أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين عبد العزيز - الشعر بديلاً للانتحار عند أمل دنقل















المزيد.....



الشعر بديلاً للانتحار عند أمل دنقل


حسين عبد العزيز

الحوار المتمدن-العدد: 3567 - 2011 / 12 / 5 - 19:47
المحور: الادب والفن
    


قراءة فى كتاب أحاديث أمل دنقل
الشعر بديلاً للانتحار عند أمل دنقل
سياحة فى حوارات – دنقل؟!!
- (وبعد أن انتهيت من قرأت مقال الدكتور جابر عصفور والمنشور فى مجلة دبي الثقافية عدد سبتمبر 2011 حتى وجدتنى أعد تلك المادة الثقافية عن شاعر قلما مر الزمن على رحيله كلما إزداد حلاوة وطلاوة)
- يختلف الشاعر أمل دنقل، عن جميع شعراء العربية من حيث أن أمل لم يجد له معارض أو يوجد إثنان اختلافا على قيمته الشعرية والأدبية والإنسانية فالكل أحب دنقل الإنسان ، ودنقل الشاعر. ونقل الشاعر ودنقل الوطنى. بعكس جميع الشعراء الذين لم يتفق الجميع على كل ما يقدموه من إنتاج شعري. وعلاقات حياتية.
- ان تلك أهم صفة يجب علينا أن نبدأ حديثا عن أمل دنقل الإنسانية والشاعر والمفكر. فالكل إنتاج دنقل به جانب فكري مهم يجب علينا إلا نغفلة أولاً نعطية حقه من القراءة والتحليل...
- ومن حسن الخط – أنه وقع بين يدى كتاب ما أن رايته عند بائع كتب قديمة فى شارع رمسيس أما مستشفى الإسعاف حتى انحنيت والتقطه بسرعة ثم دفعت ثمنه البسيط.
- وهو كتاب يحمل عنواناً ملفتاً (أحاديث أمل دنقل – إعداد أنس دنقل) والغلاف عبارة عن إطار داخله رسم بسيط دنقل وكتب من فوق رأسه من ناحية الشمال (ربما تنفق كل العمر كي تثقب ثغرة لـ يمر النور للأجيال مره)
وتحت الصورة من ناحية اليمن كتب
(كن لي كما أهوى ،،، أمطر عليّ الدفء والحلوى)
ويبدأ الكتاب بمقدمة كتبها الشاعر – أحمد عبد المعطي حجازي .. يقدم فيها تلك الأحدايث التى سوف نذهب إليها مباشراً لأن بها مخزون من الأسرار لم نعرفها عن دنقل.
ففي حواره مع/ وليد شميط. (مجلة الأسبوع العربي اللبنانية عدد 250772/3 1974)
.. يعرف دنقل نفسه.
.. بأنه نشأ نشأة عادية تعظم شباب مصر . حيث ولد فى قرية بأقصى الصعيد.. بالقرب من مدينة الأقصر وكان والدى رجل دين – وكان متزمتا. ومن هنا اكتسب نشأة دنقل الصلابه وبعض الخشونة والجفاف ولم يكن الأب يتسهاون فى أداء واجباة أمل. لقد كان والد دنقل رجلا مثاليا فى حياته العامة والخاصة ومات وأمل لم يبلغ العاشرة .. وقد سمى أمل بهذا الأسم لأنه بنفس السنة التى حصل فيها والده على إجازة العالمية فاطلق عليه هذا الاسم (أمل) تيمناً بالنجاح الذى حققه (مع ملاحظة أن اسم أمل .. اسم شائع بالنسبة للبنات)
س- متى اكتشفت الشعر. وكيف:
- وجدت فى مكتبة والدي كتبا كثيرة تتعلق بالشعر والقصه والأدب. وكان والدي يقرض الشعر فى كثير من الآحيان. فى بداية حياتي كنت أحب أن أكون قاصا أو روائيا. وبطبيعة نشأتي المنزلية كنت متفوقاً فى اللغة. وفى السادسة عشر من عمرى واجهت للمرة الأولى تجربة عاطفية مما يعبر فى حياة الشباب فى ذلك السن. لم يكن من الممكن التعبير بشكل روائي أو قصصي. لم تكن هناك قصة مكتملة، وإنما مجرد مشاعر تنتابنى عندما أرى فتتاتي الأولى. ولذلك كان الشعر هو أقرب الوسائل للتعبير عن هذه الإنطباعات.
س: بعد أن أعدت الى كتابه الشعر كيف استقبل شعرك فى القاهرة؟
- عندما عدت إلى كتابة الشعر كان أغلب المثقفين اليساريين المصريين فى المعتقلات، ومن هنا إعتبرت قصائدي فى ذلك الوقت صرخة جرئية فى المنتديات والمحافل الأدبية فالتف حولي بعض المثقفين وشجعوني ونشرت أول قصائدي فى جريدة "الأهرام" عام 1961 وكانت تلك نقلة بالغة الأهمية بالنسبة على. بعد ذلك نشرت عدة قصائد فى الأهرام وفى مجلة "المجلة" التي كانت مقصورة على بعض السماء الامعة. كما أني إشتركت فى مسابقة المجلس الأعلى للفنون والأداب بقصيدة من الشعر العمودى. لم يكن الفوز بالجائزة هدفي وإنما شئت أن أبطل حجه طالما تنادي بها أنصار الشعر التقليدي وهى أن من يكتب الشعر الحديث إنما يفعل ذلك لعجزه عن كتابة الشعر بشكله التقليدي، فزت بالجائزة واستقبلت استقبالا حافلا. ونشأت صداقات عديدة بيني وبين كتاب الشعر التقليدي. غير أنني وقفت أمام أسئلة كثيرة حول ما يجري حولي.
س: ماذا كان تأثير ذلك عليك. وهل حصلت على أجوبة لهذه الأسئلة التي طرحتها؟
- أحسست أنني لا أفهم شيئا فى هذه اللعبة الدائرة. أحسست أنني مختنق الصوت وأنه مهما كتبت أو قاومت فلن يكون لصوتي أى صدى.
فخرجت اشعاري فى تلك الفترة متشائمة. ولعلي كلمات سبارتكوس الأخيرة المنشورة فى ديواني الأول تعبر عن روح هذا التشاؤم. وانقطعت عن كتابة الشعر من عام 1963 إلى 1966. وفي 1966 كنت قد ملت كل شيء. حتى على المستوى الشخصي كنت أعيش فى ملل دائم وصلت إلى حالة الفراغ العاطفي الكامل. وصلت على حافة الأنتحار وخاصة إنني كنت قد إنتقلت إلى مدينة السويس وهى مدينة تحمل اليوم أوسمة كثيرة فى النضال العسكري لكنها كأى مدينة صناعية. تعيش تناقضات رئيسية وعميقة فرضتها الصناعة على إناس ينحدرون جميعاً من اصل ريفي. ولم يكن فى السويس أى جو أدبي أو ثقافي حاولت أن أجمع بعض الشباب من المهتمين بالأدب والثقافة ولكنهم كانوا تحت مستوى النضج. ومن هنا كان قراري بالإنتحار فى نهاية تلك الفترة ولكني سألت نفسي سؤالا:- إذا كنت أنوي الأنتحار فلماذا لا أنتحر بطريقة أخرى أى أن أعود على الكتابة وأقول رأيي وليكن ما يكون؟! وتمثلت بيت الشعر:-
"أنت إن سكت مت. وأن نطقت مت. فقلها ومت."
س: ماذا كان وقع هزيمة 5 حزيران عليك وعلي شعرك؟
من خلال سماعي للبلاغات العسكرية فى أول ايام الحرب أدركت أن سلاح الطيران المصري قد دمر وأننا هزمنا، أخبرت بعض الأصدقاء ومنهم رجاء النقاش وكامل زهيري وأحمد عبد المعطي حجازي بذلك. لم يصدقوني ونصحوني بالتريث والسكوت حتى لا يقبض عليّ بتهمة البلبة وأثارة الخواطر. ظلت طيلة الأيام السنة للحرب وأنا فى حالة الهذيان الشديد بعد قرار وقف إطلاق النار ذهبت إلى منزلي وكتبت قصيدة "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة" وأخفيت القصيدة عدة ايام وعندما نصحني بعض الأصدقاء بنشرها رفضت الرقابة نشرها وكتبت بعدها عدة قصائد كما نشرت قصائدا فى مجلات بيروتية كنت كتبتها قبل الهزيمة فأعتقد الكثيرون بإنها قصائد كتبت بعد الحرب. والواقع أن رؤيتي السياسية لم تختلف كثيرا بعد الحرب عما قبلها. لم أفاجأ بما يسمونه الهزيمة كنت أتوقع هذا وقد حرصت فى ديوانى الأول على إثبات تواريخ القصائد السابقة للهزيمة حتى ينتفي الشك فى هذا الأمر.
