عبد الله صقر
الحوار المتمدن-العدد: 3476 - 2011 / 9 / 3 - 10:12
المحور:
الادب والفن
كنت حالسا مع أصدقاء لى , فأخذنا الحديث عن الحياة والموت , فى تلك اللحظة تذكرت أمى وشقيقتى الكبرى عندما نزلت للقبر كى أدفنهما , وكان هناك فارقا زمنيا بين موتهما , وأخذ كل واحد منا يشرح كيف سيقابل الموت , ومن الطريف بأن أحد الاصدقاء قال لنا بأن الموت لم يأتى لآمثالى , لآن طول عمر الشقى بقى , والموت لا يختار الآشقياء مثله , وإذا حضر الموت إليه فسوف يطلب التأجيل ولو لعدة أشهر لآنه يحب الحياة ولا يريد أن يغادرها , فضحكنا على كلامه الذى إن دل فإنما يدل على الجهل أو الآستهتار بالموت , ومن الغريب جدا أن هذا الصديق المرح توفى بعد شهرين من هذه الجلسة , وحزنا عليه كثيرا , فرددت عليه وقلت له يا عزيزى , الموت لا يؤجل , ولا يمهل الأنسان فرصة للتفكير فيه , لآن الموت ماكر وغدار وليس له أمان , لآنه حين يأتى لآى إنسان , فإنه يقضى عليه وتكون جميع وظائفه الحيوية متوقفة , والموت له دلائل وعلامات , ونحن ليس لنا حرية فى أختيار طريقة موتنا , والمثل يقول تعددت الاسباب والموت واحد .
أخذت أشرح عن أنواع الموت وكل من الاصدقاء يستمع إلى بأهتمام بالغ , فهناك موت وظيفى وهو توقف عمل جميع أجهزة الجسم بشكل فجائى , والعجيب فى هذا النوع من الموت أنه بمقدور المصاب أن ترجع له الروح ويعود مرة أخرى للحياة , لآنه يفقد الحياة لمدة دقائق بسيطة , وأيضا هناك نوع أخر من الموت وهو الموت الخلوى أو ما يسمى بالموت البيولجى , حيث تتوقف جميع العمليات الحيوية بشكل نهائى , داخل خلايا أنسجة الانسان , كما أن هناك الموت الدماغى , وهو ما يسمى بالموت الجسدى , ويحدث هذا النوع من الموت بعد أن يفقد المخ جميع وظائفه العصبية بصورة نهائية , وهناك موت الغيبوبة وفيها يفقد الانسان الوعى الكامل بالحياة , وأيضا هناك الموت الجسدى ,عنده يفقد الانسان الاحساس بالحياة بالمرة , ولا يستجاب لآى إشارات , ويكون غير مدرك بما حوله إطلاقا .
والموت فى حد ذاته هو خروج البروح من جسد الانسان , لكن الروح غير معروفة وغير محدودة إطلاقا , والروح أختلف مفهومها عند جميع الآديان , فهى ذو طابع دينى وفلسفى , وهى إجماعا على أنها ذات قائمة بنفسها , ذو طبيعة معنوية , غير محسوسة ولا ملموسة لبشر , وبالطبع أختلف العلماء بين الروح والنفس , فهناك جدليات فى الآديان وفى الفلسفات حول طبيعة الروح وكيفية تعريفها والموت إذا ما جاء للجسد , فالروح فى تلك الحالة تقبض وتفصل عن الجسد وتفارقه , وهناك بعض البشر يشبهون النائم بأنه يشبه الميت , لآنه الحالتان متشابهتان , إلا أن الآنسان حين ينام تظل الوظائف الحيوية للجسم تعمل , وهناك إناس يطلقون على النوم بالموت الآصغر , , والروح سر أو لغز من ألغاز الحياة , لا أحد يعلم سرها , فعندما سؤل الرسول ( ص ) عن الروح , ماذا قال ؟ قال : الروح من أمر ربى , فالسؤال صعب ومحير , لكن الرد كان مقنعا بما فيه الكفاية , رغم أنه كان مقتضبا , ونحن مهما توصلنا من علم , فالعقل لا زال قاصرا عن معرفة المعنى الصحيح للروح , وهذا سر من أسرار الله تعالى الذى لم يعلمه لآى إنسان .
