أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نايف سلوم - ديالكتيك الانعكاس في الفن















المزيد.....


ديالكتيك الانعكاس في الفن


نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)


الحوار المتمدن-العدد: 997 - 2004 / 10 / 25 - 09:46
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ماذا لو كنّا في سيارة وانحرفنا عن الطريق فوجدنا أنفسنا في بركة؟
مهما يكن من أمر، فإن أحسن وسيلة للفهم هي الذهن. يا له من قول مضحك! أيمكن أن تقول شجرة" أنا شجرة؟ "
يعتقد آخرون (ومنهم المتصوفة) أنهم يستطيعون تغيير النقاط في ورق اللعب بقوة الذهن حين تأتي الورقة طائرة في الهواء، ويحين دورهم في اللعب."
هنا أقول " لا أظن أن الوقت قد حان لتفعل ". هذا ما يقوله الشاعر الأميركي رون بادجت. أمّا أنا فأعلّق:
عندما نقول أن الفكر انعكاس للواقع فنحن نعلن عن مبدأ عامّ جداً. بهذا الإعلان نفترض، بشكل أولي،ّ أن الواقعة قبل فكرتها، بالرغم من وجود عناصر قديمة في الواقعة الجديدة، منعكسة في الذهن من قبل، توحي أحياناً بأسبقية الفكر على الواقع.والفن له خصوصية في هذا الشأن: إن الفن في شكله الأصيل يعرض العناصر الجمالية بكليتها والتاريخ [الشرط التاريخي] هو المعيار، فالشعر الجاهلي مثلاً يتضمن القافية و الموسيقا والإيقاع العروضي الخ ..التاريخ وحده هو من يعطي الهيمنة لأحد هذه العناصر.
هذا الإعلان للمبادئ يشبه إعلان الياس مرقص القائل: " الديالكتيك لا الوضعويّة. الديمقراطية لا الليبرالية." [ مرقص"المذهب الجدلي والمذهب الوضعي"ص27 ]. عند الحديث عن المشروع العربي القومي الديمقراطي.
فإعلان المبادئ: الفكر انعكاس أو الفن انعكاس للواقع لا يفسّر شيئاً، ولا يخدم مسألة الحقيقة أو مسألة الشكل الفني إلا كنقطة انطلاق أولية يتوجب عدم الاكتفاء بها كما تتوجب البرهنة عليها في السير اللاحق، وهي قابلة للمراجعة عند كل عتبة من عتبات الفكر في جدله الداخلي لإنجاز المعرفة الحق.
الفكرة البد ئية : الفكر انعكاس للواقع تفترض تفسير أمرين: الفكر، ما هو الفكر؟ والواقع، ماذا نعني بالواقع؟ هل الواقع هو الأشياء التي ندركها بالحواس، أم هو أمر آخر؟
في الحديث عن الفكر أقول: الفكر هو الشعور، وله أربعة لحظات: الشعور البيولوجي باعتباره انعكاساً لعلاقة الجسم الحي ببيئته. والشعور الفردي النفسي بوصفه انعكاساً لنشاط الدماغ وللعلاقات الاجتماعية العملية( الوعي النقابي أو المهني)، التي تتكون الفردية داخلها، والشعور الاجتماعي الإيديولوجي، أو انعكاس المصالح الطبقية وأوهام الطبقات المسيطرة والتي سيطرتها في طريقها إلى الزوال. وأخيراً انعكاس الممكن بوصفه متضمناً في حركة الواقع، وممثلاً لمصالح الطبقات التقدمية، وهذا الشعور مع الإيمان المرافق له ندعوه بالإيديولوجيا العضوية.
