كانت ، وظلت ، الأمة تتعرض له . وفيما بعد جرى تطبيق هذه الفوارق على أهالي البلدان المفتوحة ، من غير المسلمين .
ولما كانت أعراف الحجاز قد قضت بإلزام الحرة بالزواج ، بعد الطلاق ، أو وفاة الزوج ، وأن هذا الإلزام ينتهي بتوقفها عن الحيض والولادة ، حيث تتوقف حاجة الرجل فيها ، فتسمى بالقاعد ، فقد قضت الأعراف أيضا بمنحها حق التحرر من قيود اللباس في فترات الصبا . وجاء الإسلام ، وفي آية القواعد ، من سورة النور ، ليؤكد على حقها هذا ، والذي انتزعه الفقهاء منها فيما بعد .
وأخيرا نشير إلى أن الحجاب لم تكن له علاقة باللباس ، وإنما توخى الفصل بين الجنسين ، بوقف أي اختلاط بينهما . ومرة أخرى خص هذا الإجراء الأحرار من دون العبيد ، وحيث ظل التحجب ، أي الفصل بين الجنسين ، محظورا على الإماء من النساء ، وعلى العبيد من الرجال . للاستزادة راجع كتاب المسلمة الحرة .
وفي الخلاصة أقرت التشريعات الإلهية ما كان قائما عند أهل الحجاز قبل ذلك ، وكل ما عملته أن أضافت بعض التعديلات ، ولتتحول الشرائع الوضعية ، بهذا التغيير ، إلى شرائع إلهية .
أحوال وقوانين الأسرة :
أثناء إعدادي لبحث القراءة السياسية في العهدين المحمدي والراشدي ، وقعت على معلومة تتعلق بأصل تشريع ميراث الأبناء ذكورا وإناثا . ووجدت أن أحد شيوخ القبائل العربية ، كان هو من سن تشريع حصة الذكر كضعف لحصة الأنثى . لكن هذه المعلومة ضاعت مني ، إذ سهوت عن تسجيلها في حينه ، وفشلت كل محاولاتي لاستعادتها . وعليه سأتجاوز الحديث عن أصل هذا لتشريع حسب النص القرآني . وأنتقل منه لتشريعات قوانين الأسرة ، وفي مقدمتها عقد الزواج .
من المحتمل أن تكون ، عزيزي القارئ ، قد حضرت جلسة إجراءات عقد زواج ، لك أو لأحد أقربائك ، أو أصدقائك . ولا شك أن سمعت قول المأذون ، أو الطالب ، أن العقد يتم على سنة الله ورسوله . وبديهي أنك لم تتساءل كيف يكون ذلك . وإذن اسمح لي أن أسألك : في رأيك ، على سنة من عقد النبي زواجه على زوجته الأولى ، خديجة ؟ وعلى سنة من تزوج أبوه أمه ؟ وجده جدته ؟ وجده البعيد ، هاشم بن عبد مناف ، جدته البعيدة ؟ وجده الأبعد قصي بن كلاب زوجته ؟ وهكذا حتى نصل إلى أبعد أبعد جدوده ، وأعمامه وأخواله ، وسائر أقاربه ، لنعمم السؤال على سائر قريش ، وباقي قبائل الحجاز والجزيرة العربية ؟ وأخيرا نسأل : ترى هل كانت تلك الزيجات ، وهي لم تتم حسب أقوال الدعاة ، على سنة الله ورسوله ، زيجات صحيحة أم باطلة ؟
تخبرنا كتب الفقه ، وصحاح الحديث ، وعلى لسان عائشة ، أن قريش ، وأهل الحجاز ، قبل الإسلام ، عرفوا أكثر من شكل للزواج ، ألغى الإسلام بعضها ، وأبقى على بعضها الآخر ، ثم عاد وألغى أحدها ، وهو زواج المتعة . وأما ما أبقى عليه منها ، فهو الزواج الذي صار يعرف بأنه يتم على سنة الله ورسوله ، والذي يقوم على أركان أربعة هي : الطلب إلى الولي وموافقته ، المهر ، الإشهار والوليمة . وكل ما أجراه الشرع ، على نظام الزواج هذا ، أن أضاف بعض التعديلات ، بغرض تجاوز بعض السلبيات التي كانت ترافقه ، مثل عضل ولي الأمر ، أي معارضته ، ووضع العقبات أمام تزويج وليته ، ومثل استئثار ولي الأمر بمهر وليته . كما أبقى الشرع على زواج الإماء ، إن جاز هذا التعبير . والذي ظل يناقض أركان نظام زواج الحرات ، ويقوم فقط على تملك الأمة ، وليعرفها القرآن بملك اليمين . وأيضا أبقى على زواج العبيد الذي يفتقر لأكثر من ركن من أركان زواج الأحرار .
