أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - من الفكر الإجتماعى والإقتصادى العربى فى شمال إفريقيا والأندلس فى القرن التاسع الميلادى















المزيد.....



من الفكر الإجتماعى والإقتصادى العربى فى شمال إفريقيا والأندلس فى القرن التاسع الميلادى


محمد عادل زكى

الحوار المتمدن-العدد: 3430 - 2011 / 7 / 18 - 21:38
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


من الفكر الإجتماعى والإقتصادى العربى
فى شمال إفريقيا والأندلس فى القرن التاسع الميلادى
قراءة فى كتاب أحكام السوق ليحيى بن عمر الكنـانى الأندلسى
(828 -901م)


مدخل

بات من المستقر، الأن، منذ صدور بحث العلامة الدكتور محمد دويدار، تحت عنوان: "من الفِِكر الإقتصادى العربى فى القرن الرابع عشر" والذى نُُشِر بمجلة مصر المعاصرة فى سبعينات القرن الماضى، أن يتم تقديم تاريخ الفكر الإقتصادى العربى إبتداءً من أوائل القرن الرابع عشر، والقرن الخامس عشر(1)ومرجع ذلك هو ظهور أولى الكتابات (العِِلمية) التى تتناول المسائل الإقتصادية فى المجتمع، فلقد ظهر المقريزى ومعه كتاباته عن تاريخ المجاعات (1404) كما ظهرت مقدمة إبن خلدون (1392) ولذلك كان من العلمى، حقاًً، أن يكون صدور "إغاثة الأمة بكشف الغمة" أو "تاريخ المجاعات فى مصر" لتقى الدين أحمد بن على المقريزى، وصدور" كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، فى أيام العرب والعجم والبربر ومََن عاصرهم مِِن ذوى السلطان الأكبر"، والذى إشتهر بـ "المقدمة" لعبد الرحمن بن خلدون، بمثابة نقطة البدء فى سبيل دراسة الإنتاج الفكر العربى فى حقل المسائل الإقتصادية، وبصفة خاصة بعد أن إستقل التفكير الإقتصادى عن علوم الشريعة وعلى رأسها الفقه.

ولقد كان فضولى المعرفى يدفعنى دائماًًً كى أبحث عن جذور تلك الكتابات، والأرهاصات الأولى لهذه الأطروحات المتقََدمة على صعيد الموضوع والمنهج معاًً، وبصفة خاصة فى مصر وشمال إفريقيا والمغرب الأقصى والأندلس؛ إذ أن الكتابات التى صدرت فى القرن الرابع عشر والخامس عشر على يد المقريزى وإبن خلدون تحديداًً، لم تكن بهذا الإبداع والعمق دون وجود مجتمع فى حالة تطور مستمر وحراك لا يهدأ وصراعات طبقية غير متناهية.تدور حول المبادلة والزراعة والصراع على الفائض والسيطرة على توزيعه،وكان ذلك كله هو ما يدمغ بالضبط الحقبة بكاملها فى شمال إفريقيا آنذاك. ومن هنا وحيث أن المجتمع فى الشمال والأندلس لم يشهد دفعة واحدة أو طفرةًً هذا الحراك والتطور، والصراع الإجتماعى حول السلطة وحول الفائض الإقتصادى من جهة توزيعه والإستئثار به من جانب طبقة معينة على حساب طبقة أخرى أو على حساب باقى الطبقات المكونة للمجتمع العربى، وإنما يُُمكن القول بأن سيادة إقتصاد المبادلة النقدية والصراع من أجل الإستئثار بالفائض الإقتصادى، فى المجتمع العربى، قد طرح نفسه على أرض الواقع إبتداءًً من إحتضار الدولة الأموية فى القرن الثامن الميلادى، وقيام الدولة العباسية بما يعنى ضرورة وجود الإطار الفكرى لهذا الواقع الإجتماعى؛ إذ يتعين أن تتوافر كتابات آنذاك، كما كتابات المقريزى وإبن خلدون، تتناول ما يُُثيره الواقع والحياة الإجتماعية اليومية؛ من هنا كان بحثى فى تلك الحقبة، أى القرن التاسع الميلادى، بحثاًً عن ذهنية تتعامل مع المسائل الإقتصادية بتفكير يُُمكن إعتباره من قِِبل التفكير الإقتصادى الذى استُُخلِِص من الكتابات المتقدمة فى الفكر العربى وعلى رأسها بالطبع مساهمة المقريزى، وإبن خلدون.

ولقد كنت حال بحثى عن تلك الذهنية، فى تلك الحقبة، أعلم أن ما أبتغيه لن أجده خالصاًً وإنما سأجده مختلطاًً، إذ سيكون فى أحضان علوم الشريعة(2)وبصفة خاصة الفقه، وبصفة أخص الفقه المالكى، الذى كان يََفرض هيمنته كاملة على شمال إفريقيا والأندلس، وبالفعل وقع تحت يدى كتاب"المعيَار المعرَب والجامع المغرب"للونشريشى، والذى جمع فيه مُُجمَل التراث الأندلسى، فوجدت فيه وتحديداًً فى الفصل السادس ضالتى؛ إذ وجدت أشبه ما يكون بالأسئلة والأجوبة قام بتجميعها أحد التلاميذ تدور حول السوق والمبادلة والنقود والأثمان والعلاقة بين قوة العمل ورأس المال. . . إلى آخر مظاهر النشاط الإقتصادى فى المجتمع التى ناقشها إبن خلدون بعد ذلك بخمسة قرون.

ولقد تابعت بحثى كى أتعرف على السائل والمجيب، ولم أعثر إلا على تحقيق (واحد فقط) أنجزه محمود على مكى، فى خمسينات القرن الماضى، وما يعيبه، على الرغم من المجهود العظيم الذى
____________
(1) فى تفصيل ذلك، أنظر: أستاذى الجليل الدكتور محمد دويدار، من الفكر الإقتصادى العربى فى القرن الرابع عشر، مجلة مصر المعاصرة، الصادرة عن الجمعية المصرية للإقتصاد السياسى والإحصاء والتشريع. القاهرة. أبريل 1973، العدد (348) ويُُعد أستاذى أول مََن قدم الفكر الإقتصادى لإبن خلدون إلى العالم العربى. ثم تبعه فى ذلك مجموعة من الكُُُتاََب، والذين إلتزموا بنفس منهجه، أنظر على سبيل المثال: الدكتور عبد الرحمن يسرى، تطور الفكر الإقتصادى، دون ناشر محدد 1996 (ص85-128)

(2)ولا يختلف التناول الأوروبى فى نفس الحقبة التاريخية تقريباًًً للمسائل الإقتصادية، إذ وُُجِِد الإقتصاد فى أحضان اللاهوت، ويُُمكن إعتبار توما الأكوينى(1225 – 1274) خير مُُمثل لهذا التفكير الإقتصادى اللاهوتى فى هذه الفترة التاريخية.
قام به، هو إهتمامه بالنص لا شروحه، فكان جُُل مجهوده منحصراًً فى ضبط الألفاظ وعقد المقارنات بين الفقهاء، وهو الأمرالذى سأتجاوزه؛ إذ ما سوف أنجزه أدناه هو إستخلاص واقع الحياة الإجتماعية والإقتصاديـــــة مــن النص، معتبراًً النص الذى قدمـه محمـــود على مكى، المرحلة الأولى بوجه عام، أما ما سأقوم به من إستخلاص التفكير الإقتصادى وواقع الحياة الإجتماعية اليومية فى شمال إفريقيا والأندلس فى هذه الحقبة، هو المرحلة الثانية تاريخياًً للتعامل مع النص الذى ظهر فى القرن التاسع.

والنص الذى أنشغل به، وكما سأوضح، قام بجمعِِهِِ وروايته أبو عبد الله بن شبل(3)مما سُُئلََ عنه جميعه، كما يقول إبن شبل، يحيى بن عمر فأجاب فيه ودُُوّنََ عنه رواية إبى عبد الله بن شبل. وهو، أى يحيى بن عمر، واحد من كبار فقهاء المالكية فى شمال إفريقيا والأندلس معاًً إذ وُُلِِدَ فى قرطبة وعاش فى شمال إفريقيا وكان دائم الأسفار إلى الأندلس، فجمع بين الثقافتين فى شمال إفريقية والأندلس. ويُُمكن القول بأن الثقافتين غير مختلفتين عن بعضهما البعض؛ بل يُُمكن القول أيضاًً بأن التعرف على واقع المجتمع فى شمال إفريقية هو فى الواقع بمثابة التعرف على واقع المجتمع فى الأندلس للتشابه الشديد بين الإقليمين.

ولسوف أنطلق من النص كما أورده الونشريشى فى المعيََار المعرَب، متجاوزاًً ضبط النص إذ أن هذا قد تم إنجازه تاريخياًً كما ذكرت على يد محمود مكى، وسأسعى إلى مناقشة النص نفسه بشأن الظواهر الإجتماعية والإقتصادية التى يحتويها، فى محاولة لتقديم إرهاصات الفكر الإقتصادى العربى، بصفة خاصة إبتداءًً من القرن التاسع الميلادى.

وإننى لأرجو بهذا العمل أن أكون قد قدمت بشائر التفكير الإجتماعى والإقتصادى العربى فى شمال إفريقيا والأندلس(4)والذى سيطرح نفسه فيما بعد، كعِلم، مع القرن الرابع عشر الميلادى. كما أرجو أن تُُعد مساهمتى هذه ذات فائدة، ولو محدودة، فى مكتبة تاريخ الفكر الإقتصادى، وتاريخ الفكر الإقتصادى العربى بوجه خاص.