تشكل مجمل هذه اللحظات الأربع الواقع الطبيعي والاجتماعي في انعكاسه الشعوري. وإذا ما تحدثنا عن انعكاس علمي تاريخي لهذا الواقع فإن حديثنا يعني بالضرورة هيمنة الإيديولوجية العضوية، أو فكر الطبقة التقدمية تاريخياً . وهذا لا يفترض تطابقاً آلياً وغير مشروط بين الانعكاس العلمي التاريخي ، أي صياغة الحقيقة التاريخية، وبين تشكل الإيمان بهذه الحقيقة ، أو ما نسميه تشكل الأيديولوجية العضوية للطبقة التقدمية تاريخياً. وما الأشكال الأخرى للشعور إلا لحظات سلبية أو إيجابية لهذه الكلية العينية. [راجع هنري لوفيفر "فكر لينين"ص241 ] وهنا لابدّ أن نتحدث عن "الكلية العينية" أو ما يمكن أن ندعوه بحقيقة واقع محدّد تاريخياً.
نأخذ في العادة انطباعات عن شيء، حادثة أو ظاهرة موجودة خارج شعورنا بواسطة الحواس، انطباعات وظنون حول علاقة عناصر الحادثة أو الظاهرة بعضها ببعض وشكل ترابطاتها. وعندما نستمر بالبحث والتفتيش نكتشف ترتيباً بين عناصر الظاهرة أو الحادثة مختلفاً عمّا بدا لنا للوهلة الأولى. أي أن الذهن، وبعد استقباله للانطباعات الحسيّة والإدراكات يقوم بترتيب فعّال لعناصر الظاهرة وفق ما هو مفصلي ومهيمن فيها. وهذا الترتيب العقلي ["الذاتي"] لعناصر الظاهرة، بعد دراستها دراسة تفصيلية، هو ما ندعوه بـ الكلية العينية التي تشتمل على الانطباع الحسّي (لحظة الظاهر) كلحظة أولى من لحظات هذه الكلية . ويكون ترتيب عناصر الظاهرة وفق مقتضيات الكلية العينية مختلفاً تماماً عن ترتيبها كما بدت لنا لأول وهلة ، أي عند مقابلتها لنا كمعطى مباشر.
إن الحركة من الحسّي إلى الكلية العينية؛ من الظاهر إلى الماهية ، إلى الكلية العينية هي حركة مزدوجة. فنحن ننتقل من الحسّي إلى المجرّد، هذا الانتقال فيه تحوّل، انقطاع أو قفزة، وهذا الانقطاع يمكن تسميته بالبرزخ بين الحسي والعقلي . وهكذا يكون الحسي وسيلة أو عقبة في العبور إلى العقلي المجرّد. والتجريد يعني تفكيك الظاهرة في الذهن إلى عناصرها المكوّنة مع عزل العناصر الأساسية وتعاليها عن الواقع الذي ولّدها.
التجريد لحظة هامة من لحظات المعرفة العينية بشرط عدم عزلها عن حركة تشكل المعرفة هذه . نقرأ عند هنري لوفيفر: ".. أن المعرفة يجب أن تمر بالتجريد، والفكر المجرّد يتعرض لخطر الانفصال عن الواقع، وعزل الواقع الذي يدرسه. فثمة إذاً تجريد وهمي غير مفيد، معزول، هو ما نجده مدفوعاً إلى المطلق في المذهب المثالي. وثمة تجريد صحيح واقعي، تجريد يقربنا من الواقع [لوفيفر"فكر لينين"ص242 ]
التجريد الصحيح هو الذي يعرض نفسه أمام الفكر في حركته فيغدو لحظة من لحظاته، لحظة من لحظات الفكر الديالكتيكي ذو الحركة المزدوجة. وهذا هو التجريد الغني بالمحتوى أو العائد إلى بيته؛ العائد إلى الواقع.
هذه الحركة المزدوجة من الحسّي إلى المجرّد العقلي، ومن المجرّد إلى الكلية العينية (الواقع في حقيقته التاريخية)، هو ما نطلق عليه اسم ديالكتيك العيني، والمعرفة الناتجة عن ذلك ندعوها بالعلم التاريخي الحقّ.
