أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل عودة - الميت يتذوق قهوة وتمر أجره















المزيد.....

الميت يتذوق قهوة وتمر أجره


نبيل عودة
كاتب وباحث

(Nabeel Oudeh)


الحوار المتمدن-العدد: 3434 - 2011 / 7 / 22 - 10:30
المحور: الادب والفن
    



النظرات في عيني الطبيب لا تكذب، رغم ان كلماته لم تنقل ما ينعكس في عينيه. لو قال بوضوح ان الحالة ميئوس منها، لما فاجأ أحد من أهل البيت، كان واضحا ان مرض أب البيت في مراحله الأخيرة.. و رفض أن يموت في المستشفى..وأصر ان يموت في بيته.
كان يفلسف اقتراب موته بقوله ان الموت يشكل أحد أهم تحديات الحياة، وانه لا يختلف عن تحديات الولادة.وهو يريد ان يواجه هذه التجربة في بيته، هناك ولد وهناك سيسلم روحه.
وقال ربما لو قيل لي قبل سنوات ، وانا في نشاطي وحيويتي ان موتي قد حان، لشعرت بالرعب،أما اليوم ، وأنا أرى نفسي جسدا مشلولا موجوعا، فاني أرى الموت مكسبا. لا أريد ان أرى حزنا حولي. اتركوني أغمض عيني ألاغماضة الأخيرة وانا وسط أبنائي وأحفادي.. هذا هو ما كسبته من حياتي، وهو لا يقدر بثمن. الحياة ليست بدون نهاية، وما يريحني اني أنجزت حيوات كثيرة ، تحيطني اليوم بالحب .
كان يعرف حالته، ويعرف ان حياته على الأرض وبين أهله ، هي لحظات قد تقصر وقد تطول بعض الشيء، ولكنها لن تتجاوز الأيام القليلة ما دون الأسبوع أو أكثر قليلا.
وضعوا سريره أمام التلفاز لعل ذلك يسري عنه بعض الشيء.ولكن ضجيج التلفاز كان يزعجه حين يواجه الامه الحادة. كانت غفواته أكثر من صحواته، وطلباته تستجاب ، ودائما يجد حوله أهل البيت.. زوجته، أولاده وزوجاتهم، بناته وأزواجهن، أحفاده.. هذا ما أراده بالضبط، أن يموت بين أحب الناس إلى قلبه. كان يشعر بالراحة انه وسط من أحبهم وأحبوه، رغم يقينه أن حياته بيولوجيا قد انتهت . ويسعده ضجيج أحفاده حوله، وطالبا من زوجته إلا تزجرهم وتتركهم على طبيعتهم يمرحون ويضجون، وان تصور لهم غياب جدهم القريب كانتقال من حالة المرض الشديد والآلام القاسية، التي كانوا شهودا لها إلى حالة الراحة.. وترتفع الابتسامة على شفتيه وهو يسمع أصواتهم ويشاهد ألعابهم، لدرجة انه ينسى آلام جسده.
لم تعد نفسه ترغب بشيء خاص ، لذا قليلة هي طلباته ،على الأغلب بعض الماء ليرطب حلقه الجاف، ولكن زوجته لا تكف عن الإلحاح عليه، تخيره بعشرات الاقتراحات عن الطعام والحلويات والشراب لتعدها له، وكان يكتفي بهز رأسه رافضا وهامسا ان لا شيء في نفسه .
كان الحزن يتغلغل ولا يفارق قسمات وجه زوجته، ولكنها تكابر على نفسها حتى لا يرى ما بها.. ودائما تقول له:"غدا ستتحسن"، وكان وقع هذه الجملة في أذنه لا يختلف عن وقع:" غدا ستموت ونتخلص من تعبك"، ولكن الحق يقال، كان يسمع نشيجها ليلا، تبكي بصمت، كان متأكدا من ذلك، وآثار الدموع لا تُخفى.. وأشد ما يؤلمه شعوره انه أصبح عالة مرهقة على أهل بيته وأولاده .. ينتظرون بصبر ان يسلم وداعته لربه، ليعودوا إلى حياتهم التي توقفت في مكان ما ، منذ صار واضحا ان مرضه العضال لا شفاء منه.
زوجته تجلس قرب سريره كل ساعة تقريبا، متوقعة ان يطلب شيئا ما أو خدمة ما، ويكتفي بأن يبتسم لها رغم آلامه الشديدة ،ويشكرها على ما تقوم به لخدمته، وانه يشعر بصعوبة حملها وما يمر عليها، ويردد بصوت يكاد لا يسمع:" لا شيء في نفسي إلا الراحة الأبدية".فتغادره مسرعة حتى لا يرى دموعها.
بعد زيارة الطبيب الأخيرة شعر أن الحركة في البيت ازدادت، كثر الزوار من الأقارب والأصحاب والجيران، هل جاؤوا لوداعه؟ وانتبه أن وعاء كبير وضع على الغاز لإعداد كمية كبيرة من القهوة. لا شك انها قهوة سادة، ليوم أجره وأيام التعزية بوفاته. كانت رائحة القهوة تملأ البيت . إذن لا بد أن الطبيب أخبرهم أن أجلي قد حان.. وإنهم باتوا على علم أكيد بأن ما يفصله عن تسليم الروح، صار يعد بالساعات.
رائحة القهوة السادة تفتح النفس. حتى الميت يعود إلى الحياة إذا تنشق هذه الرائحة الطيبة المليئة بالهيل .. أراد أن يتذوقها، ولكن صوته كان أضعف من أن يسمع في هذه الجلبة التي دبت في البيت. انتظر أن تمر به زوجته ليطلب ان منها ان يتذوق القهوة. وربما يكون قد غاب في غفوة.. لا يعرف، استيقظ، أو كان مستيقظا، لم يعد يميز غفواته من صحواته، أحفاده يحيطون به ، واجمين وكأنهم يدرون ما سيحدث بعد ساعات.. ربما بعد يوم على أكثر تقدير.. ورائحة القهوة تعبق بجو البيت. و يتمنى ان يتذوقها.
شعر بآلام حادة اضطرته إلى التركز بنفسه والأنين بصمت من الألم. حاولت زوجته ان تحركه لعل الألم يخف.أحفاده وقفوا متأهبين للمساعدة.. ابنه سارع يستدعي الطبيب تلفونيا، كان واضحا، كما قال الطبيب انه عدا أدوية التخدير لا شيء يساعده إلا قرار ربه.
حضر الطبيب على عجل وحقنه وجبة مضاعفة، وقال ان هذا الحل الأفضل لما تبقى له من وقت، سمع هذا بوضوح، ويبدو ان الطبيب كان على ثقة انه مريضة غائب عن الوعي.. وشيئا فشيئا غاب عن الوعي ورائحة القهوة تستفزه برغبة مجنونة لتذوقها.
فتح عينيه شاعرا بإرهاق شديد ، وعدم وضوح في الرؤية. يبدو انه تأثير المخدر.. ولكن رائحة القهوة تشتد وتشتد ويتمنى لو يقدر ان يقول ان له رغبة بتذوقها. يشعر ان لسانه قد تيبس. أحضرت له زوجته كوب ماء، رطب لسانه وحلقه، وتمتم بضعف وبصوت يسمع بصعوبة متمنيا الموت السريع خلاصا من عذابه وعذاب أهل بيته معه.
في داخله كان يعرف ان أمنية الموت ليست خياره ، إنما خيار واقعه الذي لم يعد فيه إلا العذاب. خيار الخلاص من الألم والغيبوبة المتواصلة.. وهمس :"هل لي بتذوق القهوة ؟"
أصيبت زوجته بمفاجأة .. لم تتوقع انه متنبه لما تعده. شعرت بألم أن تكون قد سببت له الإزعاج في آخر ساعات حياته. قالت:" الآن سأعد لك أحسن فنجان قهوة". رد بضعف:" أريد مما أعددتيه".
رطبت القهوة سقف حلقه، وانتشر سحرها في أنفاسه متنشقا رائحة الهيل الطيبة وطعمه الساحر.
كان الوجوم يخيم على زوجته ، لشعورها أنها ارتكبت خطأ بإعداد القهوة في البيت ، كان عليها ان تكلف إحدى بناتها ان تعدها بعيدا عن انف زوجها. هل فهم أنها ليوم أجره ؟
شكرها على القهوة. وأغمض عينيه على رائحة الهيل .
عندما استيقظ لمح زوجته ترتب فواكه مجففة على الصواني، ولاحظ كيف ارتبكت وسارعت تغطيها بشرشف أبيض ، اقتربت منه بوضعية الاستعداد لأي خدمة، وسألته:" هل احضر لك شيئا تأكله؟" . قال :" نفسي بحبة تمر ، لعلها تزيل مرارة فمي وحلقي". وأضاف:" لا تقلقي واصلي تحضير ما ترينه مناسبا، أرجو من الله أن لا أعذبكم أكثر".
نظرت إليه حائرة، ويبدو أن إبليس قد لخبط عقلها:" ولكن يا زوجي هل نفسك أن تأكل منه.. نعده ليوم ...؟"
ولم تكمل جملتها!!
[email protected]