س: لماذا لم يسمح بنشر القصيدة؟
هذه القصيدة كانت صرخة وجدانية أكثر منها تحليلا فكريا. المقطع الذي إعترض عليه الرقيب فى ذلك الوقت أقول فيه:-
أيتها العرافه المقدسة ...
لا تسكتي .. فقد سكت سنة فسنه ..
لكي أنال فضلة الأمان.
قيل لي "أخرس" ..
فخرست .. وعميت .. وائتممت بالخصييان
ظللت في عبيد (عبس) احرس القطعان
أجتز صوفها
أرد نوقها
أنام فى حظائر النسيان
طعامي: الكسرة .. والماء ..
وبعض التمرات اليابسة
وها أنا فى ساعة الطعان ساعة أن تخاذل الكماة .. والرماة .. والفرسان
دعيت للميدان!
أنا الذي ما ذقت لحم الضأن
أنا الذي لا حول لي أو شأن
أنا الذي اقصيت عن مجالس الفتيان
أدعى الى الموت .. ولم أدع الى المجالسة !!
س: قلت أنك كنت تتوقع هزيمة 5 حزيران ، فهل كنت تتوقع عبور القوات المصرية لقناة السويس فى حرب تشرين؟
- لم يكن لدي أدنى شك فى أننا سنهزم إسرائيل يوما ما. هزمية 5 حزيران كشفت سلبيات كثيرة في المجتمع المصري. وكان واجبا على أى نظام يحكم مصر أن يتلافى هذه السلبيات وبخلاف كل التوقعات. لقد فوجئت بعبور الجيش المصري للقنال وأعتقد بأن قرار الحرب كان قرارا سليما بالنسبة إلى القيادى المصرية. إن هذا القرار حقق نوعا من إعادة التوازن إلى المجتمع المصري الذى بدأت الهزيمة تفتته. ونصرا للجنود الذين طال انتظارهم فى الخنادق. ان ما كشفت عنه هذه الحرب حقيقة هو نوعية المقاتل المصري والعربي عموما. لقد نفذ الجنود والضباط كل المهمات التي ألقيت عليهم بكفاءة ذهل لها حتى قادتهم أنفسهم وأعتقد بأن هذا الحماس الذي نفذ به الجندي المصري عبوره لقناة السويس كان مصدر الانزعاج الحقيقي لدوائر السياسة الغربية التي اكتشفت فجأة أن هذا الشعب ليس أمه من الخراف كما تصوره أجهزة الأعلام الغربية وأنه ليس اتكاليا أو انهزاميا أو جاهلا لقد اكتشفوا أن طاقة من الحقد قد تراكمت عند المواطن المصري وأنه إذا لم يجر احتواؤها فإنها تنذر بأوخم العواقب بالنسبة إلى مستقبل هذه الدول فى المنطقة وغلى مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي ومن هنا فأن التحرك الأمريكي نحو حل أزمة الشرق الأوسط كان موجها فى الدرجة الأولى إلى احتواء المشاعر العنيفة والحقد المقدس الذي تولد فى نفسية المواطن العربى تجاه إسرائيل وتجاه أمريكا بطبيعة الأمر.
وفى حواره مع الكاتبة/ أماني السيد – بمجلة اليقظة الكويتية – عدد 524 17 تشرين أول – أكتوبر 1977 – نقرأ فى هذا الحوار – عن نشأت دنقل فى الصعيد واثر النشأة فى شعره وفى شعراء الصعيد عموماً ولماذا يتميز شعركم بالقسوة والعنف؟
- ربما بسبب البعد والعزلة .. الوادى يضيق بحيث إذا رفعت بصرك بعيدا رأيت الصحراء .. الصحراء تعطي الإحساس المطلق .. فى المدينة يبقى الشاعر جمالى أو غنائي .. لكنه لا يحس بحدة المفارقة بين الكائنات واهم سمات الفرق بين شعراء الصعيد وشعراء الوجه البحري .. الحدة ..
فالقبائل الصعيدية غالبيتها قبائل عربية عبرت باب المندب ثم هامت فى صحراء البحر الأحمر حتى دخلت الوادى عن طريق وادى الحمامات بين القصير وقنا .. ولذلك فأن أحساس هذهّ القبائل باللغة العربية هو إحساس رفيع ولقد رأيت الأميين فى القرى يستمعون بشغف إلى الخطب الفصيحة البليغة التى يلقيها عليهم فى المناسبات علماء الأزهر أو مدرسو اللغة العربية، لكن الفارق الأساسي فى التكوين النفسي بين الشاعر القادم من الجنوب والشاعر الذي يعيش فى الدلتا إن إنفساح الرقعة الخضراء فى الدلتا يعطي الشاعر فى الشمال نكهه من الرخاوة والليونة بينما شعراء الصعيد يتميزون بالحده وأدراك التناقض الشديد .. كذلك فان اللغة التى يستعملها شعراء الصعيد لغة صارمة أشبه بالصخر ، فالصعيدي يعيش فى ظل تقاليد متشابهة وينشأ فى ظل قيم ثابته أقرب إلى القيم القبلية ، وعندما يفرون إلى العاصمة فإن الإحساس بالحذر يتملكهم جميعاً، ولقد كان الشاعر الأول الذي بهرني فى مدرسة أبوللو هو محمود حسن إسماعيل ولم اعرف ألا بعد ذلك بسنين أنه شاعر صعيدي من إحدى قرى أسيوط ، ولكن هذه القاعدة لها استثناءات كثيرة .. مثل أحمد فؤاد نجم .. فهو حاد وعنيف رغم إنه شرقاوي وليس صعيديا.
- وفى نفس الحوار رد أمل دنقل على سؤال مهم .. هو (لأعتقد أنك لا تعني كليبا بالذات عن موقفك ورأيك فى قضية السلام مع إسرائيل؟)
• بالنسبة لقضية السلام مع إسرائيل فأنني لا أستطيع أن أجزم أننا سائرون نحو السلام .. والأحاديث عنه لكسب الوقت من جانب المعسكر الغربي حتى يستنزف كل ثروات البترول فى المنطقة استنزاف الأموال العربية ويعودوا بعدها الى تأييد أسرائيل تأييدا كاملا والاعمال عليها كرأس جسر لرأس المال الأمريكي فى المنطقة ، وأخاف أن يكون الأمريكيين قد استغلوا خوف الدول العربية من إنتشار الشوعية لكي يضغطوا عليها فى إتجاه السلام حتى لا يتزايد إعتماد الدول العربية المحاربة على المعسكر الأشتراكي فى التسليح، وأنني اعتقد أن هذا الأتجاه للسلام يخدم مصالح مصر على المدى القصير إذ يتيح لها فرصة التقاط الأنفاس وإعادة بناء المجتمع المخرب، بينما يحقق السعى نحو السلام مصلحة إسرائيل أيضا على المدى القصير حيث تمنى إسرائيل نفسها بفترة سلام نحو عشر سنوات حتى ينتهى نفوذ البترول العربي وتكون هى قد تفوقت أكثر فأكثر عسكريا حتى تستطيع أن ترد على ضربة أكتوبر 1973 .. لكن هذا لا يعنى أنني ضد التحرك نحو السلام فمصر التى صرفت أكثر من 15 مليار على الجيش من 67 حتى الآن لدرجة أنها لم تستطيع خلال هذه الفترة أن تستثمر شيئا فى الصناعة أو تقيم مدرسة جديدة أو تبني مسكنا شعبيا أو ترمم حتى خدمات الدولة العادية كالطرق والمواصلات والتليفونات أصبحت مصر من خلال هذه الفترة أكثر تخلفا فى وسائل المدنية والتقدم العلمي من كثير من الدول العربية المجاورة ولذلك فأن مصر فى حاجة ماسة الى إعادة بناء كل مؤسساتها على اسس عصرية وان تخلق مجتمعا يستطيع تحمل أعباء الحرب الجديدة التي لابد وأن يشنها الاسرائيليون ، فالصدام بين مصر واسرائيل حتمى ولا علاقة هنا للقضية الفلسطينية بالحرب بين مصر وأسرائيل فمصر تحارب الآن من أجل ريادتها وأستقلالها الذي تريد اسرائيل أن تنتهكه عن طريق تبعية مصر اقتصادية لمخططات رؤوس الاموال اليهودية التي تريد ان تجعل من الشرق العربي مجرد سوق استهلاكي لمنتجات الدول الصناعية.