يظهر إشكالان، هنا، بخصوص الكلية العينية : الأول، قد تظهر بالنتيجة أن لحظاتها (أو عناصرها) متساوية.[؟] والثاني، أن عناصرها مختلطة ومندمجة وغير متمايزة كلحظات ضمن هذه الكلية. إن هذين الأمرين غير صحيحين. لذلك يجب أن نلاحظ أن مقولة الكلية العينية لا تنفي وجود عناصر(لحظات) أساسية مهيمنة وعناصر تابعة. مثال ذلك، البنية الاجتماعية- الاقتصادية أو "المجتمع المدني" الذي يشكل كلية عينية تتشكل من لحظة قاعدية أو ما يسمى بالبنية التحتية، أو ما يمكن صياغته : الحركة الاقتصادية للملكية الخاصة. ومن لحظة فوقية، أو ما يمكن أن ندعوه بالشكل السياسي والحقوقي والإيديولوجي لهذه الملكية الخاصة في شكلها التاريخي. فالكلية العينية هي وحدة متناقضات غير متساوية وغير مختلطة. نقرأ عند لوفيفر: "المقولات الديالكتيكية (والواقع الذي تعكسه) تشكل إذاً كلية عينية، إلا أنها لا تختلط ببعضها. إنها غير متساوية في وقت واحد "[فكر لينين ص 225 ].
كيف للفن أن يتعامل مع ديالكتيك الانعكاس ومفهوم الكلية العينية؟ وهل مطلوب من الفن أن يتلبس شكلاً أحادياً في تعبيره الجمالي عن الواقع، أم متروك له الاختيار، أو التبديل الاختياري لأشكاله ضمن رؤية معتمدة للعالم كاستراتيجية أيديولوجية و جمالية؟
سوف نقسِّم الواقع إلى مستويات ثلاثة، حسب أهميتها أو هيمنتها: المستوى التاريخي، المستوى الاجتماعي- الاقتصادي/ القومي (المجتمع المدني)، والمستوى الوجودي الفردي. إن الفن، في محاولته خلق أشكال تعبيرية مؤثرة، يرصد أولاً الواقع بمستوياته الثلاثة في محاولة إعادة إنتاج هذا الواقع كعلم تاريخي، هذا في لحظة أولى. من ثمّ يعمد إلى وضع استراتيجية جمالية [تطهير أرسطيّ [نسبة إلى أرسطو طاليس] أو تغريب بريشتيّ [نسبة إلى برتولد بريشت]] تنسجم مع رؤية الفنان للعالم: هل هو مثقف عضوي يحمل وجهة نظر الطبقة التقدمية تاريخياً، أم مثقف تقليدي متشِّيع لوجهة نظر الطبقات الآيلة نحو الزوال.
نستطيع هنا تقديم الملاحظة الأساسية التالية: إن الأعمال الأدبية والفنية الأصيلة هي " تلك التي تعكس الانتقال بين فترتين(عالميتين)؛ تعكس صيرورة عالم تهاوت فيه كونية القيم القديمة، وأخذت قيم جديدة تبزغ إلى الوجود. وإذا ما بحثنا عن دلالة هذه الأعمال فسنجد بأن هؤلاء الكتاب أو الفنانين، مع تقبلهم للقيم الجديدة وتمثلهم لها، يحاولون العثور على الكونية المفقودة بعد انهيار العالم القديم." [لوسيان غولدمان"البنيوية التكوينية والنقد الأدبي"ص28]
بعد أن يكوّن الفنان رؤيته إلى العالم تأتي المهمة الأكثر صعوبة: وهي خلق الأشكال الأكثر انسجاماً مع تلك الرؤية للعالم. فهو، أي الفنان، يبدّل في العنصر المهيمن ضمن البنية العينية، أو يحرّكه اختيارياً. هكذا يجنح الفنان إلى اتخاذ شكل احتمالي تماماً كما اضطرّ مكانيك الكمّ في الفيزياء " لأن يجنح إلى اتخاذ شكل احتمالي" [هيلركوني"فيرنر هايزنبيرغ ومكانيك الكمّ" ص68 ]. إن البنية الاحتمالية ذات مستويات ثلاثة هي العنصر والحقل والفضاء.
