احمد صحن
كاتب وباحث
(Ahmed Sahan)
الحوار المتمدن-العدد: 3519 - 2011 / 10 / 17 - 19:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مدة أربعة أيام، عجزتُ وأنا ابحث عن لمسة أعمار حقيقية في بغداد، بغداد التي عاشت قرابة تسعة أعوام بيد ساسة تقف إلى جانبهم أعظم بلدان العالم ـ أمريكا-.
تركتُ بغداد وتخلصت من مطبات شوارعها المتهالكة وعبرت الجسر، ذا الطابقين، الجسر الذي شيد في زمن "عملة الطبع"، وعلى يد نظام مرفوض ومعزول من الداخل والخارج، سرت وبمعية ثلاثة من الأصدقاء، توجهنا الى بابل، الطريق بين بابل وبغداد شبيهة بثكنة عسكرية، سيطرات وسيطرات. في زمن دولة القانون، تحولت مدننا الى ثكنات عسكرية وسميت هذه الفترة بفترة الأمن، لا اعرف اي امن هذا الذي يتحدث عنه صنّاعه بفخر ومدننا عبارة عن معسكرات تجوب في شوارعها الهمرات، مضت ثلاثة سنوات على صولة الفرسان وأخواتها ولم نعش طراز الحكم المدني، ويبدو ان الـ"مدنية" غائبة عن ذهن حكومتنا ومنظريها.
دخلت بابل من شمالها، قاصدا خرائبها، وفي لحظة وصل مع التاريخ اطّلع والمس بشكل مباشر لما تحتويه تلك الخرائب من آثار أذهلت العقول على مر الزمن، كنت احاسب نفسي وبشدة لما اقترفته من ذنب القطيعة والعقوق مع تلك البقايا والإطلال العظيمة، اذ لم ازرها من قبل، ربما كنت عاقا لتراث وطني/الام، ولعل مثلي الكثير، زرت بابل كمحاولة مني لاقف على تلك الجذور التي نتغنى بها وندعي اننا امتداد لها، او على اقل تقدير أجهد نفسي قليلا لعلي ألبي صيحات أجدادنا البابليين، بالطبع لسنا واثقين اننا امتداد لاصلابهم، الاجداد يدعوننا لنطلع على ماض لم يكن ملكا لنا فقط، بل للانسان اين ما حل، القدر وضع بقايا البابليين بين ايدينا كأمنا على اقل تقدير، الاصوات البابلية تصرخ وتشكو ثقل أعمار صدام الماضي، والإهمال الحكومي الحاضر، لنشاهده عن كثب. وفي بلد متخلف كثيرا عن صناعة السياحة ويجافي طرقها الحديثة ويعشق الروتين عشقا، رحنا نزرع الأسئلة الكثيرة عن المسالك المؤدية الى المدينة العتيقة ولم نحصد الا القليل، القائمون من رجال الأمن في نقطة التفتيش الأولى اختلفوا فيما بينهم، منهم من سمح لنا بالدخول وآخر أنهى قصة دخولنا عبر اتصاله بجهاز الراديو لينتهي الأمر بترك سيارتنا بجانب قنطرة أنيقة شيدت في العام 1987 ونسير على الإقدام لمسافة ألف متر تقريبا.. احمد العماري موظف في الاثار اعترض طريقنا وأبدى لنا خدمة التوصيل وتبين لنا فيما بعد انه احد الإدلاء الذين يرافقون السائحين كمرشد يجوب مفاصل وقاعات المدينة الأثرية.. بمعيته، دخلنا بوابة عشتار المزججة باللون الازرق الداكن، المكان يخلو من لوحات الدلالة خلافا للسياقات المتعارف عليها في اماكن متشابهة، كالآثار في الأردن مثلا، حملة الاعمار التي قام بها صدام عام 1989 كانت اولى علامات الخراب، لمسات صدامية تنم عن التهاب في "الانا" ذلك الالتهاب الذي اخذ من عمرنا اكثر من ثلاثة عقود، كل شيء هناك يؤكد القطع الزمني بيننا وبين من وضع تلك الصروح العظيمة، كل شيء هناك يؤكد توقف الحياة عندنا، كل شيء هناك يؤكد