|
سعدُ زغلول
محمود عبد الحى
الحوار المتمدن-العدد: 3272 - 2011 / 2 / 9 - 12:54
المحور:
سيرة ذاتية
* زعيم و ثائر مصري *
ما أصعب أن تختار شخص مصري عظيم لتتحدث عنه حتي تجد نفسك و قد وقعت فى حيرة كبيرة من أمرك ، فمصر دائما و أبداً على مر العصور و مختلف صفحات التاريخ تمتليء بشخصيات عظام أثروا الحياه و التاريخ المصري ، و سطروا أمجاد لا ينساها الدهر ولا ينكرها إلا جاحد ، فثروة مصر في أبنائها و شعبها المكافح ، فالبرغم من أن مصر تمتلك ثروات طبيعيه إلا أن الإنسان المصري الذي بني الأهرامات و شيد أول حضاره بشريه سجلها التاريخ و لم يعرف أسرارها ، يبقي هو الأمل الحقيقي لهذا الوطن ، فمهما اشتدت الأمواج و تعاصفت الرياح يبقي هو سفينه النجاه و حصن الحياه و أتذكر هنا كلمات شاعرنا العظيم حافظ إبراهيم عندما قال: "وقَف الخَلْقُ يَنظُرونَ جميعاً ...كيف أَبْنِي قَواعِدَ المَجْدِ وَحْدِي وبُناةُ الأهرامِ في سالِف الدَّهرِ... كَفَوْنِي الكلامَ عِندَ التَّحَدِّي أنا تاجُ العَلاءِ في مَفْرَقِ الشَّرقِ... ودُرَّاتُهُ فَرَائِطُ عِقْدي إنَّ مَجدِي في الأُولَيَاتِ عَريقٌ ...مَن لَهُ مِثلُ أُولَيَاتِي ومَجدِي".
و فى هذا الوقت العصيب الذى تتعرض فيه مدنيه الدوله و وحدة أبنائها و أمنها القومى لضغوط خبيثه و خطيره ، و من موقعي كمواطن مصري أولا و أخيراً و ما يلزمه عليِ ضميري من أن أشارك و لو بجزء قليل ، بمقال قد لا يقرأءه إلا اثنان أو ثلاثه أشخاص و يرضيني إذا فقط نجحت في أن أحدث تأثيرا فيهم ، فنعيد قراءه تراث و تاريخ رجل قد أعطي إلي مصر كثيراً فلعل سيرة الرجل تُهدينا إلي فتح أفق جديد في التفكير بهموم وطننا و محاوله أن نجد لها مخرجا ، فما أشبه الليله بالبارحه ، فأخرجت قلمي من مكمنه و أزحت ذرات التراب من فوق الكتب و ها أنا ذا أستعيد ذاكرة التاريخ ، و أنقل لكم صفحات مضيئه من تاريخنا و أنتقل بكم لحضرة شخصيه مصريه عظيمه ، هو زعيم الامه و الرجل الذى تحدي المرض و المحتل ليبث فينا روحه الوطنيه الشابه التى لم تشيب يوما مع مرور الزمن .
*سعد زغلول النشأة و التكوين.
وُلد سعد إبراهيم زغلول في سنةِ 1859 ، بقرية "إبيانه"مركز "فوه"و هي بلده تتأرجح بين أن تصنف كقريه صغيره أو كمدينه كبيره و هي تابعه لمحافظة "كفر الشيخ"التي تقع في دلتا مصر شمالاُ.
لاشك في أن الأسره هي الخليه الأولي للمجتمع و أهم جماعاته الأوليه ، فهي نسق اجتماعي رئيسي و مصدر الأخلاق و الدعامه الأولي لظبط السلوك و الأطار الذى يتلقي فيه الأنسان أولي دروس الحياه الأجتماعيه و هي التي تؤهل الفرد من كائن بيولوجي إلي مخلوق اجتماعي يعيش في انسجام مع الأخرين وفقا للقيم و المعايير القائمه في المجتمع.
و بالعوده إلي أسره "سعد زغلول" و بتتبعنا إلي أحداثها نكتشف كم أثرت في نشأه " سعد زغلول" و تكوينه فنجد مثلا أن والد " سعد زغلول" قد تشاجر مع ناظر القسم التركي الذي أهانه و أستخف به و هو يمر بأرضه ، فما كان من الشيخ " إبراهيم زغلول" إلا أن رفض الأهانه و أسقط الناظر التركي من على جواده و أوسعه ضربا دون أدنى اعتبار لما يمكن لهذا الحدث أن يأتي عليه و علي أسرته بعواقب وخيمه فلم يكن أحد يجرؤ أن يرفع عينه في عين ناظر القسم ، و لكن كرامة الشيخ لديه كانت أغلي من حياته ، كما أن صهره الشيخ "عبدالله افندي بركات" قد افتداه لدي الناظر بمبلغ من المال.