إن انعكاس الواقع بمستوياته الثلاثة وتعقيدات العلاقة بين هذه المستويات يعني :
1- انعكاس جزئي للواقع 2- انعكاس خاطئ ومشوّه 3- انعكاس علمي تاريخي(الكلية العينية لواقع محدّد تاريخياً) 4- انعكاس الممكن بوصفه متضمناً في حركة الواقع. ويجب ألاّ نغفل انعكاس فاعلية البشر ونشاطهم بوصفه نشاط موضوعيّ (انعكاس النشاط، كونه متضمن في فكرة الكلية العينية كنشاط ذهني أو نشاط خارجي اجتماعي اقتصادي وسياسي كالصناعة والتجارة والزراعة والسياسة).
كيف يحصل انعكاس خاطئ؟ فكي" نعرف، و كي ننتقل من الجهل إلى العلم، ينبغي لنا أن نحلل، أن نجرّد، ينبغي أن نمر بالمفهوم (مأخوذ صورياً، أو ذاتياً، بوصفه داخل التفكير). ويمكن إذاً أن نعزل المفهوم أحياناً، وأن نيّبسه، بالتالي، بدلاً من بلوغ الديالكتيك الموضوعية(الكلية العينية) يمكن هدمها وإيقافها في درجة المنطقية(درجة التجريد المتعالي على الواقع)، وهذا ما فعله أرسطو" [لوفيفر..ص204 بتصرف]
يمكن تصور آلية حدوث أخطاء الانعكاس على اعتبار أن بناء الكلية العينية يتطلب حركة مزدوجة: من الحسّي إلى المجرّد ومن المجرّد إلى العيني، وعلى اعتبار أنه يمكن لهذه الحركة أن تتوقف في منتصف الطريق رافعة المجرّد إلى مرتبة المتعالي عن الواقع.
سوف نعيد طرح المسألة من زاوية أخرى: تمر الانطباعات في الذهن، وهذا الذهن سوف نختزله بمفهوم "الأنا" ككيان ذهني متميز مدرِك، في جانب منه، للمحيط الخارجي. وهذه الأنا قائمة على لحظات ثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل، أي أن حضور الأنا قائم على لحظتي غياب(الماضي والمستقبل). فالأنا هي شكل حضور الحركة ذاتياً (داخل التفكير) من الماضي إلى المستقبل. فإذا غابت لحظة المستقبل بفعل تقهقر التاريخ الناجم عن انحطاط الطبقة العالمي، حضرت أشباح الماضي مزعزعة فكرة الحضور، ومهددة الأنا ككيان ذاتي متميز وفاعل.
والذي يحصل: حضور شيطاني للماضي يشوه وجه عملية الانعكاس حيث يظهر انعكاس إحباط الحاضر على شكل أشباح الماضي وحضورها إلى ساحة الوعي.
هذا الحضور المزدوج المتزامن أو الإبلاسي (من إبليس) يعني حضور اللعنة، بالتالي حضور العنف غير المنتج، الماسخ أو ما يسمى بجنون العنف (حالة الجزائر).
أما الانعكاس "المحايد" الذي يدّعي أنه موضوعي، متناسياً انعكاس شكل الإرادة والنزوع عند الأفراد، أي الذي لا يأخذ في حسابه نشاط الأفراد، ميولهم، و فعا ليتهم، فهو انعكاس ناقص مشوه ورجعي، حيث يتناسى هذا الفكر أن الواقع من صنع البشر. فالمنزل الذي تتأمّله كشيء خارجي وصلب هو ناتج الفاعلية الجسمية والعصبية النفسية والتقنية للبشر.
إن الوعي بالممارسة يعطيها قوة إضافية وجبروتاً ضمن القابليات والإمكانيات المعطاة أصلاً من قبل واقع متحرك باستمرار ، واقع لا يهدأ .
فعفريت المصباح من لحم ودم، وعفريت الجن الذي قال "أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك". [النمل /39] هو جيش مدرّب ومسلّح مفروض عليه الولاء أو موال لقادته رغم كونه من أمم مختلفة.جاء في سورة سبأ ""ولــ سليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين ا لِقْطر.. ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزِغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدورَ راسيات" [12/13].