محمد عادل زكى
الإسكندرية فى 12/7/2011















__________

(3) هو أبو عبد الله بن محمد بن سليم بن شبل الإفريقى. سمع من قاضى القيروان عبد السلام بن سعيد، المشهور بسحنون، وكان من الثقات، ومات سنة 919م. بتصرف عن: إبن فرحون/الديباج المذهب (ص319)

(4) لا أجد من ضرورة كى أبين أن هدفى هو تقديم الفكر الإجتماعى والإقتصادى والمالى فى تلك الحقبة فى تلك الرقعة الجغرافية، وليس المفكر، فلم يكن يحيى بن عمر الكنانى، فيما أظن ليرمى، فى أجوبته، إلى تقديم تنظير إقتصادى، فى القرن التاسع الميلادى.
(1)
السياق التاريخى
(أ)
لم يكن القرن الثامن الميلادى لينتصف دون أن يُُنظر إلى دولة الخلافة الأموية كإمبراطورية عالمية مهيمنة تَبسِط نفوذها على قلب العالم وأطرافه المترامية، وتمد سلطانها إلى حدود بلاد وأمصار تبعد عشرات الأيام وآلاف الأميال عن عاصمة الخلافة فى دمشق، فلقد بلغ نفوذ هذه الإمبراطورية حدود كل من بلاد الغال وبلاد الفرس ووسط أسيا وشمال الهند.
وفى خِضم هذا التوسع الإمبريالى أخذت فى التشكل تركيبة طبقية تقوم بالأساس على السياسة الإستبعادية لكُُل مَن هو غير أموى عن المناصب الهامة، وبصفة خاصة جنرالات الجيش والقادة السياسيين والقائمين على أمور مؤسسات نظام الحُُُكم فى الدولة، إذ كانت تلك المواقع بالذات قاصر شغلها على مَََََن هو أموى فقط، ويليهم باقى الرعايا من المسلمين الأجانب الذين صاروا فى وضعية طبقية متدنية، وبصفة خاصة بعد أن إتسعت أراضى الإمبراطورية كى تشغل مساحة شاسعة قدرها 13 مليون كيلو متر مربع، وتضم نحو 90 مليون مواطن ينتمون إلى أجناس شتى وأعراق متعددة وديانات مختلفة، وهو الأمر الذى إدى إلى إتخاذ الحكم النخبوى على يد الصفوة فى دمشق أشكالاًً أكثر تطرفاًً هدفها قمع أى محاولة من قِِبل هؤلاء الموالى، المسلمين الأجانب، لبسط سلطانهم أو إظهار قوتهم. وهو الأمر الذى قاد بدوره إلى إزدياد الإستقطاب الإجتماعى، والذى سيستغله الخصم التاريخى المتربص، آنذاك، والذى يسعى إلى إسقاط دمشق عاصمة الخلافة بأى وسيلة كانت بغض البصر عن مدى شرعية تلك الوسيلة.
فلقد وجد العباسيون، كخصوم تاريخيين للبيت الأموى، أن الواقع الإجتماعى قد صار مهيئاًً تماماًً لإسقاط النظام الحاكم فى دمشق وإستبداله بنظام حكم جديد يستمد نفوذه الروحى من علاقة القرابة الحميمية التى تمتد إلى الرسول(ص) مِن جهة عمه العباس.
وكان للموالى من الفرس، بقيادة إبى مسلم الخرسانى، الدور الحاسم بعد أن أعلن العباسيون التحالف معهم والدخول فى إتفاقيات تقسيم للسلطة والثروة فيما بينهم.
وفى ظل هذا الإرتباك وتلك الفوضى، وفى الوقت نفسه الذى تأهب فيه البيت العباسى كى ينقض البيت الأموى؛ فقد أعلنت الإمارات وهى الأجزاء التابعة للدولة الأموية فى شمال إفريقيا وفى الأندلس إستقلالها عن دمشق؛ إيذاناًً بعصر جديد يشغله الصراع الدامى بين ملوك الطوائف والمرابطين والموحدين. . . وغيرهم من القوى الإجتماعية المعززَََة بقوة السلاح؛ إبتداءًً من المغرب الأقصى مروراًًًً بقرطبة وأرض الأندلس وإنتهاءًً بحدود دولة شارلمان والإمبراطورية الكارولينجية.
(ب)
وإن هذا التفكك لم يكن بين عشية وضحاها؛ وإنما هو نِِِتاج تاريخ طويل من الصراع على السلطة والنفوذ بين أكبر فصيلين بعد وفاة نبى الإسلام مُُحمْْد (ص) البيت الاموى والبيت العباسى، وعلى ضفاف نهر "الزاب" أحد روافد نهر دجلة حقق العباسيون، بمساعدة الفرس، نصراًً كاسحاًً على الأمويين، إلا أن العباسيين لم يبتهجوا كثيراًًً بهذا الإنتصار، إذ لم يزل أمامهم مهمة أكبر بكثير من مجرد الإنتصار فى موقعة حربية، الأمر الذى جعل بنى العباس يُُفكرون، وإنما بذهنية فارسية، فى إنهاء تلك المهمة فى أسرع وقت ومرة واحدة.
كانت المهمة تتلخص، ببساطة، فى مسح الدولة الأموية مِن على خريطة العالم وإبادة جميع أهل البيت الأموى؛ ولأجل ذلك قاموا، العباسيون، بتوجيه دعوة إلى جميع أفراد البيت الأموى بغية التصالح فيما بينهم وزعم التفكير معاًً فى مستقبل الإمبرطورية المترامية الأطراف، ولم يجد أهل البيت الأموى إلا تلبية الدعوة على الرغم مما كان يخالجهم من شكوك فى نوايا أعدائهم التاريخيين!!
وحينما إطمئن العباسيون إلى أن أفراد البيت الأموى جميعاًً صاروا بداخل القصر تلبية للدعوة، فقد قرروا تنفيذ المهمة الأخيرة. فغلّّقوا الأبواب وأصدروا الأوامر بإبادة البيت الأموى عن بكرة إبيه، ولم تستغرق مهمة فصل رقاب أفراد البيت الأموى عن أجسادهم وقتاًً طويلاًً، ما أن إنتهت حتى أعلن العباسيون إقامة دولتهم الجديدة على أنقاض البيت الأموى الذى تم تدميره منذ قليل، وكان من لوازم تدشين دولة الخلافة الجديدة إتخاذ عاصمة جديدة بدلاًً من دمشق؛ وبالفعل وقع إختيار المنصور الخليفة الجديد على بغداد كى يُُعلِِِِن منها بداية، ولمدة 500 عام، عصر من أعظم عصور البشرية، وعلى الرغم من التاريخ الدموى البشع، فقد وُُلِدت، فيما بعد، حضارة مثلت لحظات تنبيه وإستيفاق فى تاريخ الإنسانية، حضارة لم يَََسمع بها بشرٌ من قََََبل.
(ج)
ولكن . . . . وفى غمرة إنشغال بنى العباس بإزهاق أرواح بنى أمية، فى مذبحة قصر الخلافة فى دمشق؛ فقد تمكنََ من الهربِِ فتيان صغيران أحدهما يُُدعى عبد الرحمن، والآخر يُُدعى يحيى، ومعهما تابعهما ويُدعى بدراًً، وهو من أصحاب الأدوار التاريخية فى حياة عبد الرحمن، إذ مَثلَ بمفرده كتيبة إستطلاع لمجريات الأمور المرتََبكة فى الأندلس، وكان بمثابة عين الأمير القادم: عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك.
أخذ الفارون من المذبحة طريقهم نحو الشمال بإتجاه شمال إفريقيا، إلا أن المرور بأرض فلسطين فرضََ على الفارين الثمن الفادح من حياة يحيى، إذ تمكن العباسيون منه، ونجح عبد الرحمن الداخل، وتابعه فى الهروب مرة ثانية، وقد قررا إستكمال رحلتهما إلى المجهول نحو الشمال؛ أملاًً فى حماية أمراء الشمال، بيد أن الأمراء فى شمال إفريقيا الذين كانوا يدينون بالولاء للأمويين قد وجدوا، كما ذكرنا منذ قليل، فى حالة الفوضى السائدة فى أرجاء دولة الخلافة فرصة عظيمة كى يََنفَصلوا بإماراتهم ويُُُعلنوها ممالكاًًً مستقلة عن دولة الخلافة. بل وكاد عبد الرحمن ذاته أن يََََََلحق بأخيه يحيى؛ على أرض شمال إفريقيا نفسها!!
وإذ يخدم الحظ عبد الرحمن مرة فى دمشق، ومرة أخرى على أرض شمال إفريقية، ويََنجو من القتل فى المرتين؛ فإن الحظ يُُقدم له كذلك خدمة أجلّّ وإنما فى الأندلس هذه المرة، فلقد كانت الأرض مهيأة هناك أيضاًً لحدوث إنقلاب سياسى شامل، طبقاًً لإستطلاع "بدر" الذى أخبر به عبد الرحمن؛ فحاكم الأندلس يوسف الفهرى، وبعد أن أعلن تحالفه مع قبيلة القيسية أحد قبائل الشمال العربية، إتبع، هو الآخر، سياسة الإستبعاد لكُُل مَن هو يمنى، إذ قام بإقصاء اليمنيين الذى تمكنوا من أن يكونوا طبقة من كبار ملاك الأراضى، والتى تملكوها مكافأة لهم من طارق بن زياد، على دورهم الرئيسى والحاسم فى إخضاع البلاد المفتوحة، إلا أن سياسة الأقصاء كانت هى السياسة العامة المتَبعة من قِِبل تحالف الفهرى/القيسية. وهو الأمر الذى أججََ الواقع الإجتماعى وأَََلهب الصراع بين القوى الإجتماعية المتناحرة بالأساس.
ولقد وجد عبد الرحمن، الذى دعاه أتباعه بالأمير، الفرصة سانحة كى يُُبحر، برفقة المتمردين عبر مضيق جبل طارق إلى الأندلس فى أواسط القرن الثامن الميلادى، وبينما هم يمضون نحو الشمال إنضم إلى صفوفهم الألاف من الأندلسيين الساخطين.
وفى عام 756م يلتقى جيش الأمير، فى معركة حاسمة خارج قرطبة، جيش يوسف الفهرى/القيسية، ويهزم جيش الأمير جيش الفهرى، ويُُعلِِِِن إستعادة الحكم الأموى، وليس ذلك فحسب وإنما ليُُعلِِِن أيضاًً عن قيام كيان ثقافى مؤسسى موازى لبغداد، فى الغرب. كيان لا يَََََقل فى عبقريتهِِ وعظمتهِِِ عن نظيره فى الشرق الواقع تحت سيطرة بنى العباس.
ففى نفس الوقت على بعد 2300 ميل من قرطبة بزغ العصر الذهبى للمسلمين فى بغداد والتى جاء إليها العلماء والمفكرون من مختلف بقاع العالم، فى شتى مجالات العلم والمعرفة بعد أن أعلن الخليفة المأمون الذى تتلمذ على يد المعتزلة وهم الفرقة التى كانت أفكارهم، المقدِِِِِِمة للعقل على النقل، تُُدعم نوع الدولة ونوع الدين الذى يرغب المأمون فى بنائه، فقد أعلن المأمــون أن لا حدود للعِِِِِلم ولا نهائية فى
المعرفة، ولا محظور فى البحث عن الحقيقة(4). وأن الدولة تدعم بلا حساب كل مبدع وكل مفكر يخترق أسوار المجهول أو ينقل إبداعات العالم القديم إلى لغة العرب، وينهض بشرحها(5).
(د)
ومع قدوم القرن العاشر شهد التنظيم الإجتماعى نموذجاًً جديداًً أفرزه الصراع الإجتماعى بين العديد من الفصائل المتناحرة، إذ ظهرََ التنظيمُُ المبنى على الطوائف.
وفى ظل الصراع التاريخى ما بين البيت العباسى والبيت الأموى ظهرت دولة "الأغالبة" (184 – 296هـ) (800 – 909 م) فى شمال إفريقيا، وقد أعلنت نفسها دولة مستقلة فى مواجهة كل من البيتين العباسى والأموى، على الرغم من أن الظهور الأول للأغالبة كان بمساندة مؤسسية من الخلافة العباسية فى بغداد، كى تكون بمثابة الدرع الواقى من هجمات الدويلاتِِ الأخرى التى أعلنت إستقلالها عقب إنهيار الدولة الأموية، وكان على رأس تلك الدويلات المستقلة دولة "الأدارسة" الشيعية التى كانت تكن كُُُل العداوة لبنى العباس، وكانت تُُُمثل خطراًً حقيقياًً على الخلافة فى بغداد.
قامت دولة الأغالبة، والتى فى عهدِِها ألفََ يحيى بن عمر الكتانى كتابه فى أحكام السوق، وهو الكتاب الذى ننشغل به وبصاحبه والذى يََعكس لنا صورةًًً واضحةًًً وحقيقية لطبيعة الحياة اليومية فى المغرب الأقصى وشمال إفريقية والأندلس فى القرن التاسع الميلادى، كدولة مستقلة وتقوم بدور حمائى للخلافة العباسية. وبلغَََ نفوذهُُم إلى صقلية (264هـ/878م) وفى عهد الأغالبة شهدت القيروان نهضة هائلة وبصفة خاصة من الناحية البنائية والعمرانية؛ إلا أن إنتقال الولاية إلى إبراهيم بن أحمد بن الأغلب (261 - 289هـ/875 -902م) كان بمثابة كتابة شهادة وفاة تاريخية لتلك الدولة، إذ بدأت الفتن تدب بين الأمراء إذ قامت مدن تونس، وباجة، وقمودة، وغيرها بشق عصا الطاعة، بينما الخطر العبيدى الشيعى يزداد يوماًً بعد يوم.
