أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - التغريب والصورة الافتراضية للدكتاتور في فيلم (المُغنّي) لقاسم حوَل















المزيد.....


التغريب والصورة الافتراضية للدكتاتور في فيلم (المُغنّي) لقاسم حوَل


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 3353 - 2011 / 5 / 2 - 12:46
المحور: الادب والفن
    


تغطية خاصة لمهرجان الخليج السينمائي في دورته الرابعة / دبي
مُقدِّمة لابدّ منها
اشتملت مسابقة الأفلام الروائية الطويلة التي اشتركت في الدورة الرابعة لمهرجان الخليج السينمائي على ستة أفلام وهي (أزهار كركوك) للمخرج الكردي الإيراني فاريبورز كمكاري، و (حيّ الفزّاعات) للمخرج الكردي العراقي حسن علي محمود، و (الرحيل من بغداد) للمخرج العراقي قتيبة الجنابي، و(عقارب الساعة) للمخرج القَطَري خليفة المْرَيخي، و (المؤسسة) للمخرج السعودي فهمي فاروق فرحات، إضافة إلى فيلم (المُغنّي)، موضوع بحثنا ودراستنا، لقاسم حوَل.
يؤكِّد السينارست والمُخرِج قاسم حوَل بأن فكرة فيلم (المُغنّي) لم تنبثق من فراغ، كما أنها لم تتفتّق عن مخيلة فنتازية مُجنّحة، فثمة تلاقح واضح بين الحقيقة والخيال، ومزج مقصود بين الواقع والوهم، ولابد للخيال في أقصى تجلياته أن ينطلق من نتوءٍ واقعي يفضي بنا، في نهاية المطاف، إلى مدارج الحُلم رويداً رويدا. لا يجد قاسم حوَل حرجاً في القول بأنه استوحى فكرة الفيلم أو عصَبَها النابض في الأقل من حادثة وقعت في التاريخ المعاصر للعراق مفادها أن مُطرباً عراقياً معروفاً تأخر بعض الوقت عن حضور حفل أقامه ابن الرئيس المُستبِد، وحينما وصل غضب نجل الرئيس فأمرهُ أن يستدير ويغني ووجهه للحائط طوال الحفل، وإذا استدار أو التفت فإن حماية ابن الرئيس سيطلقون عليه النار ويردونه قتيلاً في الحال.
لم يرد المخرج قاسم حوَل أن يتناول بشكل مباشر شخصيّة صدّام حسين، ولا أن يصفّي حساباته الشخصية أو العامة مع هذا الدكتاتور المتجبِّر الذي ألحقَ أضراراً كبيرة بالبلاد والعباد في آنٍ معاً، ولكنه أراد أن يجسِّد شخصية الدكتاتور العربي، وربما العالمي بقدرٍ أو بآخر، ولكن هل نجح في ذلك؟ وهل استطاع أن يقنع المتلقي سواء أكانَ عراقياً أم عربياً أم عالميا بهذه الأطروحة التغريبية؟ آخذين بنظر الاعتبار أنه يلتمس من مُشاهديه ومُستقبلي خطابه البصَري أن يروا دكتاتوراً افتراضياً على الشاشة، وليس على أرض الواقع بما ينطوي عليه من ذاكرة جمعية يمكن أن تُحيل بسهولة إلى شخصية صدام حسين وحقبته التاريخية المعروفة.

بناء الأحداث
قبل الإجابة على هذه الاسئلة الدقيقة والحسّاسة لابد من الإشارة إلى أن السينارست والمخرج قاسم حوَل قد بذل قُصارى جهده في بناء الأحداث والشخصيات بناءً تغريبياً، وربما ذهبَ أبعدَ من ذلك حينما ركّز على بناء المَشاهِد التي بلغت (83) مَشهداً تطمح إلى الاقناع وتجسّيد الجانب العقلاني لقصة تعتمد كثيراً على معطيات فنتازية لدكتاتور مُستبَد لا يتورع من أن يستعمل سلاحه الشخصي في قتل منْ يشاء إذا استبدّ به الغضب وسقط في دائرة الجنون التي يقف عند حافتها دائما.