و تشأء الأقدار أن يُحرم " سعد " من والده مبكراُ و كان عمره وقتها خمس سنوات و لكن والدته التي كان عمرها حوالي الثلاثة و العشرين ترفض الزواج رفضا قاطعاً و تقول لمن تقدموا لخطبتها:لقد أصبحت اليوم أُما و أُبا في وقت واحد ، و قد كانت لحكمه هذه الأم رغم أنها لم تكن تقرأ أو تكتب أثُر في أن تكون مركزاً للرأي و المشوره بين أفراد الأسره يرجعون إليها رغم أنها أصغر سنا من بعضهم ، و قد كان " لسعد " ثلاتة أشقاء و ستة أخوه له من أبيه ، و قد كان " سعد " يعبر دائما عن امتزاج صفات والديه في شخصيته بقوله "إن خُلق والدي هو الذي يتجلي فيِ حينما أقدم و أثور ، أما المرحومه أمي فقد عرفت بين أهلها بالحكمه و الدهاء و القدره علي ظبط النفس ، فكانوا يحتكمون إليها فيما بينهم من خلاف و يرجعون إليها في القضايا و المشاكل ، فذاك هو خُلُق و الدتي الذي يتجلي في عندما ترونني أُشير بالتريث و الأناه". و قد ذهب " سعد " إلي كٌتاب القريه و تعلم القراءه و الكتابه خلال خمس سنوات ، ثم أنتقل سعد مع أخوه إلي " دسوق " و دخل الجامع " الدسوقي "لٌيتم تجويد القرآن و عمره اثنتا عشرة سنه ، ثم اتخذ طريقه إلي الأزهر و هو في الخامسة عشرة من عمره ، و قد كان سعد محظوظا أثناء دراسته بالأزهر فقد تتلمذ علي أيدي كبار الشيوخ مثل الأمام الٌمصلح الشيخ " محمد عبده " ، يذكر فضل الازهر عليه في خطبه ألقاها بالأزهر بعد عودته من أوربا 1921: "جئتٌ اليوم لأؤدي في هذا المكان الشريف فرض صلاة الجمعه ، و أقدم واجبات الاحترام لمكان نشأتٌ فيه ، و كان له فضل كبير في النهضه الحاضره ، تلقيٌت فيه مبادىء الإستقلال ، لأن طريقته في التعليم تربي ملكة الاستقلال في النفوس ، فالتلميذ يختار شيخه ، و الأستاذ يتأهل للتدريس بشهاده من التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول كل نابغ فيه و متأهل له:يوجه إليه كل منهم الأسئله التي يراها ، فإن أجاب الأستاذ و خرج التلميذ ناجحاً من هذا الامتحان كان أهلاً لأن يجلس مجلس التدريس ، وهذه الطريقه في الاستقلال التي تسمي الآن خللاً في النظام جعلتني أتحول من (مالكي)إلي (شافعي) ، حيث وجدتُ علماء الشافعيه في ذلك الوقت أكفا من غيرهم".
و أيضا كان " سعد " علي اتصال بالُمفكر الثائر" جمال الدين الأفغاني " ، و قد شجع " الأفغاني " " سعد " علي كتابه المقالات في الصحف ، و قد كان " للأفغاني " اثراً كبيراً في نفس " سعد " فقد قال " سعد " إنه عن طريقه استطاع ان يستكشف ذاته و يعبر عنها بالكلمه المسموعه و الكلمه المقرؤءه اي ( خطابه و صحافه ) ، و حين غادر الأفغاني مصر عام 1879 توثقت علاقه سعد بالشيخ " محمد عبده " ، و حين أسندت إلي الإمام جريدة "الوقائع المصريه" عام 1880 فإنه قد استعان " بسعد " و جعله مسؤلاً عن القسم الأدبي بمرتب ثمانية جنيهات مما جعل " سعد " يترك الأزهر قبل الحصول علي شهادته.
*سعد زعلول روح شابه و ثائره.
مع تذمر الأوضاع في مصر بأتت الحاله السياسيه و الشعبيه تنذر بعواقب وخيمه ، خاصة بعد أن نجحت انجلترا في أن تحيك مؤامره خبيثه بمسانده أوربيه و إهمال عثماني للولايات التابعه لها و يرجع ذلك إلي سببين :- الأول : أن انجلترا كانت فى ذروة قوتها الاستعماريه فهي الامبراطوريه التي لا تغيب عنها الشمس . أما السبب الثاني : أن الدوله العثمانيه كانت في أضعف حالاتها فقد كانت الدوله العثمانيه رجل أوربا المريض الذي يجلس الجميع ينتظر إعلان وفاته لتقسيم ميراثه ، خاصه أن الميراث كبير و مطمع لغالبيه الدول الأوربيه التي شهدت في هذه الفتره نشأت كثير من القوميات و نهضه صناعيه جباره فكان البحث عن أسواق جديده هدف لدي كل دوله لتحقيق رواج اقتصادي.
لقد نجح الأنجليز في خلع الخديوي " إسماعيل " بسبب حجه الديون التي لا يستطبع الخديوي تسديدها ، و قد كانت هذه الأفتراءت كأذبه تمام ، فلقد أعد الزعماء الوطنين في هذا الوقت مشروع يكفل ضمان الديون و تسديدها من إيرادات الحكومه المصريه ألا و هو " اللائحه الوطنيه " و كان يتضمن بندين فقط و هما أولاً : تسويه الديون الأجنبيه ، علي أساس أن الإيرادات تكفي المصروفات و الوفاء بحقوق الأجانب . ثانياً : تعديل النظام البرلماني و تخويل مجلس شوري النواب السلطات المعمول بها في البرلمانات الحديثه ، و تقرير مبدأ المسؤليه الوزاريه بحيث تكون الحكومه مسؤله أمام المجلس النيابي و ليس الخديوي .
وسط هذا الزخم من جمرة الأحداث قد أزاح السلطان " عبدالحميد " الخديوي " إسماعيل " من حكم مصر و عين ابنه " محمد توفيق " في حكم مصر ، و قد كان الخديوي " توفيق " أداة طيعه في يد انجلترا و حلفائها الأوربين الذي أرادو وأد أي مشروع نهضوي في مصر ، و قد كان لهذا الفعل رد فعل بالشارع المصري ، " فسعد زغلول " قد عبر عن استياءه من استبداد الخديوي الجديد في جريدة " الوقائع المصريه " و تحدث عن رأيه في صورة الحكم فكتب عن الشُوري و ضروره وجود أُناس يتخلقون بمعانيها و يظهرون بمظاهرها ، لكي يمكنهم تقويم الحاكم عند انحرافه عنها و يحضونه علي ملازمتها و يحثونه علي السير في طريقها .
