حمزة رستناوي
الحوار المتمدن-العدد: 3386 - 2011 / 6 / 4 - 08:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
(1)
من العسف اختزال أبعاد الكينونة الاجتماعية بشكل عام - و ضمناً في مثالنا هنا " المجتمع السوري"- في بعدها العقائدي فقط , حيثُ أنّه ثمّة أبعاد أخرى ديمغرافيّة و علميّة و اقتصاديّة و سياسيّة..الخ .
و من العسف بمكان أيضا النظر إلى البعد العقائدي للكينونة الاجتماعيّة كبعد مختلف جوهريا عن بقيّة الأبعاد فهو يتأثّر و يؤثِّر بها أيضا.
هذا التقديم ضروري لضبط أي تناول للشأن الطائفي في أي مجتمع و ضمنا سوريا.
إن البعد العقائدي للكينونة الاجتماعيّة يتظاهر بفئويّات , و لا يوجد بعد عقائدي خارج إطار الفئويات, فئويات أوّلية " إسلام – مسيحيّة – الحاد..الخ - و هذه بدورها تتحوّى فئويات ثانوية "طوائف" أصغر ..الخ.
و أي وجهة نظر أو معالجة للشأن السوري تتجاهل البعد العقائدي و هو بالضرورة بعد فئوي- طائفي , و أنا هنا أستخدم مصطلح طائفة بمعزل عن الشحنات الايجابية أو السلبيّة التي يستدعيها, فهو حكم وجود لا حكم قيمة
أكرر أي معالجة للشأن السوري تتجاهل البعد العقائدي هي معالجة قاصرة , و قد تحتمل شبهة الإخفاء الاستعلائي, إخفاء لشيء موجود فاعل مؤثر بغض النظر عن حجم هذا التأثير ,و استعلاء يحتمل تزييف للواقع و رؤى مثاليّة منافية للبرهان.
(2)
ما حرّضني على كتابة المقال هو حوار جرى مؤخراً في موقع " مدرسة دمشق للمنطق الحيوي و الحوار" مع أصدقاء جرى فيه تناول موضوعة الإسلام السنّي و فتوى ابن تيميّة المتوفي 728 للهجرة في تكفير "الأخوة العلويين".
هذه الفتوى التي سمعتُ فيها لأول مرة قبل حوالي سبع سنوات - رغم أني نشأتُ في عائلة "محافظة و مثقّفة دينيّا " - عندما قرأت كتاب ) المنطق الحيوي :عقل العقل ) لرائق النقري, و استوقفتني كثيرا ! .
(3)
هل المزاج العام للسوريّن من طائفة السنّة يستلهم هذه الفتوى و الفتاوى التي على شاكلتها؟!
الإجابة على ذلك قد لا نجدها بصيغة النفي أو التأكيد القولي ,و لكننا نجدها باستقراء الحياة كما يعيشها السوريون
فمثلا الفتوى تحرّم "طعامهم و حليب ماشيتهم " ؟!
و تحرّم كذلك " معايدتهم و التزاور معهم "؟!
و تحرّم التزاوج معهم و منهم ؟!
و الفتوى تمنعهم من الانتساب إلى الجيش و الجهاد على الثغور؟!
و الفتوى تحضّ على قتلهم "حدّ الردّة " و التخلّص منهم مع تردّد في قبول الاستتابة قبل القتل ؟!
فهل قُتل السوريين السنّة أخونهم العلويين بعد ما يزيد عن سبع مائة عام على فتوى ابن تيميّة, و إذا وجدت حالات قتل و قتل مضاد فيمكن تفهّمها في سياقات خاصة ذات طبيعة سياسيّة.
فالمزاج العام يقيناً عند السوريين السنة لا يستلهم هذه الفتوى, بقرينة العلاقات الاجتماعيّة و الاقتصادية الواسعة بين مكوّنات الشعب السوري, فهي فتوى خارج التاريخ و قد تجاوزا منطق العصر, وعامة الناس ,بما فيهم عامة السوريين و السوريون على طريقة السنة , لم تأخذ بها و لم تعيرها كثيراً من الاهتمام , فالحياة كما يعيشها السوريون هي أكبر ردّ على هذه الفتوى , و الغالب على المتحمّسين لها هم ممن لا يملكون خبرة و حكمة حياتية و علاقات اجتماعية يتيحها التواصل الحي بين مكوّنات الشعب السوري, و كثير منهم نشئوا أو عاشوا في جغرافيا بعيدة عن الوطن السوري ,في الخليج العربي عقب أحداث الثمانينات , و هذا يشمل ضمنا الجيل الثاني أو الثالث للمهجّرين تعسّفيا ًو قسراً لأسباب سياسيّة.