في الفن أو العيني الفني هناك حرية أكبر في ابتداع الأشكال.
مرة أخرى نقول إن الفن انعكاس. هذا إعلان مبادىء أولي وفارغ. وكونه فارغ لا يعني أنه وهمي أو غير حقيقي، لكنه لحظة أولى فحسب، لحظة المباشرة الأولى فحسب. فإذا اكتفى بذاته تحوّل إلى تفاهة، وإذا أكملنا وقلنا هذا الانعكاس أخذ النوع المسرحي فهذا انعكاس محدد آخر. ثم نتابع بعد ذلك، إن هذا المسرح المحدد في الفترة التاريخية المحددة قد رفع من معدل المتعة وقلّل من النزعة التعليمية فهذا شكل آخر أو انعكاس آخر، ونضيف أن هذا المسرح يستخدم استراتيجية التطهير الأرسطي بدلاً من استراتيجية التغريب البريشتي، هذا يعني انعكاساً إضافياً آخر. أو مسرح يضع الجمهور على الخشبة أو الخشبة بين الجمهور فهو انعكاس آخر، وهكذا ضمن سلسلة من انعكاسات لا متناهية. إذاً توجد انعكاسات لا متناهية في اختيار الأنواع الفنية والأشكال التعبيرية. لكن ضمن كل هذه الانعكاسات لا بد من أمر مفصلي أو استراتيجية جمالية تعبر عن إرادة ومصير طبقة اجتماعية أو أمة؛ تعبر عن رؤيتها لذاتها وللعالم.
إن مسرحاً يتبنى التطهير الأرسطي كاستراتيجية جمالية يعني أنه يتبنى موقفاً محافظاً من الناحية الاجتماعية، وهو يهدف إلى اعتماد التسلية والترويح عن النفس والتعزية في مجتمع يعاني من التعسف والتمييز بين أفراده. هذا المسرح هدفه تسلية جمهور ملول وسئم، أو تعزية جمهور مقهور وعاجز. في حين أن مسرحاً يتبنى استراتيجية التغريب البريشتي أو الشكل التعليمي يهدف إلى دفع المتلقي إلى اتخاذ قرار عملي بالتدخل النشط في الحياة، هذه الاستراتيجية التعليمية التي تحاول التأكيد على النزعة التاريخية للقيمة الجمالية والانفعال والتعبير الإنسانيين، وإلى تأكيد النزعة التعليمية وإيجاد مسافة بينها وبين التسلية والتطهير بفعل عداء مشغول فنياً بين التعليم والتسلية. تشير هيمنة هذه الاستراتيجية إلى خيار أيديولوجي عند الفنان يتوجب صنعه فنياً عبر ابتداع أشكال وحوارات خلاقة ، منسجمة مع هذا الخيار الأولي. وهذه الأشكال هي التي سوف تحققه، خيار يشرط تعامله مع الأشكال التعبيرية والفنية والدرامية ومع شكل الحوار. فكاتب يقتّر من الحوار إلى درجة التلاشي يعني أنه يتبنى استراتيجية عبثية (بيكيت) ولا بد له بالتالي حتى ينسجم مع رؤيته للعالم أن يقلل من الحركة على الخشبة. بينما كاتب يتحدث عن الثورة لا بد له من حوار ساخن وحركة وصخب وممثلين كثر. إن ظهور ممثل واحد على الخشبة (مونودراما) يشير من ناحية الشكل وبشكل رمزي إلى انحطاط اجتماعي وتراجع شعبي عن الحياة العامة.لقد ارتبطت الواقعية في الأدب بإرادة التغيير، وبفترات الانتقال التاريخي بين عصرين : من الإقطاع الأوربي إلى الرأسمالية ومن الرأسمالية إلى الاشتراكية فظهر في الفترة الأولى كتاب كبار من أمثال دانتي وغوتيه وشكسبير وبلزاك، وظهر في الفترة الثانية تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف ومكسيم غوركي وبريشت وبسكاتور. إن فترة الانتقال الأولى من الإقطاع إلى الرأسمالية أظهرت أشكال تعبير جديدة كالرواية حيث هيمن النثر على الشعر نتيجة للظهور التاريخي لمفهوم الشعب وثورات الفلاحين ونتيجة لتصدع القدسي أو المقدس .
