أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - صياغة التعصب الدينى بالإبداع















المزيد.....


صياغة التعصب الدينى بالإبداع


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3690 - 2012 / 4 / 6 - 10:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



اختارأ. يوسف زيدان لروايته (عزازيل) فترة تاريخية مغضوب عليها من الأصولية الدينية. لقد وصف أكثرمن مؤرخ تعصب الرومان ضد المسيحيين الأوائل . وأسهبوا فى تسجيل معاناتهم إلى درجة استشهاد الآلاف بسبب تمسكهم بالديانة الجديدة الناشئة. وردّدت الثقافة السائدة ما كتبه المؤرخون عن هذا التعصب الرومانى (وهى حقيقة لايمكن إنكارها) ولكنها أهملت التعصب المضاد الذى مارسه عدد كبير من أقطاب الكنيسة ضد المتمسكين بالديانات القديمة ، خصوصًا بعد انتهاء فترة الاضطهاد والقتل بصدور إعلان ميلان عام 313 الذى نص على (التسامح الدينى) بعد أنْ اعتنق الامبراطور قسطنطين المسيحية التى أصبحت هى الديانة الرسمية لكل الدول الخاضعة لروما . وهو ما كشفت عنه أحداث الرواية (دارالشروق الطبعة الثالثة عام 2008) التى التزم مبدعها بوقائع التاريخ . وكان له فضل إعادة صياغة هذه الأحداث بالإبداع .
كان المبدع موفقًا فى رسم شخصية الراوى (هيبا) إنه شخصية تراجيدية بالدرجة الأولى . فهو مسيحى مقتنع بالدين الجديد . وراهب شديد الورع . ولكنه يرفض التعصب ضد أبناء الديانات القديمة ، التى أخذت اسمًا لا علاقة له بلغة العلم (أى وثنية) لأنه حكم قيمى من ناحية ، ويكرس لرفض حق الاختلاف من ناحية ثانية. والدليل على ذلك أنّ أبناء الديانة الإبراهيمية (اليهودية والمسيحية والإسلام) يرى كل منهم أنّ دينه هو الحق وغيره على باطل . بل إنّ الاختلاف يمتد من خلال المذاهب داخل الدين الواحد الذى وصل فى كثيرمن الحالات إلى درجة التكفير. يرفض هيبا هدم معابدهم أو تحويلها إلى كنائس . ويقرأ لفلاسفة اليونان ويعتز بتراث جدوده المصريين القدماء . ولا يخجل من ذكراسم آمنحتب أبو الطب المصرى . ومنذ الصفحات الأولى نعرف أنه درس المنطق وفقًا للمدرسة الأفلوطينية التى أسسها الفيلسوف المصرى أفلوطينس المولود بأسيوط (205- 270) فيرد عليه الأسقف نسطور((إننى أفكركثيرًا فى أفلوطين وفى مصر فأرى أنّ كثيرًا من أصول الديانة أتتْ من هناك)) وهيبا يجيد أربع لغات. ويحفظ أشعار هوميروس وقرأ كل أعمال إسخيلوس وسوفوكليس . ويحتفظ بنسخة من إنجيل المصريين الممنوع تداوله ومحرم قراءته بين المسيحيين لأنه يخالف الأناجيل الأربعة المتداولة. وعندما عمل هيبا عند رجل دمياطى قال عنه ((كان الرجل مسيحيًا . وكان طيبًا بالفعل مع أنه ثرى . لماذا قال يسوع المسيح إنّ دخول الأغنياء ملكوت السماء أصعب من المرور فى ثقب إبـرة ؟ )) ويندهش لأنّ إنجيل متى شجع المؤمنين بخصى أنفسهم من أجل ملكوت السماوات. ويندهش من آيات تُحبذ الزواج وأخرى ترى العكس . ويندهش من قول أحد الرهبان الذى يزدرى المرأة حيث يقول له (( أنظر إلى هذا الدير، وإلى كل الأديرة والكنائس . لماذا يسودها السلام ؟ لأنها خالية من النساء ، وما يسببنه من ويلات وخيانات )) فيسأله هيبا (( وهل كل النساء خائنــات ؟ )) فيرد عليه الراهب ((نعم . بالقطع . الرجل الوحيد الذى جاز له أنْ يأمن خيانة امرأته ، هو أبونا آدم . لأنّ امرأته لم تجد رجلا غيره تخونه معه فى فرشتها أو فى خيالها . ومع ذلك خانته مع عزازيل (= إبليس) اللعين . وتحالفا ضده . وعندما سأله هيبا ((وماذا عن أديرة النساء ؟ )) قال ((هذه بدعة ابتدعوها على غيرأساس . الرهبنة طهر وصفاء وهجران للدنيا الفانية. ومن أهم علاماتها العزوف عن النساء . فكيف يمكن ذلك للمرأة ؟ ألم تر قول متى الرسول فى إنجيله عن يسوع المسيح : من استطاع أنْ يحتمل عدم الزواج ، فليحتمل . وقول بولس الرسول فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثة : حسن للرجل أنْ لا يمس امرأة . فيرد عليه هيبا الذى قرأ الأناجيل كلها بتمعن (( لكن بولس الرسول قال فى الرسالة ذاتها : من تزوج فحسنًا فعل (220 ، 221) .
