أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الجادرجي في أمسية ثقافية بلندن يتحدث عن تأثير ثورة 14 تموز على الفن العراقي















المزيد.....


الجادرجي في أمسية ثقافية بلندن يتحدث عن تأثير ثورة 14 تموز على الفن العراقي


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 3456 - 2011 / 8 / 14 - 11:12
المحور: الادب والفن
    


سلسلة محاضرات مؤسسة "ARK" بلندن (2)
نهضة الفن العراقي كانت تحت المظلة الإنكليزية
النقلة الجذرية التي أحدثها عبد الكريم قاسم هي إلغاء الدولة

أقامت مؤسسة "ARK" بلندن أمسية ثقافية للمعماري العراقي رفعت الجادرجي وقد ساهم في تقديم الأمسية وإدارة الندوة الفنان والناقد التشكيلي يوسف الناصر. تمحورت الندوة حول تأثير ثورة تموز على الفن عموماً، والمعمار والرسم بصورة خاصة باعتبار الجادرجي معمارياً وصديقاً للفنانين العراقيين الذين عاصرهم وشاركهم أحلامهم في تلك الحقبة الزمنية. استهلّ الجادرجي حديثه بالقول:"إن ثورة 14 تموز عام 1958 أحدثت تغييراً جذرياً في بنية المجتمع العراقي"، ثم تساءل عن الكيفية التي نفهم بها هذا التغيير الجذري فاستشهد بمقولة شائعة في العلوم الفيزيائية والبيولوجية مفادها:" إذا اكتشفتَ شيئاً فعليك أن توحي بأصل ذلك الشيء، وإذا اكتشفت أصل ذلك الشيء فعليك أن تبدأ بالانتقال من أصلٍ إلى أصل إلى أن تصل إلى مكان يتوقف فيه العلم بسبب عدم المعرفة التي تفضي في نهاية المطاف إلى حالة شك". أشار الجادرجي بأنه حينما درس العمارة فإنه كان يدرسها بهذه الطريقة، وهو لا يميل إلى عملية وصف هذا الطراز مع طراز آخر، لأنه يعتقد أن هذه العملية قد حققها آلاف من الكتّاب الأوروبيين وعشرات من الكتّاب العرب، وأن قسماً من هذه الدراسات المعمارية جيدة، أما القسم الآخر منها فهي سطحية جداً. أكد الجادرجي بأنه طرح منذ زمن مبكر من دراسته سؤالاً مهماً يمكن صياغته بالشكل التالي: "ما الدينامية التي تحرّك العمارة"؟ وظلّ يبحث في هذا السؤال ويتعمّق فيه إلى أن قدّم أطروحته عام 1950 إلى الكلية التي درس فيها عن هذا الموضوع. وانطلاقاً من ذلك السؤال العميق واجه الجادرجي حضوره بسؤال آخر صاغه بصيغة استفهامية غير مبطنّة: ما الذي يحرِّك المجتمع العراقي؟ إذ انتقد فيه القائمين على الندوة وعلى بعض الحضور الذين تأخروا كثيراً عن الموعد المقرر لبدء المحاضرة. واسترسل في الحديث عن هذا الحدث قائلاً:" كان علينا أن نباشر الساعة السابعة والنصف ولكننا تأخرنا مدة ساعة تقريباً. ثم تساءل عن مسببات هذا التأخير غير المُبرر فقال إننا كمجتمع عراقي تعوّدنا في توقيت حياتنا اليومية على الآذان، بينما يوقِّت الأوروبي حياته عن طريق ناقوس الكنيسة الذي يدق حسب توقيتات محددة، وليس حسب الشمس كما نفعل المسلمين في صلواتنا الخمس، فالناقوس أكثر دقة من الآذان الذي ننتظره من رجل معمّم. وضرب مثالاً في هذا السياق نقلاً عن أحد أصدقائه المصريين الذي ذكر له بأن هناك فرقاً قد يصل إلى ثلاثين ثانية أو دقيقة كاملة أو أكثر في مواعيد الآذان بين الجوامع المصرية وعندما يؤذِّن أكثر من "700" مؤذن تحدث فوضى كبيرة في هذه الآذانات المتداخلة لأنهم لا يستعملون الساعة في توقيتاتهم"! توصّل الجادرجي بواسطة هذا المثال إلى أن ثقافتنا العربية الإسلامية ليست مبنية على الدقة والأرقام والتوقيتات المضبوطة مع الأسف الشديد، وعزا السبب إلى أننا كعراقيين لم نحكم أنفسنا بأنفسنا منذ أزمنة قديمة، وليس فقط منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ولحد ثورة 14 تموز مدار حديثنا وموضوع ندوتنا. قال الجادرجي بأن الساسانيين حكمونا نحو ألف سنة، ثم حكمتنا قريش نحو ألف سنة أخرى، ثم تناوب على حكمنا الفرس والعثمانيون والإنكليز، ووصف هذه المراحل كلها بأنها متشابهة لأنها مبنية على آيديولوجيات معينة غير أنه ميّز الديانة الزرادشتية وتفرعاتها في اليهودية والمسيحية والإسلام. وأضاف المحاضر قائلاً: "حينما نقرأ الدين الزرادشتي فمن الصعب أن نفرّقه عن الأديان الأخرى لأنه أساس الأديان الأخرى". ثم تجاوز الجادرجي الحديث عن الأديان إلى النقلة التي أحدثتها ثورة تموز عام 1958، لكنه انتقل فجأة إلى القول بأن منْ يعتقد أن الفنون قد ازدهرت بعد ثورة 14 تموز فهو واهم. وأكثر من ذلك فإن الجادرجي يعتقد أنه قبل عام 1920 لا يوجد فن في العراق، وإنما توجد زخرفة إسلامية فقط، أما في أوروبا التي مرّت في خمس مراحل وحدثت فيها تطورات جذرية في مفهوم العمارة والإنشائية وغيرها من المفاهيم. ربما مرّ العالم الإسلامي بمراحل تطور لكنها ليست مشابهة تماماً للمراحل الأوروبية، ولكن ثمة خطأ ما هنا أو هناك علينا أن ندرسه ونبحث فيه جيداً شرط أن لا نقع أسرى للمقولة الوهمية التي رسختها العديد من الكتب العربية الحديثة التي تقول بالفم الملآن بأن لديهم حضارتهم ولدينا حضارتنا. يجزم الجادرجي بأن هذه المقولة الخاطئة لا أساس لها من الصحة وقد وصفها غير مرة في محاضرته بأنها "كلام فارغ"، لكنه عرّج على القول بأننا نمثل الجزء المتخلّف من هذه الحضارة الكونية، وعلينا أن نبحث صورة التخلف هذه ونرجع إلى الأصل أيضاً، فالدراسات يجب أن لا تقتصر على القشور حسب، وإنما تستهدف لباب الأمور وجواهرها.