و عند إشتعال شرارة الثوره العرابيه شارك فيها " سعد زغلول " و إستعانت الثوره بخبراته القانونيه التي ظهرت في وظيفته كمحرر " بالوقائع المصريه " ، ناقداً لأحكام المجالس الملغاه و ملخصاً لها و معقباً عليها ، فنقلته حكومه الثوره التي شكلها " محمود سامي البارودي " إلي وظيفة معاون بوزارة الداخليه ، ثم إلي وظيفة ناظر قلم الدعاوي بمديرية الجيزه و ذلك في ديسمبر 1882 ، و في هذه الوقت ضرب الأسطول الإنجليزي مدينة الإسكندريه و نادي " سعد " بالجهاد الديني ، و قام بنقل الرسائل بين الشيخ " محمد عبده " في " القاهره " و " عرابي " بجبهة القتال ، و في نقل القرارات التي اتخذها الوطنيون لعزل الخديوي ، كما اخذ " سعد " يحرض علي الثوره بمقالاته في بعض الصحف كصحيفة " المفيد " داعياً للتصدي لسلطة الخديوي " توفيق " الذي انحاز للإنجليز ضد وطنه ، و بهزيمة الثوره العرابيه اعتُقل " سعد " ضمن مَنْ اعتقلوا ، و خسر وظيفته و بات موضع شُبهه من حُكام البلاد و محتليها علي السواء ، و حاول العوده إلي وظيفته أو وظيفه غيرها في الحكومه ، لكن كان عليه أن يدفع الثمن من التزلُف إلي العهد الجديد و التنكر لمواقفه و أساتذته و زملائه في ثورة عرابي ، فأبت نفسُه أن تلبس ثوبأ غير ثوبها و أن تبيع قناعاتها من أجل وظيفه ، و لهذا فضل " سعد " أن يعمل عملا حُرا فلم يجد غير المحاماه التي كانت مهنه محتقره في ذلك الوقت .
أما مسيرة " سعد " في مهنة المحاماه فقد كان لجوؤه إلي الصلح وسيله إلي إنهاء الخصومه ، و لذلك لم يكن يضع مقدم أتعاب قضاياه في باب الإيرادات بل يضعها في باب الأمانات إذا تم الصلح أعادها لأصحابها ، و كان يدعو المحامين لأن يجعلوا الصلح سبيلاً حتي لو ضحوا بأتعابهم ، و قد تناول " سعد " ذلك في خطبته في 5 فبراير 1924 في حفل بنقابة المحامين و قال " أذكر أني عندما كنت محامياً ولا أقول ذلك مفاخراً أو مباهاه ، بل حكايه للواقع يسمعها المحامين الذين هم أحدث مني سننا ، ليروا رأيهم في إتباعه ، يأتي موكلي ُمريداً الصلح لخسية خصمه من توكيلي عنه ، فأرحب به و أسهل الأمر عليه بل أرد إليه مقدم الأتعاب التي قبضتها منه ، يجب عليكم أن تساعدوا علي الصلح و لو برد بعض الأتعاب إن لم يكن كلها ، و علي أي حال أرجو أن لا تكون قيمة الأتعاب مانعاً لكم من تحقيق الصلح و السلام ، إني ما كنت أُقيد مقدم الأتعاب في باب الإيرادات ، بل في باب الأمانات ، لأن في نفسي ضعف نفسي ، حتي إذا أراد الموكل الصلح أرد له الأتعاب و أقول له : هذه أمانتك ُردت إليك ، فعليكم أن تتصرفوا في الأمر كما تشاءون ، و قُوا أنفسكم من طمعكم كما ترون هذه نصيحة محامٍ قديم لمحامين محدثين" .
*سعد زغلول علي كرسي الوزاره .
بعد مذبحة دنشواي أدرك الأنجليز أن سياستهم في مصر قد تعجل بخروجهم ، فكان عليهم أن يغيروا من سياستهم تجاه المصريين فحاولوا التقرب من المصريين و التودد إليهم من جديد حتي لا تؤدي المواقف التعنتيه إلي ثوره عارمه من المصريين ، و كانت هذه الرؤيه البريطانيه للوضع في مصر تحتاج إلي الأستعانه بمصريين لهم شعبيه كبيره لدي الجماهير المصريه و قد كان " سعد زغلول " واحداً من الأسماء التي فرضت نفسها علي الساحه الوطنيه المصريه ، فعرض الأنجليز عليه أن يتولي وزارة المعارف مؤيداً بإجماع جميع القوي الوطنيه في ذلك الوقت .
و قد كان التعليم في مصر مهمل منذ زمن بعيد فقد كان باللغة الأنجليزيه كما أن التعليم في مصر لم يكن يخرج إلا الموظفين ، و قد كانت وزارة المعارف يتحكم بها المستشارها الأنجليزى " دنلوب " بينما كان الوزير غير مهتم بها نظراً لانها كانت تتبع وزارة الأشغال ، فكان الرجل الأنجليزي هو المتحكم بوزارة المعارف يتصرف بها كما يشاء وقتما يشاء ، و لم يكن " سعد " بالطبع ليقبل أن يكون مجرد وزير لا حول له ولا قوه في الوزاره فكان الصدام بينه و بين " دنلوب " أمر متوقع و طبيعي و قد أدي هذا الصدام المتكرر و الرغبه الواضحه لدي " سعد " في أن يطور وزارته و يعمل بها وفق خطه وطنيه لتحقيق تقدم بها إلي أن تدخل اللورد " كرومر" الذي قال " لسعد " :"إن التغير الذي حصل في شخص ناظر المعارف لم يكن يقصد منه تغير طريقة التعليم التي تقررت بإتفاقي مع دنلوب ، و إنما الغرض منه أن يشترك الوطني العارف بالتربيه الإسلاميه المصريه علي إدخال الإصلاح " .