وحتى لا نفترض أن واقعاً بعينه محدداً تاريخياً يفترض شكلاً فنياً أو أدبياً أحادياً ، علينا أولاً تحليل الأشكال الفنية والأدبية للفترة المدروسة بكل غناها وتنوعها، ثم في حركة تالية دراسة شكل الرؤية إلى العالم في تلك الفترة واختلافاتها طبقاً للطبقة المعنية (طبقة آفلة أو طبقة صاعدة).. من ثم نجري حركة ثالثة محاولين الربط السلبي أو الإيجابي بين هذه الأشكال والواقع الاجتماعي للفترة المدروسة عبر توسّط الرؤية إلى العالم التي تخص تلك الطبقات أو تلك الفترة (الإيديولوجية السائدة هي إيديولوجيا الطبقة السائدة).
نضرب مثلاً: إن المبالغة في الترويج للسردية أو ما يمكن أن نسميه إنعاش الحيوية الحسية للسرد كأسلوب قص باستخدام الرمز المقنن، وهو أسلوب إخباري قابل للحكم عليه بـ الصح أو الخطأ. إن المبالغة في الترويج لهذا الشكل من القص ، الذي هو عودة إلى أسلوب القرون الوسطى أو أسلوب الحكاية الترفيهي، إن هو إلا علامة على انحطاط الطبقة البورجوازية العالمي خاصة في أطراف النظام الرأسمالي، كما أنه علامة على فقدان أو تزعزع اليقين الإنساني. أما المسرح التعليمي الذي حمل المواضيع الكبيرة إلى المسرح مع مستلزماتها التقنية والفنية فهو علامة مواجهة اجتماعية كبرى بين الطبقات والأمم .
أما فكرة المسرح التجريبي فتعني في أحد أشكالها تجريب العديد من الأشكال الفنية والأسلوبية ومحاولة رصد أيها الأنسب ضمن فضاء احتمالي للفترة التاريخية المعطاة ولنوعية الجمهور المتلقّي . أما الالتزام الأحادي الشكل للفن بحجة واقعيته فيعني خضوع الفن ووجهة النظر الفنية والجمالية لبيروقراطية حزبية منعزلة عن الشعب، بيروقراطية تفتقر إلى الأفق النظري والتاريخي وإلى الاستراتيجية السياسية والجمالية وهي تطالب بأشكال فنية مسلوقة (سندويش فني) لإرضاء نزعتها التسلطية الاختزالية والمسطحة. إن سيطرة البيروقراطية الحزبية على الفن يعني إخلاء الساحة الفنية والجمالية للإيديولوجيا الاعتباطية (الإيديولوجيا التقليدية) ولأشكال التعبير المبتذلة والهابطة.
مثل آخر نضربه: المسرح الشرطي والمسرح الطبيعي، الأول يكتفي بعلامة ليشير إلى واقعة معقدة والآخر يُحضر الشيء الطبيعي إلى المسرح. إن ظهور المسرح الشرطي في بداية القرن (مايرخولد) يعبر عن انتصار الديالكتيك في التعبير الفني على النزعة الميكانيكية والطبيعية. فليس غريباً أن يترافق هذا مع انتصار مماثل في حقل العلوم الفيزيائية. لقد أحل المسرح الشرطي العلاقة محل العنصر الكتلي الميكانيكي إذا جاز التعبير.
