هادي الخزاعي
الحوار المتمدن-العدد: 3354 - 2011 / 5 / 3 - 22:22
المحور:
الادب والفن
هجول شاب بملامح هادئة ، ساكن ، غير مؤذ رغم لا أباليته ، بعيد عن شؤون السياسة والثقافة التي يتسابق في ميدانيهما عارفوا ومخضرموا الولاية ؛ فهم سباقون في الأدلاء بدلوهم ، بمناسبة ، وغير مناسبة .
كان يجلس صباح كل يوم على ناصية يتجمع عليها وحولها العاطلون عن العمل ، بحثا عن رزق في ولايتهم الصغيرة .
كانت تطل على هذه الناصية صورة كبيرة لرئيس بلديتها الذي لم تعرف الأبتسامة وجهه ، وهو محاط بعدد من رؤساء الدوائر . ثلاثة منهم أخوانه والبقية الباقية أبناء عمومته ونسبائه من مفتولي العضلات النافرة ، وسليطي اللسان الذي يشير عليهم العارفون والمخضرمون بأنهم لايخشون من أحد وليس لهم من ذمة يأتمنون عليها.
الصورة تقع في أعلى بناية البلدية المؤلفة من طابقين ، والتي هي بمثابة مركز المدينة المكتض بالأسواق والورش والفنادق والمطاعم .
لقد احتلت هذه الصورة أهمية خاصة لدى مسؤولي الولاية وجهاز الشرطة والبصاصين ، حتى باتت تحتل مكان العلم الخاص بالمدينة الذي كان يخفق على مدار الساعة قبل أن تزيحه الصوره تدريجيا.
تحولت الصورة الى ما يشبه الرمز لقوة وجبروت رئيس البلدية ومن معه ، فالويل لمن يمر بالصورة ولا يرفع يده تحية لها ، بما فيهم ، أولئك الذين تقاطعوا معه ، فقد راحت أياديهم ترتفع لا شعوريا تحية لها ، حتى إنهم لم يفكروا لماذا تفعل أياديهم ذلك كلما مروا ، ولو على مبعدة من الصورة .
وفي ظل حالة الأستبداد التي فرضتها الصورة على الناس ، لم يجرأ احد على زحزحتها منذ وضعت في مكانها قبل سنوات طويلة . فحتى عندما رممت البناية ولأكثر من مره ، بقيت الصورة في مكانها لم يحرك أحد ساكنا حتى لتغيير مكانها ، فمفتولي العضلات وسليطوا اللسان ممن في الصورة ، يشبعون الفاعل ضربا ، حتى لو كان يفعل ذلك بحسن النية ، ولم يكن يعنيهم حتى لو كان من المقربين لرئيس البلدية نفسه .
وفي كل أحتفال كان رئيس البلدية والمسؤولين يقفون تحت الصورة وهم يلوحون للمسيرات التي تمر في أحتفالات الولاية .
بقيت الصورة معلقة بذلك الوضع ، والأيادي تمتد لتحيتها لزمن طويل ، ومع مرور الأيام ، تحولت شيئا فشيئا الى رمز .. رمز للبلدية ورئيسها في آن ، ورمز للقوة التي كان يمارسها كل من فيها على اي كائن تشكلت لديه ملاحظة او إعتراض على سياسية البلدية ورئيسها .
كان هجول بعيدا عن الأحاديث السرية الفردية التي يتداولها الناس في سرهم ، رغم إن تلك الأحاديث كانت تتشظى في أزقة الولاية وأسواقها وباراتها وحماماتها الى مزح ونكت وحكايات عجيبة تستخف بالمآل الذي وصلت له ولايتهم في عهد رئيس بلديتها الذي يتوسط الصورة .
ومن بين ما كانت تشير اليه تلك التشظيات المستخفة ، هي حالات التزوير والسرقات والمحسوبية التي صارت تمارس في دوائر الولاية وأسواقها بما يشبه العلن ، ذلك لأن سلطة الولاية تخلت عن مبدأ الرقابة أو المحاسبة الذي ثبتته لوائحها المكتوبة ، فأكثر من كانوا يمارسون هذه السرقات والتزوير ، هم طواقم المسؤولين في دوائرها العليا والشرطة والأمن ومن يتصل بهما من أقارب ومعارف رئيس البلدية والعصابات المرتبطة به .