تربية إنكليزية
أشار الجادرجي بأن الإنكليز دخلوا العراق عام 1920 واحتلوه ولم يكن فيه آنذاك جامعات أو معاهد، كما أن النساء لم يكن يدرسن في المدارس إلا لماما، ولم يكن هناك برلمان أو دولة بالمعنى المتعارف عليه، وإنما كانت هناك مؤسسة بلدية واحدة في كرخ بغداد تديرها الدولة العثمانية، ولكن حينما استقرت القطعات العسكرية الإنكليزية في العراق أنشأوا دولة، وأسسوا برلماناً، وبنوا معاهد وكليات تدرس فيها الطالبات إلى جانب الطلاب. وقد أشار الجادرجي غير مرة بأنه يتحدث في هذا الموضوع ليس كقارئ وإنما كمشاهد عايش الأحداث وعاصرها بتفاصيلها الدقيقة. ذكر الجادرجي بأنه ذهب إلى المدرسة وعمره ثلاث أو أربع سنوات وكان نصف الطلبة في حينه بنات إضافة إلى البنين الذين يمثلون النصف الآخر في بغداد أو في غيرها من المحافظات العراقية الرئيسة في الأقل. ومن بين الأمثلة التي تدلل على الجانب الحضاري أيام احتلال الإنكليز للعراق وبالذات عام 1937 كان كامل الجادرجي، والد رفعت قد استلم رسالة من دائرة البريد والبرق الإنكليزية موقعّة من قبل مدير تلك المؤسسة يقول فيها:" نحن متأسفون لأن المجلة قد جاءت باسمك بينما سُلِّمت إلى كامل الكيلاني، وقد سحبناها منه والآن نقدمها إليك مع الاعتذار. توقيع مدير البريد والبرق الإنكليزي". بعدها بمدة من الزمن كان قسم كبير من البريد يهمل ويتلف أيضاً فارتأت الحكومة حلاً بسيطاً وهو أنها لا تتبنى عملية توزيع البريد لأنها لا تمتلك المواصفات الحضارية التي يمتكلها الإنكليز أنفسهم كما في المثال الذي ساقه الجادرجي أعلاه. ذكر المحاضر بأن الإنكليز بدأوا ببناء المعاهد عام 1920 وأن فايق حسن وجواد سليم ومحمد مكية ومدحت علي مظلوم وغيرهم من المعماريين والفنانين والمفكرين هم تربية إنكليزية صرف، وهو لا يتحدث، كما أكد غير مرّة، كقارئ للتاريخ والأحداث، وإنما كشخص عاش معهم، وتحدث مطولاً مع سفرائهم، وبحث معهم العديد من القضايا المهمة في اجتماعات حدثت سواء في منزل فايق حسن أو جواد سليم أو في بيته لاحقاً بعد عام 1954، وكان معه بعض الشخصيات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية وقد تعلموا منهم أشياء كثيرة لا يمكن حصرها في هذا المجال. يخلص الجادرجي إلى القول بأن نهضة الفن العراقي كانت تحت المظلة الإنكليزية إثر تأسيس الدولة وبناء المعاهد والكليات وما إلى ذلك من المظاهر المدنية الحديثة. ذكر الجادرجي بعض الوقائع التي تدلل على أن الهاشمي كان رجلاً متحضراً بكل المقاييس فقد كان يزوره في عام 1934 و 1935 بينما كان عمره ست أو سبع سنوات ويلقى من الهاشمي كل أشكال الاحترام والتقدير وكأنه يستقبل رجلاً ناضجاً يجالسه ويتحاور معه محاورة الند للند. أشار الجادرجي بأن أغلب الحاضرين ربما قرأ أشعار الرصافي والزهاوي، ولكنه كان يعرفهما من كثب لأنه كان يذهب يوم الجمعة إلى منزل محمود صبحي الدفتري لحضور القبول صباحاً فيأتي الزهاوي وكان الجادرجي يجلس إلى جواره فيكلمه في أمور الأدب والفن، ولأن الجادرجي لا يقرأ الشعر العربي ولا يعرف طريقة نظمه فإن الحوار كان يتحول إلى معرفة الجادرجي بالإنكليزية والشعر الإنكليزي الذي كان يكتبه بعد أن تعلم اللغة الإنكليزية وأتقنها، أما الأشياء التي يكتبها باللغة العربية فكان يعطيها إلى شخص آخر يصحح له ما يكتبه باللغة العربية، ويعترف بأن هذا نقصاً كبيراً ولكنه حقيقة واقعة. عزا الجادرجي النهضة الفكرية التي حدثت بعد ثورة 1958 إلى الانفتاح في الحرية والفكر، وقال بأن النهضة الأدبية والفنية لا تحدث في التاريخ وفي أي مكان من الكرة الأرضية ما لم تكن هناك حرية فكرية. طرح الجادرجي سؤالاً جوهرياً مفاده: هل أن الفكر حر أم أن هناك فكراً آخر خارج الفكر هو الذي يقود الفكر نفسه؟ وتوصل الجادرجي إلى أن حضارتنا العربية مبنية على فكر يقود الفكر، ولكنه لم يوضح حيثيات هذا الموضوع الإشكالي الذي يحتاج إلى وضع النقاط على الحروف وتوضيح هذه الفكرة الشائكة والملتبسة. إن الحرية الفكرية التي حدثت في العراق سواء في عشرينات أو أربعينات القرن الماضي هي حرية يعود فيها الفضل إلى الإنكليز والغرب الأوروبي عموماً. ذكر الجادرجي بأنه عاش مع عدد من الفنانين والمعماريين العراقيين الذين تلمسوا هذه الحرية الفكرية والفنية من بينهم من الجيل الثاني عبدالله عوني، بلند الحيدري، خالد الرحال، نسيم داود الذي ترجم القرآن ترجمة دقيقة وجميلة، أما الجيل الأول فيتمثل بمدحت علي مظلوم، جواد سليم، عبد اله إحسان، جعفر علاوي وغيرهم، وهؤلاء، كما يؤكد الجادرجي، كانوا قادتهم بتشجيع من المراكز الثقافية الإنكليزية والفرنسية والألمانية التي كانت نشطة جداً وكان ثمة تجاوب كبير بين الطرفين. يعتقد الجادرجي بأن السيارة لم يخترعها العالم الأوروبي من أجل الهند أو العراق أو بريطانيا فقط، وإنما اخترعها من أجل الإنسانية قاطبة. وأضاف نحن الجالسين على هذه الكراسي المريحة لم يخترعها المخترع من أجل إنسان ينتمي إلى بلد محدد وإنما اخترعها من أجلنا جميعاً ولولاها لكنا جالسين على فرشات مبسوطة على الأرض.

الجادرجي وعبد الكريم قاسم
كما أشرنا أكثر من مرة بأن الجادرجي لا يتحدث عن الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم على وفق ما قرأه في الكتب أو سمعه من الإعلام العراقي آنذاك، وإنما عن معايشة حقيقية لأنه كان المعماري الخاص الذي يخطط وينفذ المشاريع التي يطلبها قاسم نفسه. يقول الجادرجي بأن عبد الكريم قاسم كان يدعونا نحن المدراء العامين في الساعة الثامنة فنقعد مع الحاشية لساعات طوال نسمع منهم مَنْ الذي سيترفع ومن الذي سيُزاح أو يُبعد وما هي القرارات التي ستصدر وما إلى ذلك، ولكن دورنا يأتي في حدود الساعة الثالثة أو الرابعة ليلاً! وطبعاً أن الوزراء وبقية الموظفين مضطرون لأن يذهبوا إلى الدوام غداً صباحاً. أما النقلة الجذرية التي أحدثها عبد الكريم قاسم، كما يقول الجادرجي متهكماً ومُنتقداً، فهي إلغاء الدولة، إذا لا برلمان، ولا صحافة، ولا قانون صحافة حتى أن أحد الوزراء قد قال في إحدى الاجتماعات بأن الشيء الذي يقوله الزعيم عبد الكريم قاسم هو قانون بحاله. أما الشيء الذي فعله عبد الكريم قاسم فهو التخطيط العبثي، فبينما هو جالس في سيارته تأتيه فكرة خاطفة في رأسه ومخيلته المشتعلة فينفذها على الفور من دون أية دراسة أو تخطيط مسبق. وقد أورد الجادرجي مثالاً غريباً في هذا الصدد إذ قال كانت إحدى الشركات منهمكة في تقديم مقترح لتخطيط مدينة بغداد وفي حينه رأيت الخريطة التي قدموها له وكان طولها أربعة أمتار تقريباً، ولاحظت شريطاً أزرق رفيعاً فوق تخطيط المدينة ممدوداً