أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وليد مهدي - الروحانية و العقل Spirituality and Mind















المزيد.....


الروحانية و العقل Spirituality and Mind


وليد مهدي

الحوار المتمدن-العدد: 3558 - 2011 / 11 / 26 - 17:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


(1)

حسب ما وضحنا في المقال السابق فإن الروحانية عبر التاريخ يمكن ان نقسمها إلى مرحلتين :

• روحانية العواطف : وهي الحقب " الطقوسية " من الدين وتمتد على طول الفترة التي سبقت ظهور المسيحية في التاريخ الانساني ، حيث كان الانفعال العاطفي من حزن وخوف وفرح وجنس هو الاساس في تكوين وبناء الفكر الديني ....

• روحانية العقل : وهي الحقبة التي تلت ظهور المسيحية ، حيث وصل الفكر البشري للحد الفاصل الذي اوجب نقله للعقلانية بتاثير الفلسفة اليونانية القديمة التي سبقت ظهور المسيحية بنسختها المطورة الاحدث على يد " الرسول بولص " وما اتسمت به من شمول انساني عام ..

موضوع اليوم سنتناول فيه النوع الاحدث ، القريب للعقل ، العقل بما هو انماط من التفكير المكتسب الموروث من التعلم اجتماعياً وليس بالفطرة كما هي العواطف والوعي ..!

لهذا السبب ، هذا النوع من الروحانية اقرب منه للإنسان بقيمه الاجتماعية ، العمل الجماعي وقيم التكافل الاجتماعي التي تحفظ التواصل الاجتماعي والتضامن بين المجاميع البشرية ، ومقياس الخير والشر مختلف في هذا النوع من الروحانية ..

فالخير " هنا " هو كل عمل فيه مصلحة الجماعة ، عشيرة كانت أو مدينة أو دولة او " أمة " ، أما الشر فهو كل ما شأنه تفتيت لحمتها وترابطها ، لهذا السبب ، وبنمو تدرجي عبر مسار التاريخ .. تطورت من رحم الروحانية القديمة في ارض النهرين وسوريا القديمة ومصر روحانية جديدة تهدف لتمتين الروابط " الجمعية " عبر تلبيس الافراد بتشريعات تصب في خدمة " الصالح العام " ..

لهذا نجد بأن الروحانية القديمة التي كانت تعتبر الخمر شراب الآلهة المقدس ، تبدلت في المسيحية ومن ثم اخيرا في الاسلام إلى اعتباره رجسٌ من عمل الشيطان .. ، لانه يذهب بالعقل كما يشاع ، لكن الخمر بتوضيح اكثر دقة يساعد على ايقاظ " الانا " ونوازع النفس الغرائزية الدفينة التي تحاول القيم والاخلاق كبحها وتشذيبها وحصرها ضمن قواعد سلوكية اخلاقية تؤدي نحو تحقيق " الغاية الاجتماعية " ..

كذلك بالنسبة للبغاء بكافة اشكاله والوانه قامت المسيحية بمحاربته حرباً لا هوادة فيها بمحاولة لاعادة التماسك الاجتماعي عبر تقوية وتمتين روابط الاسرة بمكافحة البغاء ، بعد ان كان البغاء يحمل نوعاً من " القدسية " في المناسبات الدينية في الحضارات القديمة ..

وهكذا ، مسرب الروحانية " العقلي " يصب نحو الغاية الاجتماعية المثلى ... فيما الروحاني العاطفي الاقدم يجري نحو الانا والنفس الانسانية ..

(2)


الاشكالية في هذا الموضوع هي ان كتابة التاريخ لا تلتفت إلى وجود " غاية طبيعية " يمضي نحوها التطور القيمي الاجتماعي ..

فمثلما هناك " غاية بيولوجية " ينمو ويتطور بموجبها الجسد البشري عبر مراحل مختلفة من الجنينية ثم طفولته وحتى شيخوخته مختزنة في الجينات الوراثية ، هناك " غاية اجتماعية " ينمو ويتطور بموجبها " عقل الفرد " عبر مراحل مختلفة من حياته يتطور بموجبها " سلوكه " ضمن الجماعة وما تحتفظ به من " قيم " مختزنة في حافظتها الثقافية التاريخية المتداولة شفاهاً او كتابة .. والدين جزءٌ منها ليس إلا .. تقوم بتربيته على اساسها ضمن مسار حياته ..