- أريد أن أعود الى قصيدتك عن زرقاء اليمامة .. ماذا قلت فيها؟
• أنها تعيدني الى جو النكسة .. لحظة أليمة جدا .. ومع ذلك لا بأس .. لنقرأها كثيرا حتى لا تتكرر المأساة..
ايتها العرافة المقدسة ..
جئت إليك .. مثخنا بالطعنات والدماء
ازحف فى معاطف القتلى ، وفوق الجثث المكدسة.
منكسر السيف ،
مغبر الجبين والاعضاء
أسال يا زرقاء ..
عن فمك الياقوت ..
عن نبوءة العذراء
عن ساعدى المقوع .. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الاطفال فى الخوذات .. ملقاة على الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء
.. فيثقب الرصاص رأسه .. فى لحظة الملامسة!
عن الفم المحشو بالرمال والدماء!!
اسال يا زرقاء..
عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدار!
عن صرخة المرأة بين السبى .. والفرار؟
كيف حملت العار..
ثم مشيت؟ دون أن اقتل نفسي ؟ دون أن أنهار؟!
ودون أن يسقط حمى .. من غبار التربة المدنسة
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي .. بالله .. باللعنة .. بالشيطان
***
ايتها العرافة المقدسة..
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار..
فاتهموا عينيك، يا زرقاء بالبوار!
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الاشجار..
فاستضحكوا من وهمك الثرثار!
وحين فوجئوا بحد السيف .. قايضوا بنا ..
والتمسوا النجاة والفرار!
ونحن جرحى القلب،
جرحى الروح والفم..
لم يبقى الا الموت ..
والحطام..
والدمار..
وصيبة مشردون يعبرون اخر الانهار
ونسوة يسقن فى سلاسل الاسر
وفى ثياب العار
مطاطئات الرأس .. لا يملكن إلا الصرخات التاعسة!
********
وفى حديثة مع الصحفى أحمد عبد الباسط هريدي.. بمجلة روز اليوسف عدد 2311 25/9/1972 أدلى دنقل بحديث مهم للغاية
.. أمل دنقل
لا أعتقد أن دهشة ما أصابتنى فور وصولى للمدينة. ونحن فى الأقاليم كنا نتابع مجتمع العاصمة ومن خلال المجلات والصحف. ولابد أن صورة ما ارتسمت فى مخيلتنا عن العاصمة. ولم تكن الصورة بعيدة عن الحقيقة. لذا فأن الصراع بينى وبين المدينة لم يكن صراعا بين قيم ريفية وعلاقات مدنية ، وإنما كان فى جوهرة صراعا من أجل البقاء.
ولقد ترحلت بين مدن أهمها الإسكندرية قبل العاصمة ولقد كانت هذه المدن مرحلة وسطى بين قريتى فى أقصى الصعيد وبين القاهرة. لذا فأن انتقالي إلى مجتمع القاهرة لم يكن فجائيا.
وحدث أن عاشرت كثيرا من الأشرار فى حياتى ممن اصطلح على تسميتهم بالصعاليك.. لذا فأن الشر فى نظرى لم يكن مقترنا بالأشمئزاز وإنما كنت أدرك أن كثيرا من الشر يخفي وراءه نبلا مأساويا.
أما مشكلة الصدق والزيف ، فلا اعتقد أن المدنية تنظر غليهما باعتبارهما لونين متضادين، وأنما هما فى المدنية – حيث تنتفي النظرة الأحادية – وجهان لعملة واحدة، فالمدينة لا تعترف الا بالزيف الصادق أو الصدق الزائف إذا صح التعبير. المدينة لا تحتمل اللون الواحد، اللون الواحد هو لون الريف. لون السذاجة. وأنا أضيق بالتحديد البسيط للأشياء الذى يسود فى الريف ولذا هاجرت الى المدنية لأنني لم أترك قريتي للعاصمة بحثا عن الشهرة أو المجد وإنما هاجرت منها بحثا عن المعرفة فى عالم أكثر تعقيدا. وأنا ارى أن المدنية ملئية بالطبقات التى ما تزال القيم البدائية تعيش فى وجدانها كما أن الريف ملئ أيضا بالعناصر التى تجعل تبادل المنفعة شرطا اساسياً للتعامل مع الانسان.
لذا فأن شعرى – وهو اجتماعى بالدرجة الأولى – لا يفصل بين الريف والمدينة فى مواجهة الأحداث. كلاهما بتخلفه ضحية. وكلاهما مدان لكن الظاهرة الملفتة للنظر أن القيم البرجوازية المنحلة تستشرى بين بعض المثقفين ولكن أسباب ذلك مفهومة، إذا راجعنا تاريخ الحركة الثقافية فى السنوات الأخيرة، وأنا لا ألتمس لهم العذر.. لكنني أيضاً لا استطيع أن أحملهم وحدهم كل المسؤولية.
وفى حواره مع جمال الغيطاني والذي نشره فى جريدة الثورة العراقية 30/9/1976
سوف نقرأ الحوار كاملاً .. لأنه به أشياء ثمينة .. بل كله ثمين.
- إن كل إنسان مرتبط بالتاريخ بشكل أو بآخر. لكن السؤال هنا ينصب حول إستخدام التاريخ كوسيلة فنية لنقل افكار معاصرة. لقد أهتم الرواد الأوائل باستخدام المثيلوجيا اليونانية والمسيحية هى رموز ومصطلحات لارضية أساسية بينما شكلت عاملا من عوامل الاغراب والغموض فى قراءة المواطن العربي، وقرأت الالياذة والأوديسية وقصص الحب والجمال عند الأغريق حتى يمكنني أن أتخلص من المباشرة التى تفرضها طبيعة الموضوعات التى كنت أعالجها وأتجهت الى التاريخ المصري القديم لأستخراج منه الأساطير الدينية مادة يمكنني إستخدامها كرموز، لكن المأساة هنا أننا مصريون بالأسم فقط فكل التراث المصري القديم اصبح مجرد معابد وهياكل قائمة فى الصحراء لا تملك أنعكاسا وجدانيا حقيقيا على مشاعر الناس باستثناء بعض الحالات القليلة كالموت والمعتقدات الخرافية، وفى قصيدة "الوقوف على قدم واحدة" استخدمت قصة الأخوين الشهيرة فى الأدب الفرعونى التى تصور الصراع بين أخوين بسبب امرأة هى زوجة أحدهما وعندما قرأت القصيدة للدكتور لويس عوض قبل نشرها فى الأهرام سالني عن هذا المقطع الذي استخدمت فيه القصة الفرعونية، ورغم أنه تذكرها الا أنني سألت نفسي عن جدوى الأهتمام بتراث ثقافي لا يعيش إلا فى دائرة العقل. أذن يمكننا القول أن التراث الحقيقي الذي يعيش فى وجدان الناس هو التراث العربي الذى يأخذ احيانا شكل التراث الإسلامي. رغم الفروق الدقيقة بين التراثين، فالعرب كانون قبل الإسلام ويمكننا اتعبار التراث السامى كله تراثا عربيا لكن التراث الإسلامى تدخل فيه معتقدات شعبية لشعوب أخرى.