ولما أيقن إبراهيم بن الأغلب إقتراب زوال مملكتِِِه على يد بنى عبيد حاول سنة(289هـ/902م) أن يُُُغير من سياستِِِه، فخفف الضرائب وجلس للمظالم وعمل على تقريب الفقهاء، وإنما دون أى فائدة، وفى عهد حفيده زيادة الله إستشعرت بغداد تحت خلافة المكتفى أن الخطر العبيدى صار قريباًً، وأن دولة الأغالبة لم تعد بقادرة على صدهم أو الحيلولة دونهم والإستيلاء على إمارات الخلافة واحدة تلو الأخرى على طول الخط المؤدى إلى بغداد، ولم يمضْْ الوقت طويلاًً حتى جاءت معركة "الأربس" الحاسمة سنة (296هـ/909م) وفر على إثرها زيادة الله إلى المشرق. . . . . وبإستيلاء العبيديين على القيروان فقد جمعوا كُُل المغرب تحت سيطرتِهم فشجعهم ذلك على متابعة السير نحو المشرق. و‎أمكن لهم فيما بعد أن يََستولوا على مِِصر والشام والحجاز. ولولا الظروف السياسية والوضع الداخلى للفاطميين لإستولوا على بغداد نفسها. وفى خِِضم تلك الصراعات الإجتماعية والتى إتخذت مظاهر متنوعة سياسياًً وعسكرياًً، كانت "القيروان" تأخــــــذ فى طريقها كى تُُُمثل الضلــــع الثالث مــــن مثلث الإبــــدََاع
_____________
(4) أنظر: مايكل هاميلتون مورجان، تاريخ ضائع: التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه، ترجمة: أميرة نبيه بدوى. نهضة مصر للنشر. القاهرة 2003 (ص64- 79)
(5) كان ذلك فى الوقت نفسه الذى سادت أوروبا المحارقُُ ومحاكمُُ التفتيش، وإدعاء إمتلاك الحقيقة، أو كما يقول تولستوى فى عبارات أعتبرها عبارات وثائقية:" خذوا كُُل المراجع العلمية للقرون الوسطى ولسوف ترون أى قوة إيمانية ومعرفة راسخة لا يرقى إليها الشك لما هو حق وما هو باطل فى هؤلاء البشر!!كان من اليسير عليهم أن يعرفوا أن اللغة الإغريقية هى الشرط الوحيد اللازم للتعليم، لأنها لغة أرسطو الذى لم يشك أحد فى صدق أحكامه على مدى بضعة قرون بعد وفاته. وكيف كان للرهبان ألا يطالبوا بدراسة الكتاب المقدس القائم على أسس لا تتزعزع. كان من اليسير على لوثر أن يطالب مطالبة بتية بدراسة اللغة العبرية، عندما كان يَعلم عِلم اليقين أن الله ذاته قد كشف الحقيقة للبشر بهذه اللغة. من السهل أن نفهم أن المدرسة كان يجب أن تكون دوجمائية، عندما كان وعى البشر النقدى لم يستفق بعد،وأنه كان من الطبيعى أن يحفظ التلاميذ عن ظهر قلب الحقائق التى كشف عنها الله وأرسطو، والروائع الشعرية لفرجيل وشيشرون. فلبضعة قرون بعدهم لم يكن بوسع أحد أن يتصور حقيقة أكثر صدقاًً أو رائعة أكثر روعة مما أتوا به، كان من اليسير على مدرسة القرون الوسطى أن تعرف ما الذى ينبغى تعليمه عندما كان المنهج واحد لا بديل له، وعندما كان كله يتركز فى الإنجيل وفى كتب أغسطين وأرسطو". تولوستوى، كتابات تربوية، دار القلم، بيروت 1969 (ص98)
الإنسانى فى لحظة من أهــــم اللحظات التى تشهد حركــــة التاريخ البطيئة والعظيمـة، إذ إنضمت القيروان فى شمال إفريقــــيا إلى بغداد فى الشرق وإلى قرطبة فى الغرب، كى يََكتمل مثلث النور العربى(6) إبتداءًً من القرن الثامن الميلادى.
(2)
بإختصار عن الكتاب وصاحبه (213 – 289هـ / 828 – 902م)
كما هو واضح من التاريخ ان الزمن الذى تم فيه تأليف الكتاب هو زمن دولة "الأغالبة" ومكان تأليفه كما يُُعرف من الكتاب نفسه كما سنرى هو القيروان. والكتاب الذى بين أيدينا، والذى ننشغل به مستخرَج، كما ذكرت، من المجلد السادس من كتاب أبى العباس الونشريشى"المعيَََار المعرَََب"والذى ضم مُُُجمل التراث الأندلسى، ولم أقف بشأن تحقيق هذا الكتاب إلا على مساهمتين أولهما، كما ذكرت، تعود إلى خمسينات القرن الماضى لمحمود مكى، وهى تحقيق يََنشغل بكتاب يحيى بن عمر، وهو المعنى. والثانية هى فى الواقع إشراف عِِلمى، لمحمد حجى، وهى تَنشغل بالمعيََار المعرََب ككل.
وعن صاحب الكتاب؛ فأنقل ببعض من التصرف، ما قاله محمد بن عثمان الذهبى، فى المجلد الثالث عشر من موسوعته"سير أعلام النبلاء"، فهو يقول: هو يحيى بن عمر بن يوسف، الإمام، ولد بقرطبة، شيخ المالكية أبو زكريا الكنانى الأندلسى الفقيه. قال إبن الفرضى: إرتحل، وسمع بإفريقية من سحنون وأبى زكريا الحفرى، وعون بن يوسف صاحب الدراوردى وسمع بمصر من يحيى بن بكير وحرملة ، وإبن رمح، وبالمدينة من أبى مصعب، وسكن القيروان، وكان حافظاًً للفروع، ثقة، ضابطاًً لكتبه. أخذ عنه أحمد بن خالد الحافظ، وأهل القيروان، وكانت الرحلة إليه فى وقته(أى يُُسََافر إليه طلباًً للعِلم م.ع.ز) سكنََ سوسة فى آخر عمره، وبها مات. قال الحميدى: هو من موالى بنى أمية روى عنه سعيد بن عثمان الأعناقى وإبراهيم بن نصر. وقال إبن الفرضى: مات فى ذى الحجة سنة تسع وثمانين ومائتين. وقال أبو بكر بن اللباد: كان من أهل الصيام والقيام، مُُُجاب الدعاء، كانت له براهين، وقال أبو العباس الأبيانى: ما رأيتُُ مثل يحيى بن عمر فى عِِلمهِ وزهدهِ، ودعائهِِ وبُُكائهِِ، فالوصف، والله، يََقصر عن ذِِكر فََضله وقال محمد بن حارب: كان متقدماًً فى الحفظ، لقى يحيى بن بكير، وكان يقول: سألت سحنون، فرأيت بحراًً لا تكدره الدلاء، والله ما رأيت مثله قط، كأن العِِلم جُُمِِِعَََ بين عينيّّه وفى صدره. قال الكانشى: أنفقََََ يحيى بن عمر فى طلب العِِِِلم ستة آلاف دينار.(7)
____________
(6) ولعل من أكثر الدعاوى سطحية وإستفزازاًًً فى نفس الوقت، تلك التى تأتى على غرار الأمراض الموسمية التقليدية، فتظهر حالة "إحياء الفكر العربى" أو" التواصل مع التراث الإسلامى" بين كُُل حين وآخر، وتجد لها من المريدين والمروجين والمشجعين من(كُُل)الإتجاهات فيما عدا مََن لا يََرون فى الإنتاج الفكرى العربى إلا ما كان منظوراًًً إليه من منظار السلف الصالح، كما يرونهم هم... وهم فقط!! أقول تظهر تلك الحالة، وعند نقطة إنتهاء منحنى فورانها لا يُُقدم أصحابها فى جُُل مؤتمراتهم ومعظم كتاباتهم سوى أحباراًًً حالكة على خلفيات أحلك. كما أن الحالة ذاتها لا تتمكن إلا من تقديم أمرين لا ثالث لهما: أولهما زخم كمى بشأن عبقرية مُُُفكر عربى ما كإبن رشد، الإنتقائى غالباًً: إبن رشد "البرهان" وليس إبن رشد "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، مثلاًًً، وكيف تمكن ببراعة من الإنتصار للعقل فى عصور التخلف، وستنبت من هنا أطروحات فرعية ترى الخلاص عند إبن رشد (البرهان) أو كيف أن المقريزى هو أول من عبر وبإقتدار شديد، وتلك حقيقة، عن هيكل الأزمة الإقتصادية وحلل أسبابها وعلاقاتها الجدلية الداخلية، أو كيف أن إبن خلدون قد سبق آدم سميث فى تقديمه لنظرية فى التجارة الخارجية. وعلى الرغم من أن هذا السبق هو مجرد وهم فى خيال من يقولون به، إلا أنه لا بأس من دسه فى الإحتفالية وترديده ببغائياًًً. أما ثانيهما: وهى عن الأولى متولدة من جهة التنائى أكثر وأكثر عن عبقرية الفكـر العربى الذى عََلم العالم. إن العرب قد علموا العالم العِلم والمعرفة، أو أن علوم العرب ومعارفهم قد إنتشلت أوروبا من مستنقع الجهالة والرجعية والتخلف، أو أن علوم العرب لولاها ما قامت لأوروبا قائمة إلا بعد أحقاب تاريخية أكثر طولاًًً. . . كُُل تلك العبارات إلا جوفاء المضمون خاوية المحتوى ليس لها مكان داخل إطار ماهو عِلمى مع إحتفاظها وبكل قوة بموقعها فى التاريخ الإنتقائى العصابى، إنه التاريخ الذى ينشغل بالإستنتاجات الجاهزة كى يُلقى بها فوراًًً فى كراسات التعميم، وكى تتشرب به الأذهان الملقَََنة فى هذه الصناعة أو تلك. إن العرب قد علموا العالم كيف يُفكر. تلك هى الإجابة التى نفترض صحتها على السؤال المطروح والمعنى بماهية ما خلفه العرب للعالم، ولتقريب الأمر نسأل وهو على ما أظن سؤال سبق طرحه كثيراًًً وخاض فيه من خاض ومن أنحاء شتى، وقد كنت لحين فترة وجيزة غير مقتنع بكل الإجابات المقدََمة له، هذه السؤال يتعلق بالنظر فى أسباب جهل الواقع العربى القديم للمسرح مثلاًًً كأحد ألوان الأدب وباب من أبواب الفن ؟ ولقد وجدت فى قوة التجريد الإجابة. إن المسرح ينهض على التفاصيل وكذلك الرواية، على حين إن الذهنية العربية تشكلت على نحو تجريدى، تلك الذهنية هى التى إنطلقت بعقلية العرب كى تعلو بالظواهر عن كُُُل ما هو ثانوى، هذا الثانوى يُوجد فى الرواية ويوجد فى القصة وهو من باب أولى فى المسرح أوجد. ولذا نأت الذهنية العربية عن تلك الثانويات. ومن هنا نقول أن العرب فى عصورهم الذهبية تركوا للعالم منهجية إنتاج الأفكار، وليس الأفكار نفسها.
(7) أنظر: الذهبى/ سير أعلام النبلاء (ج13/ص232)
ولن أنشغل وأسرد هنا أكثر من ذلك بشأن سيرة يحيى بن عمر، وأُُُحيل فى هذا إلى أمهات كُُُُتب السير، كأعلام النبلاء للذهبى، والديباج المذهب لإبن فرحون، وتاريخ عُُلماء الأندلس لإبن الفرضى، ومعالم الإيمان فى معرفة أهل القيروان للدباغ، ولسان الميزان للعسقلانى، وطبقات عُُُلماء إفريقية لإبن تميم وإبن حارث الخشنى. . . . وغيرهم من فحول كُُتابِِِ السير، وإعراضى هنا عن السرد ورغبتى فى الإحالة إلى أمهات الكتب، إنما يحكمهما إعتبارين، أولهما رغبة فى الولوج مباشرة فى كتاب يحيى بن عمر، دون إطالة بعد أن إستوفيت الإطار التاريخى، وقد يكفى القارىء العادى ما نقلته له أعلاه عن الذهبى، وإن أراد التوسع فى السيرة فعليه الرجوع إلى واحد أو أكثر من المؤلفات التى ذكرناها، وهنا يتبدى الإعتبار الثانى، إذ أجد فى إعادة نقل السيرة مُُُلخَََصة، وفقاًً لمقتضيات الوقت والمقام، التشويه المتعمََد لصاحب السيرة، وهو الأمر الذى يَََخرق العلاقة التعاقدية غير المكتوبة فيما بين الكاتب وقارئه. ولذلك سأنتقل الأن إلى كتاب "أحكام السوق" ليحيى بن عمر الأندلسى. والذى أورده الونشريشى فى الجزء السادس من كتابه: "المعيار المعرب" (8)وأظن أن تناولى لهذا الكتاب بالتحليل لإستخلاص الإطر العامة للتفكير الإقتصادى العربى فى القرن التاسع الميلادى يُُعد من أولى المحاولات، لإستخلاص الفكر الإقتصادى من مؤلََف يتم التعامل معه ككتاب بالأساس للحسبة فى تطورها نحو الإنسلاخ عن كُُل من الفقه(9)من الناحية الموضوعية، وعن القضاء من الناحية الوظيفية، بعدما صارت من المهام الإدارية للدولة الإسلامية آنذاك. الأمر الذى يجعلنى أعترف بأوجه القصور وأن أسلم بأن الموضوع فى حاجة إلى المزيد من المساهمات من قِِبل الباحثين فى تاريخ الفكر الإقتصادى، أملاًً فى فتح باب المناقشة بغية إثراء الحوار الهادف تلمس مواطن العزة فى تاريخنا العربى الضائع.
(3)
الفكر الإجتماعى والإقتصادى فى كتاب أحكام السوق

(أ)
يبدأ (المؤلََف) أحكام السوق(10) بما ينبغى على الوالى عمله، ويُُلخِِص إبن شبل قول يحيى بن عمر، بأن على الوالى أن يتحرى العدل، ويتعاهد السوق بأن يُُحافظ على إنضباطه، ويََضبط الموازيين والمكاييل، ومن أجل تحقيقه لذلك فقد قرر له يحيى بن عمر سلطة عقاب المخالفين وإخراجهم من السوق،كما يكون من إختصاصاته الهامة تعيين مَََن يرى تعيينه وعزل مََن يرى عزله وفقاًً ما تقتضيه المصلحة العامة، كما يُُُفهم من السياق أنه لا يحق للوالى تعيين أجنبى لتعهد السوق.فهو يقول:"ينبغى للوالى أن يتحرى العدل، وأن ينظر فى أسواق رعيته، ويأمر أوثقَ مََن يعرف ببلده أن يتعاهد السوق، ويعيّّر عليهم صنجتهم وموازينهم ومكاييلهم كلها، فمن وجده غير ذلك شيئاًً عاقبه على قدر ما يرى من جُُرمِِِه (وافتياته على الوالى، وأخرجه)(11)حتى تظهر منه التوبة والإنابة إلى الخير".
____________
(8) أبو العباس أحمد بن يحيى التلمسانى الونشريشى، المعيَار المعرَب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب تم تخريجه بواسطة مجموعة من العلماء بإشراف الكتور محمد حجى، مطبوع بأمر صاحب الجلالة الملك الحسن الثانى بمناسبة مطلع القرن الخامس عشر الهجرى. وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية للمملكة المغربية. ودار المغرب العربى. الرباط، بيروت 1981. الجزء السادس، من صفحة (400) وحتى صفحة (430)

(9) أنظر على سبيل المثال: كتاب أبى عبد الله محمد بن أبى محمد السقطى المالقى الأندلسى، فى آداب الحسبة، تحقيق ليفى بروفنسال، مطبوعات معهد العلوم العليا المغربية، الجزء 21، طبع بمطبعة إرنيه لورو ، باريس . بدون تاريخ نشر محدد.
Coline et E. Levi -Provençal, Un Manuel Hispanique De Hisba, Traite D abc Abd ALLAH Muhammad B. Abi Muhammad As-sakti De Malaga, Sur la Surveillance Des Corporations Et La Répression Des Fraudes En Espagne Musulmane. Librairie Ernest Leroux, Paris
ويُُعد كتاب السقطى، بتصورى، بمثابة نقلة نوعية هامة فى فكر الحسبة بوجه خاص، والتفكير المالى والإقتصادى بوجه عام، وأهم ما يميز هذه النقلة هو التحرر من سلطة الفقه.

(10) يُُورد أبو العباس الونشريشى فى المعيار عنواناًً فرعياًً للمؤلََََف هو: أقضية السوق.

(11) يذكر محمود مكى ان تلك العبارة كانت ساقطة من الأصل وأثبتها الناسخ فى الحاشية، ولم يكن ليتبين لى ذلك من نسخة المملكة المغربية، بإشراف الدكتور محمد حجى.
ويتبين من طبيعة العقاب الذى قرره يحيى بن عمر لمن يُُزيف النقود، ان تلك الفعلة تُُُعد من جسائم الأفعال، إذ لا نجد فى جميع أجزاء المؤلَََف عقوبات تكون أشد من تلك المقررة لمن يغش النقود بخلطها بالنحاس، فلقد قرر له يحيى بن عمر العقاب الشديد بأن يُُرََكْْْب على دابة، ووجه ناحية ذيلها وظهره ناحية رأسها، كما كان شائعاًً فى وقتها، ويُُطاف به فى شوارع البلدة وأسواقها وبما يََحمل ذلك من مهانة وإذلال؛ إذ عادة ما يحيط الناس، وبصفة خاصة الأطفال، بهذا الركب ويرددون عبارات التهكم والسخرية، ثم يََسجنه، وللوالى فى ذلك كامل السلطة التقديرية، فهو يقــول:". . . ولا يقبل منه النظر إن ظهر فى دراهم مُُبهرََجة ومخلوطة بالنحاس بأن يشتد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر به أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يُُطاف به الأسواق لينكله ويُُُشرد به من خلفه، لعلهم يتقون(12) عظيم ما نزل به من العقوبة ويحبسه بعد على قدر ما يرى . . .".

ولشدة خطر ظهور وحدات النقد المزيفة فى الأسواق فقد أوجب يحيى بن عمر على الوالى أن يأمر أحد الخبراء بمثل تلك الأمور كى يُُعالج ذلك الخطر الذى يُُحيط بالمجتمع جراء ما أصاب وحدات النقود المتداولة بداخله؛ إذ يتضح من كلام يحيى بن عمر أنه يُُقرر للوالى تعيين ذلك الشخص بجانب مََن عينه من قََبل لتعهد السوق بوجه عام، فالمسألة وفقاًً لما يرى يحيى بن عمر تخضع لإعتبارات فنية أكثر منها إداريةـ ولذلك أوجب أن يُُعين الوالى مََن لديه العِِلم بهذا الفن ويستطيع أن يُُجابه هذا الخطر بطريقة واعية بالكيفية التى يتم من خلالها طرد العملات المزيفة وإمتصاصها، والسيطرة على إنفلات السوق دون إحداث تغيرات سلبية فى تؤثر بالتبع على المعاملات جمهور المتعاملين فيه بالبيع والشراء، فهو يقول:" . . . ويأمر أوثق مََن يَََجد بتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم . . .".
ومما يجب ملاحظته فى كلام يحيى بن عمر، ان سوق القيروان كانت تشهد خللاًً دائماًً فى المكاييل، فإنه سُئل عن كيفية توحيد هذه المكاييل والموازين(13)، إذ فشى فى السوق التفاوت فى تلك المكاييل والموازين بين بائع وآخر، فعند هذا كبيرة، وعند هذا صغيرة، وعلى هذا التساؤل أجاب يحيى بما يُُشير إلى وعيه بدور المعدن النفيس(تحديداًً الذهب والفضة) حين إتخاذه معياراًً ومقياساًً فى ضبط مكاييل البائعين وموازينهم، فهو يقول، وهو يصدر بلا شك عن التقليد فى حقل السنة، ودون أن يُُحمل كلامه على أكثر من ذلك:" . . . فلا ينبغى لحواضر المسلمين أن تكون أسواقهم بهذه المنزلة التى وصفتَ . . . ويكون أصل ما توضع عليه أرطالهم على الأواقى التى أوجب رسول الله صلى عليه وسلم زكاة العين من الذهب والفضة بها".