هيبا المؤمن بالدين المسيحى يندهش دائمًا من تطرف رجال الدين المتشددين الذين يُحمّلون الإنسان كل أسباب الشر وأنه هو وحواء منبع الخطيئة ، ولكنه يفاجأ بقس طاعن فى السن يقول (( كيف ورثنا عن آدم خطيئة العصيان لأمر الله ؟ وما هو ذنبنا نحن أبناءه الذين لم نفعل هذه الخطيئة ؟ )) فرد عليه الأسقف ((نحن نفعل خطايا أخرى كثيرة ، لا تقل خطرًا عن عصيان الأكل من الشجرة المحرمة. نفعل ذلك ونحن أبناء يسوع . ليس لأننا ورثنا عن آدم خطيئته ، بل لأننا ورثنا عنه النزوع للخطية والاستعداد لها )) (ص 30) ويظل الصراع داخل هيبا يُمزقه خاصة بعد أنْ تعرّف على الفتاة أوكتافيا وعاش معها أجمل أيام حياته ، لدرجة أنه يصف قبلتها له بأنها ((قبلة حريرية)) ومع ذلك فإنّ الشك يعذبه والندم يمزقه إلى درجة أنه لا يجرؤ على تدوين ماحدث معها ولكنه كتب (( لن أستطيع تدوين بقية ما جرى بيننا فى ليلتنا الأولى . ليلتنا كانت حافلة بالشهوات المحرّمة التى أهبطت آدم من الجنة. تُرى ، هل طرد الله آدم من الجنة لأنه عصى الأمر، أم لأنه عرف سرّ أنوثة حواء ، أدرك رجولته واختلافه عن الله ، مع أنه خلقه على صورته )) (ص90) .
أوكتافيا أحبّت هيبا بعمق وصدق . وعندما رأته شاردًا داعبته وأعطته تفاحة فقال (( تفاح ! لا أحبه. فهو الثمرة التى أخرجت آدم من الجنة )) فردّت عليه ((ما هذا السخف ! من أخبرك بهذه الخرافات يا طفلى الصغير؟ )) قال (( هو مكتوب فى شروح التوراة )) فقالت ((هأ.. التوراة.. إنها كتاب عجيب . يهزأ طول الوقت بالمصريين القدماء . ويتهم نساءهم . كان سيدى يقرؤه لى وهو يبتسم ويهز رأسه متعجبًا )) { ما ذكرته أوكتافيا انفعلت به المواطنة الأيرلندية (كاثرين ماك أنثير) فى القرن العشرين حيث أقامت دعوى قضائية أمام محكمة دبلن العليا تطالب فيها بحظر تداول العهد القديم لأنه يسىء إلى أعظم حضارة ، أى الحضارة المصرية – ط . ر } ( أنظرد. وسيم السيسى- مجلة روزا ليوسف- 13- 19 يناير2007) يتمزق هيبا من الرد الصادم لمعتقداته فكتب فى مذكراته (( غاظنى أنها تُهين عهد الرب القديم الذى آمنا به مئات السنين . وآمن به اليهود من قبلنا.. أثارنى كلامها ، مع أنّ الشكوك كانت تملأ نفسى تجاه ما ورد فى أسفار التوراة الخمسة . ولكن مهما كان فلا يجوز لإنسان إهانة عقائد غيره من الناس ، وإلاّ لهانت كل الاعتقادات وأهينت )) وقال لها (( أوكتافيا . لا يجوز لك أنْ تسخرى من عقائد الناس)) فقالــت (( لاتغضب يا حبيبى.. لن أسخر بعد ذلك من عقيدة أحد أبدًا.. وخذ هذه التفاحة من يدى )) تردّد فى أخذ التفاحة وكتب فى مذكراته ((قضمتُ من تفاحتها قطعة صغيرة. وقد اجتاحنى شعور جارف بأننى آدم الذى أغوته امرأته ، وخدعه عزازيل اللعين . فأورثنا من بعده خطية العصيان الأولى . الخطية الأولى . طافت بذهنى الآيات التوراتية المشهورة ، التى لايمكن أنْ يصدقها غيرنا . توالت على قلبى الأسئلة : لماذا أمر الرب آدم بالابتعاد عن شجرتىْ المعرفة والخلود ؟ ولماذا انزعج الرب لما أكل آدم من شجرة المعرفة ؟ )) وقال فى نفسه بحسب ما هو مكتوب فى سفر التكوين : هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا ، عارفًا الخير والشر. والآن يمد يده ويأخذ شجرة الحياة أيضًا ، فيصيرخالدًا . فأخرجه الرب الإله من جنة عدن . طرد الرب الإله الإنسان ، وأقام شرقىّ جنة عدن . ملائكة لهيب سيف متقلب ، ليحرس طريق شجرة الحياة. لماذا أراد الله أولا أنْ يبقى الإنسان جاهلا ؟ وهل المعرفة التى أدركها آدم ، هى تمهيد لإدراكه الخلود ؟ ومن هم أولئك الذين قال الرب إنه واحد منهم ؟ ولو بقى آدم وحواء جاهلين ، هل كانا سيخلدان فى الجنة ؟ كيف يصح الخلود مع الجهل والغفلة عن الطبيعة ؟ وما الذى عرفاه بالضبط حين أكلا من الشجرة ؟ أهو ذاك الذى عرفته مع أوكتافيا فى الأيام الماضية.. ما جرّتنى إليه هى ، من غير تدبير منى ولا قصد.. أترانى أعيد فعلة آدم ، فأغضب الرب فيعيد الطرد ؟ من أين وإلى أين سيطردنى ؟ أنا الطريد منذ سنين ولا أين لى ولا كيف)) (من ص 119 – 121) وهكذا يظل هيبا ممزقًا بين معتقداته الإيمانية وأسئلة العقل ، لدرجة أنه يتساءل ((هل قام يسوع حقًا من بين الأموات ؟ وكيف له وهو الإله أنْ يموت بأيدى البشر؟ هل الإنسان قادرعلى قتل الإله وتعذيبه وتعليقه بالمسامير فوق الصليب؟ )) وفى موضع آخر يتساءل هل صلب المسيح حقًا (ص 23 ، 72) .
بذرة التراجيديا فى شخصية هيبا ذكرياته عن أمه التى آمنت بالمسيحية ووشتْ بأبيه لدى جُهّال الصليب . ثم زواجها من أحد أقاربها الذين قتلوا والده . ظلّ موقف أمه يلاحقه ، خاصة وأنّ أباه الذى رفض اعتناق المسيحية كان (( رجلا طيبًا . لم ينهر أمى يومًا ولم يضربنى قط )) (وهو هنا أشبه بهاملت فى رائعة شكسبير وإنْ اختلفت الدوافع وتفاصيل المأساة) وعندما يقارن هيبا بين أمه وأوكتافيا التى أحبها وندم لأنه انحازلمعتقده الدينى ضد رغبات قلبه. قال إنه يكره أمه ويكره الرجل الذى تزوجته وفى يده دم أبيه. ثم يستدرك قائلا (( أنا الذى يجب عليه أنْ يحب أعداءه كى يكون مسيحيًا حقًا ، لم أر المحبة الحقة إلاّ فى امرأة وثنية (يقصد أوكتافيا) أدخلتنى جنتها ثلاث ليال سويًا وأربعة أيام لا تنسى )) لذلك - كلّما تذكر مشهد اغتيال والده بتدبير أمه المسيحية يقول (( يا يسوع المسيح إننى أشعر بحرقة قلب العذراء ولوعتها عليك . أحس بعمق عذاباتها يوم دقوا المسامير فى يديك وقدميك المشبوحتيْن فوق الصليب . فأنا مشبوح مثلك فوق صليب الذكريات )) هنا نجده يعود إلى حالة الأرجحة الوجودية بين الشك واليقين ، بين الإيمان الذى يعتمد على التسليم بالنص الدينى دون أدنى مناقشة ، وبين العقل المفطورعلى حب الأسئلة. لذلك فإنّ شخصية هيبا بها كل عناصر التراجيديا التى تعتمد على مجابهة التناقضات والتعامل معها من خلال جدل الواقع معكوسًا فى (( الجدل الفنى )) .
