فهمي الكتوت في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول قضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي في الأردن، والمصالحة الفلسطينية، ومحاولات احتواء الثورات العربية، والازمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على الوطن العربي.


فهمي الكتوت
الحوار المتمدن - العدد: 3415 - 2011 / 7 / 3 - 13:57
المحور: مقابلات و حوارات     

أجرت الحوار: هيفاء حيدر

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا - 59 - سيكون مع الاستاذ فهمي الكتوت حول: قضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي في الأردن، والمصالحة الفلسطينية، ومحاولات احتواء الثورات العربية، والازمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على الوطن العربي.
 


1- تحدد للاردن دور في اقليم الشرق العربي ضمن معطيات جغرافية وتاريخية، واليوم تطرح تساؤلات حول هذا الدور من جديد بعد اعلان مجلس التعاون الخليجي دعوة الاردن للانضمام اليه، ما هي رؤيتك للدور الإقليمي للأردن، قديما وحديثا، وما هي ابرز محطاته. ؟

الأردن جزء من بلاد الشام كما ان بلاد الشام جزء من الوطن العربي وواقع التجزئة الذي يعيشه الوطن العربي هو النتيجة الكارثية لتقسيمات سايكس بيكو، ومع احتلال فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني أصبحت الدول الاستعمارية تنظر للأردن باعتباره موقعا هاما واستراتجيا يستوعب نتائج هذا المشروع ، بحكم تهجير اكبر تجمع فلسطيني الى الأردن، وبعد ضم الضفة الغربية للأردن وحدة الضفتين بين الضفة الغربية الفلسطينية وشرق الأردن عام 1950، بموجب هذه الوحدة تمتع الفلسطينيون بالحقوق الكاملة كمواطنين أردنيين، " رغم ما يؤخذ على هذه الوحدة بأنها طمست الهوية الوطنية الفلسطينية"، هذه المعطيات زكت دورا هاما للاردن في الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة بعد ان أصبح في الأردن اكبر تجمع للفلسطينيين، ووجود أطول حدود مع العدو الصهيوني. وكان أول وجود علني لحركة المقاومة الفلسطينية في الأردن بعد معركة الكرامة في 21 آذار 1968، انتهى هذا الوجود مع بروز تناقضات بين السلطات الأردنية والمقاومة الفلسطينية تمخض عنها حرب أيلول عام 1970 بين المقاومة والجيش الأردني، التي أسفرت عن مغادرة حركة المقاومة الفلسطينية الى لبنان، بإشراف البعثة العربية المشكلة من أخر مؤتمر قمة في حياة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ولا بد من الإشارة أن منظمة التحرير الفلسطينية قد تنازعت تمثيل الشعب الفلسطيني مع الحكم الأردني وانتهى ذلك بقرار فك ارتباط الأردن الإداري والقانوني مع الضفة الغربية عام 1988.
ومع بدء ما أطلق عليه عملية السلام بعد العدوان على العراق عام 1991 وتعاظم الضغط الأمريكي، سارع الأردن إلى التوقيع على اتفاقية وادي عربه، بعد توقيع اتفاقية أوسلو مباشرة، تشجيعا لنهج أوسلو الذي أدخل القضية الفلسطينية في نفق مظلم واعتبرت الاتفاقيتان امتدادا لاتفاقية كامب ديفد التي وقعها أنور السادات ولمسيرة الحلول الجزئية والمنفردة.
لم تعيد اتفاقية وادي عربة الأراضي الأردنية قرية " أم الرشراش " التي احتلت بعد اتفاقية الهدنة الموقعة في رودس في شباط عام 1949 ، وأقامت عليها إسرائيل مدينة ايلات، كما تضمنت الاتفاقية الإبقاء على الباقورة تحت الإدارة الإسرائيلية تحت مسمى التأجير، عدا عن سرقة المياه، وتعاملت الاتفاقية مع قضية اللاجئين باعتبارها قضية إنسانية، حيث تضمنت ... الطرفان يسعيان للتخفيف من معاناتهم... ومن خلال تطبيق برامج الأمم المتحدة، وغيرها من البرامج الاقتصادية الدولية المتعلقة باللاجئين والنازحين بما في ذلك المساعدة في توطينهم. اعتقد ان النص واضح ولا يحتاج الى تعليق.
أما ما اوحت به وسائل الإعلام الرسمية ولسان حال الحكومة حينها عن مكاسب أردنية بالاعتراف بحدود الأردن، واختراق للنظرية التوسعية الصهيونية ودفن الأطماع الصهيونية في الأردن، فلم تصمد هذه الادعاءات طويلا، فقد تابعنا جميعا السياسات الإسرائيلية المتطرفة ضد الأردن وكيانه واستقلاله السياسي، هذا إذا افترضنا إنها مكاسب كما يتوهم البعض، علما ان الاتفاقية اعترفت بحدود إسرائيل التي قامت على احتلال أراضي الدولة الفلسطينية عام 1948 والتي حددتها الأمم المتحدة، في حين لم تعترف إسرائيل بحدود فلسطين لا التي حددتها الأمم المتحدة بموجب قرار التقسيم أو حدود عام 67 . وقد تصدى الشعب الأردني لهذه الاتفاقية، ومازالت تحتل أولوية اهتمام الحركة الوطنية، وأصبحت من أهم الشعارات التي تجمع عليها مختلف الفئات وشرائح المجتمع الأردني.
عملت الدوائر الاستعمارية على إبقاء الأردن أسيرا للمساعدات الخارجية، التي تؤمن النفقات الجارية لموازنة الدولة، وحصر النفقات الرأسمالية بمشاريع البنية التحتية والمشاريع المظهرية غير المولدة للقيمة المضافة بحيث يبقى الاقتصاد الأردني ضعيفا وعاجزا عن القيام بتأمين نفقات الدولة وتحقيق استقلال اقتصادي. ومن هنا يمكن تفسير دخول الأردن في محاور سياسية، ففي الحقبة الماضية من خمسينات وستينات القرن الماضي وفي ظل الحرب الباردة واشتداد الصراع ما بين حركات التحرر الوطني عربيا وإقليميا، مع الاستعمار بإشكاله المختلفة، في تلك المرحلة سادت حالة من التوتر والانقسام في الوطن العربي أدت الى بروز معسكرين الأول عرف بمعسكر الدول التقدمية بزعامة مصر عبد الناصر والتي ضمت الدول التي نشأت بعد ما عرف بحركات الضباط الأحرار التي نجحت في الوصول الى الحكم، وأقامت أنظمة جمهورية حلت مكان الأنظمة الملكية في كل من مصر والعراق واليمن وليبيا وسوريا وان كانت الأخيرة استثناء حيث لم يحكمها نظام ملكي بل كانت محاولة لم تدم طويلا، وكانت هذه الدول تشكل تحالفا قويا مع الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية، وحصلت على مساعدات عسكرية واقتصادية وسياسية من السوفيت، وحاولت بعضها تقليد التجربة السوفيتية بإقامة أنظمة شمولية، واصطدمت مع الامبريالية . اما المعسكر الأخر غالبيته من الأنظمة الملكية التي أقامت تحالفا مع الدول الغربية برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وانخرطت بأحلاف مرتبطة بحلف النيتو، ودفع الأردن للدخول بحلف بغداد الذي تشكل في أواسط الخمسينات وضم كل من العراق وإيران وتركيا وباكستان، بهدف التصدي لحركات التحرر الوطني، وما يسمى بالمد الشيوعي في المنطقة، غالبا ما استخدمت هذه الفزاعة لتمرير المصالح الامبريالية في المنطقة.لكن الشعب الأردني خاض نضالا جسورا ضد هذا الحلف واسهم بإسقاطه، حيث اختفى دوره مع قيام ثورة 14 تموز في بغداد عام 1958. ومن المفيد التأكيد انه ساد في المعسكرين المذكورين أنظمة حكم استبدادية لم تفسح المجال أمام الرأي الأخر من خلال منظومة ديمقراطية.