من بداية الخريطة إلى نهايتها، وحينما سألت رئيس المصممين عن هذا الشريط تحديداً قال: "لقد جاءتنا فكرة أن نحفر قناة في المستقبل البعيد تربط بين دجلة ونهر ديالى"، فقلت في نفسي لا بأس، ولكن بعد يومين أو ثلاثة أيام رقد عبد الكريم قاسم في المستشفى، وقد طلب مني في حينه أن أزوره في المستشفى بسبب الاختلاف على موقع الملعب الذي أراده هو في مكان محدد وأنا أردته في مكان آخر. ذهبت أنا وأحد الوزراء إلى المستشفى وأخيراً وافق على المقترح الذي تقدمت به. ويمضي الجادرجي في حديثه عن هذه الحادثة إذ قال لففت الخريطة وغادرت المستشفى، ولكنني فوجئت في اليوم الثاني وإذا بعد الكريم قاسم يخطب ويقول: "سنقوم بإنشاء قناة تربط بين دجلة ونهر ديالى"، هذه القناة التي لم يُخطط لها أصلاً، ولم تُدرس دراسة عميقة. هكذا كان الزعيم قاسم يفكر، وهكذا كان يتخذ قراراته العاجلة التي تفتقر إلى التأمل والدراسة والتفكير. كان الجادرجي يعرف أكثر من غيره بأن الوزراء والمسؤولين الكبار في الدولة غير مرتاحين للاجراءات والقرارات الفردية التي يتخذها الزعيم من دون العودة إلى البرلمان أو أعضاء الحكومة. يعتقد الجادرجي بأن الدولة قد أفسدها نوري السعيد قبل مجيئ قاسم الذي ألغى الدولة تماماً، وهو يرى أن هناك سببين رئيسيين: الأول أن الإدارة الإنكليزية قد خططت للعراق أن يكون دولة ليبرالية ديمقراطية متقدمة وأن نصف موظفي السفارة البريطانية آنذاك كانوا يبنون جهاز الشرطة العراقي بناءً محكماً، أما الثاني فإنهم كانوا يريدون أن يكون العراق جزءاً من مقاطعة الهند، وهذه المسائل منشورة ومعروفة للمهتمين بالشأن البريطاني الذي له علاقة بالعراق. عرف الجادرجي، بواسطة علاقاته الواسعة مع المسؤولين والبرلمانيين العراقيين الذين كان يلتقيهم في أوقات كثيرة بسبب سكنه المجاور لمبنى البرلمان العراقي آنذاك، أنه ليس من مصلحة بريطانيا أن يبقى العراق حراً لأن لديها مصالح استراتيجية ونفطية واقتصادية، إضافة إلى معاركها مع الاتحاد السوفييتي ومعركتهم الرئيسة مع أميركا لأن الدولار بدأ تدريجياً يحل محل الجنيه الإسترليني. أكد الجادرجي بأنه التقى بأغلب السياسيين العراقيين، لكن الشخص الوحيد الذي لم يلتق به هو نوري السعيد الذي كان ذكياً جداً ويتمتع بعقلية عسكرية ممتازة، لكنه لا يستطيع أن يستوعب النقد والأجواء الديمقراطية والتسوية، كان يعرف أن يحسب أية قضية مثل أي قائد عربي في الوقت الحاضر وهذا ما أفسد الدولة العراقية التي ألغاها قاسم حينما جاء لاحقاً، ثم تدهور الأمر حينما توالى العسكريون والمغامرون على سدة الحكم في العراق. كان قاسم منفتحاً، بحسب توصيف الجادرجي، كما كان صدام منفتحاً أيضاً، ولكنه ما أن بقي في الحكم حتى انتابه الشعور بأنه ذكي و عبقري وملّم بكل الأمور، وهنا تكمن الطامة الكبرى. ضرب الجادرجي مثالاً في هذا السياق حينما كلّف صدام حسين عدداً من المختصين أن يتصلوا بشركات فرنسية لكي يؤثثوا مقره فجلبوا له أجمل الأثاث الموجود في العالم، ولكنه ما أن رأى الأثاث حتى أعرب عن انزعاجه فأمرَ برفع الأثاث الفرنسي الجميل وإرساله إلى أمانة العاصمة وجلب بدله أقبح أنواع الأثاث، وحينما تدخل الجادرجي قائلاً بأن الأثاث الفرنسي مناسب قال صدام حسين: "لا، لا أستاذ رفعت أرجوك خلينا" فلزمت الصمت.