أخيراً أقول مع بريشت: "إن الفن لكي ينجز مهمته، أي إثارة عواطف معينة، واستخلاص تجارب معينة، فهو ليس بحاجة إلى أن يعطي صورة صحيحة عن العالم أو صورة مطابقة لحوادث بين الناس. إنه يتوصل إلى التأثير حتى بواسطة صور عن العالم ناقصة وخادعة وقديمة".[بريشت، مسرح التغيير] وهنا يظهر مبدأ الاحتمالية الفنية أو الفضاء الاحتمالي للشكل الفني أو ما سميناه من قبل بـ الكلية العينية الفنية. فبعد أن تنازل الملك لير عن السلطة والثروة لبناته الثلاث وبعد طرده من قبل الكبرى والوسطى، لم يغضب كما تصور شكسبير بل اكتشف أن السلطة مفسدة للروح، لهذا عاد إلى مرسمه من جديد.

مراجع
-1
الياس مرقص "المذهب الجدلي والمذهب الوضعي" دار π الطبعة الأولى 19911
2-
هنري لوفيفر "فكر لينين " ترجمة ومراجعة د. كمال الغالي، أديب اللجمي منشورات وزارة الثقافة دمشق 1969
3-.
3- لوسيان غولدمان، يون باسكاو، جاك لينهارت، جاك دوبوا، جان دوفينو، ر. هندلس، "البنيوية التكوينية والنقد الأدبي" راجع الترجمة ، محمد سبيلا . مؤسسة الأبحاث العربية ، الطبعة العربية الأولى 1984 .
4-
هيلر- كوني "فيرنر هايزنبرغ وميكانيك الكم" ترجمة وجيه السمان منشورات وزارة الثقافة دمشق 1970 .
5-
سورة النمل[27] /39
6-
سورة سبأ [34] / 12- 13



#نايف_سلوم (هاشتاغ)       Nayf_Saloom#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نداء إلى شعوب إيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين
- علمانية ، أم نقد جذري للتراث القومي العربي و الديني؟
- الاشتراكية أو البربرية محمد الخضر
- حول نظرية الانعكاس
- إسرائيل في قلب الاستراتيجية الأميركية للشرق الأوسط الكبير
- في المسألة القومية العربية الديمقراطية
- المثقف الجديد
- قضايا في مقاربة الإمبريالية الجديدة وما يترتب من مهام
- في انفصال المهام الديمقراطية(# )عن الليبرا لية
- الأزمة مستمرة – نقد وجود الحزب -1
- قراءة في -كراسات السجن- لـ أنطونيو غرامشي
- العلاقة العربية الكردية تعدّد مستويات المقاربة
- القول النظري والقول السياسي حدّ العلم والقول السياسي
- خمر تمور العراق يُسكر الأكراد السوريين
- في الفهم المادي للتاريخ- مدخل إلى الأيديولوجية الألمانية- ال ...
- في الفهم المادي للتاريخ -مدخل إلى الإيديولوجية الألمانية- ال ...
- في الفهم المادي للتاريخ مدخل إلى الإيديولوجية الألمانية- الق ...
- في الفهم المادي للتاريخ مدخل إلى الأيديولوجية الألمانية- الق ...
- اللينينية- قراءة نقدية في كتاب مارسيل ليبمان اللينينية في ظل ...
- قراءة نقدية في مشروع موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي ال ...


المزيد.....




- رئيس وزراء فرنسا: حكومتي قاضت طالبة اتهمت مديرها بإجبارها عل ...
- انتخاب جراح فلسطيني كرئيس لجامعة غلاسكو الا?سكتلندية
- بوتين يحذر حلفاء أوكرانيا الغربيين من توفير قواعد جوية في بل ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 680 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 13 ...
- رئيس جنوب إفريقيا يعزي بوتين في ضحايا اعتداء -كروكوس- الإرها ...
- مصر تعلن عن خطة جديدة في سيناء.. وإسرائيل تترقب
- رئيس الحكومة الفلسطينية المكلف محمد مصطفى يقدم تشكيلته الوزا ...
- عمّان.. تظاهرات حاشدة قرب سفارة إسرائيل
- شويغو يقلّد قائد قوات -المركز- أرفع وسام في روسيا (فيديو)
- بيل كلينتون وأوباما يشاركان في جمع التبرعات لحملة بايدن الان ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نايف سلوم - ديالكتيك الانعكاس في الفن