وفي خضم الثورات والحراك الديمقراطي العربي، جاءت الموافقة المبدئية على قبول عضوية الأردن والمغرب في مجلس التعاون الخليجي مفاجئة الى حد ما، وطرحت العديد من التساؤلات، رغم وجود مساع أردنية قديمة للوصول الى عضوية الاتحاد، فالأردن والمغرب لا علاقة لهما في منطقة الخليج جغرافيا، وان كان الأردن مجاورا لأكبر دولة خليجية إلا انه ينتمي إلى سوريا الطبيعية جغرافيا واجتماعيا وثقافيا، وهاتان الدولتان غير نفطيتان ولا تنتميان لنادي الأغنياء، مع ذلك يمكن القول إنهما أعضاء في نادي الملوك والأمراء، هذه أسباب موجبة للانضمام، بدليل رفض مجلس التعاون الخليجي عضوية اليمن. إذا نحن أمام محور سياسي لأنظمة حكم متشابهة، والسؤال المطروح ما هي دوافع هذا المحور، وهل لانتصار الشعبين التونسي والمصري على الأنظمة الديكتاتورية، ومواصلة الحراك السياسي في معظم الأقطار العربية انتصارا للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان علاقة في ذلك، اعتقد ان الإجابة نعم. فالمنطقة تشهد إعادة تشكيل على أسس جديدة رغم مقاومة بعض الأنظمة، فهي خطوة استباقية لمواجهة تطورات متوقعة، كما إنها محاولة لتوسيع معسكر التحالف الخليجي للوقوف أمام السياسات الإيرانية خاصة وان الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على إضعاف الدور الإيراني لا إنهائه بمظهر قوي.
لنلقي الضوء على بعض الأسباب الموجبة والمؤيدة لهذا المشروع من جهة للأطراف المعنية، الأردن يواجه قضيتين رئيسيتين الأولى: تتعلق بالأزمة الاقتصادية، فالاقتصاد الأردني يعاني من تباطؤ في النمو، والخزينة تواجه عجزا غير مسبوق قد يتجاوز 2.5 مليار دولار في نهاية العام الحالي، اذا ما استثنينا المساعدات الخارجية الاستثنائية المتوقعة، سواء من اميركا او من دول الخليج، في ظل تنامي المديونية التي تجاوزت 18 مليار دولار، حكومي ومكفول، مع ارتفاع معدلات البطالة واتساع دائرة الفقر، فالجانب الاقتصادي يشكل قلقا كبيرا للأردنيين في ظل نمو النفقات وتراجع الإيرادات المحلية والمساعدات الخارجية، فانضمامه لعضوية المجلس يفسح المجال امام العمالة الاردنية لدخول سوق العمل في دول الاتحاد الامر الذي يسهم في تخفيض معدلات البطالة، ومعالجة مشكلة عشرات الالاف من الخريجين الجدد، خاصة ان الأجهزة الحكومية ليس قادرة على سد هذه الحاجة ، وفي ظل تراجع الطلب في سوق العمل الأردني بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي. كما ان دخول الاردن للمجلس يتيح الفرصة أمام استقطاب استثمارات عربية من دول الاتحاد، وتعزيز التجارة البينية.
أما الصعوبات الموضوعية التي تواجه الأردن بهذا الانضمام، فهي مدى جدوى مواءمة القوانين الأردنية، وهذا مما يتطلب إصدار حزمة من القوانين الاقتصادية للتكيف مع قوانين مجلس الاتحاد، وبعضها سيؤثر سلبا على الخزينة خاصة من ناحية اعتماد التعرفة الجمركية الموحدة لدول الاتحاد ونسبتها 5% على جميع السلع الأجنبية المستوردة من خارج الاتحاد الجمركي، مع إعفاء 417 سلعة بحسب النظام الجمركي لدول مجلس التعاون الخليجي، بينما تصل التعرفة في الأردن حاليا الى 30% عدا عن ضريبة القيمة المضافة المفروضة على معظم السلع المحلية والمستوردة، وهي تحت باب الضريبة العامة على المبيعات ونسبتها 16% والضريبة الخاصة والتي تصل بحدها الأعلى الى 97% على السيارات و40% على المحروقات، وتشكل الرسوم الجمركية والضريبة العامة والخاصة حوالي 55% من الإيرادات المحلية سنويا " 3.4 مليار دولار " كما ان المنتجات المحلية ستواجه منافسة حادة بسبب ارتفاع تكلفتها، وفي حال إلغاء قانون القيمة المضافة على السلع والخدمات من المتوقع اختفاء حوالي نصف الإيرادات الضريبية إضافة الى العجز المتفاقم.
هل ستعتمد الخزينة على المساعدات الخليجية..؟ وهل هذه المساعدات بلا مقابل..؟
أما القضية الثانية فهي جزء من الاشكالية التي تواجه الوطن العربي حيث يشهد الأردن حراكا شعبيا من اجل تعديلات دستورية وقانونية تسهم في بناء الدولة المدنية الديمقراطية، وتحقيق تداول السلطة عبر انتخابات نيابية حرة ونزيهة، وقد شرعت الجهات الرسمية بتشكيل اللجان المختصة لمراجعة الملفات القانونية والدستورية وتقديم المقترحات لاخراج البلاد من الأزمة، ويبدو ان الاهتمام بعضوية الاتحاد سوف يحفز القوى المتضررة من الإصلاحات أن تعمل على إجهاضه.
أما دول مجلس التعاون الخليجي فهي تواجه مشكلتين أيضا الأولى حاجة الشعوب العربية في هذه الدول تحقيق الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات، وان كانت نسبة الانفتاح على الحياة الديمقراطية تختلف من بلد لآخر، فبعض المظاهر البديهية في أي مجتمع ما زالت تعتبر من الممنوعات والمحرمات في بعض دول الخليج، سواء ما يتعلق بحقوق المرأة، اوبحق المواطنين بالانخراط في نشاطات سياسية او نقابية... لم تواجه دول الخليج مشاكل اقتصادية وان كان هناك تفاوت في دخل هذه البلدان، إلا ان بعض دول مجلس التعاون الخليجي تواجه مشاكل أمنية داخلية وخارجية تزداد سخونة في ظل اتساع النفوذ الإيراني في العراق وتنامي طموحاتها غير المشروعة في منطقة الخليج العربي، وهنا لا يمكن تبرئة الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني في تعميق الأزمة وتوسيع الهوة من خلال سعيهما المتواصل لبناء جبهة معادية لإيران.
إذا الجانب الأمني من اهم مقومات المشروع، وهناك افكار يجري تداولها بين بعض المسؤولين في المنطقة حول دور امني للأردن، خاصة أن تعاونا بين الاردن ودول مجلس التعاون الخليجي قائم، فالأردن يقدم دعما عسكريا لوجيستيا وعمليا مباشرا، وقد اكد سفير البحرين في فرنسا لوكالة رويترز ان هدف مجلس التعاون الخليجي من ضم المغرب والأردن تعزيز النفوذ السياسي والعسكري لمجلس التعاون الخليجي الذي يواجه تهديدات الجيران.



2- ثورات وانتفاضات العالم العربي ،بعد مضي أشهر على تغيرات مصر وتونس ، هل لديك خوف من احتواء هذه الثورات من قبل القوى المضادة، او استثمارها من القوى الإسلامية ؟ أين ترى دور وتقصير قوى اليسار في الوضع العربي الراهن؟

مع انهيار أنظمة الحكم الديكتاتورية في كل من تونس ومصر، يقف الشعبان الشقيقان على أعتاب مرحلة جديدة، سمتها الأساسية بناء الدولة المدنية الديمقراطية، التي تكفل الحقوق المتساوية للمواطنين دون تمييز بغض النظر عن العرق والجنس والدين، وتضمن حقوق الإنسان، وتحفظ للمواطن كرامته، وتوفر الحرية والديمقراطية، وتحقيق التنمية الاقتصادية الإنتاجية، التي تحقق معدلات مرتفعة لنمو الناتج المحلي الإجمالي، بهدف توفير الخيارات المادية للمجتمع من سلع وخدمات ضرورية لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، ومعالجة قضايا الفقر من خلال التوزيع العادل لمكتسبات التنمية الاقتصادية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، واجتثاث كافة مظاهر الفساد ومعاقبة الفاسدين، وحل مشكلة البطالة.