تبدو ملامح التغريب واضحة منذ المشهد الافتتاحي للفيلم حيث نرى موكباً رسمياً مختلفاً عمّا عهدناه من مواكب سابقة في حقبة الدكتاتور الذي كان يتنقّل بواسطة سيارات المرسيدس السوداء التي تخترق الشوارع الآمنة بعد تنفيذ الاجراءات الأمنية المشدّدة بغية ضمان سلامته التي تعادل من وجهة نظرهم سلامة العراق، ولكن هذا التغريب لم ينجح كلياً على الرغم الهيبة التي فرضها على المشهد برمته. فحينما وصل الموكب التمويهي إلى بوّابة القصر الرئاسي كان الرئيس يستقل طائرة سمتية خاصة يتطلع من خلالها إلى حقول النفط التي تديم زخم قوّته وجبروته الكبيرين. والعراقيون، في الأغلب الأعم، يعرفون جيداً أن الرئيس السابق كان يأمر بتحريك المواكب الزائفة في أكثر من إتجاه بهدف التمويه على الموكب الحقيقي الذي يتحرّك فيه. وحينما يعرف المُشاهِد أن الموكب كان خاليا لا يستغرب ولا يندهش، إذ تسرّب هذا الاجراء الأمني لعامة الناس وبات جزءاً من ذاكرتهم الجمعية، بل بالعكس أن هذا المشهد يقلّل من أهمية الجانب التغريبي الذي اعتمده المخرج، ويحيل إلى حقبة صدّام حسين تحديداً.
آثرَ المخرج أن يختار البصرة بوصفها مدينة عربية لكي تكون مسرحاً لوقائع هذه القصة وما تنطوي عليه من أحداثٍ درامية مفجعة، الأمر الذي أضعفَ الجانب التغريبي الذي سعى إلى تحقيقه على مدار الفيلم، وأحالَ إلى شخصية الدكتاتور الذي يمتلك عدة قصور رئاسية في مدينة البصرة تذكّرنا هي الأخرى بقصوره الرئاسية الفخمة المبثوثة في المحافظات العراقية كلها.
كما أن الأزياء والملابس العسكرية والأسلحة كلها تُحيل إلى حقبة الدكتاتور صدّام حسين وتذكّرنا به.
يتحرّك الفيلم في مسارين مهمّين حيث يركّز الأول على الدكتاتور (تقمّص الدور الفنان طارق هاشم) بحسب تسلسل المَشاهد التي ظهرت على الشاشة، بينما يركّز المسار الثاني على شخصيّة (المُغنّي) بشّار البصْري (جسّد الدور الفنان والمخرج عامر علوان) والتداعيات التي سيواجهها بسبب تأخره عن حضور الحفل في الوقت المُحدد، إذ أوقفته السيدة فضيلة علي الناصر في الطريق وطلبت منه أن يُوصل مَظلمتها إلى السيد الرئيس الذي أصدر أمراً بإعدام زوجها كاظم حسن علي مُحمِّلاً إياها مسؤولية تربية ثلاثة أطفال في زمن اشتعلت فيه الحروب وتفاقمت فيه الحصارات. كما تتعطّل سياراته في منتصف الطريق ويضطر لاستعمال مختلف الطرق والوسائل بغية الوصول إلى القصر الرئاسي، حيث يذهب مهرولاً أول الأمر، ثم ينقله سائق دراجة بخارية لمسافة محددة قبل أن يصل إلى أبي زرزور الذي يقلّه في خاتمة المطاف بسيارته إلى مشارف القصر حيث يتعرض للضرب المبرّح قبل أن يجرجروه إلى الدكتاتور الذي قال بأنه يُحب صوته، لكنه لا يطيق رؤية وجهه، لذلك أمره أن يغني ووجهه للحائط، وإذا التفت أو استدار فإن حماية الرئيس سيطلقون عليه الرصاص. ثم تقع سلسلة من الأحداث الدموية المرعبة في أثناء الحفل يذهب ضحيتها عدد غير قليل من الناس الذين حضروا إلى الحفل من بينهم عالم البيئة، ومتعهّد السمك، وزوجة الشاعر، والفتاة التي تحلم بأن تكون مذيعة تلفزيونية حيث قتلها الدكتاتور بعدة طلقات نارية لأنها كشفت عن نهديها في حالة سُكر شديد ثمناً للوظيفة التي سوف يسندها إليها ابن الدكتاتور. وحينما يغادر جميع المحتفلين القصر يلتفت المُغنّي بعينين دامعتين فيشاهد فتاة ترتدي زياً عسكرياً وهي تمسح الدماء التي سالت على أرضية القصر الرخاميّة من جسد الضحية الثملة، ثم يواصل المغنّي ترنَّمه بأغنيته المفضّلة (يا نبعة الريحان حنّي على الولهان)، لكن هذا الغناء الجميل ينطلق من أعماق نفسه الجريحة والمُهانة التي طعنها الدكتاتور في الصميم.