الحافظة القيمية الجمعية تتبدل " ببطئ " بمرور الزمن بفعل تفاعل الفرد مع الجماعة ، ومثلما اثرت الثقافة الدينية الاسرائيلية المسيحية ، وكذلك الموروث الوثني في البيئة شبه البدوية في مكة بعقل الرسول محمد ، نجد هذا الاخير تمكن من احداث تغييرات كثيرة في هيكلية وتكوين القيم الجمعية في تلك المنطقة وذلك القطع الحافل بالاحداث من ليل التاريخ ..

الاشكالية التاريخية تكمن في " طبيعة " الفرد الذي يمكنه احداث التاثير في " الحافظة الجمعية " ..

فهناك " غاية طبيعية كونية " يمضي نحوها التطور الاجتماعي انطلاقاً من الفردية نحو ذرى قيم واخلاقيات الاجتماع والتكوين الجمعي ، من يحدثون التغيير لابد وأن يستلهموا من " افق الغاية " تشريعات اخلاقية مرحلية توائم واقع الزمان والمكان تؤدي إلى " نقلة " نوعية بتوقيت صحيح وملائم كما فعل الرسول محمد ..

لهذا السبب ، من يغيرون التاريخ عادة ما يعرفون بالانبياء او " الملهمين " لانهم يستلهمون واقعية التحول والانتقال من " افق " يمثل مسار طبيعي وان لم يفهموه بالكامل يتجلى بالنبوة او الرسالات السماوية ..


(3)


الكثير من الباحثين العرب يعتقد بان منهج الانثروبولوجيا الحقيقي العلمي يسمح بثنائية " الدين – الثقافة " ..

ولهذا السبب يلجئون للفصل بين القيم الاجتماعية الجمعية و بين " الدين " ..

والحقيقة هي إن " الدين " قيم نامية متطورة مع تطور حضارات بني الانسان ، الدين هو المظهر الخارجي لتحولات الثقافة والقيم الاخلاقية ، الدين ليس بمنفصل عن الاعراف والقيم المختزنة بالحافظة الجمعية ( كما اطلق عليها يونج ) ، لكنه يتميز عنها باضفاء هالة من القدسية عليه لكونه يمثل حالة انتقالية ثورية في القيم الاجتماعية سرعان ما يخمد بريقها عند حدوث انتقالة ثورية جديدة كما حصل في مراحل تطور اليهودية والمسيحية والاسلام بالنسبة لسكان الجزيرة العربية على الاقل ..

الخطأ الكبير هو اعتبار بعض الباحثين ، ولاعتبارات عقائدية مستترة ، ان هناك ديانات وثنية واخرى توحيدية ... أو هناك ديانات طقسية غايتها دنيوية ، واخرى اخروية غايتها اخلاقية ..!

لا تقاس القيم الدينية على هذا النحو بمنظار علمي البتة ...

كافة الديانات تمثل قوانين واعراف يفرزها التطور الاجتماعي وغايتها الاساس لابد وان تكون دنيوية حتى لو بدت في ظاهرها قيم اخلاقية اخروية ، لكنها في الجانب المقابل تؤدي غرضاً دنيوياً بحتاً ..

كانت قيم الروحانية العاطفية الاقرب للانثى هي السائدة في تكوين ثقافة انسان ما قبل التاريخ ، و تطورها في انسان ما بعد التاريخ وتحوله للمجتمع الذكوري الابوي جر معه بعض بقايا المجتمع ما قبل الذكوري ممثلاً في رمزية الانثى المقدسة بصورة آلهات او اعتبار بغاء الكاهنات مقدساً في المعابد ..

وحين حلت المسيحية ، تكون اُطلقت آخر رصاصات الرحمة على ما تبقى من تلك القيم القديمة ، لهذا السبب نجد بأن العرفان او الغنوص احتل وبالتدريج محل " الكهانة " والعرافة التي كانت تسود المعابد القديمة ..

وهو يعني ببساطة .. حلول قيم الزهد والايثار والعطاء في التصوف والعمل الروحاني بمسار نحو " غاية " تاريخية في التطور الاجتماعي القيمي ، محل قيم الانانية والفردية التي كانت تعززها ممارسات " الثيورجيا " القديمة لاستنزال التنبؤات وتحصيل القدرة الروحانية " الخارقة للمألوف " والاتصال بالآلهة والتي كان يتخللها تعاطي مواد مخدرة واشربة الآلهة المقدسة من خمور في العراق القديم ومصر القديمة ..!