إن كل ما أراده الانجليز هو إصلاح شكلي يكون بمثابة المسكن و المخدر لجراح المصريين من بعض الأفعال الأنجليزه التي لم تكن مدروسه جيداً ، لكن " سعد " بشخصيته العنيده و روحه الثائره لم يكن ليقبل يوما أن يكون جزء في مؤامره انجليزيه باي شكل من الأشكال ، فقد عمل أثناء توليه الوزاره علي التوسع في تعيين المصريين و تقليل تعيين الأنجليز ، و قد عمل " سعد " أيضا علي زيادة مرتبات الموظفين ، كما خاض معركةُ لإعادة التعليم باللغه العربيه ، كما اهتم بمحاربة الأميه فتزايد عدد الكتاتيب في القري الصغيرهو ضاعف الإعانه المخصصه لها .
و كانت أفعاله قد أغضبت اللورد " كرومر " بعد أن نجح سعد في تهميش "دنلوب " بالحجه القانونيه مره و الحجه المنطقيه آخري ، فقال له اللورد : " إن دنلوب و إن لم تكن له سلطه ظاهريه يجب أن يكون في الحقيقه ذا سلطه ، و أن ما يحرر في مكتبه من الأمور الخاصه تحديداً بالأنجليز ،يجب أن يؤخذ قضيه مُسلمه " .
و من المواقف الوطنيه " لسعد " و هو في وزارة المعارف يوم خروج طلاُب المدارس في تشيع جنازة " مصطفي كامل " ، غضب " دنلوب " و أراد معاقبة الطلاب ، ففصل بعضهم و حرم البعض الآخر من الامتحانات ، فرفض " سعد " و قال : " إنها غاشيةُ حزن ألمت بالآمه بأسرها فلا يعقل أن ينأي عنها شُبانُ مصريون لمجرد كونهم طلاباً في مدارس أميريه " .
قضي " سعد " أربع سنوات في وزارة المعارف منذ تولي أمورها في 28 أكتوبر 1906 ، محاولاً أن يصلح قدر ما يستطيع رغم الظروف الصعبه التي تقلد فيها الوزاه ، ولا ننسي أيضا إسهامه في بناء الجامعه قبل أن يصبح وزير فقد كان رأس الداعين لإنشاء الجامعه المصريه و تبرع لها بمائة جنيه .
و جاءت الفرصه لإبعاد سعد عن وزارة المعارف بعد اغتيال " بطرس غالي " رئيس الحكومه أوائل 1910 ، و دعوة" محمد سعيد " باشا لتشكيل الوزاره الجديده ، رغم أحقية " سعد " و أقدميته عهداً بالوزاره لكنه لم يكن محبوبا من دار عميد الأحتلال و لا من قصر الخديوي ، و لكنهما اتفقا علي احتماله وزيراً للحقانيه ، التي رأيا فيها قيداًعلي " سعد " و اتقاء لصدماته لان الحقانيه وزارة التشريع و القضاء ، فالتشريع من عمل مجلس الوزراء كله لا وزير الحقانيه وحده و القضاء عمل تتولاه المحاكم لا دخل فيه للوزير إلا الرقابه من بعيد .
لكن " سعد " كان لابد أن يترك أثراً في الموقع الذي يكون أو في المنصب الذي يتقلده فقد بدأ عمله بالحفاظ علي كرامة القاضي و أيضا اهتم بكرامة المحامين فأسس لهم نقابه تحميهم و تصون حقوقهم ، و قد انتصر لحرية الصحافه في ظل وجود (قوانين المطبوعات) فرفض تطبيقه على جريدة " المسامير " عندما طعنت طعناً فاحشاً علي رئيس أمريكا السابق " روزفيلت " عندما امتدح الاحتلال الإنجليزي لمصر، و أيضا حينما أرادت الحكومه إلغاء جريدة " البهلول " بحجة أنها مُضره بالآداب و قف " سعد " معارضاً للقرار محاولاً تخفيفه ، كما وضع سعد مشروع (المجلس الحسبي) بغرض حفظ أموال القصر و يكون حائلاً دون العبث بها من طغيان القيمين و الأوصياء .
و قد إستقال " سعد " من الوزاره بسبب رفضه محاكمة الزعيم " محمد فريد " بتهمة تحريضه علي الحكومه دون إستشارة سعد بوصفه وزيراً للحقانيه ، و يمتدح هنا " أحمد لطفي السيد " أستاذ الجيل ما قام به " سعد " فيقول : " أنا من الذين ينتصرون لاستقالة الوزراء و الموظفين إذا لم يستطيعوا أن يؤدوا واجبهم ، لأني أعتقد أن الوظيفه مهما يكن نوعها ضريبه علي الموظف لا منحه له ، فإذا عجز لأي سبب عن أن يؤدي إلي أمته أكثر ما يستطيع أداءه من خدمه حقوقها و تحقيق المباديء التي يعتقد صلاحها فالواجب عليه أن يستقيل ، و تكون استقالته مُشرفه لشخصه ، مشرفه لقومه و درساً نافهاً للناس و مثلاً صالحاً للصدق و الإخلاص في خدمة المجموع " ، و يقول عن ما فعله " سعد " بشكل مباشر "إنها استقالته تعتبر استقاله للوزاره " .
*سعد زغلول مفجر الثوره و مؤكد الوحده و قائد مشعل التنوير .