أوضح الجادرجي بأن عبد الكريم قاسم كان عجولاً في الكثير من الأمور وذات مرة طلبَ من رفعت الجادرجي بواسطة قائد الفرقة الخامسة علي غالب عزيز أن يصمم له ثلاثة أنصاب وهي الجندي المجهول، 14 تموز ونصب الحرية فقال له: أهو مستعجل على هذه تصاميم؟ فأجابه: أنه يريدها غداً في الساعة العاشرة! انتهى الجادرجي من تصميم نصب الجندي المجهول خلال نصف ساعة وأعطاه إلى رسّام محترف، فالجادرجي، كما هو معروف، معماري محترف ويتوفر على خبرة عميقة ومتراكمة كما أنه اتخذ من طاق كسرى أنموذجاً له فأنجز تصميم النصب بأسرع ما يمكن. أما فيما يتعلق بنصب 14 تموز فقد حار الجادرجي، ولكنه لاحظ في تلك الأثناء أن الشوارع كانت تكتظ بآلاف المتظاهرين العراقيين على الرغم من حرارة الجو الخانقة وهم يحملون لافتات طويلة جداً فقال في نفسه: لماذا لا أصمم لافتة طولها "52" متراً، وذهب في اليوم الثاني إلى عبد الكريم قاسم الذي لم يكلف نفسه عناء النظر إلى التصميم لأنه كان يعتمد كثيراً على الجادرجي. ثم ذهب إلى الفنان جواد سليم وقال له: "عندك لافتة كونكريتية طولها "52" متراً، وارتفاعها ستة أمتار، بينما ترتفع عن الأرض عشرة أمتار". فردّ جواد سليم مدهوشاً:" لم يُقَم مثل هذا النصب منذ زمن الآشوريين"! فأجابه الجادرجي:" أننا سنقيم هذا النصب" فبدأ العمل عليه مباشرة.

شارع الكتّاب والمفكرين والساسة
تحدث الجادرجي عن الفن العراقي قبل ثورة تموز وبعدها وتحديداً في عام 1940 إلى عام 1946 حينما كان في بغداد وكان له اتصال بشارع طه، الشارع الصغير الذي يتواجد فيه "62" كاتباً ومفكراً وسياسياً بضمنهم قحطان عبدالله عوني، عبد الملك عبد اللطيف نوري، مدحت على مظلوم، فتحي صفوت، عدنان رؤوف، نزار سليم وآخرين. كانت مجموعته المؤلفة منه شخصياً ومن قحطان عوني وبلند الحيدري الذي يعرفه منذ عام 1933. وكان خال بلند، درويش الحيدري مديراً لمزرعة بالرستمية، فكانوا يذهبون إلى المزرعة كل سنة ويصيِّفون هناك لمدة ثلاثة أشهر. حاول الجادرجي أن يكون رساماً لكنه لم يستطع. توسعت مجموعتهم في شارع طه حيث كان يأتي إليهم نزار سليم، بلند الحيدري وخالد الرحال، ثم تطورت علاقته بنسيم داود الذي ترجم القرآن الكريم ترجمة جميلة وباع منها العدد مليون. أضاف الجادرجي بأنه حينما أنهى الدراسة المتوسطة قرر أن يدرس الكهرباء غير أن نسيم داود اكتشف عنده القدرة على كتابة الشعر باللغة الإنكليزية لدرجة أن صحيفة بريطانية نشرت بعض قصائده وأن أحد المستشارين الإنكليز في وزارة المعارف العراقية طلب منه أن يقرأ له شعرنا على أن يقرأ المستشار شعرهم الإنكليزي للجادرجي فقال له نسيم داود بالحرف الواحد:" أليس من العيب أن تتخصص بدراسة الكهرباء ولا تدرس شيئاً فنياً"؟ فردّ عليه الجادرجي قائلاً:"إنني لا أعرف الرسم ولا التمثيل ولا الغناء، فماذا تريدني أن أدرس"؟ فردّ نسيم في الحال: الهندسة المعمارية. أعجبته الفكرة فطرحها على والده كامل الجادرجي ثم على صديقه قحطان عوني الذي بدّل اختياره هو الآخر من البيولوجي إلى الهندسة المعمارية أيضاً، ثم بدأ قحطان يتحرك بواسطة خاله الرسّام الذي كانت تربطه علاقات جيدة مع فنانين عراقيين مثل مدحت علي مظلوم، جعفر علاوي، فايق حسن، جواد سليم وآخرين كانوا يسهرون كثيراً ويعربدون وينجزون أعمالهم الفنية في الوقت ذاته. توقف الجادرجي عند الرسام والمهندس المعماري مدحت علي مظلوم وتمنى على الحاضرين لو أن أحد الأدباء أو الصحفيين العراقيين يستطيع أن يكتب تاريخ هذا الفنان أو سيرته الذاتية والإبداعية لأنه لعب دوراً مهماً في العراق آنذاك. كان مدحت على مظلوم مهندساً معمارياً متميزاً وكان على صلة مباشرة بأربعة "أسطوات" عراقيين هم الذين ينفذون المشاريع العمرانية ويشيّدون القصور والعمارات الحديثة ويمتلكون خبرات حِرفية مميزة في هذا المضمار. كان المهندس والفنان مدحت علي مظلوم يحترم هؤلاء الأسطوات ولا يميل إلى التمييز بينهم وبين الطبقات الاجتماعية الثرية وحاول جهد إمكانه أن يرسِّخ فكرة احترام أصحاب المهن الذين يشكلِّون جزءاً كبيراً من بنية المجتمع العراقي. أشار الجادرجي إلى الاجتماعات التي كانت تنعقد في بيت فايق حسن أولاً وكانت تضم كلاً من الرسام والنحات جواد سليم، الرسام محمود صبري، المصوِّر عيسى حنا، المعماري إحسان عوني، المعماري رفعت الجادرجي، المحامي محمد عبد الوهاب الذي كان ملماً بالمقام والموسيقى، والرسام زيد صالح الذي كان والده ضابطاً في الجيش العثماني ورساماً في الوقت ذاته. وعلى الرغم من انسجام هذه المجموعة وتآزرها إلا أنها لم تسلم من الاحتدامات التي قد تصل إلى حد الخصومة بسبب الأسئلة المحرجة التي كان يطرحها بعض أفراد هذه المجموعة ومن بينها السؤال التالي: هل أن الفنان حر في المجتمع ويستطيع أن يرسم ما يشاء، أم يجب عليه أن يخدم المجتمع وينصاع لرغباته وتوجهاته الفنية والفكرية؟ يعتقد الجادرجي أن هناك القليل من الفنانين سواء العراقيين والعرب أو الأوروبيين الذين يمتلكون وعياً حاداً وعمقاً في الفن وتاريخ الفن مثل فايق حسن. وسرد على مسامعنا قصة اللقاءات التي حدثت بينهما في لندن عام 1946 حيث كان فايق يصطحبه كل يوم تقريباً إلى أحد المتاحف ويشرح له العديد من الأعمال الفنية المهمة، وكان الجادرجي يقف مذهولاً أمام هذا الكم الكبير من المعلومات الدقيقة التي لا يصدقها العقل. أما موقع الجادرجي ضمن هذه المجموعة فكان يتمثل بأطروحته الأكاديمية أو نظريته التي تتمحور حول "دينامية العمارة أو آليتها"، ونتيجة للجدل الفني والفكري والنظري انقسمت الجماعة إلى قسمين حيث ذهب جواد سليم مع أنصاره وأسسوا "جماعة بغداد"، أما جماعة الجادرجي فأسسوا "جماعة الروّاد" ثم تواصلت علاقة الجادرجي بقحطان الذي كان يلتقي به كثيراً قبل أن يسافرا إلى إنكلترا لمواصلة مشروعهما الدراسي. ختم الجادرجي حديثه بالقول:" إن هذه العلاقات الفنية والاجتماعية هي التي هيأت الحركة الفنية لما بعد 14 تموز"، أي أنه يرى بأن ثورة 14 تموز لم تخلق حركة فنية، وإنما هيأت هذه الحركة الفنية لكي تأخذ طريقها إلى ما بعد ثورة 14 تموز.