(4)


ففي حين كانت روحانية الطقوس القديمة من تقديم قرابين حيوانية وبشرية وممارسات جنسية وتعاطي المخدر والمسكر تؤدي اغراضاً فردية تتمثل في سبر الاعماق وارتباطها بتاريخ التطور العقلي كما وضحناها في المقال السابق ، فإن روحانية القيم الاجتماعية من ايثار وعطاء وزهد في الدنيا ومحاربة وكبح جماح الرغبة الفردية ورغم انها تصنف تحت طائلة " قيم الاخلاق " باعتبارها قيم تسمو فوق الرغبة والانانية ، إلا انها من ناحية ثانية تهدف للمحافظة على الترابط الاجتماعي والنهوض بالمجتمع ككل عبر تقنين متطلبات الفرد الواحد وبالتالي تعميم النتاج الاقتصادي ونمط الحياة على اوسع مدى يشمل بقية شرائح المجتمع ..

وهكذا نفهم إن " الغنوص gnosis " او العرفان حين ظهر في تاريخ منطقة الشرق الاوسط جاء كنتيجة مباشرة لتطور القيم الاجتماعية .. ولم يكن سبباً مباشراً ادى إلى تطور القيم الاجتماعية كما يتصور اغلب الباحثين والمهتمين بالتاريخ ، وهو ليس بمناقضاً للثيورجيا Theurgia او الصنعة السرية للكهان القدامى كما يعتقد بعض المتصوفة الذين يصنفون هذه الصنعة السرانية بالاعمال السحرية او الشيطانية ..

انما الغنوص هو المولود " العقلي " للروحانية من رحم الثيورجيا العاطفية الفردانية القديمة ..

ففي حين ان الثيورجيا تستمد قوتها وطاقتها من اتقاد المخزون التعلمي في " دماغ الفرد الواحد " الذي يمارس هذه الطقوس ، مخزون الجينات الحامل لخلاصة تطور المملكة الحيوانية عبر التاريخ .. وهو يمكن ان يكون كياناً تاريخيا يمثل مراحل تطور حياة الجسد على الارض ..

فإن العرفان يستمد الطاقة والتوقد من " الوعي الجمعي الاجتماعي " ، الحافظة الثقافية للامم البشرية كجماعات ذات منتوج قيمي ثقافي ، وهي حافظة برايي الشخصي نامية ومتطورة في كيان رباعي الابعاد يتمثل بمتصل الفضاء – زمن space – time .. يمثل تطور " حياة العقل " عبر التاريخ !

هذا التكوين سبق وناقشته تفصيلاً بموضوع " الوعي والزمن " ، وهو كيان تكونه المادة عبر مسار الزمن فيكون " مادة – زمن " ، سواء في بنية الفرد الواحد كذاكرة فردية لم يضع العلم حتى اللحظة يده عليها عرفها الاقدمون باسم الروح ، او كذاكرة كلية جمعية تمثل ما عرفه يونج بالوعي الجمعي ..وهو بالضبط تمام الفرق بين الجينات كموروث مادي رباعي الابعاد وبين الحافظة الجمعية كموروث قيمي " رباعي الابعاد " ..وهو يعني ان الاخير منبثق من الاولى ويجري في موازاتها على مسار الزمن ..

فالثقافة الاجتماعية عبر مراحل تحولها هي التي انجبت العرفان كممارسات وسلوكيات وإن بدت متناقضة مع ممارسات وسلوكيات سرية لكهنة المعابد القديمة المعروفة بممارسات " الثيورجيا " او الصنعة السرية ...

وبالتالي ظهور العقائد التوحيدية في التاريخ كان نتيجة تطور الفكر الديني .. والذي هو جزء من ثقافة امة او حضارة ، وليس العكس بان تكون العقائد التوحيدية هي التي طورت او بنت حضارة معينة ..

فالعقيدة الاسرائيلية ( او العقائد لو صح التعبير ) حين تمثلت لنفسها بإله قومي هو " يهوه " إنما كانت تحاكي ألهة قومية مماثلة لدى شعوب وامم اخرى خصوصاً في بلاد ما بين النهرين ..