لقد تحول هؤلاء الى عصابات معلنة للسرقة والتزوير دون أن يحرك رئيس البلدية ساكنا ، ذلك لأنهم صاروا جميعهم شلة من شلله التي ملئت الولاية .
ورغم إن شكوى الناس قد ضجت ضد هذا الوضع ، لتصل الى كل ركن وزاوية في الولاية ، لكن هذه الشكوى الضاجة كانت لا تتجاوز حدود الأفراد ، فكل يشكو في دخيلته دون أن يصرح بها علنا ، خوفا من بطش مفتولي العضلات وسليطي اللسان . وخوفا من غياهب سجون الولاية التي تحرسها كلاب جائعة لا تتوانا من أنْ تغييب كل من يختلف مع سياسة رئيس بلديتها .
هذا هو حال الولاية وساكنيها وحكامها منذ أن علقت صورة رئيس البلدية وجماعته على واجهة بناية البلدية . وكأنها عين تراقب الجميع وتسجل عليهم كل سكناتهم .
لم تتجاوز أحلام هجول غير الحصول على عمل ليتقي شرور البطالة والعوز الذي أخذ منه كل مأخذ ، غير انه لم يشكو أو يتمرد يوما لأنه مقتنع بأن حاله يشبه تماما حال كل أبناء الولاية ، الذين كان يُشم من أحاديثهم ، إن هناك رفض لرئيس البلدية بسبب البطالة والفساد المالي والأخلاقي الذي كان يعم كل الدوائر من قبل أقاربه وبطاناته العديدة .
لكنه لم يكن بعيدا عن أن يدرك ، إن هذا الرفض الذي يتوالد في أذهان شباب المدينة سيكون له وجود يوما بمجرد كسر حاجز الخوف ، وأيضا وجود شرارة الغضب ، رغما على ممارسات الشرطة السرية المتصفة بالقسوة والشدة التي جعلت من المستحيل أن يفكر كائن من كان بأن يتحدى هذا الوضع ، فهاجس الخوف سيطر على الجميع ، حتى على الذين كان لهم صوت يعلو فوق صوت رئيس البلدية . غير إن هوة الفساد الذي ساد ، وعنف الشرطة ، قد قصت اجنحتهم التي كانوا يحلقون بها في وديان الأحلام ، ولم يعد لهم من هم يومي غير أن يجلسوا كل صباح في المقهى ليقرؤا الصحف ويلعبوا النرد فقط .
كانت أحلام هجول لا تعدوا ما تمنحه له الناصية من اعمال بسيطة يسد بإجورها البسيطة رمقه . او تجواله في السوق عله يحصل على ما يفي بإحتياجاته الأخرى .
بهذا الوضع كان يقضي معظم ساعاته ، فإما جالسا في الناصية مع غيره من العاطلين ، أو يزوغ منها الى السوق الكبير ، عل واحدا يدس في يده قرشا مقابل ما يقدمه من خدمات له .
ذات يوم ، وبلا توقع ، أشر موظف من البلدية على هجول الجالس كعادته فوق الناصية المقابلة لمبنى البلدية ، بالأقتراب منه . وبلا أدنى تردد ذهب هجول الى الموظف الذي سأله مباشرة أن كان يعرف في مهنة صباغة الجدران أو البيوت . وبلا أي تفكير أجابه هجول بالأيجاب رغم انه لم يمسك علبة دهان في حياته ، ناهيك عن الفرشاة .
هز الموظف رأسه علامة الرضا وأخذه معه داخل المبنى البلدي من حيث كان يقف على مدرج مدخلها . في الممر وبسرعة خاطفة اتفق معه على أجر محدد ليقوم بصبغ واجهة مبنى البلدية ، ودس بيده مبلغ من المال لشراء مستلزمات العمل ، ثم وعده بدفع المتبقي حال الأنتهاء من اكمال صبغه للواجهة .
لم يتأخر هجول بشراء الدهان والفرشاة والأدوات الأخرى وصعد بها الى سطح البلدية ، ولما إبتدأ العمل ، واجهته مشكلة وجود تلك الصورة العملاقة .
كان الوقت عصرا ولم يكن الموظف موجودا ليسأله ، فأستقر رايه على أن يسأله في صباح اليوم التالي عما سيفعل بالصورة .