غياب وجودنا، بل نحن عبارة عن فراغ، خلافا لما اراده بناة بابل وارض الرافدين في ان نكون حلقة الوصل الحضاري التي تحتاجها بابل في الارتباط بحضارة اليوم ، كل شيء هناك يؤكد سباتنا، وثبات غربتنا عن وطننا، احمد العماري – المرشد- قطع تأملاتي في المكان وهو يقول: هذا "طريق الموكب" مستهلا الحديث التعريفي بالمكان، وهو يدرك اغلب الاشياء عن المدينة القديمة بحكم عمله الذي مضى عليه اكثر من سبعة عشر عام على حد قوله، معلوماته تؤكد ذلك، تحدث عن ساحاتها وقاعاتها وباحاتها وأروقتها واسوارها وكذلك عن مخزن الحبوب الممتلئ بفضلات الطيور، كنت ملحا في معرفة الكثير عن الطريق التي بقيت على حالها منذ عام 2600 ق.م اي عمره الان 4500 عام، يا الهي كأنها صعقة تمخر ذهني. الطريق معبدة من الحجر المرصوف وبنيت على يد الملك نبوخذ نصر وكانت تحتضن الاحتفال السنوي الذي يقام في كل عام احياء لذكرى الانتصار الذي حققه الاله "مردوخ" على امه "تيامات" فسمي بـ "طريق النصر" او "طريق الموكب" وكذلك كانت هي الطريق التي يسلكها موكب الملك نبوخذ نصر . توقفت كثيرا عندما عرفت ان الملك نبوخذ نصر كتب على اسفل الحجارة التي رصفت بها الطريق عبارة مفادها: "أنا نبوخذ نصر, ملك بابل, أنني رصفت طريق بابل بالأحجار, من أجل موكب الإله الكبير مردوك. يا الهي مردوك, أمنحني الحياة الأبدية" تأملت في تلك الجملة انها شكل من اشكال الدعاء الى الإله مردوخ، فالمقارنة بدت حتمية اذن، بين عبادتنا لالهنا " الله" ذي التسعة والتسعون اسما وبين عبادة البابليون لإلههم مردوخ، حتى طريقة الدعاء هي الاخرى بمثابة دعوى للمقارنة فدعاء نبوخذ نصر موجه الى الاسفل اما دعاءنا موجه الى السماء ونكاد ان نكون من اكثر الامم التي تمارس الدعاء اقل مما تعمل والهنا "الحقيقة "الله" نتاج اسئلة عقلية قدمت الاجابة عليها من قبل كل الانبياء والرسل اما الإله مردوخ نتاج مصنع الإلهة "الخوف" وحيثيات وجودة ما هي الا أراجيف الأولين ولم تكن له انصار بقدر عبيد الهنا فاليوم ثمة اكثر من اربعة مليارات نسمة يؤمنون بوجود "الله" حسب الديانات الكبرى الثلاث اما مردوخ فكان كثير من الالهة تنافسه على وجوده وخلوده، الخلود تلك الرغبة الغريزية التي حركت نبوخذ نصر حين كتب على الأحجار التي رصفت بها الطريق ان يحظى بشيء منه وأودع تلك الأحجار بأيدينا لعلنا أقول لعلنا ان نحرك غريزة الخلود الخاملة لدينا، ونضع توقيع على حجر اساس لمشروع الانسان الذي قد يمنحنا شيء من الخلود بدلا ان نخلد انفسنا عبر كاتم الصوت ونمهر صفحات التاريخ السوداء بأسمائنا، فبلاد الرافدين اليوم غير بلاد الامس فاليوم ومعنا اعظم دول العالم وندعي ان "الله" معنا واننا من عباده "المؤمنين"، فلماذا لم يستجب لنا دعواتنا بأبسط مطالبنا، ربما السبب يعود الى اننا لم نحكم بالعدل ولم نتقن عملا ولم نحقن دما ولم نرحم انفسنا وبذلك عصينا الهنا الحقيقة "الله" وتاجرنا بدينه فلم يستجب لنا. فمن منح نبوخذ نصر وطريقه الخلود اذن؟.
#احمد_صحن (هاشتاغ)
Ahmed_Sahan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