|
مقاربة لفك لغز الموت
إبراهيم اليوسف
الحوار المتمدن-العدد: 3653 - 2012 / 2 / 29 - 23:56
المحور:
الادب والفن
أثر الكاتب ومحاكمة الموت الرّهيب إبراهيم اليوسف
" يظلُّ حبر القصيدة ينزف في الّرُّوزنامة يدلُّ القارىء على شاعر جميل يواصل مشاكساته وفوضاه العارمة في هذه المقبرة الهادئة كي تضجَّ بالأشجار والصَّدى.... والعصافير...!
كتابة على شاهدة قبرشاعر
إن أية قراءة للموت في مفهومه الفيزيولوجي، تجعل الدارس أمام دوَّامة لاتنتهي، من الأسئلة الهائلة التي سرعان ما تظهر، على شكل خيوط، تتمخض عن متوالية من العقد، لأن كل ما يفهم من عمق جوهرالموت، لا يكون سوى مدخل إلى دلالات أخرى، دائمة التوالد، ترفع الموت إلى مقام اللغز المحير، لاسيما وأنه قرين اللحظة و المستقبل، كما هو قرين الماضي السحيق، لتكون له ثقافته الخاصة التي تبدأ منذ أول ميتة عرفها الإنسان على وجه البسيطة، منذ الكائن البشري الأول، وحتى الآن، وإن كنا سنقع في ميتة هابيل على يدي قابيل، ما يجعل القتل سابقاً على الموت الطبيعي. إن مفهوم الموت، الذي استأثر اهتمام المفكرين، والفلاسفة، منذ بداية تكوين الوعي البشري، كما استأثر اهتمام الشعراء والأدباء والفنانين، كان يشكل التحدي الأكبر للإنسان، باستمرار، لاسيما عندما يشخص ماثلاً في صدمته الأولى في أذهان هؤلاء، على اعتباره المفترق الرهيب بين برزخي الحضوروالغياب، أو الحياة والفناء، مادفع جلجامش للبحث عن" سرالحياة"" عشبة" أو"ماء"، أو "إكسيراً، لإنقاذ صديقه أنكيدو، حيث يبدو الموت الأقوى في أية مواجهة، لأنه السرالأكثرجبروتاً، وقهراً، وإن هذا المفهوم نفسه، مدار تناول البشرية، جمعاء، جيلاً تلو آخر، حيث لايعد أمراً عابراً في عالم أحد، بل إن له رهبته، فهوالهاجس الذي يستوقف كل الناس، وإن كان بعضهم، سيشكل فلسفة خاصة، عبر التفكيرفي مواجهته، بهذا الشكل، أو الآخر، من خلال تصويره، على خلاف ما هوعليه، وفق شرط ما، كي يصل الأمرإلى درجة استساغته، في لحظة وجد صوفي، أو سواه. كما أن هناك قيماً عديدة، استطاع الإنسان استصغار شأن الموت، في حضرتها، مع تشكيل المنظومة الأخلاقية لديه، وصار من عدادها الذود عن الوطن، أو الحرية، أو الكرامة الشخصية، وهذا ما يتجلى على نحو خاص، في عالم الشعر، وإن كان الوطن بيتاً، أوحمى قبيلة، قبل أن تتبلورملامحه النهائية، وخصائصه، ورموزه، وكأن هؤلاء قد تمثلوا توصيف سقراط له على أنه "مجرد فزَّاعة، لا أكثر"، مادام أنه النهاية الأكيدة لكل كائن حي، إذ يقول كعب بن زهير: كلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامتُه يوماً على آلة حدباء محمول وقد يدفع الخوف من شبح الموت بعضهم إلى الاستسلام له، من دون أن يتفاعلوا مع اللحظة الزمانية، بالشكل المطلوب، وهذه مثلبة كبيرة، أدت إلى إجهاض طاقات وإمكانات هائلة لدى بعضهم، إذ راحوا يرفعون أيديهم أمامه، مستسلمين، خانعين، من دون أن يؤدوا أية من المهمات المطلوبة منهم، وهذا طالما استغله الاستبداد، كي يحرف الناس عن التفكير بتحسين واقعهم الحياتي، والقفز فوقه، ليعيشوا مرحلة ما بعد الموت، وهم أحياء، وفي هذا شلل، وإسفاف، بطاقات الإنسان الكبيرة التي يمكنه أن يحقق بها المعجزات، وهذا بدوره ما ولد عبر