فرغم الوثنية وتنوع الآلهة لدى العراقيين القدماء ، لكننا نجد " تموز " يقارب بوجوده موقع الإله " اشور " لدى الآشوريين ، وكذلك " مردوخ " لدى البابليين ، لكن تطور الثقافة اليهودية عبر تداعيات وتحولات ديموغرافية متنوعة جعلت من الديانة اليهودية بمثابة حلقة الوصل بين الماضي الوثني المستغرق في الفردية والطقوسية وبين الحديث الموحد الذي عظم من شأن الحياة الاجتماعية الكلية وقلل من قيمة " الفرد " وقد تمثل هذا باختزال الآلهة في إلهٍ واحد في المسيحية والإسلام ..


(5)


مشكلة من يكتبون التاريخ هي هذه النمطية في التعاطي مع الوقائع على اساس سردي دون ادنى التفات لواقع التحول والصيرورة في الفكر الاجتماعي ، فضلاً عن الانجراف اللاشعوري نحو معتقد او توجه سياسي معين يجعل من كتابة التاريخ عملاً اجرائياً يصب في خدمة " التنظير " السياسي والديني ..

لم اقرأ حتى اللحظة من يكتب التاريخ بموضوعية ومنهجية علمية حديثة تراعي التحليل الانثروبولوجي للثقافة ، تشريح الثقافة واعادة تركيبها على النحو الذي يتيح فهم الديانة اليهودية او المسيحية او الصابئية وغيرها من الديانات بما يمكن درجه على منوال لا يعتبرها عقيدة ذات منفعة او مضرة للتاريخ البشري ككل ... مثلما يظن المسلمون بدينهم خيراً فيما اي عقيدة اخرى فهي حتماً سلبية اوفيها جوانب سلبية متعددة كما يظنوه في اليهودية مثلاً على انها مجرد اختلاقات ورؤى قومية نبتت في بيئة التعصب ...

التشريح الانثروبولوجي المنهجي السليم لا يحاول البحث عن السلبيات والهنات والزلات في اي ثقافة او دين , وفي نفس الوقت هو لا يعظم من شأن الاولياء او الموروث في اي دينٍ ايضاً ..

الدراسة العلمية للتاريخ تقضي بأن نسأل : لماذا كانت الطقوس في بابل تركز على الفردية والذاتية بحيث انعكست على الدين الذي آمن بالحياة الواقعية ولم يترك للعقل متسعاً لحياة اخرى بعد الموت ..؟

وليس القيام بمقارنة عقائد ما بين النهرين بالديانة الاسلامية الحالية وفسحها المجال للتفكير بالآخرة ليقفز لذهن القارئ إن الإسلام افضل ...!!

فمثل هذه الطريقة تجعل من السهولة بمكان على اي انسان ان يقارن بين مفارقات كثيرة في الشريعة الاسلامية وشرعة حقوق الانسان المعاصرة مثلاً ، ليكون الاستنتاج البديهي ان الاسلام دين متوحش في اقامة الحدود بالحاقه عاهات مستديمة بالفرد او تشويهه للوعي عبر الرجم والاعدام على رؤوس الاشهاد ..

لكن ان نسال ما هو الدافع " التاريخي " الجمعي ، الحاجة الاجتماعية التي اقتضت ذلك .. يكون الامر مختلف بان تلك الشريعة مرحلية تعاصر واقع ثقافي معين كان طبيعياً جدا في تلك الحقبة .. وهذا ينطبق على اي دين آخر بانه نتاج طبيعي لمتطلبات المرحلة التاريخية قد لا يتخذ صيغة الحتمية الكلية لكونه يتاثر بالعامل الإنساني الثقافي القيمي ..


(6)


ان الغنوص وممارساته التي تعلي من شأن الاخلاق الجمعية هو إلى محاربة " النفس " التي اعتبرت أمارة بالسوء اقرب منه إلى التناغم مع ميولها الغرائزية الرغائبية الدفينة كما هي الطقوس القديمة ..

واغلب المثقفين يعتقد بان مفهوم " الروحانية " انما ينحصر بالقيم الأخلاقية " العليا " التي تحارب الميول الذاتية الفردية وهوى النفس ..

بل يذهب اغلب الكتاب إلى قياس مدى " روحانية " اي دين او مذهب بقياس مدى الترفع عن الدنيويات والنسك المضاد للغريزة الذي يتجلى في المسيحية بشكل واضح حين نقارنها باليهودية والاسلام ..