ومن الطبيعي ان تصطدم هذه الأفكار والمبادئ بجملة من المعوقات والصعوبات حين تنتقل للواقع الملموس سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فقوى الشد العكسي معنية بإفشال المشروع العربي الديمقراطي الاجتماعي الجديد، سواء من خلال التصدي المباشر للثورة، أو إعاقة مسيرتها بوضع العصي بالدواليب، أو محاولات الاحتواء الناعم من قبل صندوق النقد الدولي " ودول الثمانية" الدول الصناعية الكبرى بإظهار "الحرص" الشديد على هذه البلدان بتقديم القروض للمساعدة في مواجهة الظروف الصعبة، بسبب انخفاض إيراداتها خلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها هذه البلدان، بالإضافة الى التركة الثقيلة التي خلفتها الأنظمة البائدة في كل من مصر وتونس من خراب في الاقتصاد الوطني نتيجة بيع مؤسسات الدولة التي كانت تدر دخلا للخزينة بأسعار رمزية لا تشكل ربع القيمة الفعلية لهذه المؤسسات، وبيع الأراضي بسعر لا يزيد على 5% من سعرها فى السوق وفقا لمصادر مصرية مطلعة، مقابل الحصول على عمولات مرتفعة، وجرائم الفساد والسطو على المال العام، فقد نهب حفنة من اللصوص مئات المليارات من أموال الشعب، الأمر الذي وضع اقتصاديات هذه البلدان في وضع حرج، كما تكبدت اقتصادياتها خسائر كبيرة بسبب ظروف الثورة سواء نتيجة النشاط التخريبي لأيتام النظام البائد المتضررين من الثورة، أو بسبب بعض الإرباكات التي أدت الى تراجع الإنتاجية. مع الأخذ بعين الاعتبار ان البلدين في مرحلة انتقالية، حيث لم تتشكل بعد الأطر الديمقراطية التي تحمي الثورة وتتولى وضع سياسات مالية واقتصادية محددة المعالم لإعادة بناء الدولة.
فقد أعلنت تونس أنها تحتاج إلى 125 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة لإطلاق برنامج يهدف إلى إنعاش الاقتصاد وتوفير مزيدا من فرص العمل، أما مصر فتحتاج الى أكثر من ذلك بكثير، وقد تعهدت الدول الثمانية المجتمعة في باريس بتقديم قروض للدول العربية غير النفطية بقيمة 20 مليار دولار لدعم التحول العربي الى الديمقراطيات، بعد الثورات الشعبية، على ان يتم دراسة حجم المساعدات التي سيقدمونها لكل من مصر وتونس لاحقا وكيفية صرفها، كما حصلت مصر على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار لتغطية عجز الموازنة. كما حصلت تونس على قرض بقيمة 500 مليون دولار من البنك الدولي، حرص دول الثمانية وصندوق النقد والبنك الدوليين لم يكن مفاجئا، ولم ينبع من باب الرغبة الحقيقية لتحقيق تنمية اقتصادات الديمقراطيات الجديدة إذا جاز التعبير، أو مساعدتها لتجاوز الأزمة، هذه التوجهات الاقتصادية تعيدنا عدة عقود للوراء حين نجحت الدول المانحة في ثمانينيات القرن الماضي في إغراق البلدان النامية بالمديونية ومن ضمنها البلدان العربية، بهدف إخضاعها لما يسمى في برنامج التصحيح الاقتصادي، الذي بموجبه يفرض صندوق النقد والبنك الدوليين شروطهما على الدول المقترضة، بفرض حالة تقشف على المواطنين، ووقف كافة أشكال الدعم على السلع الضرورية والخدمات الصحية والتعليمية، لتخفيض عجز الموازنة، وحرمان هذه الدول من حماية منتجاتها المحلية، وفرض سياسة الخصخصة، أي إعادة السيطرة الكاملة على القرار السياسي والاقتصادي، وإفراغ الثورة من مضامينها.
وقد حذر خبراء دوليون من التورط في الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي باعتبارها أداة لفرض شروط واملاءات الصندوق والتي أدت الى تدمير اقتصادات الدول النامية وإفقار شعوبها، وفي بحث اقتصادي للخبير الأمريكي ريك راودن أوضح أن مصر تحتاج بلا شك للتمويل الخارجي لتمر بسلام من مرحلة تأثيرات التغييرات السياسية الأخيرة، لكن هذا التمويل يجب ألا يأتي من صندوق النقد، وأضاف أنه بدلا من ذلك يمكن لمصر أن تلجأ إلى جيرانها بالمنطقة ودول ذات اقتصادات صاعدة مثل البرازيل والصين وشرق آسيا لسد احتياجاتها المالية.
وفي هذا السياق ينبغي التفكير جديا في إنشاء بنك للتنمية في الوطن العربي بهدف دعم الدول العربية وحل مشاكلها الاقتصادية. من خلال تقديم القروض لدعم الاقتصادات العربية، لتوفير المال لتحقيق تنمية اقتصادية، بلا تكلفة سياسية للحفاظ على استقلالية الدول المقترضة، وبناء اقتصاد لدولة تحقق الرخاء والازدهار لشعوبها.
أما موضوع استثمارها من القوى الإسلامية فهذا ممكن ولكن في حدود معينة، وهنا ينبغي التوقف عند هذه النقطة فالحركة الإسلامية هي جزء من النسيج الاجتماعي في الدولة، وقد نجحت في توسيع قاعدتها الشعبية نتيجة لعدة ظروف وعوامل متعددة ، ابرزها تراجع المشروع القومي واليساري، فهي الأكثر شعبية من الأحزاب اليسارية والقومية في المرحلة الحالية، لكنها لا تمتلك البرنامج الاقتصادي الاجتماعي الذي يؤمن لها القدرة على تحقيق تنمية اقتصادية تسهم في معالجة القضايا الاجتماعية، وان كانت تتطلع الان الى الاستفادة من التجربة التركية، وبحدود معرفتي انها مهتمة في هذه التجربة التي حققت انجازات بمعدلات النمو الاقتصادي، لكنها فشلت في حل مشكلة البطالة كبقية البلدان الراسمالية، ينبغي ان لا ينظر لتجربة الحركات الإسلامية كتجربة واحدة، فهناك خصائص لكل تجربة بمعزل عن الأخرى، على الرغم من العلاقات الأممية التي تجمعهم، في العراق وقفوا الى جانب الأمريكان بينما في الأردن وفلسطين مواقفهم مختلفة، نحن في الاردن اقمنا اوسع جبهة وطنية للاصلاح ضمت سبع احزاب سياسية من التيارات القومية واليسارية والاسلامية، بالاضافة الى شخصيات وطنية ومنظمات نسائية وشبابية ومهنية، صحيح ان هذا التحالف مرحلي، لكن مساحة القواسم المشتركة في قضايا الإصلاح السياسي ومواجهة الفساد واسعة، حيث اجمعت على وثيقة سياسية تضمنت برنامجا وطنيا للاصلاح.