الأمر ذاته ينطبق على الطلاق الذي كان شرعا قائما قبل الإسلام . وكل ما عمله الشرع تمثل في تعديلات طفيفة ، منها تحريم طلاق الظهار ، والبينونة بثلاث طلقات بدل اثنتين ، وحظر إمساك المطلقة ، بحظر وسائل التحايل التي كانت سائدة قبل ذلك . وهكذا هو الحال مع سائر شؤون الأسرة الأخرى ، حيث جاء الشرع وسن ، أو قونن ، ما كان قائما قبل ذلك ، مع تعديلات طفيفة هنا وهناك . وكما هو معروف لا تنطبق أحكام الطلاق على الإماء ، إذ لا يفك الملكية إلا التنازل عنها ، فيما يعرف بالإعتاق . وأحكامه على العبيد لا تتطابق مع أحكامه على الأحرار .والخلاصة أن الشرع هنا ، كما في الحالات السابقة ، حول ما هو وضعي إلى ما هو إلهي من التشريعات ، التي كانت إما أعرافا أو تقاليد ، أو عادات .
الغنائم والأنفال :
وننتقل إلى شأن يتعلق بالاقتصاد وموارد خزينة الدولة ، مكتفين بذلك القدر من شؤون الأسرة ، الذي يحتاج تفصيل الحديث فيه إلى صفحات كثيرة كثيرة ، رغم أنه لا يخرج عن التلخيص السالف .
ونبدأ بالقول أن من يقرأ السيرة النبوية ، لابد أن يشد انتباهه حديث الغزوات . سيفاجأ أن العديد منها استهدف ، بشكل رئيسي ، احتياز الغنائم والغنائم فقط . وأيضا أن تلك الغزوات سارت على ذات النمط الذي كان سائدا بين القبائل قبل الإسلام ، أي الهجوم في عماية الصبح ، لضمان المباغتة ، ومن ثم تحقيق النجاح ، بسوق ماشية القبيلة موضع الهجوم ، ولتصبح غنيمة تتحول إلى ملك للمسلمين . وفي الحروب ، ودون توقف عند أسبابها ، مبرراتها ، ومن ثم عدالتها ، أو عدم عدالتها ، يضاف إلى الماشية من الغنائم ، الأموال ، الأسرى من الرجال المحاربين ، السلاح ، والنساء والأطفال ، والبالغين من غير المحاربين .
تقول لنا الأدبيات الإسلامية ، في تفسير تشريع الغنائم ، وهي عرف قبلي كما أشرنا ، أن الله أحلها للنبي وللمسلمين ، ولم يحلها لأحد قبلهم . ويشيرون إلى حديث رواه كل من مسلم والبخاري عن جابر أن النبي قال :" أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأي ما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلي ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وبعثت إلى الناس عامة " . وعن أبي هريرة : "فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا " . " ذلك لأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا " .
اعتاد المؤمن قبول أحاديث البخاري ومسلم ، كمسلمات غير قابلة للتمحيص . لكنه لو فكر قليلا ، وأخضع هذا الحديث وأمثاله للتمحيص ، لربما شك في صحة نسبته للنبي . ولو أنه تذكر الشواهد الأخرى ، لربما استنتج استحالة صدوره عن النبي . فبداية كان النبي يعرف أن الله لم يحل الغنائم فقط لبني إسرائيل ، بل أعطاهم ، كما تقول التوراة ، أرض فلسطين . وحدد الغزو ، وإبادة أهلها بحد السيف ، الوسيلة الوحيدة ، لتقع أرض فلسطين ، وكرومها وثمارها ، وبيوت ومدن وقرى أهلها ، غنيمة خالصة ، في أيدي بني إسرائيل . أكثر من ذلك ، وعندما حان موعد الغزو ، تطوع إلههم يهوه ، لقيادة جيوشهم الغازية ، وتنفيذ عمليات الإبادة ، ومن ثم حيازة الغنائم ، الأرض والشجر والحجر والبيوت ، وبقية الممتلكات . وبعد أن تم لهم ذلك ، حرضهم الإله يهوه ، وفي آيات عديدة ، على حيازة الغنائم من القبائل والممالك المجاورة ، وبذات الأساليب ، والتفاصيل – المواشي ، الأموال ، أدوات الحرب ، والسبي من النساء والأطفال والرجال – التي شرعها الإسلام .
المسألة الأخرى أن النبي ، وخلال 13 سنة من الدعوة في مكة ، وقبل نزول آيات تحليل الغنائم في المدينة ، ومن ثم تسويغها – الغنائم - بالحديث السالف ، ليس فقط لم يعارض النبي الغزو بغرض الغنائم ،وسمته أنه يتم في عماية الصبح ، بغرض المباغتة ، وشل قدرة من يتم غزوهم عن الرد ، والذي ظل في كل الأحوال ، يرافقه القتل من طرفي الفعل ، بل وأن التنزيل المكي تناوله بنوع من القبول والاستحسان بلغ حد الغزل ، ووصل حد أن خيل الغزو باتت موضع قسم ، كما تشير سورة العاديات التي هي مكية : { والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا *فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا * .......} . وبديهي أن لا يخطر ببال المؤمن أن يسأل : هل يقع القتل الذي يتم في هذه الغزوات تحت أبواب حدود القتل ؟ وهل يبرر غرض الغزو ، وهو سرقة بالإكراه ، بمنطق عصرنا ، جرائم القتل التي تقع فيه ؟ وكيف سيحاسب الله فاعليها يوم القيامة ؟
وإذا ما تجاوزنا هذه الأسئلة ومحاولات الإجابة عليها ، لرأينا كيف تحول ذلك التقليد القبلي إلى شريعة إلهية ، رسختها آيات عدة منها :{فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم } الأنفال 69 , {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } الأنفال 1 .
مرة أخرى نذكر بأن المؤمن لا يخطر بباله أن يتوقف للتفكير فيما نصت عليه هذه الآيات . والأهم لا يفكر في الأسس التي استندت إليها شرعة توزيع الغنائم . تنص الآية 41 ، الأنفال على :{واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ،إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير } . وكما أسلفنا لا يحق للمؤمن أن يسأل : ما حكاية الخمس هذه ؟ وهل لهذا التشريع أصل في أعراف أهل الحجاز القبلية ؟.
لكن قارئ السيرة النبوية لا بد أن تلفت انتباهه حكاية سرية عبد الله بن جحش . حدد النبي هدف السرية بأنه استطلاعي فقط ، رصد قافلة لقريش والرجوع بأخبارها . ولكن السرية وقائدها ، أغرتهم محتويات حمولة القافلة ، وضعف حراستها ، وبعد تردد وتشاور ، لوقوع الحدث في الشهر الحرام ، هاجموا القافلة . قتلوا واحدا ، وأسروا اثنين وفر رابع . ويلفت النظر في توزيع غنائمها أن ابن جحش عزل الخمس للنبي ، وقبل نزول الآية السالفة ، بوقت طويل . النبي رفض تسلم الخمس بسبب مخالفة ابن جحش للتوجيه الذي تسلمه مكتوبا ، وبسبب أن الغزوة ، وغنيمتها وقعت في اليوم الأول من الشهر الحرام . ثم عاد النبي وقبل هذا الخمس بعد نزول الآية : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ....} الآية .