صورة الانتماء الجديدة
بينما تدخل حرب البسوس مثلا فى دائرة التراث العربي منسحبة من ظل الإسلام وبهذا التفهم للدوائر التى تدور فيها حلقات التاريخ العربي يمكن للإنسان العربي الجديد ان يحدد انتماءه الوجداني والتاريخي. وهناك ظاهرة أخرى نلمسها عند مراجعة التاريخ، لقد أقام العرب أعظم دولة فى العالم بعد سقوط الأمبراطورية الرمانية، وتركزت فى هذه الدولة كل الاتجاهات الفكرية والاجتماعية التى كانت سائدة فى العالم وقتئذ، ولم تكن هذه الدولة موحدة بالمعنى المركزى، بل كانت – بعد الدولة الأموية – مقسمة الى ولايات شبه مستقلة فى شؤونها الإدارية والثقافية، والا فما معنى ازدهار دراسة النحو والحديث فى الكوفة والبصرة دون مصر؟ أن هذا التاريخ يحمل فى ثناياه كل اتجاهات وتيارات التغيير الطامح الى الحرية وتقدم الإنسان، كما أن الصراع كان دمويا بين السلطة الدينية والزمنية آنذاك وبين المفكرين، أن الإنسان العربي الجديد لا يمكن له أن تعتبر نفسه أنساناً باحثا عن الحرية أو ساعيا الى تغيير المجتمع ما لم تكن لديه هذه الرؤية العميقة لتاريخه وانتمائه وإلا فإن كل ثقافة مكتسبة تصبح بلا جذور.
كيف تتحول أنماط التاريخ؟
• كيف عكست هذه الرؤية لتاريخنا العربي فى أعمالك الشعرية؟
- فى مجال التطبيق العلمي، ظهر فى قصيدة "كلمات سبارتكوس الأخيرة" حيث أحتل التاريخ الروماني حيزا رئيسياً من مساحة القصيدة، بينما أحتل التاريخ الفرعوني مساحة كبيرة من قصيدة "العشاء الأخير" الذي حاولت فيها أن أعيد قصة العشاء الأخير للمسيح الى أصولها الأولى وهى العشاء الأخير لأورزوريس عندما دعاه ست إلى الوليمة التى قتل فيها ويمكن للملاحظ أن يحدد بداية سيادة التاريخ العربي فى قصائدي بقصيدة "الأرض والجرح الذي لا ينفتح".
و "حديث خاص مع أبي موسى الأشعري"
واتجهت لاستنباط جوهر التاريخ ذاته ، دون إشارة واضحة الى مسميات أو أحداث، فى ديواني الأخير "العهد الآتى" كان التاريخ خليفة لكل الديوان، فتقسيم الديوان الى إصحاحات هو شكل مستعار من التوراة. أردت به أن أوجد صلة ما بين التصور الديني للكون، والصراع الإنساني، وبين التصور الثوري للصراع المعا-صر، بالإضافة الى أنني أردت أن أؤكد صدق الثورة وحقها الذي لا ينازع باستخدام كلمة "الأصحاح" التى تعني كلاما لا ياتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، حتى الآن ما زال فننا متأثرا بتلك النظرة الفلسفية من القرون الوسطى التى تقسم العالم الى عوالم متعددة ينشأ بداخلها نظام هرمي خاص بكل منها، فعالم الحيوانات ملكة الأسد. وماكرة الثعلب، وأغبرة الذئب، بينما يتوج الورد ملكا على عالم الزهور، ويصبح الفل أميرا للنقاء، وفى عالم الطيور يصبح النسر ملكا إلى آخر هذه العوالم المتعددة التى تقيم داخلها عوالم موازية لعلم الإنسان لا يمكن الاتصال به إلا حسب فروقه الطبقية، فقصر هيلاسلاسي تحرسه الأسود، والطاووس رمز للعرش، فكل ذلك فلا بد أن تسود تلك النظرة التى تقول أن العالم والإنسان شيء واحد.
يجب التفريق أولاً!
أسمح لي أن تنتقل إلى الواقع الشعري بشكل عام، لاشك إن هناك هبوطا فى مستوى الابداع العام، وفى الشعر خاصة، وإذا تأملنا الجيل الجديد لا نجد فى نتاجه قصيدة تبهر، أو رؤية تتفرد.. لماذا؟
- الشعر طبقا للميراث العربي القديم يرتبطون بشكل أو بآخر بالسلطة واذا رفع الشاعر رايه العصيان فأنه يحكم بذلك على نفسه بالوقوف وحيدا فى العراء، بلا أى سند، والسلطة قوية بلا شك فهى تملك كل وسائل الاتصال الصحف ، والإذاعة ، والتليفزيون، وحناجر المطربين لذلك فأن الحالات التى يمكن فيها لشاعر متمرد أن يفلت من كماشة السلطة هى حالات نادرة تلعب فيها الظروف السياسية والاجتماعية دوراً رئيسياً، ومع ذلك نلاحظ أن أكثر الشعراء فى الوطن العربي ذيوعا هم الذين ى تتبناهم بعض وسائل الأعلام، أحمد فؤاد نجم مثلا، بينما لم تفلح كل الأضواء التى سلطت على صالح جودت فى مصر أو صابر فلحوط فى سورية أن تصنع منهما شاعرين ، والأمر الثالث والأهم، أن معظم الشعراء الجدد لا نستطيع التوقف عند أحد منهم أنه لا يملك تصورا خاصا للعالم ففى اعتقادي انه بالنسبة لجيلنا الذي نشأ فى ظل ثنائية الصراع بين العرب والصهيونية، بين الخير والشر، بين التخلف والتقدم، تشكل هذه الثنائية خلفية أساسية لرؤيته للعالم. بينما يجب أن تكون خلفية للشعراء الجدد هى التداخل فى خطوط الصراع التى سوف تحكم المرحلة المقبلة وإذا كنا نكره (إسرائيل) لأنها اغتصبت وقتلت ودمرت فلابد للرؤية الجديدة أن تكون ضد (إسرائيل) بصفتها احتلالا واستيطانا. حتى الآن لازال الشعراء يعيشون فى ظل الثنائية القديمة وما لم يكن تصور خاص بهم نابع من الدم دفعوه فى ساحات الحروب ومن الاحتكاك بالعدو فى معسكرات الأسر، ما لم يكن لهم تصور جديد فلن يكون هناك شاعر جديد.
* ماذا تكتب الآن؟
- أكتب الآن ديوانا جديدا هو صياغة عصرية لمقتل كليب، ففي تصوري أن حرب البسوس التى نشبت لمدة أربعين عاما بين تغلب وبكر بن وائل وهما أبناء عمومة، وكذلك الانتقام الرهيب الذي ظل الأمير سالم الزير يسعى إليه وهو الدم أو يعود كليب حيا يمثل جوهر الصراع الذى يدور منذ ربع قرن على الأرض العربية، لقد قتل كليب غدراً بسهم جساس وما يزال الأمير سالم حتى الآن يريد العدل تمام العدل أو العدل المطلق كما يقولون، فما ذنب اليمامة (ابنة كليب) أن تنتظر عودة أبيها على باب القصر ثم لا يجيء وما ذنب كليب نفيه حين تستلب منه الحياة فى صراع غير متكافئ وقد جاءته الطعنة من الخلف؟
يقال أنه بعدما طعن جساس كليبا وسقط على الأرض نظر حوله فرأى عبدا فطلب منه أن يقرب إليه بلاطة حجرية كانت بالقرب منه وغمس أصبعه فى الدم، وكتب إلى أخيه الأمير سالم عشر وصايا فى عشرة أبيات كل وصية منها تبدأ بكلمة (لا تصالح).
-------------------------------------------
وفى حواره مع اعتماد عبد العزيز والمنشور بمجلة ابداع عدد أكتوبر 1983
سوف تكتفي أن نختم تلك المرحلة الشيقة فى هذا الكتاب بهذا الحوار والذي يتحدث فيه شاعرنا أمل دنقل فى مسائل ذات أهمية قصوى .. يجب عينا أن نقرأها .. جميعا ومن الأفضل أن تقرأها كما قالها دنقل
* أغفر لى هذا السؤال: اريد أن أعرف ما هى الجوائز الأدبية التى حصلت عليها خلال السنوات السابقة؟
- فى عام 1962 نلت جائزة المجلس الأعلى للآداب والفنون للشعراء الشبان لأقل من ثلاثين علم، وكنت فى ذلك الوقت فى الثانية والعشرين من عمرى وبعد ذلك رشحت عام 1972 لنيل جائزة الدولة التشجيعية وتدخلت عوامل كثير لحجب الجائزة عني وأنا الآن مرشح لنيل جائزة "لوتس" للأدب الأفريقى الدولى. وعموما أنا لا أؤمن كثيرا بمسألة الجوائز وتقديراتها ، بالنسبة للشعراء والأدباء فهناك عوامل كثيرة مختلفة تتحكم فى منحها،. وأذكر ان فوزي بالجائزة كان عن قصيدة عمودية وكنت أريد أن أحصل على إعتراف رسمي بأن الذين يكتبون الشعر الحديث يستطيعون أيضا كتابة القصيدة العمودية ردا على الأتهام الشائع حول هذا الموضوع.