مع ذلك ، الروحانية بمعناها الاخلاقي تختلف عن " الروحانية " بمفهومها اللفظي الميتافيزيقي الذي يشير إلى الطاقة الكامنة في العقل البشري التي تستنزل النبوة وتفتح امكانيات ذهنية خارقة للمالوف من قدرات العقل التي نعرفها ، وهي قدرات وامكانيات يمكن للروحانية " الاخلاقية " القريبة من قيم العقل الاجتماعي ان تجعلها تتفتح في نفس الوقت الذي يمكن للروحانية العاطفية الاقدم ان تفتحها ..

لكن ما هو الفروق الهامة بين روحانية العاطفة وروحانية العقل ؟
وما هي مواقعهما في مسار تطور العقل والفكر الاجتماعي الانساني ؟

الفروق الاهم كما وضحناها قبل قليل ، هي انغلاق الروحانية الاولى ( العاطفية ) في الحافظة البيولوجية وكيانها رباعي الابعاد .. في حين تنفتح روحانية " العقل الاجتماعي الكلي " على عموم التجربة البشرية البيولوجية والاجتماعية على حدٍ سواء ..

اهم ما في الموضوع هو ان كلاهما " روحانية " لانهما تتجاوزان " اللحظة " الابيقورية إلى " ديمومة " برجسون او " البنية رباعية الابعاد " للزمن بما هو ماض وحاضر ومستقبل يتجاوز اللحظة ....!!



(7)


روحانية العاطفة تمثل لذاكرة يمتد عمرها لستمئة مليون سنة تقريباً ، عمر الحياة على كوكب الارض ، بدءاً من خلايا البكتريا الاولى مروراً بالاسماك فالزواحف وصولاً للرئيسيات فالإنسان ..

وحسب المفهوم رباعي الابعاد للتاريخ ، و الذي استوحيته من فهم هيجل للتاريخ لكن بادخال فلسفة فيزياء الفضاء زمن في صياغته بدلاً من الفلسفة المحظة ، فإن مسار التطور البيولوجي يمضي إلى " غاية " ..

الخبر المحزن لكتاب التاريخ الكلاسيكيين هو ان " الغاية " البيولوجية للتاريخ قد لا تعني الانسان بما هو جنسٌ بشري نعرفه اليوم ، قد تعني كائناً جديداً آخر يتطور دماغه بشكل تتضخم فيه اجزاء مثل " المخيخ " أو " Cerebellum" وبعض الاجزاء الحركية من الدماغ والمسؤولة عن ادراك الزمن والتوازن وتحديد مسارات الحركة والتنبؤ بها ( الادراك رباعي الابعاد ) وهو ما نستعمله اساساً في قيادة السيارات واثناء الجري والمشي بالجسد المجرد ..

كذلك قد تضمر اجزاء اخرى من الدماغ كما ضمرت الزائدة الدودية في الامعاء التي كانت تستخدم في الهضم لدى اسلافنا من حيوانات كانت تهضم السليلوز ..

بالتالي ، الشكل " الغائي " للمخلوق العاقل المتحضر المتطور الذي سياتي بعد ملايين السنين قد يختلف كلياً .. وهو موضوع سأناقشه بالتفصيل في كتابي المقبل " العلم المجرد Absolut Science " ..

المهم هو ان " الثيورجيا " او الصنعة السرية القديمة كانت تنطلق من عموم كلية هذه " الخلفية " البيولوجية للتاريخ كمفهوم امتدادي مستمر يشمل المستقبل وليس الماضي فقط ، وبما إن عمر " القيم الاجتماعية " الذي لا يتجاوز بضعة مئات الآلاف من السنين لا يقارن بستمئة مليون سنة عمر البيولوجيا ، لذا فإن الثيورجيا لا تزال هي الروحانية " الاقوى " في فهم التاريخ على انه تاريخ " افراد " وليس تاريخ امم وجماعات ، وهو ما يفسر تبنيها من قبل نخبة النظام الراسمالي الحاكم في العالم الغربي تحت خيمة " الماسونية " و " النورانيين " وبقية الاخويات المنظوية في ظلال عقيدة الفردانية الراسمالية الجامحة التي فصلنا الحديث عنها في سلسلة المواضيع عن " الماسونية " والمنشورة في الحوار المتمدن ..

(8)


اما روحانية " العقل " ، فهي تمثل لتاريخ بضعة مئات آلاف السنين يتجلى بكثافة في العشرين الف سنة الاخيرة التي صاغت نمط حضارتنا القيمية ...