ثم لا بد أن يلفت انتباه القارئ الفطن ، ذلك الحوار الذي جرى بين النبي وعدي بن حاتم الطائي ، كما أوردته كتب السيرة . كان عدي ، مثل أبيه ، وقبيلة طي ، مسيحيا . وكان عدي يأخذ ، كزعيم لقبيلته ، ربع الغنائم ، رغم أن دينه لا يسمح بذلك . سأله النبي : " إيه يا عدي ، ألم تك ركوسيا ؟ رد عدي : بلى . قال النبي : أولم تكن تسير في قومك بالمرباع ؟ قلت : بلى . قال :فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك . قلت : أجل والله . "
ونختم بغزوة ذي قار ، وحيث بعد الغزوة ، التي وقعت بين قبيلة بني شيبان ، فرع من تميم ، والفرس ، قبل وصول الإسلام إليها ، قام قائد الغزوة بعزل خمس الغنائم ، رغم عدم معرفته بالآية السالفة ، وإرسالها للنبي ، اعترافا منه بأن النبي غدا زعيم العرب كلهم .
نخلص من كل ذلك لنشير أن أعراف القبائل العربية ، كانت قد عملت بتحديد خمس الغنيمة ، عند بعضها ، وربعها عند بعضها الآخر، لزعيم القبيلة ، وفوضته بصرفها على الوجوه التي تحتاجها القبيلة . ثم جاء التشريع فتبنى الخمس وصرفه على ذات الوجوه التي كانت أعراف القبيلة قد حددتها .
أكثر من ذلك أقرت الأعراف لزعيم القبيلة بحق الصفية . وفحواه حق اصطفاء الزعيم ما يراه من الغنيمة لنفسه ، قبل عزل الخمس ، وقبل توزيع الغنيمة على مستحقيها . والعادة أن تكون هذه الصفية ، صبية مليحة ، سيفا أو درعا أو رمحا ، أو فرسا ....الخ . ومرة أخرىأقرالتشريع هذه الصفية ، وظل النبي ، ثم أولياء الأمر بعده ، دائب الحرص على الأخذ بها .
ومرة أخرى : تلك كانت تشريعات وضعية ، سنها وعمل بها من يصفهم دعاة تيارات الإسلام السياسي بالجاهليين ، تبناها التنزيل ، لتتحول بهذا التبني إلى تشريعات إلهية ، يقول هؤلاء الدعاة بصلاحيتها لكل زمان ومكان ، رغم أن الزمن نسخ الكثير منها .
فريضة الحج :
في كتاب قراءة سياسية ، المشار إليه سالفا ، عرضت براهين على أن أمر تحويل الوضعي إلى إلهي ، لم يتوقف عند حدود التشريع للمعاملات ، ولكنه تعداها إلى الفرائض ، الصلاة ، الصوم ، الزكاة ، الجهاد والحج . هذه الفرائض كلها كانت قائمة عند عرب الجزيرة والحجاز ما قبل الإسلام ، الذي تبناها مع بعض التعديلات والإضافات . وللتخفيف على القارئ نتوقف قليلا عند فريضة الحج ، ومناسكها . فقد جاء الإسلام وتبنى كامل مناسك الحج التي كانت سائدة ، في العهد الجاهلي ، قبله . وسيرا على نهج التشريعات التي سبقت الإشارة إليها ، اكتفى الشرع بتعديلات طفيفة ، تمثلت في فريضة الحج ، بتعديلين اثنين . الأول خص التلبية ، حيث كان الحجاج يقولون فيها :" لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك " ، ليحل مكانها "لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " . والتعديل الثاني جاء في الإفاضة ، حيث كان الحجاج من خارج مكة يفيضون من عرفة ، فيما يفيض أهل مكة من داخلها ، فأمر بإفاضة الجميع من عرفات ملغيا هذا التمييز لأهل مكة . واليوم وبسبب الأعداد الهائلة للحجاج تم إلغاء منسك الوقوف على باب بئر زمزم ، المغلق حاليا لوقوعه في صحن الحرم ، والشرب من دلو يسحب به الماء من داخل البئر . وقبل ذلك تم إلغاء منسك شرب رشفة من النبيذ ، المصاحبة لرشفة الماء على باب زمزم .