* تقول هناك عوامل كثيرة تدخلت لحجب الجائزة عنك – ومع إن مثل هذه العوامل لم تعد سرا يخفى على أحد – فإنني افصل أن أسمعها منك؟
- طبعاً سأضرب لكي أشهر الأمثلة فى ذلك، وهى جائزة نوبل. هذه الجائزة تتدخل عوامل سياسية كثيرة فى منحها لمختلف الأدباء العالميين لدرجة أنه لم يحصل عليها حتى الآن أديب عربى واحد. الأمر كذلك هنا الآن، فى المجلس الأعلى للثقافة وأنا حتى الآن عضو فى لجنة الشعر فيه، وأشاهد من داخل اللجان: كيف يتم الصراع حول الجوائز؟ وكيف تلعب العلاقات الشخصية مسالة السن!!بالذات دوراً فى منحها. وإن كنت أعتقد ان التقييم الرسمى هذا هو عادة تتويج للكاتب أو الشاعر ولكنه ليس هو الاعتراف الصحيح به فالاعتراف الصحيح إنما هو اعتراف الجماهير أولا.
* هذا ينقلنا الى التكريم والجوائز غير الرسمية التى حصلت عليها؟
- فى الحقيقة لم أكن أبحث عن التكريم ولكن هذا التكريم كان مفاجئا. ففى البداية لم أكن اعتبر نفسي شاعراً بمعنى الكلمة، وإنما كنت أكتب ما أشعر به. ولكن صدى هذا عند الناس، واحتفاءهم به هو الذي جعلني أشعر أنني يمكن أن اقدم فى هذا المجال شيئاً.
* منذ فترة طويلة والجميع يتحدث عن أزمة الثقافة عندنا.. ومع ذلك لم يتغير الوضع. فهل النهوض بالثقافة هو قرار سياسي يجب أن نأخذ عليه الضوء الأخضر من قبل الدولة حتى نبدأ فيه؟
- النهوض بالثقافة شأنه شأن أى نهوض آخر فى اية ناحية من نواحي المجتمع ليس قرارا سياسيا أو حكوميا. الثقافة شأنه شأن أى نشاط آخر فى المجتمع خاضع للمناخ الذى نعيش فيه. وإذا كنا نمر الآن بأزمة ثقافية فهذه الأزمة هى أحد وجوه التدهور فى المجتمع الذي نعايشه نحن. سواء أكان هذا التدهور ثقافيا أم اجتماعيا... ويتمثل مثلا فى الأغاني الهابطة وفى الأفلام الهابطة وفى نسبة توزيع الكتب الهابطة كل هذه الأشياء هى بعض وجوه التدهور الثقافى الذى نعيش فيه ونعانيه.
وفى تقديرى أن المشكلة، إذا أردت الاستطراد فى هذا الموضوع، أن ثقافتنا لم تعد ثقافة مصرية بمعنى أنها أصبحت تهتم وتتوجه أولاً الى السائح العربي مثلا الأغاني التى تصوغها والمسلسلات التليفزيونية والأفلام والكتب التى نطبعها.. لنصدرها أولاً للأسواق العربية والشعراء الذين ينشرون قصائدهم فى مجلات النفط والخليج فالمستوى الحضارى للقارئ المصرى لم يعد هو الفيصل للتذوق بل أصبح هناك توجه آخر نتيجة لتدفق أموال النفط والثراء المفاجئ للدول العربية وأصبحت الخدمات الثقافية المصرية توجه لخدمة قارئ غير القارئ المصري.
* ما هى فى رأيك الوسائل أو الخطوات التى يمكن لو أتبعت الآن أن تخرج بالثقافة من أزمتها هذه؟
الحرية أولاً. فكما تعرفين هناك "فيتو" على كثير من الأفكار والاتجاهات فى المجتمع. وهى التى تسببت أخيرا فيما سموه بأزمة الشباب. هذا هو الجناح الأول.. أما الأمر الثانى لخلق ثقافتنا أو استعادة ما كنا عليه، فيتمثل فى خلق حلم قومى، حلم وطنى فى نفوس الشباب والناس. بمعنى قومى كبير. ولكنهم فى غيبة هذا الحلم ليسوا مستعدين لان يجوعوا أو يقدموا أى تضحية. بل يكونون مستعدين للتكالب، ما دام هذا التكالب والنهب هو وسيلة الحياة.
* حلم وطني؟ !! هل لي أن أطلب منك أن تحدد لي نوعية هذا الحلم أو أن تكلمني عن الحدود التى يدور فيها وحولها؟
- لا أستطيع أن ابتدع الآن حلما وطنيا ولكن لأضرب لكي مثلا: فى فترة النهضة الأولى. فى أوائل هذا القرن. كان الحلم الوطنى هو مصر المستقلة، مصر المتحررة من الاستعمار والاستبداد، مصر التى تستطيع أن تستوعب الحضارة مثل أوروبا تماما. وفى فترة الخمسينات والستينات كان الحلم هو مصر القوية. مصر القائدة للدول العربية التى حولها. لكن فى الفترة الأخيرة حدث انكفاء للحلمين معا: حلم الاستقلال.. إنهار بالواقع الاقتصادي الذي يشير إلى أن مصر لا تستطيع الآن أن تقود الأمة العربية.
* أعتقد أنك حدثتني عن أهمية وجود هذا الحلم القومي، وعن اختلافه من فترة لأخرى. ولكنك لم تقل لي: ما نوعية هذا الحلم الذي نحتاجه ليومنا وغدنا. ما تصورك له؟
- فى تقديري انه حلم بناء مصر قوية، عربية، متحررة، تنتمي الى معسكر التحرر الوطنى، ولا تدور فى فلك أحد سواء شرقا أو غربا. وفى نفس الوقت زرع العزة فى نفوس المصريين باعتبارهم الجزء الأكبر من جسم الأمة العربية وطليعة نضال التحرر الإفريقى الأسيوى فى العالم الثالث كما يسمونه، وركزه انطلاق الثقافة العربية والحضارة العربية فى عصرها الجديد.. وتحقيق الإحساس بالتكافؤ مع شعوب الغرب والشرق الأخرى دون حساسيات ولا عقد ولا استخذاء.
* لا يمكنني أن اصدق انه طوال السنوات الماضية وبعد كل هذا الذي حدث فى الساحة داخليا وخارجيا لم يستطع هذا الشعب الواعى رغم كل شيء أن يتبنى لنفسه حلماً وطنيا ويعمل على تحقيقه؟
- الكلام صعب "شوية" لأنه فى الفترة الأخيرة .. فترة الأحد عشر عاماً السابقة قد حدث انكفاء إلى مصر المصرية .. مصر التى تستغنى بذاتها ونفسها عن دورها العربي، وحدث إحياء لأعلام فترة مصر المصرية مثل: توفيق الحكيم وحسين فوزي ويوسف وخبي وإبراهيم المصري، كل الذين كانوا ينادون بأن مصر مصرية فقط أو مصر التى تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط حدث إحياء لهم ووضعوا من جديد فى حجرة الإنعاش، ليصبحوا أعلاما للثقافة الجديدة، برغم أنهم انتهوا وكفوا عن الإبداع نهائياً. وحدث تركيز إعلامي عليهم، مما أدى بالتالى الى أن يشعر الإنسان المصرى بالعقم، لأن مصر بطبيعتها وثقافتها وإسلامها وأبطالها القوميين هى دولة عربية فالمصري يعتبر أن بطله الوجداني خالد بن الوليد وليس أحمس. ببساطة حدث انفكاك الى الداخل فلم تؤد السنوات العشر الماضية إلا الى زيادة الشعور بالعزلة والتقلص.