وبشأن القيمة(14) فمن الممكن القول بأن هناك ثمة وعى بأن القيمة تختلف عن الثمن، وإن كان من قبيل الوعى المرتبك، ليس لدى يحيى فحسب بل ولدى من توجَََه ليحيى بالسؤال، ولعل ذلك الإرتباك كان طبيعياًً، فالقيمة بلسان العـرب هى: ثمن الشىء بالتقويم، ويقول إبن شبـــل:"قيل ليحيى
___________

(12) بما يُُشبه الردع العام الذى سوف يقول به، فيما بعد، الفقيه جرسبينى فى القرن العشرين الميلادى.

(13) فى مبدأ التسوية بين الموازين والمكاييل أنظر كتاب السقطى، حيث يُُفصل المسألة ويضع لها قوانين دقيقة، وبعد أن يوضح حيل الفاسدين من الكيالين، فهو يقول:" وشأن المحتسب مع هؤلاء أن يختبر عليهم الطعام والمائعات بكيال من أهل الثقة يستعمله مقدماًً عليهم قد خبرََ منه النصح والتنبيه على المكايد والخدع والغيرة على المسلمين . . . وقيل فى ذلك كله مثال يكون كالقانون فى جميع الأكيال بتنبيه على الجارى الآن بمالقه(التى منها السقطى م.ع.ز) فالقدح يصدق من الكزبر اليابس الصحيح الطيب أحد عشر رطلاًً والرطل ست عشرة أوقية والأوقية عشرون درهماًً فضة إمامية، وثُُمن الربع الجارى بمالقه فى الكيل يصدق من العسل الطيب الأندلسى فى الغالب ثلاثة أرطال ونصف ومن الطيب العدوى ثلاثة أرطال وست أواق إلى ثلاثة أرطال، وربع من الزبيب رطلين وربع ومن الخل ثلاثة أرطال غير(إلا م.ع.ز) ربع إلى رطلين ونصف ومن اللبن الغنمى ثلاثة أرطال وربع ومن المعزى ثلاثة أرطال وثلاث أواق . . ." (ص13)

(14) القيمة فى اللغة العربية فإنما وردت على نحو" أن يدفع الرجل إلى الرجل الثوب فيقومه بثلاثين درهماًً، ثمن يقول: بعه، فما زاد فهو لك، فإن باعه بأكثر مِن ثلاثين بالنقد فهو جائز. القيمة واحدة. والقيم وأصله الواو لأنه يِقوم مقام الشىء، والقيمة ثمن الشىء بالتقويم". أنظر: إبن منظور، لسان العرب، المطبعــة الأميرية، القاهرة 1939، الجزء الخامس، ص 402، ووافق المعنى نفسه ما أورده عبد الله البستانى فى معجمه "فاكهة البستان" المطبعــة الأمريكانية، بيروت 1930 ص 1312، وفى اللغة الفرنسية، واللغة الإنجليزية لا يختلف المعنى كثيراًً، بل يكاد يطابقه، حيث القيمة، فى الفرنسية والإنجليزية، تعنى الثمن، الثروة، ولئن كان المعنى أكثر وضوحاًً فى قاموس اكسفورد؛ حيث الإشارة إلى عنصرى المنفعة والمبادلة، وتوضيح المعنى مِن خلال قدرة السلع على شراء بعضها البعض، أنظر فى ذلك :
E. Clifton&J.mc Laughlin, Nouveau Dictionnaire, Librairie Grainer présures, Paris1904, p 626.
Jean-Paul Colin, Dictionnaire Des Difficultés du Française, Les Usuels du Robert, Paris 1977, p775.
H.Fowler&F.Fowler, The Concise Oxford dictionary. Oxford at the Charendon press.U.K 1939, p1361.
بن عمر: أوضح لنا القيمة التى تُُقام على الخبازين، وغيرهم من أصحاب(15) الحوانيت الذين يبيعون السمن والعسل والزيت والشحم فإنهم إن تُُركوا بغير قيمة أهلكوا العامة لِِِخفّّة السلطان وضعفه(16) وإن جُُعلِِت لهم قيمة فهل ترى ذلك جائزاًً؟" وحين تحليل الإجابة التى سوف يقوم يحيى بن عمر بتقديمها؛ فمن الممكن القول بأنه يتأرجح ما بين أمرين أولهما يقول بالثمن، وبصفة خاصة وأنه يطرح المسألة برمتها فى سياق مدى شرعية التسعير، وثانيهما يصل بخفوت إلى القيمة، وفى هذا الصدد يعتد، كالعادة، بما عليه الإفتاء فى مذهب المالكية، وربما دون أن يدرى أو يدرون، انه وهُُُم يتحدثون فى القيمة النسبية، ويُُربِكََهم مصطلح القيمة كمصطلح إقتصادى سيفرض نفسه وبقوة بعد تسعة قرون، وبصفة خاصة فى أوروبا الآخذة فى النمو حينما تنشب الحرب، بين عدة قوى إجتماعية، تدور رحاها حول عنصر العمل وما يُُنتجه من قيمة. ولئن رأى الإنسان، بعد تاريخ طويل من المقايضة، أن الذهب صاحب قيمة ثابتة نسبياًً تمكنه من الظهور كمعيار مشترك بين السلع، فإن يحيى بن عمر، وقد رأينا سلفاًً أنه يعتد بالذهب والفضة بشأن المكاييل والموازيين، ينقل، وأعتقد بوعى مرتبك، عن أشهب(17) قوله:" إن قال صاحب السوق بيعوا على ثلث رطل من الضأن ونصف رطل من الإبل، قال مالك، ما أرى به بأساًً. . .". ففى هذه الحالة يكون ثلث الرطل هذا ونصف الرطل ذاك معيارين يعتد بالقيمة النسبية لهما معاًً فى سبيل التسعير، دون أن يطرح أساس تبادل ثلث رطل من الظأن ونصف رطل من الأبل، وربما تكون طبيعة المجتمع أنذاك لا تسمح تاريخياًً بطرح ذلك من الوجهة الموضوعية، فالمجتمع يََغلُُُب عليه الطابع التجارى أى أن دورة رأس المال فيه تمر بمراحل محددة وهذه المراحل ذات علاقات شفافة، فالنقود تلعب دور وسيط فى التبادل بشكل نموذجى؛ إذ يقوم التاجر بالتخلى عن نقوده، فى المرحلة الأولى، من أجل شراء السلع من شخص آخر(18)وفى مرحلة ثانية يََذهب إلى سوق مختلف تارة آخرى، كى يََبيع ما إشتراه ويََسترد نقوده ولكن مُُُحمََلة بزيادة فى وحدات النقد تُُسمى ربحاًً، ويتم ذلك كُُله فى إطار من الشفافية التى لا تسمح بإستغلال طبقة معينة من الشعب من قِِبل طبقة أخرى، وإن كان مسموحاًً (شرعاًً) إستعباد البشر، ويبقى فى إجابة يحيى بن عمر المعتمََدة فى المذهب المالكى بذر جنينى غير مكتمل للقيمة النسبية.

وبشأن إختلاف أسعار الأسواق، فسلعةٌٌ ما فى سوق القيروان تُُُباع مثلاًً بمقدار كذا درهم، على حين نفس السلعة فى أحد أسواق قرية من القرى التابعة للدولة ترتفع أو تهبط عن سعر القيروان، فإنه يستبين أن يحيى بن عمر يرى ضرورة إعمال قواعد العرض والطلب بإطلاق، وهى من القواعد التى يعتنقها معظم فقهاء الفقه المالكى بشأن الأسعار وحركة التجارة بداخل الأسواق؛ وفى ذلك يقول إبن شبل:"وسُُئل عن أسواق المصر: هل تبع لأسواق القيروان فى أسعارها من جميع الأطعمة والأمتعة، وجميع ما يُُباع فى أسواقها مما يُُؤكل ويُُشرب، أو مما لا يُُؤكل ولا يُُشرب؟ فجاوب: لا أحفظ فيه شيئاًً وما أرى سوق المصر إلا خلاف سوق القيروان ".

ومن الأمور المثيرة للدهشة ما ورد فى النص التالى:" وسُئل مالك عما يُُغش من اللبن بالماء أيهراق؟ قال: إن الناس ليهرقونه وأرى أن يُُعطى للمساكين. قيل له: بغير ثمن؟ قال: نعم، إذا كان هو الذى يغش اللبن. . . وأما إن كان إشتراه مغشوشاًً فلا أرى ذلك عليه لأنه يُُُذهِِِب فى ذلك أموال الناس. قيل ليحيى: هل تأخذ بهذا كله؟ قال نعم". ولنتوقف قليلاًً عند العبارة التى تقول لا أرى ذلك عليه لأنه يُُُذهِِب فى ذلك أموال الناس، والعبارة للإمام مالك ولكن يحيى يعتنقها، ولا داعى لأن نعيد قولنا بأن جميع الأفكار حتى ذلك الوقت تدور فى فلك علوم الشريعة على يد عقليات جدلية(19) فذة، وعلى وجه
____________
(15)أضاف مكى كلمة(أصحاب) كى يكون المعنى أكثر إستقامة،كما يقول. وهى غير موجودة فى نسخة المملكة المغربية.

(16) فقد بدأت دولة الأغالبة فى الإحتضار، ومن فترة ليست بعيدة الدولة الأموية.

(17) أشهب بن عبد العزيز المصرى (ت 204 – 819 ) تلميذ الإمام مالك، كما تتلمذ على الفقيه المصرى الليث بن سعد، وإليه إنتهت رياسة المذهب المالكى بعد موت إبن القاسم (فى 191 – 806 ) وقد فضله الإمام الشافعى على جميع تلاميذ الإمام مالك. أنظر: إبن فرحون/ الديباج (ص99)

(18) تسود هنا علاقات العبودية، والصانع الفرد، والإنتاج العائلى.