يا ترى، أي المسارين كانت له الحصة الأكبر؟ وهل أراد المخرج أن يركّز على الدكتاتور ويكشف عن نزعته الدمويّة التي بات يعرفها القاصي والداني على حد سواء، أم أنه أراد العكس تماماً أن يركّز على المُغني الذي يمثّل ضمير الشعب ووجدانه؟ لا شك في الإجابة واضحة فالمخرج قاسم حوّل أراد أن يجعل من الدكتاتور شخصيّة ثانوية تأتي بعد المُغنّي بحسب تسلسها على الرغم من هيمنة الدكتاتور على كل شيء تقريباً، لكن الوقائع في مجملها كانت تمرّ من خلال المُغنّي الذي تأخر قليلاً وكان السبب الأول في استفزاز الدكتاتور وإغاظته.
أراد المخرج قاسم حوّل أن يخلّد المُغنّي في هذا الفيلم ويؤكد على ثباته وديمومته، بينما قدّم الدكتاتور كشخص مُستبد قاتل، لكنه زائل لا محالة على الرغم من أنَّ آثاره لا تزال باقية حتى الآن، وربما تستمر لزمن طويل.
في أثناء تواجدنا في مهرجان الخليج السينمائي لهذا العام حيث عُرض فيلم (المُغنّي) للمرة الثانية بعد عرضه الأول في الدورة السابعة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، كان المخرج قاسم حوّل يردّد مقولة ابن خلدون الشهيرة التي باتت تدور على الألسن دوران الأمثال: (إن العسف يفسد النوع ويؤدي إلى هدم بنية المجتمع)، وهذا ما حصل للشعب العراقي على وجه التحديد، فالعسف الذي هو وجه من أوجه الدكتاتورية قد أفسد النوع حقاً وقلَبَ المعادلة في نهاية المطاف، إذ برزت إلى السطح السياسي شخصيات ملفّقة تافهة تاجرت بكل شيء من أجل الإمساك بالسطلة والمال، كما خرّبت المجتمع وأطاحت بقيّمه الثقافية والاجتماعية والأخلاقية.

بناء الشخصيات
أثارت شخصيّة الفنان طارق هاشم الذي جسّد دور الدكتاتور ردود أفعال كثيرة ومتناقضة سببها تقنية التغريب التي اعتمد عليها المخرج قاسم حوَل كما أشرنا آنفاً. فالشَبَه بين الدكتاتور والفنان طارق هاشم غير موجود إطلاقاً، وأكثر من ذلك فقد أضاف المخرج للشخصية الرئيسة لحية لم يضعها الدكتاتور طوال حياته، كما لاحظنا العقيد الركن سيف بلحيةٍ مشذّبة لم نألفها عند أي ضابط عراقي منذ تأسيس الجيش العراقي لحد الآن. ما أن يصل الرئيس إلى القصر حتى يتهافت عليه الضبّاط والمسؤولون الكبار ويقبّلون كتفه، بينما هو يمشي مزهواً ببِذْلته الأوروبية وقبَّعته السوداء وعباءته الثمينة. لقد اعتاد العراقيون على هذه المَشاهِد الذليلة في زمن الدكتاتور، لكنهم نبذوها بعد سقوطه وصاروا ينظرون إلى المسؤولين بعين الريبة والاستصغار والاحتقار. يوجّه الدكتاتور الدعوة لعدد من السفراء والضباط والمسؤولين الكبار في الدولة لحضور عيد ميلاده (الميمون) في قصره الرئاسي الذي يشهد تفتيشاً دقيقاً للضيوف بغية إذلالهم وإهانتهم، وهذه المَشاهد إعتادها العراقيون أيضاً وعرفوها من خلال الناس الذين توافدوا إلى القصور الرئاسية في مناسبات عديدة، فلا غرابة أن تُطهَّر أيدي الضيوف بمعقمّات طبيّة، ولكن وجه الغرابة يكمن في الفحص الدقيق للأجزاء الحسّاسة للرجال والنساء خشية من إخفاء مواد كيمياوية أو صواعق متفجّرة قد تُستعمل ضد الرئيس وأبنائه وحلقته الضيّقة.