* اتقصد بمصر المصرية الفرعونية؟
- لا .. ليست مصر الفرعونية، وإن كانت الفرعونية جزء من هذه الدعوة. ففى البداية كان الأحساس بمصر الملتحقة بأوربا. مصر التي هي جزء وقطعة من أوربا، وأن تبحث عن قوميتها فى جذورها الفرعونية.
فالفرعونية هنا هي نتاج للإحساس بمصر الملتحقة بأوربا، وأن التعامل مع الغرب خير من التعامل مع الشرق ومع العرب.
• يحدثنا التاريخ أن أغلب قادة الحركة الوطنية فى مصر كانوا فى الأصل من رجال افكر والأدب، ولكننا آن نجد ظاهرة غريبة من أدبائنا ومفكرين وهي هذا الفصل الحاد بين ما يقدمه من أدب وإبداع وبين موقفه ورأيه السياسي أو على الأقل يميعه أو يتراجع ويتخلى عنه. فما السبب؟
- الحقيقة أن المثقف أو الأديب لم يفصل بين السياسة وبين الفكر. ولكن منذ 23 يوليو 1952 نشأت فكرة عزل الشعب بكامله عن التفكير ، وليس عزل المثقفين فقط. وأصبح هناك الشعار الشهير وهو الاستعانة بأهل الثقة وليس أهل الخبرة، وذلك ساهم فى عزل المثقفين عن دورهم السياسي والاجتماعي بحيث نرى كتابا عندما يقول الحاكم "إن مصر عربية" يمجدون انتماء مصر العربي وهؤلاء الكتاب أنفسهم، يمجدون عزلة مصر عندما يكون شعار الدولة مصر المنعزلة، واصبح عندنا مثقفون يأكلون على جميع الموائد التي تتوالى دون أن يحسوا باي غضاضة أو تأنيب ضمير. فقبل الثورة كانت هناك أحزاب وبالتالي كان فى إمكان طه حسين أن يحتمي بالأحرار الدستوريين وهو حزب أقلية لكي ينشر إبداعاته، ويحتمي به من غضب الأزهر. وفي نفس الوقت وبعد ذلك ينتقل إلى حزب الوفد ليصبح وزيراً للمعارف. فكان يمكن للكاتب والمثقف أن يحتمي بالأجنحة المختلفة لكي يحقق ما في رأسه من مشاريع أدبيه وثقافية.
• مجتمعنا اليوم بعامة، ومجتمعنا الأدبي خاصة يموج بتناقضات شديدة وغريبة فأين تجد وترى هذه التناقضات؟
- كما قلت لك، هذا التوجيه الراهن الثقافي لخدمة المتعلم والمثقف غير المصرى أولاً. ولكن هنا يجب أن نعترف أن كل ظاهرة ثقافية تظهر هي تعبير عن الفترة التي نعيش فيها والتي نعيشها. مثلاً: ظهور "عدوية" قد يكون انحطاطا للأغنية المصرية ولكنه خير معبر عن الفترة التي ظهر فيها. بمعني أن هذا الصوت الذي ليس صوت رجل أو صوت أنثي.. هو تعبير حقيقي عن العصر الذى كنا نعيش فيه. فنحن لم نستطع أن يكون فيه رجالا ولا أن نكون نساء. لم نستطع أن نكون إيجابيين ولا أن نكون سلبيين. انما نحن نعيش كما يرسم لنا. ثم ظاهرة عدم ظهور كاتب جديد واحد فى الفترة الأخيرة رغم أن عشرات الكتاب اتيحت لهم فرصة ذهبية وعديدة ووفيرة فى صفحات الصحف والمجلات، فرغم زيادة الساحة المخصصة للأدب والثقافة فى المجلات والجرائد إلا أنه لم يستطع كاتب واحد متميز وصاحب صوت متفرد أن يبرز خلال تلك الفترة، ثم ظاهرة اختفاء المجلات الثقافية العميقة واتساع مساحة الصحافة الأدبية وما له من دلالة ومعنى. وهو أنه لم يعد التركيز على الثقافة الجامدة.. وإنما أصبح التركيز على الثقافة اليومية السريعة هو سمة هذه الفترة أيضاً.
• قل لي بصراحة: ما هو رأيك الحقيقي فى تهمة المباشرة والتقريرية لما يقدم اليوم من شعر حديث؟
- لا .. إنها لا تلصق بالشعر الحديث. وإنما تلصق بشعري أنا. لأن الشعر الحديث يتهم بالغموض دائما. وأولا لا أرى لهذا الاتهام مكانا فى شعري لأني أتهم بالغموض من جانب أنصار الشعر العمودي. وهذا الاتهام غير صحيح ثانياً: لأنه كان عدم المباشرة فى الشعر يأتي من شيئين هما استخدام الرموز واستخدام الأساطير والتعبير بالصورة، وأنا لا توجد لي قصيدة إلا وفيها التعبير بالصورة والرموز والأساطير والذين يقولون هذا القول هم فى الحقيقة رافضون لوظيفة الشعر الاجتماعية والوطنية. فللشعر والشاعر وظيفة حقيقية اجتماعية يجب أن يؤدياها، وهي وظيفة معارضة فالشعر يجب أن يكون رافضاً للواقع دائما حتى ولو كان هذا الواقع جيدا، لأنه يحلم بواقع أفضل منه .. فالشاعر يريد دائما أن يحول الواقع الى حلم والحلم الى واقع وهكذا.
- وفى فترة التراجع الأخيرة، ونتيجية لضغوط كثيرة لجأ كثير من الشعراء الى الهرب من مواجهة القضية الاجتماعية الحقيقية، وصاروا يقلدون "أدونيس" ويكتبون أشعاراً أقل ما يمكن أن يقال فيها إن القارئ المثقف نفسه لا يستطيع تذوفها، فما بالك بالقارئ العادي؟!
- وإذا كان المقصود هو التغريب والايهام وعدم وضوح فأنا أعتقد إن هذا شعر مرفوض لأن الأساس فى أي لغة للتعبير الفني هو الأبانة فالشاعر يكتب بلسان عربي مبين، أى يستطيع أن يصل بالمعنى الى القارئ الذي أمامه. أما مسألة جمالية الشعر فقط، فهذه مقولة أعتقد أنها تصلح للمجتمعات المتقدمة لا لمجتمعات يناضل كل افرادها للوصول الى مستوى مقبول من الحياة.
• قصيدة النثر البعض يقول: أنها أرقى ما يمكنه ان يقدم اليوم فى الابداع الشعري. والبعض يصر على أنها حجج العجزة والفاشلين. وربما أكون قد لمستها فى إجابتك السابقة. ولكن أريد رأيك الواضح الصريح فى قصيدة النثر؟
- إذا كان الإبقاء عنصرا هاما جدا من عناصر التوصل بين الشاعر والقارئ فلماذا نتخلص بأيدينا من هذا العنصر؟ خاصة إذا عرفنا أن الإيقاع فى الشعر بالنسبة للأذن العربية والمستمع العربي هام جدا وأنا أرى أن الفيصل فى أى لون أدبي هو الوصول للناس. فهل أستطاعت قصيدة النثر حتى الآن أن يكون لها جمهور حتى بين المثقفين؟ هل استطاعت أن يكون لها خصائص فنية مستقلة عن القصيدة الحديثة؟ لا أعتقد أنها فعلت ذلك.
أكد كثير من الشعراء والنقاد أنه لم تعد فى معركة مع الشعر العمودي لسبب بسيط هو أن الشعر الحديث ووجه بهجوم من أنصار الشعر العمودى ولكنه أستمر ليس بسبب التنظيرات الأدبية ولكنه استمر بسبب البداع الشعري والأدبي فيه. والشعر الحديث فعلا يجب أن يخوض معركة داخل نفسه حتى لا يقع فى كلاسيكية جديدة ضد التقليد والتكرار وهذا ناتج عن سقوط عدد من الشعراء الذين يستسهلون كتابة القصيدة أو يلجأون الى استعارة وأقتفاء أثار شعراء أخرين.