الأحزاب القومية واليسارية التي وصلت الى السلطة في عدد من الدول فشلت في تحقيق أهدافها القومية أو الاجتماعية المعلنة، وانتهى بها المطاف الى ان تحولت الى أحزاب متسلطة على شعوبها في معظم البلدان، فالأحزاب اليسارية والقومية تقولبت إيديولوجيا ضمن التجربة السوفيتية، وحافظت على نظام غير ديمقراطي في البناء الحزبي، واختزل الحزب بالأمين العام، وغيبت المؤتمرات الحزبية الديمقراطية، وتحول المؤتمر الى طقوس ومهرجانات احتفالية في أحسن الحالات، وانقسامات في حالات أخرى، كل ذلك ليس مهما، المهم ان يبقى القائد الملهم على رأس الحزب مدى الحياة، أما برامجها وسياساتها فقد غلب عليها الطابع الكلاسيكي الروتيني، فهي غير متصلة في الحياة اليومية للمواطنين، وبعضها اقترب او انتفع بشكل أو بأخر من الحكم واستمرأ الوضع واعتبر ذلك انجازا وثمرة نضال.. للأسف الشديد ان معظم هذه الأحزاب لم تجدد برامجها وانظمتها الداخلية، الامر الذي اضعف دورها في الحراك السياسي، وقد فوجئت الاحزاب عامة بقدرة الشباب على الحركة والتنظيم والتأثير، وهذا تعبير عن ابتعاد الاحزاب السياسية عن نبض الشارع وعن الجيل الشاب تحديدا، وقد تبين ان نسبة عالية من الاجيال الجديدة لا تثق بقدرة الاحزاب التاريخية بالتغيير الأمر الذي يتطلب دراسة هذه الظاهرة بموضوعية بعيدا عن المناكفة او التبرير، للوصول الى صياغات جديدة لبرامج هذه الاحزاب وأنظمة داخلية توفر الأطر التنظيمية المرنة والفضفاضة أحيانا لاستيعاب الشباب في منظمات شبابية وحزبية وطنية لضمان تطوير وتعميق منجزات الثورة الديمقراطية في ابعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.



3-المصالحة الفلسطينية –الفلسطينية ،التدخل العربي في المسار الفلسطيني، والمطلوب من الفلسطينيين على الصعيد الدولي،كيف ترى خارطة الصراع اليوم ؟الى اين يسير المركب الفلسطيني؟وأين نحن من إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وحق العودة ؟

ابتهج الشعب الفلسطيني لاتفاق القاهرة، وعمت الفرحة مختلف المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، واستقبل الاتفاق الذي وقعته الفصائل الفلسطينية برعاية مصرية باهتمام وترحيب عربي وإسلامي واسع، متمنيين جميعا ان يتجسد هذا الاتفاق بمصالحة حقيقية على الأرض، تطوي اربع سنوات من الانقسام والصراعات الداخلية التي مزقت الصف الوطني الفلسطيني، وأجهضت النضال ضد الاحتلال، وعرضت الاف الفلسطينيين للاضطهاد الفصائلي، فالاتفاق ثمرة من ثمرات ربيع الثورات العربية الذي احتضنته الشقيقة الكبرى مصر، والتي نجحت خلال فترة وجيزة على الرغم من الصعوبات الداخلية في رأب الصدع بين ابرز تنظيمين فلسطينيين، فهو عدا عن كونه انتصارا فلسطينيا، فهو تعبيرعن استقلالية القرار الوطني المصري ايضا، ومؤشر لدور مصري واعد في الوطن العربي، يعيد لها مكانتها العربية والدولية، برز ذلك جليا بقرارها رفع الحصار عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

لا شك ان توقيع اتفاق المصالحة يشكل انتصارا للشعب الفلسطيني في نضاله من اجل الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية، لكن هذا الانتصار مشوب بالحذر لحجم الصعوبات والتعقيدات التي تواجه تطبيق هذه الاتفاق، سواء ما يتعلق بتشكيل الحكومة، وتوحيد الأجهزة الأمنية، وإطلاق صراح المعتقلين لدى الطرفين، وإجراء الانتخابات المتزامنة للمجلسين الوطني والتشريعي والرئاسة، تحقيق هذه المهام يتطلب التحلي بالصبر والحكمة وتقديم المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني على حساب المصالح الفئوية الضيقة، فقد سبق ووقعت الفصائل الفلسطينية اتفاقية مكة، الا انها لم تر النور.. صحيح اننا أمام ظروف عربية واقليمية مختلفة، وان عوامل موضوعية نشأت لصالح الوصول للاتفاق، أهمها انتصار الثورات العربية في عدد من الأقطار العربية، وتواصل التحركات الشعبية المنادية بالحرية والديمقراطية، بما في ذلك بروز اتجاه قوي في الشارع الفلسطيني يطالب بانهاء الانقسام.. مع ذلك لا يمكن التقليل من الصعوبات التي تواجه تحقيق الوحدة الوطنية بين الفصائل، فالصراع بين الاجهزة الامنية من جهة، والسيطرة عليها من جهة اخرى سبق الانقسام بين فتح وحماس، وبرز منذ قيام السلطة الفلسطينية في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، أما العبء الثقيل الذي خلفه اتفاق اوسلو وملحقاته من اتفاقيات أمنية واقتصادية - ملحق باريس الاقتصادي- والاتفاقيات السرية التي تشكل عائقا حقيقيا للوصول الى شاطئ الأمان، وفي مقدمة ذلك الصعوبات الناجمة عن الضغوطات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي يمارسها الكيان الصهيوني على السلطة الفلسطينية، فقد صدرت التهديدات الإسرائيلية للسلطة بالتخلي عن الاتفاقية، واوقفت تحويلات ضريبة القيمة المضافة للسلطة من البضائع الفلسطينية الواردة للضفة الغربية لعدم وجود معابر تحت إدارة السلطة الفلسطينية. ويشكل الجانب المالي والاقتصادي احد العوامل الضاغطة على اتفاق المصالحة فقد بلغت الايرادات الضريبية التي تم تحصيلها من خلال المحتلين الصهاينة عام 2010 بموجب اتفاق باريس الاقتصادي 1320 مليون دولار وفقا لموازنة السلطة الفلسطينية، وغالبا ما تستخدم هذه التحويلات للابتزاز، وقد حذر وزير الاقتصاد الفلسطيني من مصادرة هذه الاموال، مؤكدا ان اجراء كهذا سيشكل صعوبة على السلطة في الوفاء بالتزاماتها خاصة على صعيد دفع الرواتب التي تقدر بحوالي 150 مليون دولار شهريا لحوالي 160 ألف موظف فلسطيني.
رغم كافة الصعوبات، لا خيار امام الشعب الفلسطيني سوى المصالحة بغض النظر عن الضغوطات المالية او السياسية التي تتعرض لها الفصائل، خاصة ان المراهنة على المفاوضات الاسرائيلية سقطت، وان اتفاق اوسلو فشل بكل المقاييس، والسلطة وصلت الى طريق مسدود، وبقي الشعب الفلسطيني في قطاع غزة يعاني من الحصار، ولم تفلح سلطة حماس في تحقيق اختراق في هذا المجال على الرغم من حملات التضامن العالمية التي نظمت لكسر الحصار، وان الوطن العربي يعيش مناخا سياسيا يبشر بميلاد مرحلة جديدة، عنوانها الحرية والديمقراطية، وان الشعب الفلسطيني كبقية الشعوب العربية تواق للحرية والديمقراطية ويسعى لتجديد قياداته ديمقراطيا لتشكيل روافع نضالية للتسريع في تحقيق الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية، وان مناخ الثورات الشعبية يمكن استثماره لتشكيل موقف عربي داعم ومساند لنضال الشعب الفلسطيني، بتوفير كافة مستلزمات الدعم السياسي والمادي كي لا تتعرض السلطة الفلسطينية للابتزاز الصهيوني، وهذا يتطلب موقفا فلسطينيا متقدما لحشد الطاقات الشعبية وزج كافة الامكانيات للنضال ضد الاحتلال بكافة الوسائل الممكنة، وتوجيه الإمكانيات المالية المتاحة لخدمة هذه الأهداف وتوفير الشفافية ومكافحة أشكال الفساد المالي والإداري.