كانت الحرب توشك علي الأنتهاء و كان الجميع يتأهب لكي يتقرر مصير مصر ، فقد تمسكت إنجلترا باحتلال مصر بعد انتصارها في الحرب ، ففكر بعض المصريين في تكون وفد مصري للسفر لباريس لعرض قضية استقلال مصر علي مؤتمر السلام هناك ، و قد رأي سعد هذه الفرصه المناسبه لعرض مطالب مصر ، و يُلاحظ أن كل من فكروا في تشكيل مثل هذا الوفد قد أجمعوا دون أن يكون هناك اتصال بينهم علي أن يضموا إليهم " سعد زغلول " ، فقد أجمع الجميع علي مكانته و انتهي الأمر بتشكيل وفد مصري واحد يُعبر عن كل طوائف الأمه مسلميها و مسيحييها كما يعبر عن أحزابها القائمه آنذاك و أجمع كل الأعضاء علي اختيار " سعد " رئيساً و تم الاتفاق علي مقابلة المعتمد البريطاني " سير ونجت " ، ثم قابلوا بعدها " حسين رشدي " رئيس الوراء و وزير الداخليه و كان يؤيد مسعاهم ، و اتفقوا علي سفر وفدين : أحدهما رسمي يترأسه "حسين رشدي " و الآخر شعبي برئاسة " سعد زغلول " يساند كل منهما الآخر ، و يبدي المندوب السامي البريطاني دهشته من أن سعد و زوملائه يتحدثون عن أمر أمه بأسرها دون أن يكون لهم صفة التحدث باسمها فيؤكد رئيس الوزراء تمتعهم بهذه الصفه لأن " سعد " هو الوكيل المنتخب للجمعيه التشريعيه و " عبد العزيز فهمي " و " علي شعراوي " عضوان فيها .
أعقب هذه المقابلة تأليف الوفد المصري، وقامت حركة جمع التوكيلات الشهيرة بهدف التأكيد على أن هذا الوفد يمثل الشعب المصري في السعي إلى الحرية. وطالب الوفد بالسفر للمشاركة في مؤتمر الصلح لرفع المطالب المصرية بالاستقلال. وإزاء تمسك الوفد بهذا المطلب، وإزاء تعاطف قطاعات شعبية واسعة مع هذا التحرك، قامت السلطات البريطانية بالقبض على " سعد زعلول " وثلاثة من أعضاء الوفد هم " محمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي " . ورحّلتهم إلى مالطة في الثامن من مارس عام 1919. وكان ذلك إيذانا بقيام الثورة التي اجتاحت جميع انحاء البلاد، وتصدت لها القوات البريطانية وقوات الأمن المصرية بأقصى درجات العنف.
في اليوم التالي لاعتقال سعد زغلول وأعضاء الوفد، أشعل طلبة الجامعة في القاهرة شرارة التظاهرات وفي غضون يومين، امتد نطاق الاحتجاجات ليشمل جميع الطلبة بما فيهم طلبة الازهر، وبعد أيام قليلة كانت الثورة قد اندلعت في جميع الأنحاء من قرى ومدن. ففي القاهرة قام عمال الترام بإضراب مطالبين بزيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل وتخفيف لائحة الجزاءات والحصول على مكافأة لنهاية الخدمة وغيرها من المطالب. وفشلت محاولات السلطات الاستعانة بعمال سابقين لتشغيل الخدمة، وتم شل حركة الترام شللا كاملا تلا ذلك إضراب عمال السكك الحديدية، والذي جاء عقب قيام السلطات البريطانية بإلحاق بعض الجنود للتدريب بورش العنابر في بولاق للحلول محل العمال المصريين في حالة إضرابهم، مما عجّل بقرار العمال بالمشاركة في الأحداث. ولم يكتف هؤلاء بإعلان الإضراب، بل قاموا بإتلاف محولات حركة القطارات وابتكروا عملية قطع خطوط السكك الحديديه – التي أخذها عنهم الفلاحون وأصبحت أهم أسلحة الثورة. وأضرب سائقو التاكسي وعمال البريد والكهرباء والجمارك. تلا ذلك إضراب عمال المطابع وعمال الفنارات والورش الحكوميه ومصلحة الجمارك بالاسكندريه. وكان ملحوظا الارتباط الوثيق بين مشاركة العمال في الحركة وبين المطالب النقابية في العديد من حالات الإضراب، وهو ما حدث على سبيل المثال في حالة إضراب عمال ترام الأسكندريه ومصلحة الجمارك والبريد، حيث سبق الإضراب رفع هؤلاء العمال مطالب بزيادة الأجور وتحسين شروط العمل. ولم تتوقف احتجاجات المدن على التظاهرات وإضرابات العمال، بل قام السكان في الأحياء الفقيره بحفر الخنادق لمواجهة القوات البريطانيه وقوات الشرطه، وقامت الجماهير بالاعتداء على بعض المحلات التجاريه وممتلكات الأجانب وتدمير مركبات الترام.
ولم تكن الحركه في الأقاليم بأقل منها في القاهره والأسكندريه، بل أنها كانت أكثر حده وعنفا. فقامت جماعات الفلاحين بقطع خطوط السكك الحديديه في قري ومدن الوجهين القبلي والبحري، ومهاجمة أقسام البوليس في المدن والتصدي بلا تردد لكل من يحاول الوقوف في وجههم، ففي الحوامديه قامت مجموعة من الفلاحين بمهاجمة خط السكك الحديديه المؤدي إلى معمل تكرير السكر مما أدى إلى توقفه عن العمل وإلى وإضراب عماله، وفي قليوب قام آلاف الفلاحين بتدمير خط السكة الحديد. وفي الرقة والواسطى في الوجه القبلي، قامت جماعات الفلاحين بمهاجمة خطوط السكك الحديديه ونهب القطارات وإحراق محطة السكة الحديد وهاجموا الجنود البريطانيين، وفي منيا القمح أغار الفلاحون من القرى المجاورة على مركز الشرطه وأطلقوا سراح المعتقلين. وفي دمنهور قام الأهالي بالتظاهر وضرب رئيس المدينة بالأحذيه وكادوا يقتلونه عندما وجه لهم الإهانات. وفي الفيوم هاجم البدو القوات البريطاينة وقوات الشرطة عندما اعتدت هذه القوات على المتظاهرين، وفي اسيوط قام الأهالي بالهجوم على قسم البوليس والاستيلاء على السلاح، ولم يفلح قصف المدينة بطائراتين في إجبارهم على التراجع. وفي قرية دير مواس بالقرب من اسيوط، هاجم الفلاحون قطارا للجنود الانجليز ودارت معارك طاحنه بين الجانبين. وعندما أرسل الانجليز سفينة مسلحه إلى أسيوط، هبط مئات الفلاحين إلى النيل مسلحين بالبنادق القديمة للاستيلاء على السفينة. وفي بعض القري قام الفلاحون الفقراء بمهاجمة ونهب ممتلكات كبار الملاك مما أدخل الرعب في نفوس هؤلاء الأخيرين. ولا يتسع المجال هنا لسرد المزيد من التفاصيل، لكن يمكن القول أن ما سبق ليس سوى أمثلة قليلة لما قامت به الجماهير خلال الثورة.