حينما يدخل الدكتاتور إلى قصره يسمع هند (لعبت الدور الفنانة أثمار خضر) وهي تغنّي له أغنية عيد الميلاد، وعندما يصل إليها يتوقّف عندها قليلاً، ثم يتجّه إلى المكان المخصص له وللضيوف والسفراء المدعوّين حيث يجلس على الكرسي الرئاسي وبجانبه نائبه الإمَّعَة ثم تبدأ فقرات الحفل حيث يصافح السفير الأسباني الدكتاتور ثم يقدِّم راقصة الفلامنكو كارلا كوزمان كوزمان التي تقدِّم عرضاً راقصاً بمنتهى الرشاقة والعذوبة، غير أن الدكتاتور يخاطب بلهجته الريفية نائبة الممسوخ قائلاً: (إن رقص الفلامنكو أصله عربي بس ماراح نخبّرهم ونحرجهم)، فيرّد الإمَّعَة كالملسوع (صحيح سيّدي)، ثم يسأل نائبه إن كان العرض التاريخي جاهزاً أم لا؟ فيرّد النائب (نعم سيّدي جاهز). يهمل الدكتاتور راقصة الفلامنكو التي كانت تؤدي عرضاً راقصاً غاية في الدقة والإتقان ويتجه نحو الشرفة المطلة على باحة القصر الداخلية، ثم نسمع حِداءً بدوياً، ونشاهد جَمَلاَ تمتطيه شخصية نبوخذ نصّر التاريخية، فيما ينهمك البدوي في أداء أغنية (هلي ما لبسوا خادم سملهم). يتحدث الدكتاتور لمدعوّيه عن نبوخذنصّر الذي عاش قبل (2500) سنة، وعن العراقيين بوصفهم أصحاب الحضارات الأولى كالبابليّة والسومريّة والأكديّة، ثم يسأل عن الملك نبوبلاصر فيرّد أحد المرافقين بأنهم لم يجدوا الملابس المناسبة له في مديرية المسارح فيأمر بإنزال أقسى العقوبات بمدير المسارح، ثم يوسّع الأمَّعة هذه العقوبة لتشمل كافة منتسبي السينما والمسرح. يواصل الدكتاتور حديثه عن الملك نبوخذنصّر الذي سبى اليهود إلى بابل بعد أن أسرّهم في أورشليم القدس، لكنه أكرمهم وسمح لهم بممارسة الأنشطة التجارية بحريّة، وهم مدينون له لأن فتح لهم باب الاضطهاد حيث اضطهدم فرعون مصر وزجّ بهم هتلر في المحارق الأمر الذي دعا المجتمع الدولي لإنشاء دولة إسرائيل، والفضل يعود إلى نبوخذنصّر، لكنهم لا يريدون الاعتراف بالجميل، بل يريدون الانتقام منّا، وهذا خطأ كبير وقاتل من وجهة نظره. ثم يُهدي الشخص الذي أدّى دور الملك نبوخذنصّر سيارة مرسيدس، فيما يهدي الشخص الذي غنّى غناءً بدوياً سيارة بيجو.
في مشهدٍ لاحق يقدّم له السفير الروسي النسخة من بندقية كلانشنكوف التي صنعها العالم ميخائيل كلاشنكوف. ثم طلب الدكتاتور من السفير الروسي أن يزوّدوه بعدد كبير من المايكروفات الروسية لأنه لم يعد يحب المايكروفانات الأميركية لأن أميركا قد أصبحت عدوّة له، وأميركا، كما هو معروف، (ليس لها صديق دائم، وليس لها عدو دائم، وإنما لها مصالح دائمة) كما قال أحد الرؤوساء الأميركيين. يجرّب الدكتاتور البندقية، ولكنه يصوِّب الطلقة صوب الحدود العراقية- الإيرانية المشتعلة.
