|
تأمُّلات متعانقة مع تجلِّياتِ الخيالِ
صبري يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 3335 - 2011 / 4 / 13 - 22:24
المحور:
الادب والفن
تنظيف دنيا فوضاي
نهضتُ من نومي باكراً في صباحِ العيدِ على أثرِ أحلامٍ مزعجة، فأحببتُ أن أصدَّ هذه الانزعاجات بمزيدٍ من الانزعاج، كي أبدِّدَ الانزعاج بانزعاجٍ مضادّ، حيث كانت شقَّتي في حالة يرثى لها من حيث الفوضى، ويدهشني كيف بعض فاقدي العقول أطلق على الفوضى العارمة في العراق، أو أيَّةِ بقعة فوضوية في العالم، اصطلاح الفوضى الخلاقة! غباءٌ حقيقي أن يعتبر الإنسان ما جرى في العراق فوضى خلاقة، لأن الفوضى وجه سلبي في أغلب سلوك البشر، إلا في بعض حالات كتَّاب وشعراء وفنَّاني هذا الزَّمان أو الأزمنة الغابرة، فهم فوضويون لأنَّ فوضويتهم تقودهم إلى عطاءات خلاقة، حيث أنَّهم على حساب الفوضى يلتفتون إلى نصوصهم وفضاءاتهم ويبدعون تجلياتٍ تسمو عالياً كتلألؤاتِ النُّجوم، تاركين الفوضى تعشش في أركانِ صومعاتهم، ولكن إلى متى ستبقى فوضاهم تحاصرهم من كلِّ الجِّهات، وما فائدة كلّ إبداعهم الخلاق طالما هناك فوضى متراكمة بعد ولاداتِ القصائد في أركان حياتهم؟! لماذا لا يقضوا على الفوضى من خلال الإبداع، إبداع الجمال فيما حولهم بدلاً من تراكماتِ الفوضى؟! لهذا أحببتُ أن أقضي على هذه المعادلة، معادلة فوضى الكتَّاب، أن أبدِّدَ الازعاجات التي لاحقتني في خفايا الحلم صبيحة عيد الميلاد، من خلالِ العبور في أعماقِ ما يحيق بي من فوضى مزعجة، نعم فوضى مزعجة إلى أقصى درجات الانزعاج، وضعتُ في الاعتبار أن ألملمَ كل المسبِّباتِ المزعجة وأزجّها بكل حزم وإرادة في وجه المنغِّصات الحلميَّة التي لاحقتني مراراً إلى أن يئستُ منها، فما وجدَتْ بدَّاً من التغلغلِ إلى قاعِ الأحلام، بعد أن أفلستْ من مجابهتي وجهاً لوجه! نهضتُ بشهيّة مفتوحة للعبور في دنيا فوضاي، لعلِّي أخفِّفُ من تراكمات ترَّهات الأيام والشهور والسنين، لملمتُ الاقلام المتناثرة في أركان غرفة الاستقبال، غريب! أراني استقبل الاقلام أكثر مما يستقبل المرء الضيوف، يبدو أنَّ ضيوفي هم أقلامٌ فقط. لم أجدُ ضيفاً يبرِّدُ القلب، يخفِّفُ من وطأةِ غربتي، يزيل هذه الترسُّبات الكالحة، ولا أظنَّني سأجده في مستقبل الأيام، وحده قلمي صديق غربتي وضيفٌ ينضحُ بهجةً في كلِّ ركنٍ من أركانِ فرحي، وفي كلِّ آهةٍ من آهاتي، تعال يا قلمي، تعال يا صديقي، كي أضعَكَ فوقَ ثغرِ وردةٍ، كي أنقشَ نداءَ الرُّوح فوقَ أجنحةِ اليمام، كي أنثر رحيقكَ فوق أوجاعي، لعلِّي أزيح أوجاعاً مرصرصة فوق رقبتي منذ سنين، لعلِّي أزرع نسائمَ أملٍ فوق تلالِ فوضاي، تعالَ يا قلمي، يا أجمل فوضى عبرت في مرامي كياني، أنتَ الفوضى