(19) كان الصراع ما بين الأحناف والمالكية من أشد الصراعات الفكرية وأشرسها آنذاك فى شمال إفريقيا والأندلس.
الخصوص الفقهاء الأربعة الكبار، إذ لا يََملك المرء، أياًً ما كان موقفه الدينى وتوجهه الأيدلوجى، سوى الإنبهار بقدرة هؤلاء فى التحليل والمناقشة وهذه البراعة فى الجدل.

نعود إلى (لا أرى ذلك عليه لأنه يُُُذهِِِب فى ذلك أموال الناس) فمن الواضح فى النص أن الذى يغش فى اللبن، ولا يُُعقل أن يكون الفرض هنا يخص غير التاجر، فإن اللبن يُُتصدق به على المساكين، وفى ذلك منفعة إجتماعية إلى حد ما، ولكن الأمر يتخذ نحواًً مختلفاًً إذ ما كان المشترى أصاب لبناًً مغشوشاًً بالماء، فما عليه العمل لدى يحيى بن عمر وفقاًً للمعتمد لدى المالكية، أن التصدق به على المساكين غير واجب عليه. لما؟ المسألة تكمن هنا فى "لما" هذه. فالعبارة تقول :" لأنه يذهب فى ذلك أموال الناس" أى أن ثمة تصور معين عن كمية الأموال المتداولة فى المجتمع، فإن التاجر الذى يغش اللبن فإنما فى غشه هذا إنما يزيد ما هو متداول من الوحدات النقدية فى المجتمع دون أن تحدث زيادة حقيقية فى السلع المتداولة ومنها اللبن، ولذلك يكون الجزاء هو إمتصاص هذا الجزء الزائد دون تداول نقدى بإعطائه إلى المساكين بدلاًً من إعدامه، لأن التصدق يحوى منفعة إجتماعية تعود على هؤلاء المساكين والمجتمع ككل. أما فى الفرض الذى يجد فيه المشترى اللبن مغشوشاًً فإنه إذ ما تصدق به فإنما يُُسهم، بتصدقه هذا، فى الإخلال بكم الأموال المتداولة فى السوق، ومن هنا كان القول (لأنه يُُذهِِب فى ذلك أموال الناس)

(ب)

وثمة وعى مواز لدى يحيى بن عمر بأن غلاء السلع يعود إلى نقصها فى السوق، أى أن نظرية الطلب والعرض تجد لها مكاناًً مناسباًً فى تفكيره، فإبن شبل يقول:" وسُُئل عن التين والتفاح والعنب والفرسك (أى الخوخ م.ع.ز) وجميع الفواكه تُُبَاع فى السوق قبل أن تطيب. فقال: إن كان كثيراًً فى بلدهم فلا بأس به، وإن كان قليلاًً فلينهوا عن قطعه حِِِصرماًً، لأنه يُُضِِر بالعامة، وذلك أنه يُُُطلَََب فى حينه فلا يكاد يُُوجد فيغلا".

وبهذه المناسبة يعكس لنا مؤلف أحكام السوق طبيعة الحركة فى السوق، وحقيقة وجود تُُجار الجملة، إذ المسألة تتجاوز، وكما سنرى بتفصيل أكثر، البائع والمشترى المجردين، إذ أن الحركة فى السوق لها من الأطراف ما يتجاوز هذه العلاقة الثنائية، فبصدد شراء الرجل لثمار التين التى لم تطب بعد، فقد أثبت له يحيى بن عمر الخيار وحق رد السلعة إذ تبين له العيب فيها، أما إن إشتراه أهل السوق، وهذا ما يهمنا، فوُُجِِد عندهم لم يطب أو وُُجد عندهم مدهوناًً، فليردوه على بائعه، ويقول:" ولا يُُُباع فى أسواق المسلمين، فمَََن باعه بعد ما تُُقدم إليه تُُصدق به عليه أدباًً له".

ويُُوضح لنا يحيى بن عمر، فى أحكام السوق، بعض مظاهر الحركة اليومية، وطبيعة العلاقة بين أطراف السوق، الذين يقيمون علاقات إقتصادية فيما بينهم تحت سمع وبصر الدولة التى تفرض وجودها دائماًً كمراقبة لمعاملات السوق بين أطرافه، "فيجب على الحناطين ألا يبعوا القمح والشعير والفول والعدس والحمص . . . حتى يغربلوها، وفى ذلك قال يحيى: أرى أن يُُلزََموا بذلك" أى أن مراقبة الجودة من الأمور المعروفة لدى يحيى بن عمر. ويتعزز ذلك فى تناوله لمسألة أن رجلاًً دفع بقمحه إلى الطحان كى يطحنه له، فإن على الطحان أن يقوم بما يجب عليه فى سبيل المطلوب منه وأن يرد الطحين لصاحبه دون خسران ودون إتلاف، ويجتهد فى سبيل ذلك إجتهاد الرجل المعتاد، وفى ذلك يقول يحيى بن عمر:" وإن بطل الرحى فأفسد ببطله(20)الطعام فإن لم يكن من الطحان فى ذلك تفريط فلا ضمان عليه". وفى هذا الصدد يقول يحيى بن عمر:" وإن طحن الطعام على أثر النقش(21) فهو ضامن، قاله إبن حبيب(22) فيما يجب لصاحب السوق أن يفعله فى القيم"
____________
(20) هكذا عند محمود مكى، وفى النسخة المغربية : وإن "هطل الرحى فأفسد بهطله الطعام". وأرى أن الأصح هو: "وإن عطل الرحى فأفسد بعطله الطعام".

(21) نقش حجر الرحى هو ضربه بالقدوم حتى يخشن بعد إملاسه على أثر الطحن، والنقش يُُفسِِد الحبوب من تلك الوجهة،وقد ذكر السقطى أن الطحن على أثر النقش مباشرة من الوسائل التى يلجأ إليها الطحانون لغش الدقيق(فى آداب الحسبة ص22،23)

(22) عبد الملك بن حبيب (ت 238/852) من أكبر فقهاء المالكية الأندلسيين.
وحين ننتقل للتعرف على علاقات السوق، أى التعرف على روابط التنظيم الإجتماعى التى تنشأ ما بين أطراف العملية الإقتصادية فى الأسواق، فإننا نلمس وعياًً بتعدد العمليات الإقتصادية بداخل العملية الواحدة كما نلمس وعياًً بتعدد الأطراف وتحديد مسئولية كل طرف مشارك فى تلك العملية، فبشأن الخبز مثلاًً، وبعد أن أوضح يحيى بن عمر الإلتزامات الملقاه على عاتق صاحب الفرن والتى تشمل النهى عن طحن القمح الذى يُُعمَل منه الخبز حتى يُُُغربله ويُُنقيه من الحجارة والعشب ولا يرميه بأثر النقش، نقول بعد أن أوضح يحيى ذلك فقد أجاب حين سُُئل عن الخبز يوجد عند أصحاب الحوانيت ناقصاًً، أجاب:" أرى أن يُُؤدب مََن وجِِدََ عنده ويُُُخرََج من السوق لأنه يتجر فيه ولا حجة له فى نقصانه". وأجاب، حين سُُئل عن الذى يحق عليه العقاب صاحب الفرن أو صاحب الحانوت، بقوله:" إذ عُُُرف صاحب الحانوت بنقصانه فالأدب عليهما معاًً". فكما كان لدينا تاجر الجملة فأصبح لدينا الأن مََن يتوسط فى حركة التداول ما بين المنتِِج وما بين المستهلك، وهو صاحب الحانوت الذى يشترى الخبز من صاحب الفرن ويبيعه إلى المشترى، وقد جعل يحيى مسئوليتهما تضامنية إذ ما كان البائع صاحب الحانوت يََعلم بغش الخبز.

ولا يتحدث يحيى بن عمر عن أسواق المدينة فقط وإنما يتحدث أيضاًً عن المعاملات التى تتم بين المزارعين فى القرى أو البوادى(23)كما يتحدث عن حكم القادمين من القرى لبيع بضاعتهم فى المدن وما ينبغى عليهم، وبصفة خاصة الإلتزام بالأسعار السائدة وجودة السلع.

ومن جهة أخرى، فقد ذكرنا سلفاًً مسألة تزييف العملة المتداولة فى السوق وهى من الدراهم والدنانير، وذكرنا ان تلك الجريمة تُُعد من أشد الجرائم ولذلك غلظََ يحيى لمقترفها العقوبة لشناعة فعله، والأن يوضح لنا يحيى أن السوق لا يقتصر التداول فيها على السلع بأنواعها من مأكل وملبس ومشرب، وإنما تشهد السوق كذلك حركة تداول أخرى، بيعاًً وشراءًً، لوحدات النقود نفسها، بما يعنى معرفة المجتمع فى شمال إفريقيا والأندلس لعملية صرف العملات وتحديد أسعار صرف ثابتة، ومن الواضح وفقاًً لنص يحيى الذى سنورده حالاًً أن مسألة التزييف هذه كانت شائعة، الأمر الذى إستتبع ظهور الخبراء فى مثل هذه الأمور، كما إستدعى ظهور وسائل لإختبار مدى أصالة العملة نفسها، وكان المألوف على ما يبدو هو وضع قطعة النقد بين الأسنان والضغط عليها لتبين مدى صلابتها من ليونتها، وقد يحدث أن تنكسر العملة، وفى ذلك كله يقول إبن شبل:" فى رجل إشترى من صيرفى دراهم مسماة وأراه المشترى الدينار فنقر فيه البائع فتلف . . . أنه ضامن. . . قيل ليحيى: فلو أن رجلاًً أتى بدينار لرجل ليُُريه إياه، فأخذه الرجل فجعلهُُ بين أسنانه لينظر إن كان ذهب الدينار ليناًً أو يابساًً فكسره، وسُُنة الدينار فى الإختبار أن يجعل بين الأسنان: فما كان منها لين عُُلِِم أنه جيد، وما كان يابس عُُلِِم أنه ردىء، فقال يحيى: . . . فلا ضمان عليه".