يحضر ابن الرئيس إلى الحفل ليبارك لوالده عيد ميلاده، ولكن الأب ينتقده ويلومه لأن حضر الحفل وترك مقر عمله، فينبّهه إلى ضرورة العودة خشية من فقدان السلطة أو ضياعها.
فجأة ينتبه الدكتاتور إلى عدم حضور المغنّي بشّار البصْري الذي ستُدهم مجموعة من العناصر الأمنيّة منزله، فيما كان المغنّي يعاني الأمرّين وهو في طريقه إلى القصر.
تبدأ أولى المشاهد الدرامية المفجعة حينما يتقدم العقيد سيف وزوجته سناء لمباركة الرئيس في عيد ميلاده، ثم يشكره العقيد على الترقية التي تشرّف بها من قبل سيادته، فيرّد الرئيس بأنه أمر بترقيته لأن زوجته سناء أخبرته بأن العقيد مخلص له، ويحبه كثيراً ، عندها أدرك العقيد بأن زوجته سناء قد خانته مع الرئيس، فيدخل الحمّام ويحطّم إحدى المرايا وينتحر بشظية زجاج كبيرة، ثم تأخذه سيارة إسعاف إلى المستشفى من دون جلّبَة بصحبة زوجته سناء التي كانت السبب المباشر في انتحاره.
أما القصة الثانية التي وقعت في تلك الليلة المشؤومة فهي حادثة استدعاء زوجة الشاعر الذي مدح الدكتاتور بقصيدة رصينة عصماء. لم تكن زوجة الشاعر (إنعام حصّاص) مُحِبة للدكتاتور، بل أنها تبغضه بغضاً شديداً، ولكنها حضرت الحفل لأنها تريد أن تشهد الفصل الأخير من هذه المسرحية التافهة. ثم تقرّر إنهاء علاقتها الزوجية منذ تلك اللحظة التي سقط فيها زوجها من نظرها بعد أن أصبح أنموذجاً للشخصية الممسوخة الذليلة المتصاغرة، فيأخذها أحد الحراس الشخصيين إلى مدير المخابرات الذي يوبِّخها ويقرّع زوجها ثم يأمر بحبسها في سرداب القصر.
يرصد مدير المخابرات جميع المدعوّين والمتواجدين في القصر بما فيهم عالم البيئة ومتعهد تزويد الأسماك لحفل الرئيس الذين يصبحان مشروعاً لجريمة قادمة حيث نراهما مقتولين لأنهما ينتقدان الدكتاتور ويتمنيان حياة سعيدة ونظيفة وغير ملوثة للعراقيين.
أما الجريمة الأخرى الأكثر ترويعاً فهي حادثة قتل هند التي كانت تتمنى أن تصبح مذيعة تلفزيونية. ففي لحظة سكر شديد تنهض هند وتكشف عن نهديها للدكتاتور ثم تقول: (هذا جسدي خذه مقابل أن تظهر صورتي على الشاشة)، عندها يستشيط الرئيس غضباً فيسحب مسدسه ويطلق عليها عدة إطلاقات نارية فيرديها قتيلة في الحال. كان مدير المخابرات (تقمص الدور الفنان عبّاس حمدان) يعرف مسبقاً بأن سكرتيرة ابن الرئيس سعاد (مثّلت الدور الفنانة خلود الشطري) هي التي جلبت هند إلى الحفل فيسحب مسدسة ويطلق عليها عدة عيارات نارية. يغادر الدكتاتور غاضباً عندها فقط يلتفت المغني بعينين دامعتين إلى الخلف ليرى فتاة شابة تمسح الدماء عن أرضية القصر المرمرية، فيما يظل صوت المغني صادحاً، فالفن مستمر أما المناصب الرئاسية فهي زائلة لا محالة.