• أين يوجد لواء الشعر الآن؟ هل عاد الى مصر، أم أنه مازال هناك فى العراق؟
- لواء الشعر لا يوجد الآن فى مصر ولا فى العراق ولا فى سوريا ولا فى أي بلد عربي آخر فما – زال الجيل الذى يسمى بجيل الستينات وهذه تسمية تجاوزية مازال هذا الجيل هو الصوت المسموع فى كل البلاد العربية .. ولم يستطيع جيل السبعينات حتى الآن أن يقدم نماذج وأصواتا شعرية متميزة فى بلد عربي. ربما كان لقضية تراجع حركة التحرر الوطني وبالتالي انحسار حركة تحرر وتقدم الثقافة العربية فى السنوات الأخيرة وتأثير على هؤلاء الشعراء. فكما قلت لك سابقاً إنه لم يعد هناك حلم قومي فأصبح هناك انحسار وهذا أثر على نفسية الشعراء.
• آه .. جميل حقا أن نعود مرة أخرى للكلام عن الحلم القومي. لأني كنت نسيت أن أسالك: لماذا لم يحاول الأدباء والشعراء – وتلك مهمتهم ورسالتهم – أن يقدموا ويخلقوا هذا الحلم؟
- الحلم الوحيد الذى كان مسموحاً به فى الفترة السابقة هو "حلم السلام" وهو حلم إنساني جميل. ولكنه للأسف قدم فى صورة جعلته تخلصا أو انسحابا من مواجهة الواقع والتقدم والحرية. حلم السلام بين البشر هو حلم إنساني عظيم، ولكن لم يستطع كاتب ولا شاعر عربي حتى الآن أن يقدمه لنا لأنه مرفوض مسبقا، بالثوب الذي قدم لنا فيه.
• قلت فى أحدى قصائدك وأنت تتحدث عن أمنية استعادة سيناء ترى من يرجعك لي "بالسيف أو بالحيلة".. ثم عدت تقول فى واحدة أخرى "لا تصالح" إلا تجد فى موقفك هذا تناقضا أو ازدواجية؟
- بالسيوف أو بالحيلة .. آه .. أى بالقوة او بالسياسة نعم أنا لست ضد استعادة الأرض بالسياسة أو ما يطلق عليه أسم المفاوضات والطرق السلمية ولا أحد من العرب الآن حتى أشد العرب تشددا يرفض هذه الفكرة .. ولكن "لا تصالح" الفكرة الأساسية فيها أنه لا يرد أن يصالح أخاه على دمه هو، أن يرضى بالحياة بالملك فى سبيل أن يستمر هو بمعنى أوضح ألا اقايض أرضى بأحلام شعب آخر..
• أصدقنى القول: هل يجب على الشاعر أن يكون منتميا الى تيارات معينة يحمل ألوية الدفاع عنها والتهليل لها؟
- أنا مع التزام الشاعر، ولكنني ضد إلزامه. أنا ضد أن يكون الشاعر منميا الى حزب أو جماعة سياسية، لأن الشاعر ليس بوقا لأحد. هناك تناقض. إذا كانت السياسة فن الممكن فالشعر هو فن المستحيل. السياسي أبدا يطالب بما يمكن تحقيقه أما الشاعر فهو يطالب بما يبدو وكأنه مستحيل التحقيق. من هنا فأن الشعراء الذين ينتمون الى حزب او تنظيم هم دائما اضعف الشعراء. فالشاعر يجب أن يملك حرية مطلقة كاملة والتزام الشاعر إنما ينبع من ضميره وفكره هو.
• باستثناء المتخصص والمثقف. لم يعد القارئ العادي يعرف أسماء شعراء اليوم، رغم ما وصولا إليه وحققوه من شهرة وصيت، بينما كان يعرف شعراءه فى الماضي ويتحدث عنهم ويحفظ لهم. بما تفسر ذلك؟
- هذا دور أجهزة الأعلام. لأن أجهزة الأعلام لا تفسح كثيرا المجال للثقافة الجادة.. أضرب لك مثالا: شاعر رائد كصلاح عبد الصبور فى فترات إبداعه الشعري كان محدود الشهرة خارج دائرة المثقفين ولم تبدأ شهرته الشعبية إلا بعد أن أصبح رئيسا لهيئة الكتاب وأصبحت صوره وأخباره تتصدر الصفحات الأدبية نجما وهذا فى نفس الفترة التي انقطع فيها هو فعلاً عن الإبداع الشعري أصبح نجما لأن هناك فرقا بين نجم شعري وشاعر كبير. فالنجومية تختلف عن البداع وحتى الآن نرى أن نجومنا فى الثقافة ليسوا مبدعين.. أو توقفوا عن العطاء من زمن.
• الملاحظ ان بشعرك كما كبيرا جدا من الموسيقى. فلماذا لم يغن أو يلحن منه شيء حتى الآن؟
- لأنها ليست موسيقى غنائية فى حقيقة الأمر. وإنما هي تقوم على استغلال الايقاعات فى اللغة نفسها فشعري ليس غنائياً. بمعنى أن كمية الأفكار والفكر فيه أكثر من أن تكون للغناء عادة معنى بسيط مباشر يغنى "الحب الذي مات" يتكرر بناء مركب وأخذ جزء منها قد يخل بالباقي. صحيح أن هناك مقاطع يمكن أن تغنى ولكنني لا أعتقد أن هذا فى شعري لأنني لست شاعرا إنطباعيا – لست شاعراً. على الأشياء وأحاول أن أغير الأشياء وليست الأشياء هي التي تغيرني.
• بعض الشعراء لديهم القدرة على التنبؤ بدرجة تفوق العراف نفسه. وأنت كثيرا ما أمتدت رؤيتك الشعرية الى أفاق المستقبل. ما هو القادم الينا فى الأفق البعيد، تراه بشفافية وصوفية الشاعر، ولا نراه نحن؟
- مسألة أن الشاعر متنبئ هذه مسألة ليست صحيحة تماما .. وإنما هي فكرة الفيلسوف والمؤرخ والشاعر للقبيلة، ثم أصبحت الفلسفة علما، والتاريخ إستقل وأصبح علماً. الشعر لم يصبح كذلك. لأنه يتعلق بالجزء الروحي فى الإنسان. ومن هنا يقال أن الشاعر يستطيع أن يتنبأ، ولكنه ليس تنبؤا وإنما هو درجة من الوعي بالواقع الذي يحدث حواليه بمعنى أن الشاعر يملك من الوعي بالواقع والألتصاق به ما يمكنه من أن يحس بأتجاه الأشياء والأحداث، وليس عن طريق العرافة أو الكهانة كما يريد بعض الشعراء ان يضفوه على أنفسهم.
- ومع ذلك أردت أن أحدثك عن المستقبل القادم. فأنا أعتقد أنه سيكون فترة ضياع .. بمعنى أنه مستقبل أمة فقدت كما قلت حلمها، ومحاطة كلها الآن بغزو ثقافي وفكري وتتبنى المنجزات المدنية الغربية.
- نحن الآن نملك مواطنا عربيا تحت يده أحدث الأجهزة والسيارات، وأحدث منجزات التكنولوجيا، ولكنه لا يملك العقلية العملية التي يستطيع بها أن يدير كل هذا فهو مستهلك وليس منتجا .. متلق وليس مبدعا. ولذلك أعتقد أن العرب فى السنوات القادمة لن يستطيعوا أن يقدموا أى أسهام حضاري ولكنهم يستنشقون كل معطيات الغرب. وهذا سيؤدى الى ظهور إحدى الشخصيتين: إما شخصية تواجه هذا وتبحث عن جذورها وتستطيع أن تصنع لنفسها عطاء جديدا دون أن تتخلى عن تقاليدها وشخصيتا مثل اليابان. أو شخصية تضيع فى طوفان الإنبهار بالحضارة الغربية وتصبح شعبا لا شرقيا ولا غربيا مثل الأتراك.
- فنحن أمام نموذجين: نموذج تركيا التي تبنت قيم الغرب من فترة مبكرة وأصبحت الآن دولة لا قيمة لها فى الإبداع الحضاري أو دولة كاليابان استطاعت أن تستوعب كل حضارة الغرب وفى نفس الوقت ان تحتفظ بشخصيتها القومية.
• ونحن أقرب حاليا الى ..