(ج)

وكما نستطيع أن نستخلص طبيعة العلاقة ما بين صاحب العمل والعُُمَََال، ونكون الوعى بشأن الأجرة التى يتحصلون عليها، ونلمس كذلك وجود نوعاًً ما من الفبارك، وبصفة خاصة فى حقل الخرازين وحائكى الملابس، والمحالج والمطاحن. إذ يستخدم صاحب المحلج أو المطحن العُُمََال فى سبيل إنجاز العمل، الأمر الذى جعل نوعية معينة من الأسئلة تطرح نفسها فى واقع المجتمع آنذاك وعلى يحيى بن عمر بوجه خاص، وهى أسئلة تتعلق بمدى إستحقاق العمال لما يكون بعد حياكة الملابس من قماش فائض، أو نخالة بعد الطحن، ويكون ذلك بمثابة الأجرة، فنرى يحيى بن عمر يََستبعد ذلك، ويََجعل للعُُُمََال أجر مثلهم فى السوق، ويُُوضح النص التالى ذلك:" قيل ليحيى: فإن إشترى الفول الأخضر. . . وفيه الحشيش النابت، فيقول المشترى هو لى، ويقول البائع هو لى؟ فقال: الحشيش للبائع، إلا أن يشترطه المشترى فى شرائه. قيل ليحيى: فالقطن المحبب، يُُدفََع إلى العمال يحلجونه . . . أفلهُم الحب والغبار الذى يََقع منه؟ فقال يحيى: لصاحب القطن ولا يكون للعمال. قيل له: فإن إشترطه العمال مع إجارته؟ قال: الإجارة فاسدة لأنهم إشترطوا شيئاًً مجهولاًً. قيل له: فإن وقعت هذه الإجارة بحال ما وصفتََ لك؟ فقال يحيى: ويُُعطى العمال إجارة مثلهم، ويكون الغبار والحب لصاحب القطن".
____________
(23) يُُطلق لفظ البادية فى المغرب على الأرياف والمناطق الزراعية بوجه عام.

(د)

وبشأن مكافحة الغش التجارى فالمؤلَََف يمتلىء بالعديد من الأمثلة والأحكام(24)نذكر على سبيل المثال: نهيه عن دهن البائع التين بالزيت، وعقوبة ذلك التصدق به، ونهيه أيضاًً عن خلط صاحب الفرن القمح الدنىّّ بالطيب، وقرر إخراج مَََن يفعل ذلك من السوق، ونهيه كذلك عن خلط اللحم السمين باللحم المهزول، ولم يذكر إبن شبل أن يحيى قال بنوع عقوبة مََن يفعل ذلك بيد أن القياس قد يسعفنا فى سبيل الوصول إلى ذلك، ونهى كذلك عن نفخ اللحم، وخلط لحم الضأن بلحم الماعز، إذ قال:" أما النفخ فى اللحم فمكروه عند أهل العلم، فلينهوا عنه أشد النهى فإن عادوا أخرجوا من السوق. وأما بيع لحم الضأن ولحم المعز فأرى أن يُُجعََل كل واحد على حدته ويبيع هذا بسعره . . . ".

وبوجه عام يذكر إبن شبل القاعـدة العامة فى العقوبات المقـــررة بشأن الغش التجارى، إذ يقـول: "قال إبن حبيب: قلت لمطرف وإبن الماجشون: فما الصواب عندكم فيمَََن يغش أو يُُنقِِص من الوزن؟ قالا: الصواب والأوجه عندنا فى ذلك أن يُُعاقبه السلطان بالضرب والسجن والإخراج من السوق. . .".

ويلحق بالغش الإحتكار، فينهى عنه يحيى إبن عمر ويُُقرر لمكافحته مجموعة من القواعد منها قيام الدولة ببيع السلع التى إختزنها التاجر وإحتكر الإتجار فيها لنفسه، ثم تقوم الدولة برد رأس المال إليه بعد هذا البيع للجمهور، ويتصدق بالربح. وفى ذلك يقول يحيى:" أرى أن يباع عليهم ويكون لهم رأس مالهم، والربح يُُتصدق به أدباًً لهم، وينهوا عن ذلك، فمن عاد ضرب وطيف به وسجن". ويحق لنا أن نتوقف هنا كذلك أمام عبارة (والربح يُُتصدق به) فالفرض هنا أن هناك سلعة قام بإحتكارها أحد التجار فتقوم الدولة بالتدخل وتقوم هى بالبيع وإنما بسعر السوق، الذى تكون سلفاًً فى السوق بتفاعل قوى الطلب والعرض بشأن تلك السلعة، أى أن الدولة هنا كذلك تلتزم بسعر السوق الجارى والذى من مكوناته الربح، ولا تضع هى سعراًً من عندياتها، ويرتبط ذلك بالنهى الراسخ عن التسعير فى الذهن الإسلامى وفقاًً لنهى السنة عنه.


(هـ)

وبعد أن إستعرضنا السوق وأطرافه وعلاقاته وأحكامه، فإن الطريق يُُصبح الأن ممهداًً للتعرف على المجتمع ككل وعلاقات التنظيم الأجتماعى بوجه عام، وأول ما نتعرف عليه من مؤلََف أحكام السوق هذه الصورة المثيرة للحياة الإجتماعية الصاخبة، فيحيى إبن عمر يحدثنا عن الخمر والغناء والمعازف، ويتناول الالآت الموسيقية ويُُناقش، كالعادة، مدى شرعيتها. فبشأن الخمور مثلاًً يقول إبن شبل فى أحكام السوق:" كتب إلى عبد الله بن طالب بعض قضاته أنه رفع إلى فى أمر قدور من نحاس تعمل عندهم لا تصلح لغير النبيذ، وقالوا إذا أردت قطع النبيذ والتضييق على أهله فاقطع هذه القدور فأمرت بها فجُُمِِعت من عند أهلها وصيرتها فى موضع الثقة وأوقفتها. فكتب إليه بخط يده: إذا لم يكن فيها منفعة إلا الخمر ولا تكسب لغيره فغير أمرها وأكسرها وصيرها نحاساًً، ورد نحاسهم عليهم كما يُُفعل بالبوق وامنع مََن يعملها. قيل ليحيى: هل تقول بهذا؟ قال: نعم"

كما نستطيع التعرف على واقع الحياة الإجتماعية آنذاك من خلال التدقيق فى المسائل التى تناولها يحيى بن عمر، فقد تناول الحمامات التى كان لها دور إجتماعى كبير وأهمية بالغة فى تلك الحقبة،كما يشير إلى حالة المرأة فى وما كان ينبغى عليها فعله وما يُُحرم عليها إرتداؤه من نعال أو
____________

(24) يُُحرز، بتصورى، كتاب السقطى مرحلة متقدمة بشأن الحسبة وإستعراض حيل البائعين والتجار وغشهم للسلع وتلاعبهم فى المكاييل والموازيين، فمنهم، على سبيل المثال، وفقاًً لما أورده فى آداب الحسبة، مَََن يعد صفيحة رصاص تكون زنتها ثلاث أواق أو أزيد ويدهن وجهها بالشحم أو الشمع المخلوط فيه الزيت فإذا جاء مََن يشترى يلصق تلك القطعة بيده اليسرى فى باطن الكفة ويزن بها كذلك فينتقص المشترى من كل وزنة ثقل الرصاص المذكور، ومنهم مَََن يكتفى فى ذلك بأصل إبهام يده اليسرى لكثرة حنكته وتصرفه بها فى الإخسار والنقص، ومنهم مَََن أخذ صنوجاًً من رصاص مجوفة قد مُُلِِئت شمعاًً فتُُعطى الجرم ولا تُُعطى الوزن، ومنهم مََن يُُرطب القمح والشعير فى الزيت فإذ رطب غرز فيه أطراف إبر الحديد وأخفى مغارزها ليوهم بذلك عند القبض أن الشعير على أصله وهو يأخذ مثلى ثقله بما فيه أطراف الإبر(فى آداب الحسبة/ص15، وما بعدها)
ملابس، ومن هنا نتمكن من التعرف على بعض العادات التى كانت للنساء آنذاك. فمن ذلك ما أورده إبن شبل مثلاًً فى خفاف النساء الصرارة، فيقول:" سُُئل يحيى عن الخف يعمله الخراز من مثل هذه النعال الصرارة: هل يُُنهى الخرازون عن عملها؟ فإن النساء يستعملنها عامدات لذلك فيلبسنها ويمشين بها فى الأسواق ومجامع الناس، وربما كان الرجل غافلاًً فيََسمع صريرَ ذلك الخف فيرفع رأسه. فقال: أرى أن يُُنهى الخرازون عن عمل الخفاف الصرارة . . .".

كما يََنقل لنا يحيى بن عمر صورة صافية للغاية لوضع اليهود والنصارى الإجتماعى وسياسات الإضطهاد الدينى(25)وكيف كانوا يحتلون أحط المنازل فى التنظيم الإجتماعى للدرجة التى تُُجبرهم على وضع علامة معينة، وإرتداء ملابس مختلفة حتى يُُمكن التمييز بينهم وبين باقى أفراد المجتمع من المسلمين؛ فيقول إبن شبل:"كتب إلى يحيى بن عمر صاحب سوق القيروان فى اليهودى والنصرانى يوجد وقد تشبه بالمسلمين . . . فكتب إليه: أن يُُعاقب بالضرب والحبس، ويُُطاف به فى مواضع اليهود والنصارى . . . فإن عاد فأضربه ضرباًً وجيعاًً وأطل حبسه".


ولا يقتصر الإقتصاد فى "أحكام السوق" على السلع فحسب وإنما يمتد كذلك إلى الخدمات، فيشير إلى الفنادق بما يعنى درجة معينة من التطور الإجتماعى والنمو الإقتصادى يتناسب مع قدوم الأجانب إلى المدينة للتجارة أو العِِلم أو السياسة، إذ يُُعالج يحيى بن عمر مسألة تتعلق بتوريد مواد تموينية من قِِبل الريف إلى "الفنادق" وما ينبغى فعلــــه بشأن هذا التوريد، وبوجه خاص طرح السلع القادمين بها فى السوق وليس توريدها إلى الفنادق فتشح ويغلى ثمنها، وبصفة خاصة ان القادمين من خارج المدينة هم فى الواقع أهل الريف الذين يأتون بالغذاء غالباًً، وفى ذلك يقــــول يحيى:"وأرى على صاحب السوق أن يأمر البدويين(26)إذا أتوا بالطعام ليبيعوه فلا يتركوه فى الدور والفنادق، وأن لا يبيعوه فى الفنادق ولا فى الدور وأن يخرجوه إلى أسواق المسلمين حيث يدركه الضعيف والعجوزة الكبيرة . . .".

ونعرف أيضاًً من "أحكام السوق" أنواع الألات الموسيقية، ويدور حولها جدلاًً شديداًً بشأن مدى حلها وحرمتها، ويقول يحيى بن عمر بحرمتها إتساقاًً مع مذهب المالكية وهو الأشد ما بين باقى المذاهب فى مسألة مدى شرعية إستخدامها فى المناسبات الإجتماعية، ويلحقها إبن عمر بالخمور مباشرة. فنعلم من ذلك أن المجتمع لم يكن ليلتزم بكلام فقهائه فى هذا الصدد بالذات.