وخلال حديثى مع الاصدقاء لهم , بصراحة أنا لا أخاف من الموت , لان الموت هو الحقيقة الوحيدة التى يدركها أى إنسان , حين يعلم بوجوده على ظهر الدنيا , ولآن التصوير الخاطئ للموت هو الذى يخيفنا من الموت , ويجعلنا فى حالة رعب وهلع لدرجة الكراهية , وأنا أعرف إناسا لديهم وسواس قهرى من الموت , وفى أعتقادى الشخصى , أن الآنسان الذى أنجب أطفالا , لا يموت , لآن المثل يقول ( الذى خلف ما مات ) , لآن أولاده هم أستمرارية لحياته على الآرض , وأنا أؤمن بهذا المثل تماما , وأنا عندما تزوجت , تأخرت عن الخلف لأكثر من عام , وكدت أصاب من الخوف , لآنى مدركا بماهية الخلفة , وكنت أملا فى ولد يخلد ذكراى على ظهر الدنيا , فهل الانسان مخلوق للبقاء والخلود على ظهر الدنيا , بالطبع لآ , فهناك مفاهيم خاطئة للبقاء والفناء .
الموت حقيقة يجب ألا نهرب منها , ولزاما علينا أن نواجهها , لآنها الحقيقة المرة فى حياتنا , فالفقر يهون , وحياة التصحر تهون , والتشرد يهون , والتيتم يهون والعطش لساعات طوال يهون والجوع يهون , كل هذا يهن , إلا الموت لآنه واقع لا محالة , وإذا كان أنسان مؤمنا بتلك الحقيقة , هان عليه الموت , أما الذين يخافون الموت إنما يعانون أغلبهم من الوساوس القهرية وهذه الوساوس تؤرق حياتهم وتدخلهم فى صراعات نفسية , إن الذين يخافون من الموت , إنما هم يخافون من ترك الاعزاء , أو حرمانهم من نعيم الدنيا وملزاتها , أو أنهم سوف يحرمون من المال الذى جمعوه طيلة حياتهم وركضوا سنوات عمرهم وجمعوه , أو من منظر القبر وظلمته , فعندما كنت أدفن شقيقتى الكبرى , صممت على أن أنزل للقبر كى أساعد فى دفنها , وإذا أجد القبر موحشا , لا أستطيع أن أشرح ما رأيته , فيالها من صدمة كبيرة بالنسبة لى , لا يوجد أكسجين كى أتنفسه , ولا يوجد وسائد للراحة وكراسى قطيفة , أحسست أن مشاعرى أهتزت , وتحاورت مع نفسى , لماذا نكره هذا المكان المظلم , رغم أن فيه الراحة الآبدية للأنسان ! وعدت بذاكرتى للوراء عندما كنت فى حرب أكتوبر , وأنا أدفن زملاء لى فى مقابر الشهداء , لماذا إذن أخاف من الموت , فأنا لا أعرف الوساوس , ولم يتملكتى الخوف يوما , فأنا كنت أكل لحم الثعابين والارانب نيئة , عندما كنت فى الجيش , أنا لا أخاف من الموت لآن فى داخلى رجل قوى , لم يعرف القلق أو الجبن يوما , فأعلنت لآصدقائى خلال حديثنا , بأنى شاهدت الموت عدة مرات , لآنى واجهت الموت ألاف المرات حين كنت أحارب فى حرب تحرير سيناء , ورأيته حين كنت طفلا صغيرا , فكنت ألعب فوق بالوعة صرف صحى , وقدر لى أن أسقط بها , ولكن عمر الشقى بقى , ورأيت الموت حين مرضت ووصلت الى مرحلة اللاوعى , وأنفصلت عن الدنيا , وعدت للدنيا بأعجوبة , ورأيت الموت حين شاهدت باصا يدهس شيخا فركضت مسرعا لآنقظه من الموت , ورأته وهو ينتفض والروح تحاول أن تخرج من جسده , إذن لناذا أخاف من الموت وهو قريب منا فى أى لحظة وفى أى مكان نذهب إليه , أن أكثر الناس لا يفكرون فى الموت , لآنهم متكالبين على الحياة أكثر من اللازم , الموت هو الشيئ الوحيد الذى لا نستطيع تجاهله , فأنا دائما أذهب للقبور , ليس لجمالها ولكن لزيارة قبر أمى , لآنى كنت وعدتها بأن أزورها حين تموت كل شهر , وأنا أفى بعهدى معها منذ أربعين عاما , أذهب لها كى أدعوا لها , وأحيانا أبكى على قبرها عندما تضيق بى الدنيا وأجدنى مخنوقا من أفعال الناس وتصرفاتهم الهوجاء , ودائما أسأل نفسى قبل النوم وأحاسبها , ماذا قدمت اليوم من خير للبشر , وهل أنا أسأت التصرف مع أحد , إنه حديث الروح مع النفس قبل أن أموت الميتة الصغرى ألا وهو النوم .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