المَشاهِد الجريئة
تميّز فيلم (المُغنّي) بوجود مشهدين جريئين، لكنهما مبرران فنياً، ويحتاج إليهما السياق العام لتطوّر الأحداث. أما المشهد الأول فهو المشهد الطويل نسبياً الذي يجمع بين الدكتاتور وسناء زوجة العقيد سيف (أدّت الدور بإتقان الفنانة كاترين الخطيب) وكان كلاهما يداعب الآخر ويقبّله ويتحسسه في الفراش. وعلى الرغم من وضوح الجانب الإيروسي في هذا المشهد إلاّ أن (سناء) سألت الدكتاتور إن كان يرغب في أن تصعد عليه لكي تحقق له متعة مضافة، فجاء ردّ الدكتاتور المتوقع بأن (الشخص الذي يريد يصعد عليه لم تلده أمه بعد!). أما المشهد الثاني الذي صدم الجمهور الخليجي والعربي تحديداً فيقتصر على لقطة واحدة. فعندما تثمل هند تُعرّي نهديها بحركة سريعة خاطفة وهي تخاطب الدكتاتور قائلة: (إن خذ جسدي هذا مقابل ظهوري على الشاشة!)، يغضب الدكتاتور ويقع في دائرة الانفعال فيسحب مسدسه الشخصي ويطلق الرصاص عليها فتسقط مضرجّة بدمائها.

أداء الشخصيات
على الرغم من التقنية التغريبية التي اتبعها المخرج قاسم حوَل في اختيار الشخصيات، فلا الدكتاتور يُشبه صدام حسين، ولا الابن يُشبه عدي صدام حسين انسجاماً مع البنية الافتراضية التي لا تُحيل إلى دكتاتور بعينه أو إلى نظام حكم محدّد، إلا أن أداء الفنان طارق هاشم كان موفقاً، ونجح في تجسّيد شخصية دكتاتورية فعلاً أقنعت المتلقين أنهم إزاء شخصية معقدة حبلى بالمفاجآت وهذا ما تحقق في الفيلم.
أما الفنان عامر علوان فقد أتقن هو الآخر شخصية المُغنّي بشّار البصري سواء في حياته اليومية وعلاقته بالأهل والمعارف والمعجبين، أو في عروضه الغنائية. فقد حفظ كل الأغاني التي أدّاها، وكان متماهياً معها وكأنه يغنيها بصوته فعلاً، لا بتقنية الـ (Play back). كما أنه جسّد دوره طوال مدة الفيلم بجدارة قرّبته كثيراً من قلوب المشاهدين.
جسّد الفنان مجيد عبد الواحد دور العقيد سيف المغلوب على أمره والذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً أكثر من أن ينتحر بطريقة مروّعة، إذ إتبّع الدكتاتور طريقة بشعة في (إخصاء) المسؤولين وتجريدهم من رجولتهم بغية احتقارهم وإذلالهم، وربما تنطبق هنا مقولة ابن خلدون التي أشرنا إليها سلفاً بأن (العسف يهدم بِنية المجتمع) ويفضي بالنتيجة إلى هذه التجاوزات الأخلاقية التي دمّرت الكثير من الأُسَر العراقية.
أتقن الفنان عبّاس حمدان دور مدير المخابرات إلى الدرجة التي تقمّص فيها الشخصية المخابراتية فعلاً ولم يفلت من مراقبته أياً من المدعوين، وكان سبباً في قتل العديد منهم باستثناء هند التي جنت على نفسها نتيجة لطيشها وتهوِّرها أمام الدكتاتور.
كنا قد أشرنا إلى جرأة الفنانتين أثمار خضر وكاترين الخطيب عندما تناولنا الجانب الإيروسي في هذا الفيلم، وقلنا بأنهما فنانتان جريئتان، هذا إضافة إلى تمكّنهما من ناحية الأداء الفني المدروس. كما تنبغي الإشارة إلى الفنانة المقتدرة (خلود الشطري) التي جسّدت دور سكرتيرة ابن الرئيس ونجحت فيه لأكثر من سبب، فهي شخصية تُظهِر، على الدوام، غير ما تُبطِن، وهذا الأمر يتطلب شخصيّة مركبّة في الأقل، إن لم تكن معقدة ومستديرة. وقد أفلحت في تأدية دورها بنجاح ملحوظ. وهذا الأمر ينسحب على (إنعام جصّاص) التي لم تخُض تجربة التمثيل من قبل، لكنها أجادت الدور وأدتّه بحرفية عالية تدفعنا إلى القول إنها يمكن أن تخطو خطوة أبعد في مجال التمثيل السينمائي أو التلفازي وبروحية احترافية لا يشوبها الخوف أو التردّد.