- الى تركيا
• الآن. ما الذي يمكن أن تقوله عن محصلة مواقفك العامة والشخصية التى وقفتها؟
- لم أقف موقفا في حياتي ندمت عليه. كل مواقفي كانت بناء على اقتناعات داخلية. وأنا على عكس ما يتخيل جميع الناس، لست منتميا لجماعة، أو التيار فالأصل فى مواقفي أنني مقتنع بها شخصيا أولا.. وربما كما خلافي مع أصدقائي لا يدور الا حول هذه المواقف. فلا يوجد موقف لي ندمت عليه ولا توجد كلمة كتبتها أحسست بعدها أنني كنت خائنا لنفسي أو لضميري.
* هناك بعض المواقف التي تظل دائما مبعثا للفخر والزهو بشكل خاص.. فما هو هذا الموقف الذي تود استعادته معنا الآن؟
- كل حياتي من بدايتها إلى نهايتها صدقيني متساوية فى زهوي بها .. ولكن يمكنك أن تقولي أن موقفي من مظاهرات الطلاب سنة 1972 كان ما تقصدينه، كتبت قصيدة كانت نتيجتها أنني منعت عشر سنوات من التعامل مع الإذاعة والتليفزيون وجميع أجهزة الأعلام.. وأغلقت مجلة أسمها "سنابل" كانت تصدرها محافظة كفر الشيخ ويشرف عليها الشاعر محمد عفيفي مطر وأوقف رقيبا أه شغلانة.. وعزلتني من الاتحاد الأشتراكي رغم أني لم أكن عضوا فيه. وعزل أيضا 63 شخصا آخر وهي قصيدة "الكعكة الحجرية".
* ماذا تعمي هذه الكلمات من معان خاصة عند أمل دنقل: الحياة .. المرأة .. الشعر..؟
- الحياة: الصدق . المرأة: جزء من الحياة لا يمكن الاستغناء عنه. الشعر: بديل عندي للانتحار.
* كثرة وانتشرت فى الفترة السابقة وما زالت ظاهرة صدور الدوريات والكتيبات الأدبية. فعلام تدل هذه الظاهرة عندك؟
- فى الفترة الستينيات كان هناك العديد من المجلات الثقافية صحيح أنها تعرضت فى نفس هذه الفترة للإلغاء والإعادة ولم تكن مستقرة.. إلا أنها كانت تستوعب الموجود. وبعد نكسة 67 كان هناك قدر متاح من الحرية أتاح الفرصة لعديد من الآراء والاتجاهات للظهور. ولكن فى السبعينات ألغيت كل هذه المجلات والدوريات وظهرت مكانها مجلات تسمى بذات الصوت الواحد أو ذات الاتجاه الوحيد مثل: الثقافة والجديد وتحول الكاتب أيضا ولنقل أنه كان الاتجاه الذي ترضى عنه السلطات، فكان لابد للكاتب والشعراء الآخرين أن يلجئوا إلى متنفس آخر. والحقيقة أنهم سقطوا فى خطأ التشرذم فأصبحت هناك عدة كتيبات. كل مجموعة تجتمع وتصدر كراسة واحدة. كانت ستتكلف نفس التكاليف ولكن كان سيكون لها أثر أكبر وأعمق. وهذا التشرذم الذي ظهر الاتجاهات نفسها. فالكراسات الثقافية هذه بالرغم من أنها كانت تنفيسا عن ما هو موجود وتوصيلا للكتابات والتيارات الفكرية المنتشرة فى خارج الدوريات الرسمية الا أنها فى نفس الوقت تعكس عيب هذه التيارات، وهو عدم قدرتها على العمل الموحد والمركز لكي تصبح تيارا ونهرا واحدا مؤثرا.
* تحدث كثيرون عن أزمة النقد. ولكن أمل عودنا على زوايا ورؤى جديدة دائما. ولذا ارجو أن أسمع ما سيقوله أمل عن أزمة النقد؟
- أزمة النقد هي نفس أزمة الأبداع فى بعض وجوهها. فزيادة المساحات الإعلامية التي خصصت للثقافة جعلت النقد الصحفي السريع هو الأكثر رواجا لأنه يصل الى أكبر عدد من القراء وأصبح المبدع يفضل أن يكتب عن عمله فى عمود صحفي عن أن يناقشه فى مقال جاد فى مجلة متخصصة. واصبح الناقد نفسه يستسهل ان يكتب عمودا صحفيا عن أن يرهق نفسه بمقال جاد.
والنتيجة أننا أصبحنا نقرأ تعليقات على عمل أدبي تصلح لجميع الأعمال الأخرى التي ينتجها الآخرون وتلخص النقد فى جمل محددة. فهذا شاعر يمتلك الموسيقى، وينتمي للتراث، ويتمسك بالأصالة، وستجدين هذا فى كل ما يكتب فى الشعر اليوم.. هذا من جهة النقد التطبيقي. أما من جهة النقد النظري، فقد كان لهجرة الأساتذة الجامعيين الأكاديميين الى الجامعات العربية والعمل فى الخارج أثر كبير فى ضمور انتاجهم النظري وعموماً لا يمكن أن نطالب بحركة نقد جادة دون إشاعة روح الجدية فى الحياة الثقافية نفسها. فمن الصعب أن نطلب نقدا جادا مدروسا من ناقد مطالب هو الآخر أن يحقق لنفسه مستوى من الحياة ودخلا يتناسب مع تكاليف المعيشة الآن.
• كنت حريصا رغم الامل على الحضور والاشتراك فى مهرجان شوقي وحافظ. فما هي القصيدة التى شدتك لغيرك وأعجبتك أكثر من سواها ولماذا؟
- قصيدة البردوني بالتأكيد .. لأنه اثبت أن الشعر ليست مشكلته أن يكون عمودياً أو حديثا. وإنما الشعر اساسا صوت خاص ، وفى نفس الوقت يحمل أفكارا. فعندما ناقش البردوني وقدم لشخصية المتنبي جاء بإحساس درامي جيد وصور صراع المتنبي الداخلي تجاه من يملكون السلطة ولكنهم لا يملكون الحساسية والفكر الذي يؤهلهم للقيام بدور الصدارة.
* كنت مشهورا فى الحياة والوسط الأدبي بشقاوتك ومغامراتك. فهل تغيرت الآن؟
- طبعا تغيرت. ليس بفعل المرض. ولكن بفعل السن. فعندما يصل الإنسان الى سن الأربعين يصل الى سن الحكمة والرزانة.
* أعترف أني أرهقتك وأتعبتك. وأعتذر لذلك كثيرا.. ولكن أريد أن أسألك سؤالا أخيرا. ما الذى يراه الشعر الآن غير حسن؟
- كل شيء. كل شيء. لأن دور الشعر أساسا رفض الواقع مهما كان هذا الواقع جميلا. فالخيط الذي ينظم الأشياء أصبح اليوم مفقودا قد يكون لدينا درر لكن الخيط الذي ينظمها مقطوع.. غير موجود.. عندنا مواهب وثقافات وعقليات وجامعات كل أوجه التقدم ولكن الذي ينظم كل هذا ويجعل منه شيأ حلافا ومبدعا ومؤثرا وفعالا مفقود حتى الآن.



#حسين_عبد_العزيز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المستقبل فى ظل الدين والفلسفة والعلم .. أوجه الحياة الثلاث
- كل أكتوبر وانتم طبيبين فى ظل المسمار؟!
- حكاية الجثة وسياسة الكلب وحكاية أخرى؟!
- من معاوية إلى نابليون إلى الأخوان الإسلام هو الحل شعار نقشه ...
- نحن زي الكورة – حديث العالم
- فى رمضان المسجد ... محاولة للفهم؟!!
- آه يا فيس بوك يا حبيبي يا بن الإيه
- ثورة 25 يناير مثل شجرة التوت؟!
- ملاحظات على دفتر 25 يناير
- أمل
- قرأت فى كتاب من تراث القبطى الشعبى
- الفاجومي والبحث عن الحلاوة ؟!!
- حكايتان من التراث الفرعوني
- فن إبداعى مجهول لنجيب محفوظ
- مشكلة المجتمع المصرى أنه مجتمع بلا هوية ثقافية خاصة به؟!!
- المعادلة التى تعيش مصر من خلالها
- ربة البيت كاتبة
- الاندهاش من رفاعة الطهطاوى إلى غادة/إدريس على
- مصر الحائرة بين فن المصالح وفن الإيضاح؟!!
- الساعة الآن الخامسة والعشرون؟!


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين عبد العزيز - الشعر بديلاً للانتحار عند أمل دنقل