اما موضوع تحرير الارض واقامة الدولة الوطنية الفلسطينية: لا شك ان هذه القضية تراوح في مكانها ان لم نقل أن تراجعا ملموسا تم خلال السنوات الاخيرة على هذا الصعيد، فالانقسام الفلسطيني القى بظلاله على قضية النضال الوطني الفلسطيني، بالاضافة الى لهاث السلطة وراء مفاوضات عبثية مع جهات ترفض من حيث المبدأ الاعتراف بقرارات الامم المتحدة كمرجعية للمفاوضات، والانسحاب من الاراضي المحتلة ووقف الاستيطات، وتفكيك المستوطنات، وهدم الجدار، ووقف تهويد القدس، في ظل الضعف والتردي في الموقف العربي، والتبدلات الدولية في موازين القوى، الامرالذي يتطلب انجاز مشروع المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية، وتفعيل دور منظمة التحرير الفلسطيني، واجراء مراجعة جادة وشاملة لقضية المفاوضات والاتفاقيات الامنية مع اسرائيل، وطرح برنامج وطني نضالي تزج به كافة الامكانيات الشعبية لمواصلة النضال بعيدا عن اوهام المفاوضات العبثية، واعادة بناء موقف عربي داعم ومشارك في النضال الفلسطيني، بحشد الامكانيات السياسية والاقتصادية والعلاقات الخارجية خدمة لتعزيز جبهة المواجهة مع الاحتلال لممارسة الضغوط الكفيلة بهدف احداث تغييرفي موازاين القوى دوليا لصالح الشعب الفلسطيني، وهذا يتطلب ايضا اعادة بناء علاقات دولية شعبية ورسمية خدمة للهدف المنشود.
 


4- ما هي ابرز المشاكل التي تواجه الأردن، وما هي رؤيتك لقضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي، وأين تكمن المشكلة في الجوانب القانونية والدستورية أم في الحكومة أم في الأحزاب السياسية؟ وكيف يمكن مواجهة قضايا الفساد ؟

شكلت هبة نيسان المجيدة عام 89 منعطفا تاريخيا في حياة البلاد، وفتحت آفاقا واسعة لإجراء مراجعة شاملة لمختلف السياسات التي كانت سائدة، جاءت الهبة تعبيرا صادقا عن إرادة الشعب الاردني برفض الخنوع للسياسات الرسمية التي أوصلت البلاد الى الأزمة الاقتصادية، باختفاء احتياطيات الدولة من العملات الأجنبية، وانهيار سعر صرف الدينار أمام العملات الأجنبية، وإغراق البلاد بالمديونية، وتراجع معدلات النمو الاقتصادي، واتساع دائرة الفقر والبطالة، وارتفاع أسعار مختلف السلع والمواد الأساسية نتيجة انهيار القيمة الشرائية للأجور.
كان لهبة نيسان الأثر البالغ في إرغام السلطة على إعادة الحياة السياسية للبلاد وإلغاء الإحكام العرفية، وإجراء الانتخابات النيابية التي أسفرت عن فوز نواب يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي من مستقلين وحزبيين، حقق البرلمان الحادي عشر المنتخب انجازات هامة من أبرزها إلغاء قانون الدفاع وقانون مكافحة الشيوعية، واصدر قانون الأحزاب السياسية، واصدار الميثاق الوطني .
لم يكمل البرلمان دورته، حيث نسبت الحكومة بحل المجلس، وأصدرت قانون انتخابات مؤقت يعتمد مبدأ الصوت الواحد، وأجرت الانتخابات على أساسه، شكل القانون الجديد تراجعا ملموسا في الحياة السياسية واضعف دور الأحزاب السياسية، واسهم في تمزيق النسيج الاجتماعي وعمق النعرات الإقليمية والجهوية، ونجحت هذه الاجراءات في إجهاض الحركة الشعبية والالتفاف على بعض المكاسب التي تحققت.
أوصل القانون الجديد مجلسا نيابيا طيعا بأغلبيته، مكن الحكومة من تمرير اتفاقية وادي عربه مع العدو الصهيوني، ومواصلة العمل من اجل تطبيق ما يسمى في برنامج التصحيح الاقتصادي، وتطبيق السياسات الليبرالية الجديدة، التي بموجبها تم التخلي عن مقدرات الشعب باسم خصخصة مؤسسات الدولة لصالح الاحتكارات الرأسمالية، بأسعار لا تتناسب إطلاقا مع القيمة الفعلية لهذه المؤسسات، وأنفقت كافة عائدات التخاصية التي بلغت قيمتها حوالي 1726 مليون دينار ولم يبقى منها سوى 13 مليون دينار في صندوق التخاصية، دون الاستفادة منها بإنشاء مشاريع تنموية اقتصادية.
الوضع الاقتصادي يشكل قلقا كبيرا للأردنيين خاصة في ظل نمو النفقات وتراجع الإيرادات المحلية والمساعدات الخارجية، فتواجه الخزينة عجزا غير مسبوق انعكس تأثيره على التوجهات السياسية في البحث عن القروض والمساعدات الاضافية، في ظل تنامي المديونية التي قدرت بحوالي 13 مليار دينار، كما تراجع رصيد احتياط البنك المركزي من العملات الأجنبية بحوالي 10% في نهاية الثلث الأول من العام الحالي 2011 عن مستواه في نهاية عام 2010. كل ذلك ثمرة السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة، والتي خضعت لاملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين بالتخلي عن أهم منجزات الاقتصاد الوطني لصالح الاحتكارات الرأسمالية، وتهميش القطاعات الاقتصادية الإنتاجية الزراعة والصناعة ونمو القطاعات الطفيلية، وتعميق التشوهات الهيكلية للاقتصاد الوطني.
وتجلت مظاهر الأزمة الاقتصادية بتراجع وتائر النمو الاقتصادي خلال عام 2009 الى 2.8% و في عام 2010 الى 3.1% مقارنة مع نمو قدره 7.8% في عام ،2008 وأدى هذا التراجع الى انخفاض إيرادات الخزينة، إضافة الى انخفاض المساعدات الخارجية، وارتفاع معدلات البطالة واتساع دائرة الفقر، وعجز في الميزان التجاري قدره 4721.8 مليون دينار، وعجز في الحساب الجاري قدره 931.4 مليون دينار، كما شهد الربع الأول من العام الحالي ارتفاعا ملحوظا في المستوى العام للأسعار بلغ حوالي 4.4%، متجاوزا معدلات النمو الاقتصادي، مما افقد عائدات التنمية الاقتصادية أية أهمية من الناحية الاجتماعية، ناهيك عن التوزيع غير العادل للثروة، وانتشار جرائم الفساد، أما الأرقام القياسية لتكاليف المعيشة فقدرت بحوالي 25% خلال السنوات الأربع الأخيرة والمواد الغذائية وحدها بحوالي 38% وفقا لمعلومات دائرة الإحصاءات العامة، والتي أدت هذه السياسات الاقتصادية الى زيادة عدد الفقراء.
نجحت الحكومات المتعاقبة في اجراء العديد من التعديلات الدستورية واصدار القوانين العرفية التي اسهمت في تقييد الحريات العامة وتهميش دور الجماهير الشعبية وتزوبر الانتخابات النيابية وتغول السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، لذا ينبغي ان تنطلق الاصلاحات من النص الدستوري،" نظام الحكم في الأردن نيابي ملكي وراثي، وان الأمة مصدر السلطات " ولضمان تحقيق هذه المبادىء لا بد من إلغاء كافة التعديلات التي طرأت على الدستور الأردني الصادر عام 1952 والتي أدت الى تغول السلطة التنفيذية على السلطات الاخرى، والإقرار بمبدأ فصل السلطات الثلاث وتحديد صلاحية كل سلطة. وإجراء تعديلات على بعض مواد الدستور لضمان حق التداول السلمي للسلطة، بتكليف تكتل الأغلبية في تشكيل الحكومة، وتمتعها بالولاية العامة، وحصر حل البرلمان بوجود أزمة سياسية تفرض إجراء انتخابات مبكرة . وتشكيل محكمة دستورية للنظر في دستورية القوانين .