التاريخ، فلسفة خاصة. وإذا كانت الحياة، نقيض الموت، فإن الإنسان، هو من يستطيع تحقيق معادلتهما، كي يوازي بين طرفيها، في آن واحد، على خيرنحو، ويمكن هنا، أن نعتبركل إنجازإنساني، على صعيد الإبداع الروحي، أو العلمي، أو الحضاري، نتاج العلاقة المتكافئة، بين عناصرهذه المعادلة، ليكون الإنسان قادراً على التكيف مع البرهية المعيشة، على أحسن نحو، من دون أن يمنى بالهزيمة،أو النكوص، ولعل الإنسان السوي، هومن يقبل على الحياة، ويتفاعل معها، ليغيب في الوقت نفسه شبح الخوف من الموت، بل ويتعامل معه على أن يؤسس لما بعده، من خلال ترك آثاره، ليتغلب على المحو الذي يتركه الموت، بوساطة تكريس ديمومة حضوره، حتى في ما بعد غيابه، ولعل في تذكرنا الآن، لآلاف الأسماء البارزة، في مجالات الحياة، والمستعصية على المحو، من خلال"ترك الأثر"، يستوي هنا الشاعر، والرسام، والموسيقار، وصاحب الاختراعات الذي قدم للبشرية خدمات هائلة في مجال الكهرباء، أو الهاتف، أو الإنترنت، أو الطب........ وغيرذلك، فأصبحنا نعرفهم، وكأنهم مواطنون يعيشون بين ظهرانينا، حتى وإن كانت المسافة الزمانية الفاصلة بيننا وبعضهم آلاف السنوات،في الوقت الذي قدلانعرف فيه من قد تنعدم المسافة الزمكانية بيننا، إلى حدّ التلاشي. والموت، باعتباره، الموازي للحياة، فله ثقافته الخاصة، كما أن للحياة ثقافتها الخاصة، ولعل مرد نشوء هذه الثقافة أوتلك يعود إلى أمرين، أحدهما إنساني، عام، وثانيهما يعودإلى خصوصية كل مجتمع، على حدة، وإن كان الموت في نهاية المطاف هو "واحد" حتى وإن "تعددت الأسباب"، وهذه الخصوصة، قد تبدأ برؤية الموت لدى الفرد في المجتمع، أوحتى بكيفية الاستعداد له، وصدى موت الفرد، في من حوله، وهذا ما يتجسد في المدفن، والتشييع، والتعامل مع ذكرى الراحل، ومحاولة استقراء أثره بين الناس، وهو ما تجلى لدى الفراعنة، في اللجوءإلى عملية" التحنيط" لما في ذلك من مقدرةعلى أن يكون الأثرالإنساني، أقرب إلى هيئة الميت،أو من خلال التوجه إلى رسم ملامح الميت، على شاهدة القبر، أو في المعبد، أوباب الكف لدى الآخرين. إن هذا الاهتمام، بأثرالإنسان، هوما كان يصرعليه تولستوي، في فلسفته التي قضت ضرورةأن يترك المبدع أثره، وهوموجود عملياً منذ أول إبداع إنساني، على وجه البسيطة، وكأن روح المبدع، تستمرفي إبداعه، ولعلنا جميعاً نشكل تصورات عن شخوص المبدعين، من خلال فنونهم، وإنجازاتهم، حتى وإن كانت بيننا فجوة كبرى، لأن أرواح العظماء من رجالات الأدب، تظهر في ما تركوه لنا، من قيم، وشيم، وأخلاق، ورؤى، وكأننا نستطيع تلمس هذه الأرواح، لتكون هي هؤلاء الشخوص، أنفسهم، وليس ملامح وجوههم، أوأشكالهم، أوصفاتهم الخلقية، ليكون المنجز تحايلاً على الموت، وإحالة إلى الإبداع. إن البطل الملحمي، وهو يطل برأسه، من الأسطورة، أو الملحمة، إنما تتجلى روحه، من خلال رؤيته، وموقفه، وأعماله الخارقة التي قام بها، حيث يلامس فينا، بالرغم من الفجوة المشارإليها،شغاف القلب، كي تجعلنا نهتدي بها، أو نسيرعلى وحي مقولاتها، وآرائها، في ما لوكانت صالحة، ما يخلق الأنموذج الذي يؤسس لحاضره، من خلال ماضي هذه البطولة، أو لعله من يبدو، كما في الثورات الشعبية التي تمت من حولنا، صانعاً أنموذجه