و من خبرتي الحياتيّة المتواضعة فقد عشتُ في حيز جغرافي متعدد الطوائف و الاثنيات : فالولائم و المعايدات و المشاركة في الأفراح و الأتراح لا تستثني في عمومها أحدا بناء على أسس طائفية .
معظم من جلست معهم من رجال الدين المحليين غير مطّلعين على هذه الفتوى , و لكن عدد منهم يقبلون تكفيرهم , مثلما يقبلون تكفير تارك الصلاة مثلا من أبناء جلدتهم من السنّة.. و لكن مع التحفّظ على حق الحياة و عدم تبرير الظلم تجاههم ..و أن الله سوف يحاسب الناس في الدار الآخرة.
ثمّة رجال دين سوريين سنّة مطّلعين على فتوى ابن تيمية و منفتحين على العصر يرفضون هذه الفتوى جملة و تفصيلاً , و يتحفّظون على آراء و فتاوى ابن تيميّة المتوسّعة في التكفير, و لكنهم لا يملكون قنوات كافية للتوصيل , تراهم محاصرين حصاراً مزدوجاً , من التيار السلفي و التكفيري من جهة أولى , و من القائمين على السلطة السياسية و الأوقاف و الإعلام من جهة ثانية, أحدهم مثلاً : صديقي الشيخ "أبو بدر" ممنوع من الخطابة منذ سنوات مثلاً ..الخ.
يجب النظر إلى فتوى ابن تيميّة من منظور لا يرى فيها الاستثناء في تاريخ الإسلام , و كذلك من منظور أنّها لا تخص المسلمين العلويين دون غيرهم.
فهي جزء من ميراث تكفيري يضرب بجذوره عميقا في تاريخ الإسلام و تحديدا : بالتزامن مع الثورة على عثمان و ما تلاها من حروب علي و معاوية و أصحاب الجمل و الخوارج..الخ
و كذلك يجب ألا ننسى استثمار الحالة التكفيرية من قبل السلطات الأموية و العباسية الحاكمة للتخلص من خصومها تحت مُسمّى حد الردة, و ما يولّده ذلك من ردّات فعل تكفيريّة من قبل الخصوم "الشيعة و غيرهم" و دوائر التكفير و التكفير المضاد, فابن عربي مثلا ً مُكفّر و الصوفيّة مكفّرين كذلك و مُتّهمين بالشرك من قبل القوى الجوهرانّية في الإسلام السني, و قديما المعتزلة و حديثا رواد التجديد الديني كالسوداني محمود طه و نصر حامد أبو زيد ..الخ و الشيعة مكفّرين كذلك , هذا هام فهناك حالة تكفيريّة عامة تحكم وجهة نظرهم للآخرين, و ليس تكفير خاص "للأخوة من الطائفة العلوية"
و هذا ليس تبريرا و لكنّه يستحثّ الخطى باتجاه معالجة تتسم بالشمولية , و نزع الجوهرانيّته.
(4)
الإسلام السني لا يختلف جوهريّا عن بقية العقائد , فهو شكل ( طريقة تشكّل ) حركي احتوائي احتمالي نسبي قابل للقياس, يعرض لمصالح متفاوتة الصلاحيّة ربطاً بأبعاد الكينونة الاجتماعية و أبسطها الزمان و المكان.
فالتكفيريين على طريقة القاعدة و السلفيّين, حزب التحرير و الإخوان المسلمين ربّما في مزاجهم العام و تجربتهم التاريخيّة ما هم إلا الأشكال الأقل حيوّية في الإسلام السنّي , و لكنّها ربّما الأعلى صوتا .
لأسباب موضوعيّة منها: هيمنة نظم الاستبداد السياسي و تصحيرها للحياة السياسية و الثقافيّة- المشروع الصهيوني و الامبريالي الغربي- تصاعد هيمنة النفوذ الإيراني و تبشيره بإسلام جوهراني شيعي " ولاية الفقيه" - الطفرة النفطية و توظيف عائداتها في التبشير الديني - قصور مؤسسات التعليم الديني .
و أسباب ذاتيّة منها: عدم انفتاح عموم رجال الدين على العصر و لغة العصر و مفاهيم من قبيل الديمقراطية و حقوق الإنسان و الدولة المدنية..الخ , و اجترار ثقافة الصراعات المذهبية , و الإغراق في فقه التفاصيل دون فقه الأولويات: أولويات الحياة و العيش المشترك بين الناس.
(5)
المسيح نقد قومه اليهود قبل أن يبشّر العالمين, و عمر بن عبد العزيز نقد قومه الأمويين قبل غيرهم , و على كل – و كل هنا تعني المجاز- مثقّف من أصول سنّية نقد هذه الفتوى و النهج الفكري الذي تمثّله , يجب طرحها كأولويّة على رجال الدين "من المسلمين السنّة" لأنها معيبة بمقياس العصر, و تنزع أي بوادر ثقة مع الأخوة العلويين , و حلم الدولة السورية المدنية الديمقراطية, النقد في هذه الحالة يفضّل أن يكون فعل ذاتي من الداخل لتحاشي حساسيات كثيرة.
