أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - ليث العبدويس - في تأبينِ مُتسوّلة














المزيد.....

في تأبينِ مُتسوّلة


ليث العبدويس

الحوار المتمدن-العدد: 3669 - 2012 / 3 / 16 - 12:52
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    


كانَ منظرُها يجْلِدُ بصيرتي كُلما تعثّرتْ بيَ الخُطوّات على أرصفةِ تِلك المدينةِ المنْسيّة، مدينةٌ تعْتاشُ على الجوع وتَتَسربَلُ بالفاقَةِ وتُضاجِعُ الحرمان، مدينةٌ تَشهقُ الذُلّ وتزفُر الضَنَك، أراني أنقادُ جبراً الى حيثُ الزاوية المُتربة القذرِة التي تحتويها مع طِفلها العليلِ الشاحِب.
ولستُ أدري سِرّ هذا الأقبال على تِلك المخلوقةِ البائِسة، ولا خفايا غَشَيانيَ الدائب لرُكنها التعِس، فالسلائِقُ جَرَتْ أنْ نَفِرُّ مِمّا يُنفّر، ونزوغُ عمّا يُؤثّر، وفي العادة نصُمّ آذاننا عن كلّ صُراخ يؤذي أسماعنا ونُغلق عيوننا دونَ كلّ مشهدٍ يجرَح انفسنا.
لكنَّ اقدامي تنسابُ بيَ مُكرهة اليها بدافع خفيٍ وهاجسٍ غامضٍ لمْ استبنْ لهُ حتى اليوم تفسيراً، أهيَ الرغبةُ في جَلْدِ الذاتِ وتعذيبها بمشهدٍ يختزل معاناةً انسانيةً مُجردة؟ أم فُضولُ الفُرجة الذي يطفو على سُطوح رغائِبنا مهما كان الموضوع مؤلِماً وناضحاً بالوجع الصامِت؟ أم وازعُ الضمير وتبْكيتِهِ ووخزهِ يدفعني لتلمُّس مصيرها والاطمِئنانِ عليها وعلى ذلك الصغيرِ الذي لا يكادُ ينمو وكأنَّ اعوامهُ الثلاثَ قدْ توقفتْ فلا يزيدُهُ شظَفُ العيشِ الا ضُموراً؟ ضميرٌ لا يجودُ الا بالقليل من النقْد اُلقيهِ بينَ يديْ من تحولتْ الى مزاريَ الدائم لعلّها تَبعَثُ بعض السكينةِ في روعيَ القلق.
هنُاك مقصدي ومُبتغاي، واليها الوِجهةُ والمهجر، حيث تفترشُ الأرضَ وتلتَحفُ السماء، بقايا امرأةٍ حطّمَ عَسْفُ السنين فيها نضارةَ النِساء، وأذهبتْ المِحنُ مُسحة حُسنٍ غابِر تاركةً بصمة حُزنٍ قاتِم، عليها أسمالٌ باليةٌ لا تُشبه من الثياب شيئاً، بل هيَ محضُ سِترٍ للجسد الذاوي النحيل، ثوبٌ أخْلَقَهُ حَرُّ الصيف وقَرُّ الشتاء وأيتمَهُ ضِيقُ ذاتِ اليَد فلم يظفر بشقيق، ولم أرَ عليها غيرهُ برغم تقادمِ الزمانِ وتواصلِ الأيام، ثوبٌ كرّتْ عليه السنين وأكلَ عليهِ الدهرُ وشربَ وماتَ فلمْ يعدْ له بينَ الألوان لون، فيا ويحَ الانسان، ما أظلمه!
أرقُبُها من طرفٍ خفي، وأتأملها تسألُ الناس الحافاً وتستقبلهم بما يستقبلهم بهِ المتسولون من خَفيضِ الصوتِ وخُنوع النَبرةِ وانكسار النظرة، فلربما ألحتْ في بعض الأحايينِ اذ لمْ تجِدْ قُوتَ يومِها فخشيتْ أنْ تَباتَ والصَغيرُ طاويةً على مَخمَصة، ولربما ظفرتْ ببعض المال مما تُعينُ بهِ نفسها ووليدَها على نابِ الأيّام وشراسة الزمن، او لعلّها خرجتْ بدُعاء بخيلٍ او مُمسِكٍ مُقْتِرٍ او بما دون ذلك ممن يمرّونَ عليها مرورَ الكِرام فلا يختلِجُ فيهم عِرقٌ او يَرُفّ لهم جَفن، يجاوزونها غير آبهينَ او مبالينَ كأنهم اجتازوا خيطَ دُخانٍ او جُثّة كلبٍ نافِق، أما أسوأ صنوف العابرين فهم اولئكَ النوعُ الذي لا يخفي تقزّزَهُ واشمئزازَهُ من منظرها الرَثْ، فيحِثّ الخُطى مُسرعاً كمن يَفُرُّ من مَجذوم.
متسولةٌ تقِف وولدها عند بوابةِ حيواتنا اللئيمة فلا يُفتحُ لها او تُستعتَب، تَقْعي عند بُقعتها المُعتادة تُهدهِد الصغير البَكّاءَ بترنيمةٍ حنونٍ حَزنى تحفظها كُلّ الأمّهاتُ عنْ ظهرِ قلب، لكنّها تُسلِيهِ بها شطراً من النهار، حتى اذا ما هبطَ المغيبُ وكَلّكلَ الليلُ طوتْ فراشها البالي واحتضنتْ الطفلَ النائم واختفتْ، فلكأنها انبَجَسَتْ عن فراغٍ ونحوهِ ذهبتْ، او أتتْ من العدمِ واليه رحلتْ، وهي كذلك.
فمن كان منا مُتسوّلاً؟ أهي التي تبغي انْ تُقيمَ أودَها وتُسكِتَ جوعها وصغيرها وتَسُدّ رَمْقَها بدراهمٍ بَخِساتٍ نقذِفُهُنَّ بلا اكتراثٍ في حِجْرِها، ام نحنُ الذين كنا نتسوّلُ منها شيئاً من انّسانيتنا المُبعثرة بين ايقاعاتِ الحياة وصخْبها الذي أنسانا من شِدّة ضجيجه كائناتٍ بشريةٍ مسحوقةٍ تقبع في قاعِ الأرض وهامِشِ الوجود ومنافي النِسيان؟
أشكّ سيدتي التي لمْ أعُد قادراً على استحضارِ ملامِحها او زيارتِها في زاويتها الصامِتة مستدراً في دواخلي بعضَ دَمْع الأنسان المُستتر المتواري، أشكُّ أنّكِ لازلتِ على قيدِ الحياةِ فضلاً عن ذلكَ الصغير ذي العودِ الجافّ والنَسغ المُتيبس، ولستُ أدري أينَ أعثرُ على زاويةٍ تُشبههُ تِلك التي اعتدتي الجلوسَ عِندها كيما تَبوحُ مُقلتاي ببعضِ الدَمع الحبيسِ في ذِكرى مُتسولةٍ راحِلة.