وتنمو بذرة التراجيديا بعد أنّ تعرّف على الفيلسوفة المصرية هيباتيا التى كتب عنها (ول ديورانت) أنها كانت أهم عالمة فى عصرها وانتقلت من الرياضيات إلى الفلسفة. وبزّت جميع فلاسفة عصرها . وبعد أنْ تم تعيينها أستاذة للفلسفة فى متحف الإسكدندرية ، هرع لسماع محاضراتها عدد كبير من الناس من شتى الأقطار النائية . ولكن هذا الإعجاب لم يكن فى واقع الأمر يشمل الناس جميعًا ، فما من شك فى أنّ مسيحى الإسكندرية كانوا ينظرون إليها شزرًا ، لأنها كانت من وجهة نظرهم ( كافرة ) بالإضافة إلى صداقتها وعلاقتها الطيبة مع حاكم المدينـــة ( آرستيز ) الذى لم يعتنق الديانة المسيحية وظلّ على إيمانه بالآلهة اليونانية ، لذلك فإنّ جماعة من المسيحيين المتعصبين أنزلوها من عربتها وجروها إلى إحدى الكنائس وجرّدوها من ملابسها وأخذوا يرجمونها بقطع من القرميد . ثم قطعوا جسدها إربًا فى مرح وحشى شنيع (قصة الحضارة- مجلد 6 ج 12- الهيئة المصرية العامة للكتاب – عام 2001- مكتبة الأسرة - من ص 246- 248) ويرى د. إمام عبدالفتاح إمام أنّ ((الرهبان عجزوا عن قمع شهوات الجسد. ولما كان يصعب الوصول إليه فإنه يسهل عليهم تمزيقه)) ( مجلة عالم الفكر الكويتية – المجلد رقم 22 – العدد 3، 4 – يناير / مارس / إبريل / يونيو 1994) مشهد اغتيال الفيلسوفة هيباتيا ظلّ محفورًا فى وجدان هيبا الأمر الذى عمّق مأساته الروحية ، لأنه كان شديد الإعجاب والتأثر بفلسفتها وبشخصيتها وكان يتمنى لو تتلمذ على يديها. ولأنه شهد اغتيالها ورأى عينيها وهى مساقة للذبح . وأحسّ بها تنظر إليه طالبة النجدة ، ولكنه لم يفعل شيئًا ، تمامًا كما لم يفعل شيئًا عندما قتل المسيحيون والده. ثم يشعر بضآلة نفسه عندما يرى أنّ الإنسانة الوحيدة التى دافعت عن هيباتيا وارتمت فى حضنها وهى جثة هامدة ولم تبال بالمتعصبين هى أوكتافيا التى تلقت ضربات المتعصبين . وماتت فوق عظام هيباتيا (( يوم الهول . تحت أقدامى من دون أنْ ترانـــــى )) ورسالة المبدع هنا- بلغة الفن- أنّ أوكتافيا الموصومة بالحكم القيمى (وثنية) أكثر إنسانية ورحمة من المسيحيين الذين قتلوا هيباتيا . ولتعميق مأساة الراوى أعطاه المبدع نصف اسم هيباتيا ، الذى يعنى فى اللغة اليونانية (السامية) من السمو والنقاء . ظلّ هيبا متأثرًا بمشهد اغتيال الفيلسوفة المصرية هيباتيا طوال حياته ، خاصة وأنه كان يتمنى لو أمكنه أنْ يتتلمذ على يديها وأنْ تُعلمه الرياضيات والطب . هذه الفيلسوفة التى قتلها المسيحيون الأتقياء بوحشية كتب عنها كثيرون من المفكرين والعلماء الأوروبيين ومن بينهم العالم الكبير مارتن برنال الذى كتب (( فى عام 390 م قامت مجموعة من الغوغاء المسيحيين بتدمير معبد الإله سيرابيس ومكتبة الاسكندرية الضخمة القريبة منه. وما أنْ مرّت خمسة وعشرون عامًا (أى عام 415 م) على هذا الحدث حتى قامت مجموعة من الرهبان بتحريض من