في الصباح وقف متسائلا أمام الموظف الذي كان مشغولا بقراءة الجريدة الصباحية عما سيفعل مع الصورة التي تعيق عمله ، فأجابه الموظف بعد أن صغى بإهتمام كبير للسؤال ، وبعد تفكير لم يمتد طويلا ، اشار عليه برفعها من مكانها على أن يعيدها الى نفس المكان حال الأنتهاء من صبغ مكانها .
خرج هجول بلا أي تعقيب وصعد الى سطح البلدية ، من على السطح رأى ما لم يكن بحسبانه . فمن السطح المشرف على كل أرجاء المدينة شاهد الناصية التي كانت مكتظة بالعاطلين من الشباب والنساء وحتى الكهول ، وكأنه يراها لأول مرة ، ثم ركز نظره على المقهى المزدحمة بالرواد الذين إعتادوا قراءة الصحف فيها مقابل مبلغ زهيد جدا ، ورأى فيها الشخوص الذين حين كانوا يمروا أمام الصورة ، تتحرك اياديهم تحية لها بدون وعي منهم . ثم جال بنظره الى السوق المزدحم بالناس وهم يتحركون وكأنهم دمى آلية ، فتعجب في داخله من هذه الزحمة التي لم يلحظها سابقا ، وكذا وضع الناس هذا الذي كان غائب عن بصيرته وهو جالس على الناصية .
تنبه انه إذا ظل هكذا يلف برأسه يمنة ويسرة ، فسوف لا ينجز شبرا من العمل . وحتى لا يأخذه الوقت ابتدأ بتنفيذ الملاحظات التي قالها له صاحب محل الدهان والمتعلقة بكيفية إعداده لأنه يجهل مهنة الصبغ .
بعد أن أكمل الإعداد وتهيئة الفرشاة توقف وكأنه تذكر شيئا ، فاعاد الفرشاة والدهان الى الأرض ، وفكر بالكيفية التي يزيح بها الصورة من مكانها وهي بهذا الحجم الكبير جدا ، حك رأسه وقرر بعدها أن يطلب المساعدة من بعض أصدقائه العاطلين التي تزدحم بهم الناصية .
لم تمض دقائق حتى كان على السطح خمسة من اصحابه وهم يزحزحون الصورة لرفعها من مكانها ، ولأنهم كانوا يتنادون فيما بينهم بصوت عال ، فقد لفت حديثهم الذي تحول الى صياح انتباه الجالسين على الناصية ، فكان كلما صاح هجول : أرفع . فيردد الآخر : ارفع . و
كان صوت هجول قويا وهو واقف على سياج السطح يوجه أصحابه بصيحات أعلى من صيحاتهم : ارفعوها من مكانها يا شباب ، أرفعوها .. فليس من حل لخلاصنا من مهمتنا غير أن نزيحها .. زيحوها يا شباب . وتكررت صيحاته التي تحولت الى صرخات قوية لاتشحذ همة اصحابه ، ولكن أيضا همة من كان على الناصية الذين باتوا يرددوا مع هجول وجماعته الصيحات والصرخات .
ضلوا قرابة الساعة على هذا الحال وصيحاتهم لم تتوقف وهم يزحزحون الصورة وكلمات هجول تتكر بصوت يشبه الصراخ : دعونا نزحزحها من مكانها .. زحزحوها .. وبعد ذلك ننزلها .
أثار المشهد فضول الكثير ممن كانوا في الشارع والمقهى ، أو ممن كانوا في السوق والمشاغل . حتى وقف الذين فوق الناصية على أقدامهم وهم يشجعون هجول وأصدقائه وهم منغمرين بزحزحة الصورة . لم يمض كثير من الوقت حتى تجمع المئات أمام مبنى البلدية وهم يرددون بصوت واحد : زحزحوها .. إنزلوها .. إنزلوها .
وتحول المئات الى إلوف والألوف الى عشرات الألوف ، ولم يمض وقت طويل حتى أكتض المكان بأغلب أبناء المدينة وهم يحولون صيحات العمل التي كان يرددها هجول وأصحابه ، الى هتاف هادر من أجل زحزحة الصورة الى صرخات بكل ما تملك الحناجر من قوة مطالبة بتغيير الصورة .
ومنذ أن اسقط الناس الصورة من على جدار بناية البلدية الى الآن ، لا يعرف أحد أين ذهب هجول ، ولا أحد يعرف أين أختفت الصورة ....
#هادي_الخزاعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