وكان رد فعل القوات البريطانيه عنيفا إلى الحد الذي يمكن فيه القول أن ما قامت به هذه القوات وأعوانها من الشرطه ضد المصريين خلال الثوره كان من أفظع أعمال العنف الذي لاقاه المصريون في التاريخ الحديث. منذ الايام الأولي، كانت القوات البريطانية هي أول من أوقع الشهداء بين صفوف الطلبه أثناء المظاهرات السلميه في بداية الثوره. وعقب انتشار قطع خطوط السكك الحديد، اصدرت السلطات بيانات تهدد بإعدام كل من يساهم في ذلك، وبحرق القرى المجاورة للخطوط التي يتم قطعها. وتم تشكيل العديد من المحاكم العسكرية لمحاكمة المشاركين في الثورة. ولم تتردد قوات الأمن في حصد الأرواح بشكل لم يختلف أحيانا عن المذابح، كما حدث في الفيوم عندما تم قتل أربعمائة من البدو في يوم واحد على أيدي القوات البريطانية وقوات الشرطة المصريه. ولم تتردد القوات البريطانيه في تنفيذ تهديداتها ضد القري، كما حدث في قري العزيزيه والبدرشين والشباك وغيرها، حيث أُحرقت هذه القري ونُهبت ممتلكات الفلاحين، وتم قتل وجلد الفلاحين واغتصاب عدد من النساء.
انخفضت حدة ثورة 1919 في أبريل عقب قرار السلطات البريطانية بإطلاق سراح أعضاء الوفد والسماح لهم بالسفر لعرض مطالب مصر في مؤتمر الصلح. فعقب إصدار هذا القرار، والذي جاء تاليا لأسابيع من العنف الهائل من جانب السلطات في مواجهة الشعب، بدأت تهدأ الاحتجاجات شيئا فشيئا، وذهب الوفد إلى فرنسا لحضور المؤتمر الذي اعترفت الأطراف المسيطرة فيه، وأهمها الولايات المتحدة ممثلة في الرئيس ولسون، بالحماية البريطانية على مصر، مما كان بمثابة ضربة كبرى لنهج التفاوض. إلا أن ذلك لم يثن الوفد عن الاستمرار في المفاوضات العقيمة لسنوات طويلة
ولنرصد سلوك المصريين عندما عاد سعدُ زغلولٍ لمصرَ في 4 أبريل 1921 بعد نفيه الأول في مارس 1919 .. يصف المؤرخُ عبد الرحمن الرافعي , وهو أحد زعماء الحزب الوطني المشهورين بعداءهم لسعدٍ إستقبالَ الجماهيرِ لسعدِ زغلول يومذاك بقولِه : (وقوبل في الأسكندرية وفي الطريق منها إلى القاهرةِ وفي العاصمةِ بأعظمِ مظاهرِ الفرحِ والحماسةِ بحيث كانت مقابلته سلسلة لا نهاية لها من الزيناتِ والمظاهراتِ والحفلاتِ والأفراحِ مما لا مثيل له في تاريخِ مصرَ الحديث) . أما الدكتور محمد حسين هيكل أحد أبرز شخصياتِ الأحرارِ الدستوريين الأشد عداءاً لسعدِ زغلول فيقول في الجزءِ الأول من مذكراته : (وكان إستقبالُ سعد في ذلك اليوم منقطعَ النظير , فما أحسب فاتحاً من الفاتحيين ولا ملكاً من الملوك حظى بأعظم منه في أوجِ مجدهِ . خفت القاهرةُ كلُها : شبابُها وشيبُها , رجالهُا ونساؤها حتى المحجبات منهن , إلى الطرقات التي سيمر بها يحيونه ويهتفون باسمه هتافات تشق عنانَ السماء , وجاء إلى القاهرة من أقصى الأقاليم وأريافها ألوف وعشرات الألوف يشتركون في هذا الاستقبال الذي جمع بين رجالِ الحكمِ من وزراءٍ ووكلاءِ وزاراتٍ ومن دونهم ومن طبقاتِ الشعبِ المثقفةِ وغير المثقفة) . (ورأى سعدٌ ذلك بعيني رأسِه , فوقف في سيارته التي سارت الهوينى من محطةِ القاهره إلى داره يحيي بكلتي يديه هذه الجموع الزاخرة الهاتفه , الموليه وجهَها إلى الرجلِ الذي إجتمعت فيه آمالُ الأمةِ كلِها) . ثم يضيف الدكتور هيكل : (ترى .. أقُدَّر للأسكندر الأكبر أو لتيمورلنك أو لخالد بن الوليد أو لنابليون بونابرت أن يرى مشهداً أجلَ وأروعَ من هذا المشهدِ ؟ وماذا كان يجول بنفسِ سعدٍ وهو يرى هذا المنظر الرائع يمر أمامه وعيون الناسِ كلهم مشدودة إليه وأفئدتهم متعلقة به وقلوبهم ممتلئة بإكبارِه وإعظامِه ؟) . أما المؤرخ الكبير أحمد شفيق (باشا) فإنه يصف لنا هذا المشهد التاريخي في الجزء الثاني من "الحوليات" فيقول : (لقد روى لنا التاريخ كثيراً من روايات القواد والملوك الذين يعودون إلى بلادِهم ظافرين , فيحتفل القومُ إحتفالاً باهراً بإستقبالِهم, ولكن لم يرو لنا التاريخ أن أمةً بأسرِها تحتفل برجلٍ منها إحتفالاً جمع بين العظمةِ غير المحدودة والجلال المتناهي لم يفترق فيه كبيرٌ عن صغيرٍ , إحتفالاً لا تقوى على إقامته بهذا النظام أكبرُ قوى الأرض لولا أن الأمةَ المصريه أرادت أن تأتي العالم بمعجزهٍ لم يعرف لها التاريخُ مثيلاً) . أما أحمد حسين مؤسس حزب مصر الفتاة والذي رغم خلافه السياسي مع الوفد كان رجلاً كبيراً إتسم بالموضوعيه البالغه في التأريخ عندما أفاض في تصوير عظمة شخصية وجهاد سعد زغلول الوطني في كتابه "موسوعة تاريخ مصر" معطياً إياه حقه الكامل كأعظمِ زعيمٍ في تاريخِ مصرَ الحديث , يكتب أحمدُ حسين في الجزء الخامس من هذه الموسوعه عن إستقبال سعد زغلول يومئذ فيقول : (وصل سعد زغلول باشا إلى القاهره يوم 4 أبريل . وفي ختام الجزء الرابع تحدثنا عن الإستقبالِ "الخُرافي" أو فلنقل الأسطوري الذي إستقبلت به مصرُ سعداً حكومةً وشعباً , ولا غرابة في ذلك فقد كان إبرازُ هذه المشاعرِ وإتخاذها سعدَ زغلول رمزاً لها هو أسلوب الأمةِ في التعبيرِ عن إرادتِها, وقد إستمرت الإحتفالاتُ بعودةِ سعد زغلول تتجلى لعديدٍ من الأيامِ في الوفودِ التي هرعت من أنحاءِ البلادِ لتحيةِ سعدٍ ... وإذا كان من نواميسِ الطبيعةِ أن يكون لكلِ فعلٍ ردَ فعلٍ , فلا بد أنه كان لهذا الإستقبال "الخُرافي" رد فعل في مختلفِ الأوساطِ المعاديةِ للشعبِ , وفي الشعب وفي نفس سعد زغلولٍ على السواء ، فأما أعداءُ الشعبِ وعلى رأسهم إنجلترا فلا بد أن يكون الإستقبالُ قد أفزعها ورأت ما ينطوي عليه من معانٍ , حيث تضامن الشعبُ وتكتل خلف الرجل الذي أصبحت إنجلترا تعتبره خصماً لدوداً لها ، ولا بد أن يكون السلطانُ أحمد فؤاد قد أفزعه بدوره أن يصبح في مصر إنسان بكل هذه القوةِ) .
اما عن الوحده الوطنيه و صد محاولات التفرقه بين أبناء الشعب الواحد التي حاول الانجليز زرعها من أجل تأجيج الصراع الداخلي للمصريين و إلهائهم عن المطالبه بالاستقلال ، فكانت الفتره ما بين و1910 من أسوأ السنين فيما يتعلق بتأزمِ العلاقةِ بين مسلمي مصرَ وأقباطِها . فخلالُ تلك السنوات وكنتيجةٍ لسياساتِ ممثلِ الإحتلالِ البريطاني في مصرَ سير الدون جورست وسلفه اللورد كرومر , والتي قامت على بذرِ بذورِ الحزازات بين المسلمين والأقباط عن طريقِ التناحرِ على المصالحِ بوجهٍ عامٍ والتنافس الدامي على الوظائفِ بوجهٍ خاصٍ , ناهيك عن إذكاء نار التعصب ولا سيما بالإيعاذ للأقلية القبطية أن أبنائها لا ينالون حقوقهم كاملة وأن الفرص لا تتاح لهم كما تتاح للمسلمين , نتيجة لذلك تأزمت العلاقةُ بين مُسلمي مصرَ وأقباطها بشكلٍ لم يسبق له مثيل في تاريخِ مصرَ الحديث ، وقد بلغ تأزمُ العلاقةِ حداً بعيداً عندما أخذت الصحفُ اليومية تعبر عن وجهتي النظر في الخلافِ المشتعلِ بشكلٍ زاد من إشتعالِ نارِ الخلاف ، يومذاك. فقد بلغ التأزمُ أقصَاه عندما قُتِلَ بطرس غالي باشا رئيس وزراء مصر القبطي يوم 20 فبراير 1910 برصاصةٍ أرداه بها شابٌ مصري مسلم هو إبراهيم الورداني ، وخلال هذه السنوات كان سعدُ زغلول وزيراً في كل الوزاراتِ التي تعاقبت على حكمِ مصرَ إبتداءً من وزارةِ مصطفى فهمي باشا الأخيرة (1906 -1908) ووزارة بطرس غالي باشا (1908 – 1910) ثم وزارة محمد سعيد باشا منذ 1910 وحتى إستقالة سعد زغلول الشهيره سنة 1912 . خلال تلك السنوات أتيح لسعدٍ الذي ساعدته طبيعتهُ كرجلِ قانون ومحامي وقاض ذاع صيت عدله كما ساعدته ثقافته التي جمعت بين التراث والثقافة العصرية , أقول مكنه ذلك أن يراقب الأزمه ويقف على حقيقتها وبذورِها . أدرك سعدٌ بنظرهِ الثاقبِ وحنكِته التي كونتها تجاربُ السنين الخصبة أن "العدل" بين طرفي الأمة يقضي على أية فتنة طائفية . كذلك أدرك سعدُ زغلول أن مبادرةَ الأغلبيةِ بكفالة الشعور بالأمان لدى الأقلية هو الأمر الطبيعي والذي ستنجم عنه حالة سلم حقيقية لا ظاهرية , وأن الأقباط عندئذ سيكونون أبعد ما يكونون عن التعصب أو الخوف أو القلق على أنفسهم وعلى أبنائهم وعلى أموالهم .