اما الإصلاحات السياسية المطلوبة تتضمن إعادة النظر بالقوانين الناظمة للحياة السياسية وإصدار قوانين جديدة تضمن تطوير الحياة السياسية والحزبية، وقطع الصلة مع مرحلة الثقافة المعادية للأحزاب السياسية التي مازالت مظاهرها موجودة، بوقف الملاحقة الأمنية، أو الحرمان من الوظيفة، في مؤسسة أو دائرة أو وزارة حكومية، لمن يحمل أفكارا سياسية لا تنسجم مع رأي الحكومة. وإصدار قانون انتخاب ديمقراطي يعتمد مبدأ قائمة الوطن النسبية. ويتضمن إشرافا قضائيا، كما يفترض ان يتضمن القانون اتخاذ اشد العقوبات ضد أي شكل من أشكال تزوير إرادة الشعب، سواء بالتزوير المباشر أو غير المباشر، أو استخدام المال أو أي شكل من أشكال الرشا في التأثير على الناخب للتصويت لمرشح معين.
مخرجات لجنة الحوار التي شكلتها الحكومة لقانوني الانتخاب والاحزاب طرحت نظام انتخابي على أساس، قائمة المحافظة النسبية المفتوحة، وقائمة الوطن النسبية المفتوحة، وخصصت 15 مقعد فقط للوطن، على ان تعتبر كل محافظة دائرة، باستثناء محافظة العاصمة ومحافظة اربد ومحافظة الزرقاء تقسم من 2-3 دوائر، اهمية هذه المقترحات انها تخلت عن مبدأ قانون الصوت الواحد، مع ذلك تحمل الصيغة العديد من الثغرات من بينها، اعتماد " القائمة المفتوحة وليست المغلقة "، بمعنى ان يختار الناخب القائمة اولا وبعد ذلك يختار المرشح من داخل القائمة، وهذا لا يساعد على ايصال ممثلين سياسيين لاحزاب وتكتلات سياسية حيث ستطغى مجددا نمطية الصوت الواحد على السلوك الانتخابي باختيار المرشح الاقرب للاسرة او العشيرة في القائمة، كما تفسح المجال أمام الغدر والخداع بين أطراف الكتلة الواحدة، أما مقاعد القائمة النسبية المفتوحة للوطن، فالعدد متواضع جدا ولا يشكل بداية مناسبة يمكن التأسيس عليها، كما اشترطت المقترحات فوز واحد بحد ادنى من كل محافظة، معنى ذلك انه سيفوز مرشح بأصوات اقل من قائمة، مقابل سقوط مرشح من قائمة اخرى حصل على اصوات اعلى.
اما ما يتعلق بقانون الاحزاب فقد حققت لجنة الحوار تقدما ملموسا ومهما في هذا المجال، مع وجود ثغرة باشتراط وجود 250 شخص حد أدنى لتأسيس الحزب، من خمس محافظات، ان مبدأ الاشتراط باعداد محددة للهيئة التأسيسية امر مناف لحق المواطنين بالتعبير عن ارادتهم السياسية من خلال مؤسسات حزبية، وان شروط تأسيس الحزب ينبغي ان لا تكون أكثر من إشهار لمجموعة ترغب بتأسيس حركة سياسية تعمل ضمن الحقوق التي منحها الدستور، على اسس ديمقراطية وتعتمد الوسائل السلمية لتحقيق أهدافها، أما الدعم المادي للأحزاب السياسية فهذا يخضع لمعايير محددة لها علاقة بتأثير الحزب في صناديق الاقتراع في المجالس المحلية والنيابية، وغيرها من الاشتراطات .
مع ذلك تعتبر مخرجات لجنة الحوار مجرد مقترحات توضع بين ايدي الحكومة، ومن ثم تحال الى مجلس النواب اذا لم يتم حله "وفقا لبعض التسريبات" وفي هذه الحالة تصدر بقوانين مؤقتة، وليس من المتوقع تمرير هذه المقترحات على تواضعها، بل ستتعرض لمزيد من التعديل والتهشيم لتفقد أية أهمية، مع ذلك مازلنا ننتظر التعديلات الدستورية، التي تعتبر المعيار الرئيس للإصلاح، والمطلوب تعديلات جوهرية ترسخ بناء نظام ديمقراطي وإقامة الدولة المدنية، دولة القانون والمؤسسات، وان كنت ليس متفائلا، قياسا لنتائج لجنة القوانين، ومن المتوقع ان تنهي اللجنة المكلفة بالتعديلات الدستورية اعمالها في اب/ اغسطس القادم .
تعتبر الإصلاحات الدستورية والسياسية الخطوة الاولى لتحقيق اصلاحات اقتصادية تنطلق اساسا من تصويب التشوهات الهيكلية للاقتصاد الوطني بتوجيه الاستثمار نحو المشاريع الإنتاجية، في القطاعات الاقتصادية - الصناعة والزراعة والسياحة- مستفيدين من الثروات الغنية في البلاد، وتشجيع الصناعات الوطنية التي تعتمد على المواد الأولية المحلية، وتوفير بيئة استثمارية بتحقيق الشفافية والتسهيلات الإدارية، وحمايتها من أخطار السياسة الاغراقية، لتعظيم دور الاقتصاد الحقيقي في الاقتصاد الوطني، وزيادة القيمة المضافة، ومعالجة مشكلة البطالة، وزيادة إيرادات الخزينة.
وإلغاء القانون المؤقت لضريبة الدخل الذي أدى الى تخفيض مساهمات كبار الرأسماليين في إيرادات الخزينة، وتحقيق إصلاح ضريبي يعتمد مبدأ الضريبة التصاعدية على الأرباح، يكفل زيادة إيرادات الخزينة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وفرض ضريبة على أرباح المتعاملين في البورصة، أسوة بالمستثمرين في القطاعات الأخرى في البلاد، عبر آلية مناسبة لتحديد صافي الربح والخسارة للمتعاملين في نهاية كل عام.
وتطوير التجارة البينية مع كافة البلدان العربية والعمل على تفعيل المؤسسات الاقتصادية العربية، وتشجيع فكرة إنشاء صندوق لتمويل المشاريع الاستثمارية الإنتاجية لبناء اقتصادات عربية متكاملة، ومواجهة سياسة العولمة الرأسمالية بقيام تكتل اقتصادي عربي، وإغلاق كافة المؤسسات الاقتصادية المرتبطة بالعدو الصهيوني أو أي شكل من أشكال التطبيع.
حكومة منتخبة تحظى بثقة الشعب وحدها القادرة على استرداد المال العام المنهوب من خلال الصفقات المريبة، وإغلاق منابع الفساد بإجراءات حازمة، ومحاكمة الفاسدين، وعدم استخدام قضية مكافحة الفساد كقضية إعلامية بل في تحقيق خطوات ملموسة.