خلاصة :
نخلص من كل ما سبق إلى طرح أكثر من سؤال على دعاة الإسلام السياسي : ترى كيف نفهم قبول الله لشرائع كان الناس قد استنوها ، وعملوا بها ، ثم جاء الإسلام ، فنزلها في تشريعات ، كما هي أحيانا ، ومع بعض التعديل في أحيان أخرى ؟. هل نفهم أن الله أراد أن يقول لعباده :أرضى لكم ما ارتضيتموه وما ترضونه لأنفسكم ، أم أراد أن يقول أن أهل الحجاز على وجه الخصوص آنذاك ، وأهل جزيرة العرب ، على وجه العموم ، قد بلغوا من العلم والمعرفة ، ومن ثم من الوعي والتقدم ، فالحضارة ، المستوى الأقصى ، وهو ما لا تستطيع البشرية تجاوزه ، ولذلك قررت أن تكون عاداتهم ، تقاليدهم ، أعرافهم ، مع بعض التعديل ، هي الحاكمة لعلاقات وسلوك البشرية ، منذ الآن ، وإلى يوم الدين ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟.وإذا كان الله ، بحكمته التي لا يستطيع بشر ، كان من كان ، أن يبلغ بعضها ، قد ارتضى تشريعات وضعها بشر ، قاصرين في المعرفة ، وفي الحكمة ...الخ ، فكيف لا يرضى بشر ، مثل شيوخ السلفية وغيرهم ، أن يأخذوا بتشريعات وضعها من هم أكثر علما ومعارف وحكمة منهم ، من أعضاء برلمانات ، فرض تطور الحياة ، وتشعب متطلباتها ، عليهم مهام وواجبات سن هذه التشريعات ؟ هل عندك إجابات عزيزي القارئ ؟




#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 10 مخاطر على الديموقراطية ...
- عن دور اليسار في ثورات الربيع العربي
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 9 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 8 مخاطر على الديموقراطية ...
- الربيع العربي وقضايا الأقليات القومية
- قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6 ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 6 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 4 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
- عبود الزمر و العيش خارج حدود الزمان والمكان
- دخول الى حقل المحرمات - 1 -
- وحدة الأضداد بدون صراعها
- هل هي مبادرة؟!
- ويا بدر لا رحنا ولا جينا


المزيد.....




- لمعالجة قضية -الصور الإباحية المزيفة-.. مجلس رقابة -ميتا- يُ ...
- رابطة مكافحة التشهير: الحوادث المعادية للسامية بأمريكا وصلت ...
- كاد يستقر في رأسه.. شاهد كيف أنقذ رجل غريب طفلًا من قرص طائر ...
- باتروشيف: التحقيق كشف أن منفذي اعتداء -كروكوس- كانوا على ارت ...
- إيران أغلقت منشآتها النووية يوم الهجوم على إسرائيل
- الجيش الروسي يعلن عن خسائر بشرية كبيرة في صفوف القوات الأوكر ...
- دونالد ترامب في مواجهة قضية جنائية غير مسبوقة لرئيس أمريكي س ...
- إيران... إسرائيل تهاجم -دبلوماسياً- وواشنطن تستعد لفرض عقوبا ...
- -لا علاقة لها بتطورات المنطقة-.. تركيا تجري مناورات جوية مع ...
- رئيسة لجنة الانتخابات المركزية الروسية تمنح بوتين بطاقة -الر ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 11مخاطر على الديموقراطية 10 الإسلام السياسي والتشريعان : الإلهي والوضعي