سياسةَ سعدِ زغلول فى هذا المضمار إنما كانت تقوم على إلغاءِ التعصبِ من الجانبين وذلك عن طريقِ إشاعةِ روحِ الوطنيه المصريه وبث روح الأمان والأطمئنان بين أفراد الأقليه القبطيه وجعلهم جزءاً لا يتجزء من بنيةِ حزبهِ السياسى الكبير ، وتوزيع الأدوار فى هذا الحزب على أساس الكفاءة لا الدين . ومن جانب أخر فإن روحَ التآخى والإخلاص والوفاء والولاء كانت هى معالم إتجاه الأقباط المصريين ومواقفهم ، ذلك الإتجاه الذى تمثل ذات يوم فى أعظم المواقف عندما هم أحد الجنود بطعن مصطفى النحاس زعيم الوفد والأغلبية المصرية بحربة مسمومة إبان وزارة إسماعيل صدقى فى مطلع الثلاثينيات ، فإذا بواحد من أكبر الشخصيات القبطية فى الوفد يلقى بنفسه على النحاس لفدائه فتصيب الحربةُ المسمومة سينوت حنا بجرح غائر يموت – بعد أيام – بأثره وقد قدم مثالاً لا تمحوه الأيام للمعادلة العبقرية فى ربط عنصرى الأمة برباطِ الائتلافِ والتآخى والوطنيةِ والمحبةِ الذى لا تنفصم عراه إلا عندما ينخر التعصبُ فى بدن الأمة – بعنصريها – سواء فى شكلِ فكرٍ رجعى لا يصلح لهذه الأمة ذات العنصرين ولا يصلح لهذا الزمان ، أو فى شكل تعصبٍ مقيتٍ من جانب بعض شخصيات الأقلية التى تجهل أن السلام الوطنى فى مصر هو المنجى الوحيد من طوفان التخلف وإعصار العصبية المقيته الذى هب منذ أكثر من ثلاثين سنة على هذا الجزء من العالمِ الذى توجد مصرُ في قلبهِ .
أما عن دوره في قضيه تحرير المرأه فقد ساند سعد زغلول كتاب "تحرير المرأة " و كاتبه قاسم أمين ، متحملا كل التهم ضارباً عرض الحائط كل النصائح التي طالبت منه الابتعاد عن صاحب الدعوه التي ألبت عليه الملايين حفاظاً علي مستقبله ، كما سمح سعد لزوجته أن تتزعم الحركه الوطنيه خلال منفاه و تفتح بيتها في غيابه لزعماء الثوره و تخرج و تحتج و تزاول نشاطها السياسي و الاجتماعي ، و لم يكن ليحدث ذلك لولا مساندة سعد لتحرير المراة و تنوير المجتمع .
*مات الزعيم و بقيت مبأدئه . توفي زعيم الأمه سعد زغلول في 23 أغسطس 1927، ودفن في ضريح سعد الذي شيد عام 1931 ليدفن فيه زعيم الأمه وقائد ثورة 1919 ضد الاحتلال الانجليزي. فضلت حكومة عبدالخالق ثروت وأعضاء حزب الوفد الطراز الفرعوني حتى تتاح الفرصة لكافة المصريين والأجانب حتى لا يصطبغ الضريح بصبغة دينية يعوق محبي الزعيم المسيحيين والأجانب من زيارته ولأن المسلمين لم يتزوقوا الفن الفرعونى .
#محمود_عبد_الحى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصحفى والأديب والمفكر!
-
الثورة التونسية و غياب الديمقراطية
-
جذور الاستبداد فى الفكر و التراث العربى!
-
ويكليكس فى الميزان !
-
قراء فى المهزلة الانتخابية
-
احداث العمرانية نتيجة طبيعية
-
الاسرة المصرية القديمة 1
-
جدرايه
-
سلطان المجانين
-
مولاتى
-
حديقة النغم
-
حديث عن العالم الافتراضى
-
الحركة الصهيونية قبل هرتزل
-
الفكر السياسى الاغريقى 2
-
الفكر السياسى الاغريقى
-
الدين و الايديولوجية
المزيد.....
-
وزراء خارجية دول عربية و-مسار أستانا- يدعون إلى حل سياسي للأ
...
-
مصدر عسكري سوري: لا صحة لأنباء دخول الإرهابيين إلى مدينة حمص
...
-
قوات إسرائيلية إضافية إلى الحدود السورية
-
الحكومة اللبنانية تجتمع في صور لبحث تعزيز قدرات الجيش
-
الطيران الحربي الروسي والسوري يحيد أكثر من 300 إرهابي خلال ا
...
-
الخط المباشر مع بوتين في 19 ديسمبر
-
مصادر لـRT: الجيش السوري سحب قواته من مدينة حمص وهي الآن عند
...
-
هل توقف تركيا هجمات -النصرة- في سوريا؟
-
وزير الخارجية الإسرائيلي: لا نتدخل في الصراع الداخلي في سوري
...
-
ليبيا.. المنفي يعلق على اجتماع بريطاني يخص بلاده ولم يُدعَ إ
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|