(3)
خاتمة

وكما ذكرت منذ البدء، يصعب أن أدعى بشأن مؤلَََف"أحكام السوق" أننى بصدد فكر إقتصادى مستقل، وبالمعنى الذى نعرفه نحن أبناء القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد، وإنما يُُوجد خافتاًً وفى أحضان الفقه، والدين بمعنى أدق، إذ لم تزل ذهنية التراث الأسطورى والدين الوضعى سابحة فى الميتافيزيقا، ومتمسكة إلى أقصى الحدود بالميثولوجى، بل ومُُنتِِِجة لهذا الميثولوجى من خلال عملية مستمرة عبر الأجيال، فكانت كُُل التصورات عن الإنسان وعن الطبيعة وعن علاقات الإنسان بالإنسان، وعلاقات الإنسان بالطبيعة كلها نابعة من مََعين الدين، وقد ساعدت العقليات الجدلية العبقرية فى إستمرار هذا المعين فترة طويلة من الزمن إذ كانت هناك ثمة معالجات وإجابات جاهزة لجميع ما يُُُطرح من أسئلة تتعلق بالعقيدة والحيــــاة معاًً، وكانت المعالجات المتعلقة بالحياة اليوميــــة
_________
(25) ربما يُُفسر لنا هذا الوضع الإجتماعى، من زاوية ما، سبب التنكيل بالمسلمين فى الأندلس، فيما بعد، فعلى ما يبدو أن هذه الرقعة من العالم كانت موضع خصيب للصراعات العقائية والمعارك الأيدلوجية ليس فقط بين أصحاب الديانات المختلفة بل وبين أبناء الديانة الواحدة كما ذكرنا من صراع ما بين الأحناف وبين المالكية. ولتلك الصراعات أساس إجتماعى أتصوره فى رغبة الأطراف المتعددة المتصارعة دون سلطة مركزية موحدة، عقب إنهيار الدولة الأموية، وزمن الدولة العباسية، فى الغطاء الأيدلوجى الذى يكسب المنتصر الشرعية، ففى ظل تعدد الأطراف المتصارعة على السلطة تتعدد الإتجاهات العقائدية ويلعب فقه السلطان الدور الرئيسى على مسرح الصراع.

(26) ذكرنا سلفاًً (هامش 23) أن لفظ البادية يطلق فى بلاد المغرب على الأرياف والمناطق الزراعية.
والتنظيم الإجتماعى على درجة عالية من الوعى بالواقع وتطوره على الصعيد الإجتماعى، وقد تبدى ذلك، بغض البصر عن الموقف الأيدلوجى كما ذكرت، فى الإنتاج النظرى الثرى للمذاهب الأربعة، فى المؤلفات المكتوبة أو كُُُتب الأمالى. ولم يكن تخلى الذهنية الدينية ليحدث إلا بتفاعل الذهنية الإسلامية مع ذهنيات الأمم والحضارات الأخرى التى تتعامل مع الدين بمرونة وإيجابية، أو تقدم الدين إبتداءًً من طبيعة التنظيم الإجتماعى نفسه، ليس العكس، ولذلك كان طبيعياًً أن نجد كتاب أحكام السوق الذى جمعه إبن شبل من إجابات وكتابات يحيى بن عمر، والذى حفظه لنا الونشريشى فى المعيار المعرب، ممتزجاًً بالفقه. وبالأساس، وهو أدق، صادر عن الدين.

ولكن ذلك لا يعنى النفى التاريخى لوجود الفكر الإقتصادى والإجتماعى فى تلك الحقبة، بل العكس هو الصحيح، فكان من أهم ما لاحظته فى"أحكام السوق"الوعى الواضح بالكتلة النقدية الموجودة فى المجتمع والأسباب التى تصيبها بالخلل، فى حالة نقصها عن السلع الموجودة فعلاًً فى المجتمع أو زيادتها عنها، كما كان هناك ثمة إهتمام ما بالبحث عن أساس للتسعير، وليس التسعير ذاته لأن ذلك من قبيل المنهى عنه فى السنة، هذا الإهتمام أفرز إشارات لا نستطيع أن نقول انها سيئة تماماًً بشأن القيمة والقيمة النسبية، وعلاقة كل ذلك بالمستوى العام للأسعار.

الأمر الذى يعكس ديناميكية لمجتمع إنسانى مُُتكامل الأطراف ومُُتََشعب العلاقات، إذ نحن، وفقاًً "لأحكام السوق" نواجه مجتمعاًً قد غادر منذ فترة تاريخية طويلة الإقتصـــــاد المعاشى، وصار يعتمد على الريف فى غذائه بشكل أساسى، وفى نفس الوقت يسعى إلى تطوير السمة الرئيسيــــــة التى تميزه كمجتمـع مُُتاجـــــر بالأساس، ومن ثم نجد الإتجــــاه نحو الإستقرار، فقد نجد شبه إختفاء للتاجر الجوال (الرحالة) مع بقاء البعض الفقير من هؤلاء على الهامش الإجتماعى الذين يدورون على منازل المستهلكين، بل أصبحت الحوانيت هى الأماكن الرسمية المخصصة لكى يعرض التاجر بضاعتِِه، والتى ربما يكون هو الذى صنعها عادة بإستخدام قوة العمل، التى يُُمكن أن تكون أجرتها أجرة عينية بجانب وحدات النقود كما نفهم من كلام يحيى بن عمر، أو ربما يكون إشتراها ويُُعيد بيعها رغبةًً فى إسترداد نقوده التى دفعها فى سبيل هذا الشراء وبالإضافة إلى ربح محدد، كما رأينا بصدد الخبز الذى يشتريه صاحب الحانوت من صاحب الفرن ويعرضه لجمهور المستهلكين فى حانوته، بيد أن القاعدة العامة تظل هى توسط التاجر فى حركة البيع والشراء بلعب دور الوسيط بين المنتِِج وبين المستهلك؛ فنجد السلع التى يعرضها عادة تخص مُُنتِِج آخر وقد رأينا مثلاًً لذلك فى بائع الخبز، فهو لم يقمْْ بعمليات الطحن والعجن والخبز، وإنما الذى قام بذلك هو شخص آخر مختلِِف هو صاحب الفرن، وهكذا يُُمكِِن القول بالنسبة لمعظم سلع السوق تُُنتََج فى مكان وتُُباع فى مكان آخر بواسطة شخصين مختلفين. وقد رأينا فى هذا الصدد أيضاًً السلع القادمة من المناطق الزراعية للبيع فى المدينة، أى أن هناك ثمة فصل تاريخى قديم ما بين الريف وبين المدينة.

إلا أن حركة السلع، أياًً ما كانت أشكالها، يُُصاحبها هنا ظهور (عُُمال أُُجراء) وربما بالمعنى الذى سوف يطرح نفسه بعد ذلك بعدة قرون، فعلى الرغم من أنه لم يزل، فى الغالب، العامل برمته ملك سيده وهو بذلك لا يبعه قوة عمله، وإنما هو بأكمله على ملك هذا السيد، قد يستخدمه فى الأعمال المنزلية وقد يستخدمه فى الأعمال الإنتاجية، وبصفة خاصة فى مجال العمل الزراعى مقابل أجرة عينية قد تتمثل فى المأكل والملبس بوجه خاص، إلا أن "أحكام السوق" يقول بإمكانية وجود هذا العامل المأجور من صاحب العمل، أى أن صيغة القانون العام (26) الرأسمالية (وإن كانت فى شكلها البدائى) هو بمثابة نص قانون الحركة العام الحاكم لأداء التنظيم الإقتصادى والإجتماعى آنذاك، وكما رأينا ذلك على سبيل المثال بشأن مسألة أجرة عُُمال الطحان أو الخياط.

رأينا كذلك بشأن الخراز الذى يصنع الخف الصرار ان هذا الصانع إنما ينتج سلعته، الخف، ليس من أجل الإشباع المباشر، وإنما ينتج للسوق، ويتأكد ذلك حين نُُلقى النظرة على حوانيت مدينــــة القيروان
____________
(27) الصيغة هى (ن – (ق ع)+(و أ)–س- Δ ن) وهى تعنى تحول وحدات النقود" الدراهم أو الدنانير) إلى قوة عمل، فى هيئة أجرة، وتتحول كذلك إلى وسائل إنتاج تتمثل فى مواد العمل وأدوات العمل. ثم يبدأ العمال فى إنتاج (س) السلعة، ثم يقوم صاحب العمل ببيعها فى السوق مرة أخرى كى يسترد نقوده (ن) مضافاًً إليها (Δ) أى زيادة كى يكون لديه (Δ ن)وتحكم هذه الصيغة أداء الأفران والمحالج والمطاحن التى تستعمل عمال فى سبيل إنجاز العمل، وفقاًً لما ذكر لنا يحيى بن عمر فى أحكام السوق.
فى القرن التاسع، فوفقاًً "لأحكام السوق" سنجد أن هناك ثمة حانوت يبيع أثواب، أى أن هناك ثمة إنتاج للسوق وليس للإشباع المباشر، فتتبدى هنا قيمة المبادلة بجوار قيمة الإستعمال، بل ومن الممكن أيضاًً أن نرى الأثواب المنتََجة للسوق مكدَََسة بداخل الحانوت لدرجة إحتوائها لحشرات نتيجة هذا التكدس الراجع لفيض إنتاجى من نوع ما.



#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قبل أن نبتهج بالثورة إبتهاج البلهاء فى بلاد البله، لأن ربنا ...
- قبل أن نبتهج بالثورة إبتهاج البلهاء فى بلاد البله لأن ربنا ع ...
- تجديد إنتاج السلطة
- الثورة المصرية من منظور جرامشى
- موجز -فى التناقض- لماو تسى تونج
- الموجز فى تاريخ السودان الحديث المعاصر
- مقرح أستاذنا الدكتور محمد دويدار بشأن الأبعاد الإقتصادية فى ...
- المخدرات كسلعة
- العلاقة ما بين التخلف الإقتصادى والإجتماعى وبين القيمة الزائ ...
- القيمة الهاربة، والقيمة المتسربة، والقيمة المضخة
- الحدث والضربة، ورشادة رأس المال الأمريكى
- كيف يرى محمد دويدار عملية قتل إبن لادن؟ الجزء الرابع
- الرأسمالية وحروب الإبادة (الإنكا، والإزتك)
- كيف يرى محمد دويدار عملية قتل إبن لادن؟ 3
- كيف يرى دويدار عملية قتل إبن لادن؟ الجزء الثانى
- كيف يرى محمد دويدار عملية قتل إبن لادن؟
- الموجز فى التكوينات القبلية فى السودان
- هوجو تشافيز والنفط وأوبك
- فنزويلا: التاريخ والجغرافيا والإقتصاد
- الصراع العالمى على الزيت


المزيد.....




- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - من الفكر الإجتماعى والإقتصادى العربى فى شمال إفريقيا والأندلس فى القرن التاسع الميلادى