ما بعد الخلاقة، لأنني من خلالكَ تمكّنتُ أن أقضي على ضجري، على فوضاي، على قرفي، على حلكةِ اللَّيل الزَّاحفِ على أنهارِ الذّاكرة. وضعتُ قلمي جانباً، تأمَّلْتُ ذاتي، ذاتٌ تائهة بين وهادِ العمرِ، هائمة بآلافِ الأفكارِ، متأرجحة فوقَ حبَّاتِ المطر، تبحثُ عن الماءِ الزُّلالِ، متعانقة مع تجلِّياتِ الخيالِ، ذاتٌ محلِّقة فوقَ هدوءِ اللَّيلِ، مزدانة في وهجِ السُّؤال، للموتِ حضورٌ طاغٍ في بوحِ السُّؤالِ، غدرُ الإنسانِ فاقَ خشونةَ الأدغالِ، ذاتٌ تبحثُ عن كيفية اسئصال الشرِّ المعششِ في كينونةِ الإنسان، كينونة متقطِّعة الأوصال، على شاكلةِ دبيبِ الأرضِ الزَّاحفِ في عتمِ اللَّيلِ على غيرِ هدى! وضعتُ الأقلام المتناثرة في آنية، فبدَتْ كأنَّها زهور متعطِّشة للفرح، انّي أبحث عن فضاءات الفرح، عن موسيقى منبعثة من زقزقاتِ عصافير محلَّقة هناك فوق أشجارِ التُّوت عند بيتي العتيق، لملمتُ آلاف الأوراق المبعثرة حولَ أسرارِ السَّرير، صحف ومجلات، كتبٌ موزّعة في كلِّ مكان، لوحاتي مسترخية بهدوء لذيذ فوق جدارن غربتي، شقّتْ بعض اللَّوحات طريقها إلى أن استقرَّتْ فوقَ خشبِ الستائر، كأنها جزء من ديكور الستائر، واسترخى بعضها على صدر المكتبة، فعانقت كتبي عناقاً حميماً، وما تبقَّى تنتظر مكاناً آمناً، بعيداً عن الفوضى المحدقة في عذوبة اللَّون المنبعث من شغفِ العشقِ والاشتعال. استقبلَ الكونُ عيد الميلاد، وأنا غائص في تنظيف دنيا فوضاي، لم يهلّ عليّ منذ زمنٍ بعيد في صباحاتِ العيد ولا في مساءاته سوى أقلامي، سررتُ لهذا التَّواري عن عالمي، أصدقاء ومعارف من لونِ البكاءِ الأزلي، من لونِ الضَّباب الغائص في غمامِ المتاهات، الكلمة هي عيدي، هي صديقي، هي صديقتي، هي بؤرة فرحي وانتعاشي، هي معراجُ تجلِّياتي إلى نضارةِ السَّماء. نظَّفتُ فوضاي تنظيفاً مكثَّفاً إلى أن أصبح عالمي العاج بالفوضى، عالماً طريّاً، مريحاً، حميماً، دافئاً، خلخلتُ أجنحة الفوضى، طردتها شرّ طردة، شهيّتي كانت مفتوحة على زعزعةِ الفوضى من جذورها، لم أعُدْ أطيقُ الفوضى ولا أؤمن باصطلاح الفوضى الخلاقة حتى ولو كانت الفوضى أسَّاً بديعاً للإبداع، حتى ولو كانت رحيق الإبداع، تبقى الفوضى فوضى، تغدو أمامي كحالة سقيمة تعكِّر مزاجي الصَّباحي، خاصةً في صباح العيد، في صباح الفرح، في صباحِ الشِّعر والارتقاء، في صباحِ التجلِّي في سماءِ الإبداع، نزوعٌ عميق جرفني إلى أن تصبح صباحاتي كلّها عيد، عيد من حيث البحث عن مكامن الجمال في أركان يومي على مساحات كهفي، فأنا ملتحمٌ في عوالمي مثل رهبان الجبال، مع فارق بسيط هو أن رهبان الجبال كانوا ينزعون نحو عوالم روحانية أيام زمان، بينما رهبانيتي تنزع نحو فضاءاتِ الحرفِ واللَّونِ والعشقِ المفتوحِ على تجلِّياتِ الكلمة، ربَّما هي رهبانيّة حداثوية تصبُّ في عالمِ الإبداعِ، لهذا لا أؤمنُ بالنزوع الرهباني بالمفهوم الرُّوحاني المحض والتعفُّفي الخالص، فهو ضدّ الطَّبيعة البشرية، ولا يناسب هذا الزَّمان، ويحدُّ من آفاقِ تجلِّياتِ الرُّوح حتى في عالم الرُّوحانيات، هكذا يخيّل إليَّ، أو هكذا يبدو لي الإنسان، لأنَّ الإنسان ليس روحاً خالصاً، هو روح وجسد، فلا بدَّ من التوازن بين ما هو روحي وما هو جسدي، وإلا تخلخل كيان الإنسان كإنسان يحمل بين جناحيه جموحات روحية وجسدية خلاقة! يهفو قلمي إلى حفاوةِ السَّماء، إلى سموِّ الرَّوحِ وهي تصعدُ نحوَ واحات المحبَّة، نحوَ حبقِ السَّلامِ، في عيدِ المحبّة والسَّلام، كيف لم يعِ الإنسان كلّ هذه السنين أنه رسالة فرحٍ من الأعالي، يزرعُ هديلَ اليمامِ في هضابِ الدُّنيا، يسقي خميلةَ الرُّوحِ، يشعلُ شموعَ الفرحِ مع اشراقةِ السَّماءِ، لعلّه يتعانق معَ توهجاتِ الشَّمسِ في صباحِ العيدِ!
ستوكهولم: 25 . 12 . 2009 صبري يوسف كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم [email protected]
#صبري_يوسف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تعالي نزرعُ رحيقَ الخيرِ 44
-
وجعٌ يتنامى في سماءِ حلقي!
-
من فصيلة البحر
-
أكتبُ شعراً من لجينِ البحرِ 43
-
أزرعَ وردةً من لونِ الصَّفاءِ 42
-
تهدّلَتْ أجنحةُ بابل 41
-
ليلة فرح
-
انبعاث بوح القصيدة
-
حنين إلى ذاكرة من بكاء
-
تبذرُ القصيدة بخورَ المحبّة 40
-
موجةُ بحرٍ هائجة 39
-
غيمةٌ تائهة في مذاقِِ العناقِِ
-
سموّ نحوَ الأعالي 38
-
وشوشاتُ البحرِ تبلسمُ صباحي 37
-
أيّتها السَّاطعة بينَ موشورِ القصائدِ 36
-
أنثر وردتي فوقَ لواعجِ الحنين!
-
كيفية ولادة القصيدة
-
وما مللنا من المللِ 35
-
غربة مستشرية في شواطئِ روحي 34
-
تشطحُ أحزاني فوقَ جبهةِ الحرفِ 33
المزيد.....
-
تردد قناة ماجد الجديد لأطفالك 2025 بأحلى أفلام الكرتون الجذا
...
-
-أسرار خزنة- لهدى الأحمد ترصد صدمة الثقافة البدوية بالتكنولو
...
-
بمناسبة أربعينيّته.. “صوت الشعب” تستذكر سيرة الفنان الراحل أ
...
-
خطوات الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية بالاسم فقط “هنــــ
...
-
في ذكرى رحيل فلاح إبراهيم فنان وهب حياته للتمثيل
-
الفنان صبيح كلش .. حوار الرسم والتاريخ
-
مرتديًا بذلته الضيقة ذاتها .. بينسون بون يُصدر فيديو كليب سا
...
-
-الزمن المفقود-.. الموجة الإنسانية في أدب التنين الصيني
-
عبور الجغرافيا وتحولات الهوية.. علماء حديث حملوا صنعاء وازده
...
-
-بين اللعب والذاكرة- في معرض تشكيلي بالصويرة المغربية
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|