و النقد كفعل يبرهن على المحبّة, و تجاوز مصالح الحرب الأهلية و الانقسام الطائفي و ديمقراطيّات المحاصصة الطائفية البائسة كما في النموذج العراقي و اللبناني.
(6)
عامة الناس ترفض وضع طائفة دينية بكاملها موضع الاتهام , أقصد اتهام السنّة بأنهم تكفيريين يوالون بفتوى ابن تيمية , المُتَّهَم فقط هم من يولون هذه الفتوى و يبررون ازدواجيّة المعايير. أقصد أن التعامل يجب أن يكون فردي و شرطي و ليس تعميمي.
قرأتُ مؤخّرا كتابات كثيرة تصرح أو تلمّح باتهامات طائفيّة , فاتهام طائفة دينية معيّنة "السنة" بذلك مناف للبرهان, و يُخْفِي وراءه رؤية جوهرانيّة عنصرية تحكم عقليّة المُتَّهِم و سوء نيّة. هكذا اتهامات تعرقل الإصلاح و النقد الذاتي و تخدم مصالح قوى القصور في الطائفة السنّية. و يقابلها أيضا ً دعاوى تتهم الأخوة في الطائفة العلوية و تطالبهم التبرؤ ..الخ.
فهل تحوّل الإنسان في سوريا إلى مُتّهَم إلى أن يثبت العكس؟!
(7)
و قد يكون من الضروري التذكير هنا بأنه وجد تاريخيّا ثلاث مذاهب في العقائد عند المسلمين السنّة.
أولهما هو المعتزلة و قد انقرض تقريبا منذ القرن الرابع الهجري رغم وجود محاولات حثيثة لإعادة إنتاج مقولاته و تطويرها عند ابن رشد و نصر حامد أبو زيد , و قريب منه مدرسة الرأي و رائدها أبو حنيفة النعمان
و ثانيهما هو الأشاعرة : و هو المذهب الغالب حاليا عند سنّة سوريا " عموم الشافعيّة- الأحناف" و يعدّ الأزهر في مصر مثلا و الشيخ البوطي في سوريا أحد أبرز ممثّليه مثلا
و ثالثهما هم أهل الحديث "السلفيين" و هم الأكثر حرفيّة : و نجد تعبيرات مذهبهم في :احمد بن حنبل- ابن تيمية- محمد ابن عبد الوهاب- ابن باز ..الخ.
(8)
يمكن مجازاً تصنيف الأعلام من رجال الدين السورين في ثلاث فئات:
الأولى: تيار تكفيري
الثاني: تيار تنويري و مثالهم الأبرز :جودت سعيد , و نجد كذلك على سبيل المثال: محمود العمار- رياض الدرار – غسان النجار – أسماء كفتارو..الخ.
الثالث: تيار رسمي , و ضمن التيار الأخير نجد رموز مثل : محمد سعيد رمضان البوطي - المفتي أحمد الحسّون.- د.محمود عكّام.الخ
هؤلاء يملكون إمكانات علميّة لاهوتيّة و أفق انفتاحي هام تجاه الآخر أكثر بروزاً عند الشيخ الحّسون مثلاً , و يملكون أيضا إمكانات حضور إعلامي مقنع , و شعبيّة مهمّة تتفاوت تبعا لاستجابتهم للحدث السياسي , فمثلا الشيخ البوطي فقد كثير من شعبيّته عقب مواقفه المعارضة للاحتجاجات الكردية 2004
و كهامش على الحدث : في معرض إدانة الشيخ البوطي للاحتجاجات الكردية لم يأت على ذكر المطالب المحقّة للأخوة الأكراد فيما يخص حق الجنسيّة و حقوق سياسيّة و ثقافيّة أخرى آنذاك . و الشيخ أحمد الحسّون بنى شعبيّته في حلب قبل عقدين من الزمن و أحبّه الناس و انتخبوه لعضويّة مجلس الشعب, لانحيازه لقضاياهم و لأنهم لمسوا فيه من الجرأة ما افتقدوه عند غيره آنذاك. أيا كان الأمر, كان من الممكن التعويل على هؤلاء لتحقيق خطاب إسلامي "سنّي" مضاد للتكفير , خطاب أكثر حيويّة و انفتاحا تجاه المؤمنين من أبناء الطوائف الإسلامية الأخرى و لكنّ المصداقيّة شيء مركّب, أساسها الرأي , و الانحياز تجاه البرهان و ليس السلطان.
#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