القديس (كيرلس) بقتل هيباتيا الفيلسوفة وعالمة الرياضيات اللامعة بطريقة بشعة. ويُحدد هذان العملان الوحشيان نهاية الوثنية ( يقصد الدين المصرى القديم ، مع التحفظ على مصطلح " وثنية " غير العلمى – ط . ر ) وبداية عصور الاظلام المصرية للمسيحية )) ( أثينه السوداء- مجموعة مترجمين- المجلس الأعلى للثقافة- عام 97 ص 237) وعن هذه الفيلسوفة العظيمة التى اضطهدها المسيحيون فى حياتها حتى نالوا منها عندما عروا جسدها وكشطوا الجسد بقطع القرميد (المسنونة كما السكاكين) ثم ألقوا بقطع الجسد المتهرئة إلى النار، عن هذه الفيلسوفة المصرية التى توجد باسمها فى أوروبا وأمريكا أكثرمن جمعية ثقافية وأكثرمن مجلة علمية تحمل اسمها ، كتبتْ عنها الشاعرة (ماريا ذليسكا) تقول (( لن يقدر الزمن يوما / أنْ يميتها / إنها قائمة هناك.. بسكونها / الموت لا يقدرأنْ يُميت مثلها / الموت يقدر فقط / أنْ يُبعثر هذا الزمن / بعوالمه المرتجفة / أما هى / ستظل .. دائما هى )) ( نقلا عن د. مرفت عبدالناصر- لماذا فقد حورس عينه ؟ قراءة جديدة فى الفكرالمصرى- دارشرقيات- عام 2005 ص 82) .
بعد مشهد اغتيال الفيلسوفة هيباتيا ، تتعمق مأساة البطل أكثر بعد تجربتىْ حب. الأولى مع أوكتافيا والثانية مع مرتا. وقد انحاز فى التجربتيْن لمعتقده الدينى ضد رغبات قلبه. فى المرة الأولى فكر أنْ يخصى نفسه كما جاء فى إنجيل متى . وفى المرة الثانية رفض عرض مرتا بالزواج لأنها مطلقة. وبرّر ذلك بما جاء فى إنجيل متى ((من يتزوج مطلقة فهو يزنى)) { نصّ إنجيل متى على ((من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه. فإنْ كانت عينك اليمنى تُعثرك فاقتلعها . وإنْ كانت يدك اليمنى تُعثرك فاقطعها . وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق . وأما أنا فأقول لكم إنّ من طلق امرأته إلاّ لعلة الزنى يجعلها تزنى . ومن يتزوج مطلقة فإنه يزنى )) (إنجيل متى 5 : 27- 32 ) } ثم جاء التعصب الدينى ليحفر فى وجدانه أشد أنواع المعاناة. فرغم أنه مسيحى مؤمن إلاّ أنه رفض التعصب ضد أبناء الديانات القديمة. فكان يمتعض عندما يسمع أحد الكهنة يقول (( سيأتى اليوم الذى لن نسمح فيه للوثنيين ولا لليهود بالمبيت . لا فى الاسكندرية ولا فى المدن الكبيرة كلها )) ويتأثر عندما يسمع مجموعة من رجال الكنيسة يقولون (( باسم يسوع سنهدم بيوت الأوثان ونبنى بيتًا للرب )) ويفجع عندما يمر أمام معبد السرابيون الذى هدمه المسيحيون على رؤوس المعتصمين فيه. ويتألم إذْ يعلم أنّ راهبًا من أبطال الكنيسة كان واحدًا من جماعة محبى الآلام الذين فتكوا بأسقف الاسكندرية جورج الكبادوكى ومزقوه بالسواطير لأنه كان - من وجهة نظرهم - مارقًا يميل إلى آراء آريوس الملعون )) لذلك يقول هيبا ((هيّج فى فكرى التناقضات الواقعة بين ديانتنا القائمة على الفداء والمحبة. وتلك الأفعال التى تجرى باسم المسيح )) .