ليث العبدويس [email protected]



#ليث_العبدويس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوميّاتُ مَدينَةٍ مَذبوحة
- مُناجاةٌ القَمَرِ المُهَشّم
- إلى بَغدادَ دَمعي.. مَعَ التَحيّة
- السيّابُ لَمْ يَكُن رَكيكاً يا وَطني
- مُذكرات لاجئ سياسي 2
- مُذكّرات لاجئ سياسي
- نَحنُ.. والبَحرُ..وإسرائيل
- سوريا وَفَلسَفةُ الثُعبان المُقَدَّس
- رِسالةٌ إلى بشّار الأسَدْ
- وَقَفاتٌ عِندَ مُسلْسَلٍ مَمْنوع
- خرْبَشاتٌ طُفوليّة على جِدار العيدْ
- جرائِمُ الشَرَف.. وَقفةٌ شُجاعة
- ليبيا.. انتهاءُ عامِ الرَمادة
- وحشٌ طليقٌ في الشام
- -جمهورية- انكلترا المُتَحِدة
- فينيقُ لُبنان..ورمادُ الطائِفيّة
- هوامش على دفتر الثورة
- الصومال.. محنةُ الضمير.. محنةُ الإنسان
- الإرهاب الإسلامي ..تهافت النظرية
- هل شارف عصر الطغاة على الانتهاء؟


المزيد.....




- الأمم المتحدة تندد بتشديد القيود على غير المحجبات في إيران
- الاعتداء على المحامية سوزي بو حمدان أمام مبنى المحكمة الجعفر ...
- عداد الجرائم.. مقتل 3 نساء بين 19 و26 نيسان/أبريل
- هل تشارك السعودية للمرة الأولى في مسابقة ملكة جمال الكون؟
- “أغاني الأطفال الجميلة طول اليوم“ اسعدي أولادك بتنزيل تردد ق ...
- استشهاد الصحافية والشاعرة الغزيّة آمنة حميد
- موضة: هل ستشارك السعودية في مسابقة ملكة جمال الكون للمرة الأ ...
- “مش حيقوموا من قدامها” جميع ترددات قنوات الاطفال على النايل ...
- الحكم على الإعلامية الكويتية حليمة بولند بالسجن بذريعة “الفج ...
- استشهاد الصحافية والشاعرة الغزيّة آمنة حميد


المزيد.....

- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم
- قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق / بلسم مصطفى
- مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية / رابطة المرأة العراقية
- اضطهاد النساء مقاربة نقدية / رضا الظاهر
- تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل ... / رابطة المرأة العراقية
- وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن ... / أنس رحيمي
- الطريق الطويل نحو التحرّر: الأرشفة وصناعة التاريخ ومكانة الم ... / سلمى وجيران
- المخيال النسوي المعادي للاستعمار: نضالات الماضي ومآلات المست ... / ألينا ساجد
- اوضاع النساء والحراك النسوي العراقي من 2003-2019 / طيبة علي
- الانتفاضات العربية من رؤية جندرية[1] / إلهام مانع


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - ليث العبدويس - في تأبينِ مُتسوّلة