وهي لهذا السبب كما قدمنا " اضعف " من الروحانية العاطفية ، وهو ما يفسر انهيار المسيحية امام الاسلام في الشرق الاوسط ، وامام العقلانية Rationality الغربية في اوربا التي ظهرت كتتويج لعصر الانوار العقلي وما تلاه في العصر الحديث من حداثة وما بعدها ..

المسيحية التي كانت تمثل الذروة في تجلى الروحانية وكذلك " البوذية " التي تراجعت كثيراً امام الكونفوشية والطاوية ونمط الحضارة الحديث في الشرق الاقصى ..

الروحانية العقلية تستمد قوتها من " اتفاق " الجماعة على التفكير بفكرة واحدة .. وسلوك سلوكيات موحدة ، وهو ما يفعله المسلمون في صلاة الجماعة كل يوم .. وما كان يفعله المسيحيون الاوائل في فجر المسيحية الاول ..

وكذلك تستمد قوتها من " التعطيل المؤقت " للغرائز عبر الزهد وترك الميول والرغبة كما يفعل اهل الغنوص والعرفان من الصابئيين والمسيحيين والمتصوفة المسلمين ..

التخفيف المؤقت لفاعلية الغرائز ، على غرار ما يفعله المسلمون في نهار رمضان ، يؤدي إلى فصل الوعي عن بنية البيولوجيا التاريخية رباعية الابعاد التي ذكرناها في الفقرة السابقة ، اي الانفصال المؤقت للوعي عن موروث الستمئة مليون عام الطويلة نسبياً في الماضي ، وقصيرة العمر في المستقبل على اعتبار ان الترفع عن الميول سمة المستقبل ولعل الحمية الغذائية صرعة العصر مجرد مثال بسيط ..

فــ ( من صام صام عن جوارحه ) كما يقول محمد ، هذا الانفصال عن " الجوارح " يتيح للوعي التناغم مع البنية القيمية ذات العشرين الف سنة القصيرة نسبياً في الماضي ، الطويلة الامتداد في المستقبل ، على اعتبار ان التاريخ يمضي نحو زيادة تحضر الانسان وتشذيب سلوكه وقيمه ...!!!

المفارقة هي ان التعالي عن حافظة التاريخ البيولوجي والارتقاء نحو مستقبل التاريخ الحضاري الاجتماعي يتطلب جهداً فردياً عالياً يمكنه ان يتضاعف بقوته اذا ما تمت ممارسة هذه السلوكيات العرفانية بشكل جماعي لا فردي ، وهو ما يفسر تلاشيها وعدم تحقيقها للاهداف المرجوة من انفتاح في القدرات والقابليات الذهنية في الوقت الراهن اذ يغفل العديد من السالكين لمنهج العرفان على مختلف الانتماءات الدينية عبر العالم عن دور العمل الجماعي في الارتقاء نحو " المستقبل " الاجتماعي لتطور التاريخ .. عدا استثناءات قليلة لاهل الطرق الصوفية المسلمين في الشام والعراق وتركيا مثل القادرية والرفاعية والكسنزانية وغيرهم ممن يمارسون طقوسهم بصورة جماعية دقيقة تستنزل المعجزات التي تبهر الناظرين ..

وهي ممارسات ، على الرغم من بساطة تاثيرها في واقعنا الثقافي ، إلا انها تتمكن " تقنياً " من الارتقاء بالطاقة الاعماقية للاشعور الانساني العقلي من الكيان البيولوجي للتاريخ إلى الكيان البيولوجي – الثقافي الجامع لكليهما .. ( وهو موضوع يحتاج منا لتفصيل في مقال خاص مستقبلاً ) ..


على العكس تماماً من الروحانية العاطفية التي يمكن للعمل الفردي ان يؤدي منها الغرض المطلوب لانها متجذرة في ماضي تطور الفرد المحض ..!!