الخاص، غيرالمسبوق، لاسيما وإن مواجهة القاتل، المدجج، بكل ركامات الضغينة، والأسلحة الفتاكة، بالإرادة العزلاء، ليعدّ حفراً جديداً، في عالم البطولة، أياً كان صانعها، مادام أنه يؤسس للحياة، ولكرامة الإنسان، وكسرشرانق ثقافة الخوف والاستبداد. إن مثل هذا البطل، قد يكون طفلاً وعى واقعه، بأفضل من شيخ طاعن في السن، أو شيخاً طاعناً في السن، ترجم خلاصة رؤيته الحياتية الثرَّة، من خلال التفاعل الميداني، في ساحات التحريرالهائلة التي باتت تفزع آلة الفزع، وتقهرها، بل تجعلها تنهزم، عائدة القهقرى، وكأنها تعلن "نهاية زمن الخوف"، من دون رجعى، ليعيش كائن المرحلة، وهوسيد المكان والزمان، حياته، كما هي، ضمن حديها الطبيعيين، من دون أية سطوة، أو رهبة، أو قهر، أو استعباد، وهذا مايجسد الحلم الإنساني الكبير، بل ويستوي هنا ذلك الطفل، أو الشيخ، بجيل الشباب، بل يستوي كل من الرجل والمرأة في ميزان المواجهة، ككفتين متعادلتين، وهوما يتيح للثقافة المناقضة للموت، أن تؤسِّس قوانينها التي آن أوان تطبيقها، كما هي حقاً، من دون أي عسف، أوقسر، أو تزوير. وإذا كانت القصيدة أثر الشاعر، والقصة أثرالقاص، والرواية أثرالروائي، واللوحة أثر الفنان، والسمفونية أثر الموسيقار، فإن هؤلاء جميعاً، ليشتركون مع البطل الملحمي، في صناعةحلم الحرية، جنباً إلى جنب، ليعالج كل منهم، رؤيته لثنائية الموت والحياة، من خلال منظوره الخاص، منحازاً إلى الحياة، بكل تأكيد، باعتبارها حاضنة الجمال، والحب، وغير ذلك من القيم الأكثر قرباً إلى روح الإنسان. كما أن لجوء الشاعر إلى كتابة القصيدة، شأن سواه من المبدعين، أو صنَّاع الحياة، لهو إعلان دائم للانحيازإلى الحياة نفسها، في مواجهة الموت، لتكون القصيدة العلامة التي تحمل رائحة مبدعها، كما أنها تضخ رئته بالهواء، وعروقه بالدم، وروحه بالتوق السرمدي، لتكون القصيدة –بهذا المعنى- مطهراً للروح، بل دافعاً لها كي تواصل سموها، شريطة أن تمتلك هذه القصيدة مفاتيح الإبداع، والخصوصية، إلى الدرجة التي يمكن أن نرى فيها أن القصيدة الإنسانية، هي صدى للحياة، وانتصاراً لها، وسجلاً لروح صاحبها، في انكساراتها، وتجلياتها، وأحلامها، وآمالها، وفي إحباطاتها، ونجاحاتها، بل وإن الأكثرغرابة، قد يكمن في أن الحياة نفسها قصيدة، يكتبها الشاعر،جيلاً وراء جيل، منذ بداية التكوين وحتى الآن، وكأننا أمام شاعر واحد، أوحياة شاعرة، كلاهما أزلي....!. إن واقع العلاقة بين الموت والمبدع، جعلته يواجهه بطريقة خاصة، مصراً على أن يقهره، من خلال المزيد من الإبداع، ولعل الكاتب سعد الله ونوس، أسطع مثال، شاخص في الذاكرة القريبة، هنا، حيث كرس السنوات الأخيرة من حياته، وهو في ذروة صراعه مع داء السرطان، كي ينتج أعظم النتاجات الإبداعية، وهذا ما لم يكن ليستطيع أن ينجزه، في وقت قياسي، قصير، يجلس شبح الموت معه على طاولته الكتابية، ويتناول معه القهوة، والطعام، ويندس معه إلى السرير، لولا مسألة واحدة، وهي ولعه بالحياة، وفهمه الأصيل للإبداع الإنساني على أنه صنو الحياة، حتى ولو افتقدها صانعها، وفق معايير الحياة أو الموت، كي تكون هذه المواجهة نفسها حياة توازي حياة الإبداع الونوسي هذا، وهو بحاجة إلى ما يناسبه من القراءات المنصفة.