5- كيف تقيم الأزمة الرأسمالية العالمية وتأثيراتها على العالم العربي، وما هو برأيكم البديل الأنسب لمواجهة السياسات الاقتصادية الليبرالية ؟


في كانون أول عام 2009 أعلنت الولايات المتحدة الامريكية عن خروج اقتصادها من حالة الكساد، ورغم مرور عام ونصف على الاعلان الا ان الاقتصاد الامريكي ما زال يترنح تحت تأثير الأزمة، فالتقارير الواردة تشير الى ان سوق العمل والعجز المتفاقم للموازنة وأزمة الديون، من أهم أسباب تراجع النمو الاقتصادي، فالبطالة ما زالت ضمن معدلاتها المرتفعة والتي تتجاوز نسبتها 9%، على الرغم من الأنفاق الكبير الذي أرهق الخزينة الامريكية باسم التحفيز الاقتصادي، فالاقتصاد الراسمالي يدخل حقبة جديدة من أزمته، حيث تتحول أدوات الإصلاح الى جزء من المشكلة الاقتصادية، فالانفاق الممول بالقروض يفاقم المديونية التي قفزت بشكل خطير، وتجاوزت الخطوط المسموح بها (14.3) تريليون دولار اميركي، من المتوقع ان تتعرض وزارة الخزانة الاميركية الى عدم الوفاء بالتزاماتها الشهر القادم، في حال فشل اوباما في اقناع الكونغرس بتعديل قانون الدين العام، وتخفيض الإنفاق وزيادة الضرائب، فقد تجنبت الولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة الماضية تطبيق سياسات مالية تقشفية تؤدي الى زيادة الضرائب وتخفيض الإنفاق العام، خشية من تعريض الاقتصاد الأمريكي لانتكاسة بعد خروجه من حالة الركود، ليس هذا فحسب بل عملت على ضخ مليارات الدولارات لتمويل مؤسسات آيلة للسقوط، ودعمت بعض السلع الأساسية لتحفيز الاقتصاد الأمريكي، الأمر الذي أدى الى تفاقم عجز الموازنة، وتنامي المديونية بشكل غير مسبوق، فتحول الدواء الى داء، أدت هذه السياسة الى عجز في الموازنة لم يسبق له مثيل، وهي إحدى سمات أزمة النظام الرأسمالي في هذه المرحلة.
لقد أصبح واضحا ان جوهر الأزمة متصل بطبيعة علاقات الإنتاج الرأسمالي التي تولد أزمة فيض الإنتاج، والمتمثلة في انخفاض القدرة الاستهلاكية للمجتمع المحلي بسبب وجود حوالي 200 مليون شخص عاطل عن العمل في العالم منهم 15 مليون أميركي، والتوزيع غير العادل للثروة، وفشل النظام الرأسمالي في استيعاب هذه الظواهر، حيث تشير الأرقام الرسمية الى ارتفاع معدل البطالة في الشهر الماضي وهبوط معدل التوظيف في الشركات الأميركية، ليست امريكا وحدها التي تعاني من الازمة، فالدول الاوروبية تمر بازمة خطيرة فاليونان مهددة بالافلاس، وايرلندا والبرتغال حصلتا على دعم اوروبي لانقاذ اقتصادهما، واسبانيا وايطاليا تواجهان اخطارا مماثلة، والازمة تهدد منطقة اليورو وعملتها الموحدة، كما عرضت الأزمة ملايين البشر للفقر والبطالة والاملاق والإحباط وارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقلّ من دولارين في اليوم الواحد إلى 1.2 مليار شخص في العالم، وفقا لتصريحات المدير العام لمنظمة العمل الدولية خوان سومافيا. واتسعت جيوب الفقر، وتآكلت الطبقة الوسطى، وتعرضت الأسر الفقيرة للتشرد بسبب فقدان منازلها، الامر الذي ادى الى انتشار حالات الإحباط واليأس بين المواطنين، وتوجه ملايين البشر نحو الجمعيات والمؤسسات الخيرية لتوفير المأوى والحصول على المساعدات، الاجراءات الحكومية حملت الطبقة العاملة في معظم هذه البلدان عبء الأزمة من خلال السياسة التقشفية التي طبقتها البلدان الراسمالية بزيادة الضرائب وتجميد الأجور، والانقضاض على المكاسب العمالية والغاء المزايا التي حققها العمال عبر نضالات طويلة منها رفع سن التقاعد، وتخفيض الاجور والغاء بعض الخدمات الاجتماعية. قوبلت الاجراءات الحكومية بتحركات عمالية وجماهيرية واسعة قادتها النقابات العمالية واحزاب المعارضة، لم تنحصر التحركات المناهضة للاجراءات التقشفية في اليونان وايرلندا بل شملت مختلف الاقطار الاوروبية.
تحدث ماركس عن التناقضات الملازمة للنظام الاقتصادي الرأسمالي منذ نشوئه وفي مراحل تطوره، وعلى الرغم من دعوته للثورة على النظام الرأسمالي، إلا انه أدرك ان الرأسمالية تتمتع بقدرات واسعة لتصدير أزماتها الى البلدان المستعمرة، وكان يعتقد ان التوسع الرأسمالي سيؤدي الى توحيد النظام الرأسمالي المعروف اليوم "بالعولمة الرأسمالية". فهل استنفذت الرأسمالية إمكانياتها الفكرية والسياسية والاقتصادية لتجديد نفسها، هل يمكن القول ان الرأسمالية لم تعد قادرة على تسخير المنجزات العلمية لمواجهة تناقضاتها، هل دخلت الرأسمالية في البلدان المتقدمة مرحلة الشيخوخة، خبراء صندوق النقد الدولي يرون أن شيخوخة مجتمعات الدول الصناعية من العوامل المسببة للضغوط المالية، استنتاجات مهمة لم يسبق لخبراء النظام الرأسمالي الوصول إليها، محذرين الدول الغنية بمن فيها السبع الصناعية من مواصلة ارتفاع ديونها الى مستويات مفزعة، مرجحين استمرار ارتفاع معدلات البطالة خلال المرحلة القادمة.
يمكن القول ان انكسارالقانون الاستعماري" التقسيم الدولي للعمل" - دول منتجة للسلع ووسائل الانتاج، ودول مستهلكة ومصدرة للخامات - من اهم عوامل فشل النظام الراسمالي في التكيف مع المستجدات، فقد شهدت الدول الصاعدة نموا اقتصاديا بمعدلات مرتفعة، الصين والهند والبرازيل وروسيا وغيرها واحتل اقتصاد الصين المركز الثاني في العالم، في المقابل فقدت الدول الراسمالية المتقدمة القدرة على المرونة والحركة لامتصاص الأزمات الاقتصادية التي كانت تتمتع بها في مرحلة معينة من تطورها، حين كانت تتمتع بالثروات المنهوبة والأسواق المفتوحة دون منافسة، فالإمكانيات التي كانت متاحة للبلدان الرأسمالية المتطورة وفرت لها المرونة الكافية كي تتكيف مع الأزمات الرأسمالية في القرن الماضي، أخذت بالتلاشي في ضوء التطورات العالمية. وفي محاولة للبحث عن اسباب تعثر الاقتصاد الاميركي، وفقا لما أوردته صحيفة لوس أنجلوس تايمز في تحليلها للأزمة عن استخلاص مفاده ان الاقتصاد الأميركي يحتاج الى إعادة تشكيل في ضوء التطورات التي يشهدها العالم ففي السابق كانت الأسواق الناشئة في الهند والصين وكوريا الجنوبية تستقطب وظائف أميركية لتعمل في شركاتها في الخارج بسبب هبوط مستوى مهارة العمال لديها. أما اليوم فإن تلك الدول أصبحت تؤهل الملايين من العمال المتعلمين، ليس فقط كمهندسين وعلماء كمبيوتر بل أيضا كباحثين في مجالات الطب وخبراء ماليين ومحامين ينافسون الأميركيين الذين طالما تمتعوا بميزة تنافسية في الخارج، لا أحد يستطيع تجاهل دور المنافسة على الاقتصاد الأميركي بعد ما نجحت الصين في إغراق أسواق العالم وليس الأسواق الأميركية وحدها بالسلع الأقل تكلفة من السلع الأميركية واليابانية والأوروبية، كما تخرج ملايين الخبراء من الدول النامية في مختلف المجالات العلمية ليحلوا مكان الأجانب، وهذا أمر طبيعي وظاهرة صحية بتصويب الاختلالات في سوق العمل، فالأمر لا ينحصر بهذه القضية فالاقتصاد الأميركي تعرض في السنوات الأخيرة الى جملة من الانتكاسات لا يمكن إغفالها ان جاز التعبير، فالتعبير الأكثر دقة ان الاقتصاد الأميركي يعود تدريجيا لوضعه الطبيعي، بعد ان تضخم بشكل كبير نتيجة لعوامل متعددة، منها طبيعة حجم الاقتصاد الأميركي وتفوقه التكنولوجي، ومنها ما هو متصل بهيمنته على الاقتصاد العالمي سواء من خلال تمتع الدولار كعملة دولية وحيدة للاحتياط العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، واستخدام ماكينات الطباعة لضخ مليارات الأوراق النقدية في ظل غياب أية ضوابط أو رقابة عالمية، أو بفضل النتائج التي ترتبت في حقبتين أساسيتين خلال القرن الماضي الحقبة الأولى نتائج الحرب العالمية الثانية وهيمنة الإدارة الأمريكية على المؤسسات الدولية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ونجاحها في ملء الفراغ الذي أحدثه انهيار النظام الكولونيالي الاستعماري القديم. أما الحقبة الثانية الاستفادة من تداعيات انهيار الدولة السوفيتية، وانهيار أنظمة الحكم في شرق أوروبا. لم يتوقع المحافظون الجدد في البيت الأبيض هزيمة " الليبرالية الجديدة " هذا السقوط المريع للسياسة المالية والاقتصادية الأميركية بعد ان تربع الاقتصاد الأميركي على العرش لأكثر من سبعة عقود، وصعود اقتصادات البلدان الناشئة بهذا الزخم متجاوزة الخطوط التي رسمت لها بموجب التقسيم الدولي للعمل، الأمر الذي اخل بالمعادلات التي وضعتها الدول الاستعمارية، وفتح الأبواب أمام نمو اقتصادات جديدة في العالم غير.