يزداد تمزق هيبا الروحى عندما سمع البابا كيرلس (( يُكرر بهديره الحماسى الآسر، قول يسوع المسيح : (( ما جئتُ لألقى فى الأرض سلامًا بل سيفًا )) (ص 152 ، 240) والنص كما جاء فى إنجيل متى هو ((لا تظنوا أنى جئتُ لألقى سلامًا على الأرض . ما جئت لألقى سلامًا بل سيفًا . فإنى جئتُ لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة (زوجة الابن) ضد حماتها . وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحبّ أبًا أو أمًا أكثر منى فلا يستحقنى . ومن أحبّ ابنًا أو ابنة أكثر منى فلا يستحقنى . ومن لا يأخذ صليبه ويتبعنى فلا يستحقنى .. إلخ )) (إنجيل متى 11 : 34- 42) وعندما يمنعه القساوسة من الذهاب إلى حضور محاضرة الفيلسوفة هيباتيا ويقولون له كيف تذهب إلى رؤية الشيطانة ، يزداد الصراع داخل نفسه ويتساءل : (( هل أعود إلى بلادى (يقصد صعيد مصر) سالمًا أم أهجر الكنيسة إلى الأبد ؟ )) (ص 143) وتمزقه الروحى لا ينتهى فهو يعتقد أنّ علاقة الحب الجميلة التى تمت بينه وبين أوكتافيا فحشٌ وخطية (( فتدنستْ روحى وتكدرت )) (ص 99) ورغم ذلك فهو عندما يتذكرها يقول ((هل وقع ذلك كله حقًا ، قبل عشرين عامًا ؟ مالى أشعر به كأنه يحدث الآن ؟ آه يا أوكتافيا المسكينة.. لو كنتِ صبرتِ علىّ قليلا .. ولو كنتُ أعرف ما يُخبئه لى الزمان .. أو.. الآن.. إنّ يدىّ ترتجفان.. أوكتافيا الحبيبة.. المسكينة.. ما عدتُ قادرًا على الكتابة)) (ص 125) وعندما رأى مشهد اغتيال الفيلسوفة هيباتيا يقول بعد أنْ انصرف ((هل أعود للكنيسة المرقصية ؟ أم ألقى بنفسى على الجمر الباقى حول جسد هيباتيا ، فأحتضنه ، علّنى أدرك بقية من النار التى احترقتْ بها . فأموت معها متطهرًا من خنوعى الثانـــى ؟ ( الخنوع الأول عدم الدفاع عن أبيه الذى اتهمته أمه بالكفر) فيبرر ذلك بأنه كان صغيرًا (( فلماذا خنعتُ عن إغاثة هيباتيا وقد مدّتْ ذراعها نحوى ؟ أوكتافيا حاولتْ حمايتها واستجلبتْ عون إله الاسكندرية المدعو سيرابيس فصارت جثة ملقاة على جانب الطريق ، مكفنة بدمائها الطاهرة. أبى لم يستغث بى ، لكن هيباتيا فعلت . المرأة الخاطئة لم تستغث بالمسيح يســوع ، لكنه أغاثها من راجميها قساة القلوب . وأنا لم أغث شقيقة يسوع من يدى اخوتى فى الديانة. لكنهم ليسوا اخوتى . أنا لستُ منهم ولستُ منى)) (ص 160 ، 161) ويستمر التوتر الدرامى فى شخصية هيبا فيقول بعد عشر سنوات من اغتيال هيباتيا (( ما زالت صرخات هيباتيا يتردد صداها فى أنحاء روحى . كانت سنوات عشر قد مرّت على مقتلها وكأنها ما مرّت )) (ص 173) وتظل هيباتيا مسيطرة على وجدانه فيقول (( فى ليلة رأيتُ هيباتيا فى ثوبها الحريرى الأبيض ذى الحواف المحلاة بالخيوط الذهبية. كانت تشع إشراقًا ومحبة. وكنتُ فى حلمى شابًا لم أتعد العشرين وكان عمرها هو هو الذى عرفتها فيه. رأيتها تقرأ لى كتابًا فى علم الكيمياء .. إلى أنْ يقول ((كانت تلتفت إلىّ باسمة وهى تقرأ . وحين تمنيتُ أنْ تضمنى لصدرها ، ضمتنى . لما احتضنتها ، وجدتها قد صارت أوكتافيا مضرجة بدمائها ، فانتبهتُ فزعًا )) (ص 213- 214) وكلما تذكر نظرات أبيه وهو يُقتل على يد المتعصبين من المسيحيين يقول لنفسه (( الأبوة روح ربانية سارية فى الكون . أنا لن أكون أبًا أبدًا ولن تكون لى يومًا زوجة وأبناء. لن أعطى هذا العالم أطفالا ليُعذبهم مثلما تعذبتُ . فلا طاقة لى لاحتمال عذاب طفل)) (ص 211) ولأنّ بطل الرواية قرأ كثيرًا فى الفلسفة المصرية واليونانية لذلك نجده يُلخص العلاقة بين الأمان والإيمان قائلا ((هى مغامرة خطيرة أنْ نأمن ، مثلما هى مغامرة كبرى أنْ نؤمن)) (ص 118) .