ولعلّ سراً غريباً، يكمن في أن هناك بطلين يحفران أثرهما، في الخط البياني للحياة، أحدهما بطل الإبداع، والثاني ذلك البطل-المقابل- الذي يصنع الحياة لغيره، غيرخائف على الضريبة الكبرى التي قد يدفعها من جراء ذلك، وكأن في وسم بطل الإبداع، ما يرفعه إلى أطم البطل الحياتي، ليتنازعا قصب السبق على أولوية التجسير بين الإنسان والحياة، وهنا، مكمن سر أعظم الإنجازات في هذا المعجم الحياتي، طرَّاً....!.
#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رجل الرئة اليتيمة
-
بيان للانسحاب من اتحاد الصحفين السوريين ووسائل الإعلام الرسم
...
-
أخطاء الكبار .. -كبار الأخطاء-
-
على عتبة عامها الثاني:ثورة المعجزات السورية تصنع التاريخ*
-
النقد الصحفي
-
امتحان الثورة ومحنة الأصدقاء
-
دوَّامة الأسئلة الكبرى
-
روسيا- تحت الصفر-
-
بيان من رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا + طلب انتساب +
...
-
دمٌ حمصيٌّ للبيع.....!
-
ضوابط الحوار الافتراضي
-
انسحاب من اتحادي الكتاب والصحفين السوريين
-
قلق الشاعر
-
تمثلات موت الشاعر
-
المواطن الصحفي
-
الصالون الثقافي الافتراضي:دعوة إلى تفعيل الحالة الثقافية إلى
...
-
خطاب الخديعة
-
خالد أبو صلاح: أُمّةُ في رجل...!
-
مستقبل القراءة
-
ممحية الحدود بين الشرق والغرب:الصّورة الإلكترونية تحفر بعيدا
...
المزيد.....
-
تركي آل الشيخ يكشف عن رسالة لن ينساها من -الزعيم-
-
الاحتفاء بالأديب حسب الله يحيى.. رحلة ثقافية وفكرية حافلة
-
رغم انشغاله بالغناء.. ويل سميث يدرس تجسيد شخصية أوباما سينما
...
-
قوارب تراثية تعود إلى أنهار البصرة لإحياء الموروث الملاحي ال
...
-
“رسميا من هنا” وزارة التربية العراقية تحدد جدول امتحانات الس
...
-
افتتاح الدورة الثانية لمسابقة -رخمانينوف- الموسيقية الدولية
...
-
هكذا -سرقت- الحرب طبل الغناء الجماعي في السودان
-
-هاو تو تراين يور دراغون- يحقق انطلاقة نارية ويتفوق على فيلم
...
-
-بعض الناس أغنياء جدا-: هل حان وقت وضع سقف للثروة؟
-
إبراهيم نصرالله ضمن القائمة القصيرة لجائزة -نوبل الأميركية-
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|