وفي الختام لابد من الإشارة أن مخرج الفيلم قاسم حوَل قد تعمّد تقديم شخصية الدكتاتور بطريقة افتراضية اعتمد فيها تقنية التغريب التي تنأى قدر المستطاع عن التشابة والتماثل مع الشخصيات الحقيقية على أرض الواقع مثل صدام حسين وعدي صدام والنائب عزت الدوري وما إلى ذلك لأنه كان يتمنى على المتلّقين أن يروا على الشاشة دكتاتوراً افتراضياً يسبِّب العديد من المحن والفواجع لشعبه وللشعوب المجاروة له. ثمة إشكالات قد لا تكون بسيطة مثل ضعف الإنارة الذي حرم المخرج من تصوير لقطات كبيرة تغطي مساحة القصر الواسعة، ولكن المخرج أوضح للمشاهدين بعد العرض أن موّلدة الكهرباء لم تكن كافية لإنارة القصر برمته، لذلك اضطر إلى هذه اللقطات المجتزأة التي أضرّت ببنية الفيلم وجماليته، كما أن المخرج لم يستطع أن يوفّر رافعة (كرّين) كي يصوِّر بعض المشاهد من علوٍ معقول أو يغطي مساحة واسعة لا تستطيع الكاميرا الثابتة على مسند أرضي أن تحتويه أو تلّمه. كما أن صوت الموّلدة الكهربائية كان واضحاً ومسموعاً في الفيلم الأمر الذي سبب ما يمكن تسميته بـ (التلوث الصوتي) الذي أضرّ بنوعية الفيلم، لكن المخرج وعد بأنه سيعالج هذا الخلل لاحقاً.
يُعَد ها الفيلم إضافة نوعية لتجربة قاسم حوّل السينمائية، ولابد من الانتباه إلى أمور عديدة في تقييم هذا الفيلم من بينها الحبكة الرصينة وبناء الأحداث وبناء الشخصيات ونموها الدرامي آخذين بظر الاعتبار أن المخرج القدير قاسم حوّل لم ينجز هذا الفيلم بغية تصفية حساباته الشخصية مع الدكتاتور، وإن كان هو ضحيّة من ضحاياه، ولكنه كان يسعى لكشف الحقيقة الموضوعية التي تعّري حقبة زمنية سوداء تركت آثارها السيئة على العراقيين جميعاً سواء أكانوا مناصرين للدكتاتور أم مناوئين لسياسته الاستبدادية الفظّة التي لا تختلف جوهرياً عن السياسة التي يتَّبعها أي دكتاتور على وجه البسيطة.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حيّ الفزّاعات لحسن علي محمود وتعدد القراءات النقدية
- تعدد الأصوات والأبنية السردية في رواية -قفلُ قلبي- لتحسين كر ...
- تقنية فن التحرّيك في النص الشعري
- تقنية السهل المُمتنع في رواية (الزهير) لباولو كويلو
- قضايا وشخصيات يهودية للباحث جعفر هادي حسن
- أقول الحرف وأعني أصابعي. . . مَنْجمٌ للموضوعات الشعرية
- علاقة الحرب بالثقافة البصرية. . أمسية ثقافية تجمع بين القراء ...
- التعصّب القومي في فيلم -أكثرية- للمخرج التركي سيرين يوج
- الأبعاد الدرامية في تجربة ورود الموسوي الشعرية
- ورود الموسوي: أنا بسبع حوّاس، والمرأة المعذّبة هي جل اهتمامي ...
- ورود الموسوي: أحمل روح السيّاب، لكني لا أحمل صبغته الشعرية(1 ...
- المخرج جمال أمين يلج دائرة العتمة الأبدية
- مسابقة (أمير الشعراء) في دورتها الرابعة
- مهرجان روتردام السينمائي الدولي يحتج على سجن المُخرجَين بناه ...
- ثنائية العاشق والمعشوق في قصائد جلال زنكابادي (2-2)
- ثنائية العاشق والمعشوق في قصائد جلال زنكابادي (1-2)
- علاقة اليهود العراقيين بالموسيقى العراقية
- التعريّة والتأليب في القصيدة المُضادة لجلال زنكابادي
- مُخرجون مُستقلون يُعيدون للسينما التركية هيبتها المفقودة
- تجاور الأجناس الإبداعية في رواية (الحزن الوسيم) لتحسين كرميا ...


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - التغريب والصورة الافتراضية للدكتاتور في فيلم (المُغنّي) لقاسم حوَل