(9)


اسئلة كثيرة سطرح نفسها علينا في خاتمة هذا الموضوع :

هل للروحانية مستقبل في ثقافتنا البشرية المعاصرة ...؟؟

هل ستتلاشى بتلاشي الدين وقيمه ، ام انها ستبقى فاعلة في الوعي البشري ولو تحت الثقافة الظاهرية للعقلانية كما هي لدى صانعي القرار السياسي ومدبري شؤون البلاد الاقتصادية في الغرب ..؟؟

هل الدين هو الذي حافظ على الروحانية بنوعيها ، ام ان حتمية بقاء الروحانية هي التي استبقت الدين في حياتنا حتى يومنا هذا ...؟؟

هل يشهد التاريخ ارتداداً نحو القيم الروحانية الفردية كما كانت في الحضارات القديمة بفعل تنامي الانا والفردانية Individuality في الحضارة العصرية ..؟؟

لا اعتقد بان هذا الارتداد سيحصل ، لأن " الغاية الطبيعية " للتاريخ تجري نحو ابقاء الروحانية الجماعية الكلية التي تشذب الاولى والثانية على حد سواء ، ولعل " الشيوعية " ومسار تاريخها الذي يبدأ من الاشتراكية هو خير دليل على المصير الجماعي الذي ينتظرالقيم الانسانية ، المفارقة ان المنظرين الشيوعيين في القرن الماضي اولوا للاقتصاد اهمية على الجانب الثقافي ، اعتقد بان القرن الحادي والعشرين سيشهد ولادة ثقافية جديدة للاشتراكية تعيد تصحيح اخفاقها الكبير في قرنٍ جديد لا يعاني النظام الراسمالي فيه من الترنح فحسب ، لكن عموم الحضارة الغربية ونتاجها طيلة الاربعمئة عام الماضية هي في محل اختبارٍ عصيب لا اظن بان لديها المؤهلات القيمية التي يمكنها من تجاوزه ..

هناك حضارة انسانية جديدة ستقود دفة التاريخ في العقود المقبلة ، حضارة روحانية – عقلانية تستمد مبانيها الفكرية والقيمية من العلم التاريخي الشامل على خطى الماركسية ، وليس علم " اللحظة " الاحصائي المعاصر ..

ويقولون متى هو ..؟

قل عسى ان يكون قريباً ..

الموضوع القادم سيكون اعادة صياغة لعبارة ديكارت " انا افكر اذن انا موجود " في ضوء مسار تطور التاريخ البيولوجي والثقافي للانسان , اي الصياغة الماركسية الثقافية لمفهوم الوعي بزاوية معرفية اكثر حداثة , و سيكون مهدى للاستاذ ابي كاطع ..~





#وليد_مهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانوثة والروحانية Femininity and spirituality
- النبوة و العقلانية Prophecies and Rationality
- ثوار النيتو .. غرهم في - اميركا - الغرور
- وحيٌ من جهة موسكو ! تجربتي مع الزمن
- التاسع من اكتوبر
- متى ستنتهي الرأسمالية ؟
- العلم ورؤية في مستقبل الحضارة ..
- القومية والنجم الثقافي الإسلامي الجامع
- اغتيلَ المهدي .. وصح النوم يا وطن !
- فيزياء العالم الآخر - ج 2
- فيزياء العالم الآخر - ج 1
- ملامح من فيزياء العالم المنطوي Implicate World
- عالم ما بعد الموت و علم الفيزياء
- الوجود قبل خلق العالم رؤية لفيزياء جديدة
- روحانية الهرم وروحانية الكعبة
- بالماركسيةِ العلميةِ يُعرفُ الرجال !
- لا تُعرَفُ الماركسيةُ بالرجال !
- الماسونية و الدولار و الماركسيات البئيسة (5)
- امير الغندور و الجدل مع الماركسيين
- الماسونية ومفهوم الإله (4)


المزيد.....




- حادثة طعن دامية في حي سكني بأمريكا تسفر عن 4 قتلى و7 جرحى
- صواريخ -حزب الله- تضرب صباحا مستوطنتين إسرائيليتن وتسهتدف مس ...
- عباس يمنح الثقة للتشكيلة الجديدة للحكومة
- من شولا كوهين إلى إم كامل، كيف تجمع إسرائيل معلوماتها من لبن ...
- فيديو:البحرية الكولومبية تصادر 3 أطنان من الكوكايين في البحر ...
- شجار جماعي عنيف في مطار باريس إثر ترحيل ناشط كردي إلى تركيا ...
- شاهد: محققون على متن سفينة دالي التي أسقطت جسر بالتيمور
- لافروف: لن يكون من الضروري الاعتراف بشرعية زيلينسكي كرئيس بع ...
- القاهرة.. مائدة إفطار تضم آلاف المصريين
- زيلينسكي: قواتنا ليست جاهزة للدفاع عن نفسها ضد أي هجوم روسي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وليد مهدي - الروحانية و العقل Spirituality and Mind