وفي ختام هذه التغطية لابد من الإشارة إلى أن الأستاذ رفعت الجادرجي من مواليد بغداد عام 1926. درس العمارة في إنكلترا، ومارس عمله في العراق وعدد من البلدان العربية. شغل العديد من المناصب في الدولة العراقية، وقد سُجن، مع الأسف الشديد، نحو عشرين شهراً في حقبة النظام الدكتاتوري السابق، لكنه نجا بجلده في خاتمة المطاف وتمكن من الوصول إلى لندن مع زوجة الأديبة بلقيس شرارة. التحق كأستاذ زائر بجامعة هارفارد، وقدّم الكثير من المحاضرات في حقل اختصاصه، كما نال العديد من الجوائز من بينها "جائزة الشيخ زايد "يرحمه الله" للكتاب عام 2007. أصدر الجادرجي عدداً من الكتب القيّمة وهي على التوالي: "صورة أب، شارع طه وهمر سميث، ملف 12 أجية لرسوم معمارية، ملف 8 أجيات لتصاوير كامل الجادرجي، مفاهيم ومؤثرات، الأخيضر والقصر البلوري، حوار في بنيوية الفن والعمارة، المسؤولية الاجتماعية لدور المعمار، أو المعمار المسؤول، مقام الجلوس في بيت عارف آغا، المقدمة لمذكرات كامل الجادرجي وتاريخ الحزب الوطني الديمقراطي، جدار بين ظلمتين بالإشتراك مع بلقيس شرارة، تنشئة النظام الديمقراطي في العراق، وفي سببيّة وجدليّة العمارة".



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صلاح نيازي يرصد التغييرات التي طرأت على الأدب والفن بعد ثورة ...
- عبد المنعم الأعسم يتحدث عن ثقافة التسامح
- تحديات الإعلام العراقي في الداخل والخارج
- الصدمات و الكراهية في السياق العراقي
- قاسم حول: -المغني- فيلم متميز في مضمونه وشكله وقيمه الجمالية
- خالد القشطيني يقرأ بعض حكاياته ويوقّع كتابه الجديد -أيام عرا ...
- الواقعية الجديدة في -زهرة- بارني بلاتس
- -حديث الكمأة- لصبري هاشم أنموذج للرواية الشعرية
- أسرار فرقة الدونمه ودورها في المجتمع التركي الحديث (3-3)
- الدونمه بين اليهودية والإسلام . . . مسوّغات العقيدة المُزدوج ...
- الدونمه بين اليهوديّة والإسلام (1-3)
- (اسأل قلبك) للمخرج التركي يوسف كيرجنلي
- مهرجان بغداد السينمائي الدولي مُلتقى لشاشات العالم
- قبل رحيل الذكريات إلى الأبد (3-3)
- السينما الطلابية في العراق. . محاولة لصياغة مشهد سينمائي مخت ...
- (قبل رحيل الذكريات إلى الأبد) لفلاح حسن ومناف شاكر (1-3)
- -فرقةُ القرّائين اليهود- للدكتور جعفر هادي حسن (الجزء الثاني ...
- -فرقةُ القرّائين اليهود- للدكتور جعفر هادي حسن (الجزء الأول)
- فيلم (كولا) ومضة تنويريّة تسحر المتلقي وتمَّس عاطفته الإنسان ...
- الرحيل من بغداد وهاجس المطاردة الأبديّة


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الجادرجي في أمسية ثقافية بلندن يتحدث عن تأثير ثورة 14 تموز على الفن العراقي