وإذا كان عزازيل هو المعادل التراثى لإبليس ، كما ورد فى الديانة الإبراهيمية ، فإنّ المبدع جعل منه المعادل الفنى لضمير هيبا وصوته الداخلى . فهو الذى ألحّ على هيبا حتى أقنعه بتدوين مارآه. والمذكرات التى يكتبها هيبا يراها عزازيل نوع من الاعتراف . وعندما يتردد هيبا فى كتابة مشهد اغتيال الفيلسوفة هيباتيا فإنّ عزازيل يقول له (( أكتب ياهيبا باسم الحق المختزن فــيك . أكتب ولا تجبن . فالذى رأيته بعينيك لن يكتبه أحد غيرك . ولن يعرفه أحد لو أخفيته )) وإذْ يكتب هيبا (( النساء كالحمامات لا يطلبن من الرجال غير الغزل )) فإنّ عزازيل يُنبّهه ((ياهيبا. هذا الذى تكتبه لا يليق برهبانيتك)) وعزازيل يتمنى لهيبا أنْ ينحاز للفطرة الإنسانية فيقول له (( لا تفقد مرتا مثلما فقدت أوكتافيا. إنّ شوقك إليها يعتصرك . إذهب إليها. إسعد بها ودعها تمرح )) وإذْ يتشكك هيبا بأنه يسمع صوت عزازيل فإنّ الأخير يقول له (( لم يكن صوتى ياهيبا. كان ذاك نداء روحك )) وكلما لعن هيبا عزازيل قال له (( أنا لا وجود لى مستقلا عنك. أنا ياهيبا أنت. أنا لست حولك ياهيبا. أنا فيك)) وعزازيل فيلسوف يعى أهمية التدوين إذْ يقول ((أكتب ياهيبا . فمن يكتب لن يموت أبدًا)) ويستجيب هيبا ويكتب ما رآه من تعصب دينى رغم إيمانه بالمسيحية ، وعن انحيازه لمعتقده الدينى ضد تجربتىْ حب عميقتين . ولكنه - كأى شخصية درامية تتفاعل مع تناقضاتها - كتب فى آخر كلمات مذكراته (( أرحل مع شروق الشمس حرًا )) (368) .