#نبيل_عودة (هاشتاغ)       Nabeel_Oudeh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإخلاص الأناني
- إنتاج لنفس البضاعة
- عنصريون يشوهون حقائق النكبة الفلسطينية – حيفا نموذجا!!
- لذكرى الشاعر الفلسطيني الراحل والمبدع سميح صباغ
- جمال عبد الناصر والعدوان الثلاثي على مصر حسب يوميات بن غوريو ...
- الحرية لشاليط…والحرية لأسرى الشعب الفلسطيني
- نبيذ لعيد الزواج
- معسكر حربي يملك دولة
- العيش على الحراب- سياسة نتنياهو الرسمية
- -ارض الباسيفلورا الحزينة - تغزو -ارض البرتقال الحزين-
- بين دولة تطور العلوم ودول تشلها الهرطقة
- وجودنا في وطننا، ليس هبة من السلطة !!
- لقاء في الجامعة
- لا تدفنوه .. انه يتحرك..!
- خطاب نتنياهو: السلام أسير عقلية الغيتو الصهيونية
- نهاية الشرق الوسط القديم
- غور الأردن : صورة مصغرة من البوم الجرائم المتراكمة ضد الفلسط ...
- نهج سري للأحتلال في المناطق المحتلة عام 1967 حرم 140 الف فلس ...
- القضاء على المؤامرات بالمجازر ضد الشعب
- أي مستقبل للعالم العربي إذا ظهرت إسرائيل أخرى من ورائه اسمها ...


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل عودة - الميت يتذوق قهوة وتمر أجره