لم تنج دولة عربية من الازمة، جميع اسواق المال في البلدان العربية تعرضت للانهيار، مع ذلك يمكن القول ان التأثير جاء متفاوتا من دولة الى أخرى، وفقا لحجم استثماراتها ومدى ارتباطاتها بالاسواق العالمية، ويمكن رصد ابرز مظاهر الازمة في البلدان العربية، عجز في الحسابات الجارية لدول مجلس التعاون الخليجي بحوالي 30 مليار دولار خلال عام 2009 بعد ان كان الفائض اربعمئة مليار دولار في عام 2008، بسبب انخفاض اسعار النفط،، لكن سرعان ما اخذت اسعار النفط بالارتفاع، وتم تعويض هذه البلدان جزء من خسائرها، تعرضت دبي لضغوط اقتصادية كبيرة حيث شهدت الشركات الكبرى مجموعة من إجراءات الدمج وإعادة الهيكلة والاستغناء عن خدمات معظم عمالها، لكن الدول الأشد فقرا كانت الأكثر تضررا، وهي التي شهدت ثورات شعبية، بسبب اصرار انظمة الحكم في هذه البلدان تحميل شعوبها اعباء الازمة، فقد اشتعلت الثورات العربية وادت الى انهيار انظمة ديكتاتورية في مصر وتونس ، وما زالت الثورة مشتعلة في عدة بلدان عربية، واقترنت التحركات الشعبية في الدفاع عن لقمة العيش في النضال من اجل الحرية والديمقراطية، لتوفير انظمة ديمقراطية منتخبة من شعوبها مؤتمنة على ثرواتها، معنية في بناء اقتصاد وطني قادر على توفير الرخاء والعدالة الاجتماعية. ومرتبط اعمق الارتباط في بناء اقتصاد عربي قادر على تحقيق التنمية الاقتصادية ، فالاقتصاديات الضعيفة لا مكان لها في النظام العالمي السائد، فمن حيث المبدأ، لا بد من إطلاق أنماط اقتصادية متعددة، القطاع العام والقطاع الخاص والمختلط والتعاونيات ومختلف الأشكال المناسبة وفق احتياجات كل دولة، وتحقيق شراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص يستند أساسا على التخطيط الاقتصادي لإقامة مشروع تنموي يسهم في إحداث تغيير جوهري في الاقتصاد العربي، لتحويله من اقتصاد ريعي وخدمي الى اقتصاد إنتاجي، مع الاقرار بسيادة الدولة على ثروات البلاد الرئيسية والقطاعات الاستراتيجية، المياه والطاقة والبحث العلمي والاتصالات والنقل والخدمات الصحية والتعليمية الرئيسية، فمعظم الدول العربية تعتمد على الخارج في توفير المواد الغذائية، وشكلت الصناعات الإستخراجية "نفط وغاز ومعادن" 38 % من الناتج المحلي في الوطن العربي مع نمو ملحوظ للقطاعات الخدمية، فقد شكل قطاع الخدمات 46% عام 2009 مقارنة مع 37% عام 2005 وفقا للتقرير الاقتصادي العربي الموحد، لذلك لا بد من إعادة الاعتبار لدور الدولة في التخطيط والمساهمة في التنفيذ بالمشاريع التنموية الرئيسية، والتخلي عن نهج الليبرالية الجديدة كليا التي أفقدت الدولة دورها التنموي الاجتماعي، مع التأكيد على ضرورة بناء المنظومة الديمقراطية الحقيقية التي تؤمن الشفافية الكاملة، وتؤمن حرية الرأي والتعبير، وتؤدي الى فصل السلطات الثلاث، وعدم تغول سلطة على أخرى، وتوفير قضاء نزيه بعيدا عن السلطة التنفيذية. وتطوير التشريعات الاقتصادية كمقدمات ضرورية لتحقيق تنمية اقتصادية أساسها بناء قاعدة إنتاجية في الصناعة والزراعة والسياحة، معتمدين على الثروات الوطنية والإمكانيات الذاتية، استنادا الى شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص، مستفيدين من الفوائض العربية التي تعاني من مأزق الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، مع طرح سياسات ضريبية تسمح بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية للعاملين وأسرهم، وتوفير شروط استخدام تؤمن الاحتياجات الضرورية للمواطنين.
تشكلت في الاعوام الاخيرة قوى عالمية مناهضة للسياسات الليبرالية، من حركات سياسية واحزاب ونقابات عمالية، وحكومات ديمقراطية وصلت عن طريق صناديق الاقتراع في اميركا اللاتينية تحت شعار اليسار الاجتماعي لتحرير اقتصادياتها من التبعية، وتحقيق تنمية اقتصادية وعدالة اجتماعية، ومع سقوط الليبرالية الجديدة بدأت بعض الأوساط السياسية ومنها الحكومة الأردنية بطرح عبارة الاقتصاد الاجتماعي، للإيهام بوجود تحول في السياسة الاقتصادية، ورد ذلك في خطاب الثقة لحكومة معروف البخيت دون إحداث تغيير في السياسة الاقتصادية، فمن المعروف ان ألمانيا وبعض الدول الاسكندينافية تطلق على اقتصادها، اقتصاد السوق الاجتماعي، وتطرح الصين حاليا اقتصاد السوق الاشتراكي، وما زالت عدد من الدول تتبنى الاقتصاد الاشتراكي، وبغض النظر عن المسميات المتعددة، فقد سعت البشرية منذ القدم من اجل تحقيق نظام اقتصادي يحقق العدالة الاجتماعية، ويلبي احتياجات المجتمع، وانتشال البشرية من الفقر والقهر والاستغلال، ومن اجل ذلك لا بد من تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة، تحافظ على وتائر نمو تسهم بتوفير فرص عمل لجيش متنام من العاطلين عن العمل، الذي أصبح يشكل مصدرا رئيسيا لتوسيع دائرة الفقر، وتحقيق إصلاح ضريبي يؤمن اعادة توزيع الدخل بما يكفل تحقيق العدالة الاجتماعية، وتوفير كافة الخدمات الأساسية وفي المقدمة الصحة والتعليم والسكن لكافة المواطنين .