000000
اختارأ. يوسف زيدان دور المترجم لحياة هيبا. وأتاح له ذلك أنْ يكتب بعض الهوامش على المتن . وإذا كانت مذكرات هيبا إدانة للأصوليين المسيحيين الذين كفروا المختلفين معهم وقتلوا الفيلسوفة هيباتيا وحوّلوا المعابد إلى كنائيس ، فكان فى وسع (المترجم) أنْ يكتب هامشًا عن الأصوليين المسلمين الذين فعلوا نفس الشىء . حيث يمتلىء التاريخ العربى الإسلامى بوقائع قتل الفلاسفة وتحويل الكنائس إلى مساجد . وبذلك تكون رواية عزازيل إدانة لكل أشكال الأصولية الدينية. ودعوة لاحترام معتقدات الآخرين ، مهما كانت الاختلافات والخلافات بين الأديان بل وبين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد ، تأكيدًا لرأى الفيلسوف هيجل الذى ذكر أنّ الدين شىء ذاتى . أما ( الموضوع ) فهو الوطن الذى لا يُفرق بين أبنائه بغض النظرعن دياناتهم ومذاهبهم . وأعتقد أنه لو فعل ذلك لتجنب الانتقادات الموجهة إلى روايته البديعة ، حيث يرى المعارضون لها أنّ هدفها الوحيد هو الهجوم على الديانة المسيحية. والبعض الآخر زايد ورأى أنها ضد الديانة الإبراهيمية (اليهودية والمسيحية والإسلام) وبالتالى فلو أنه ذكر فى هوامشه بعض الأمثلة عن التعصب الذى مارسه الأصوليون الإسلاميون ، وهى وقائع تمتلىء بها أصول كتب التراث العربى / الإسلامى ، من ذلك – كمثال بالطبع – ما ذكره محمد بن أحمد بن إياس الحنفى ، فى كتابه ( بدائع الزهور فى وقائع الدهور ) إذْ كتب أنّ من بين (( الأفعال الشنيعة التى قام بها الخليفة الحاكم بأمر الله أبى على منصور أنه هدم كنيسة وبنى مكانها مسجدًا )) ( ج1 ق 1 ص 200- الهيئة المصرية العامة للكتاب – عام 1982) والقارىء الذى لا يتمكن من الحصول على أصول الكتب التراثية ، عليه أنْ يقرأ الكتب الحديثة مثل كتاب د. حسين فوزى ( سندباد مـــصرى ) وهو موجود ومتاح وصدرتْ منه أكثر من طبعة ، كان آخرها طبعة هيئة الكتاب المصرية – مكتبة الأسرة ، أقول لو أنّ أ. يوسف زيدان فعل ذلك ، يكون قد حقق التوازن ، وأكد الحقيقة التى تتجاهلها الثقافة السائدة البائسة ، وهى أنّ الأصوليين- فى كل دين- متشابهون .
******



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دستور وطنى دائم أم شخص الرئيس
- شواطىء العدل والحرية عند رمسيس لبيب
- السفر الأخير - قصة قصيرة
- مجابهة التخلف الحضارى
- الإبداع بين الدراما والسياسة
- أوديسا التعددية الثقافية
- مباراة عصرية فى شد الحبل بين الحرية والدكتاتورية
- دستور سنة 23 وموقف الليبراليين المصريين
- قصة (بعد صلاة الجمعة) والفكر الأصولى
- إبراهيم أصلان والكتابة بلغة فن الهمس
- محجوب عمر والترانسفير الصهيونى
- نداء الحرية فى مواجهة بطش العسكر
- العلاقة بين التدين والإبداع الشعبى
- الروائى الأيرلندى جيمس جويس واليهود
- الصحافة المصرية وحجب المعلومات
- الدبلوماسية المصرية بعد يوليو52
- الآثاروالسياحة واللغة المصرية القديمة
- بورتريه لإنسان لا أعرفه
- أخناتون بين التوحيد والتفريط فى حدود الوطن
- فتاة صينية (مشهد واقعى)


المزيد.....




- متى موعد عيد الأضحى 2024/1445؟ وكم عدد أيام الإجازة في الدول ...
- تصريحات جديدة لقائد حرس الثورة الاسلامية حول عملية -الوعد ال ...
- أبرز سيناتور يهودي بالكونغرس يطالب بمعاقبة طلاب جامعة كولومب ...
- هجوم -حارق- على أقدم معبد يهودي في بولندا
- مع بدء الانتخابات.. المسلمون في المدينة المقدسة بالهند قلقون ...
- “سلى أطفالك واتخلص من زنهم” استقبل دلوقتي تردد قناة طيور الج ...
- جونسون يتعهد بـ-حماية الطلاب اليهود- ويتهم بايدن بالتهرب من ...
- كيف أصبحت شوارع الولايات المتحدة مليئة بكارهي اليهود؟
- عملية -الوعد الصادق- رسالة اقتدار وردع من الجمهورية الإسلامي ...
- تردد قنوات الأطفال علي جميع الاقمار “توم وجيري + وناسة + طيو ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - صياغة التعصب الدينى بالإبداع