أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم هيبة - مائة عام من العزلة















المزيد.....

مائة عام من العزلة


ابراهيم هيبة

الحوار المتمدن-العدد: 3250 - 2011 / 1 / 18 - 00:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يقولون لنا بان الإنسان حيوان اجتماعي، ولكن لا يعتبر هذا صحيحا إلا على مستوى السطح فقط، أما في العمق فالإنسان حيوان وحيد؛ فكل واحد منا هو في حد ذاته كينونة مغلقة تسكن هذا العالم كحبة رمل على شاطئ كوني لا احد يعرف أين يبدأ ولا أين ينتهي. وهذا بالفعل هو الشعور الأصيل بالوحدة، والذي يتمثل في الإحساس بالعزلة المزدوجة للكائن – أي عزلة الإنسان في العالم وعزلة العالم في الكون.
فيما يخصني، لا يمكنني إلا أن أقول بأن حياتي كانت تطبعها الوحدة منذ البداية؛ فمنذ اليوم الأول الذي اكتسبت فيه وعيي بذاتي وأنا أحس بأنه ثمة هوة سحيقة تفصل بيني وبين العالم؛ لم أكن أرى في المجتمع من حولي إلا مملكة من الغرباء. حتى أمي لم أكن أرى فيها إلا غريبا لا بد منه— وباختصار، كان الوجود في مجموعه يمثل ، بالنسبة إلي، بنية في الوحشة والغموض. لقد كان لقائي، منذ البداية، مع الوجود صعبا، ملغزا، غريبا، بل ومحفوفا بالمخاطر. وفي الحقيقة، ليس ثمة أي شيء فلسفي بخصوص انطباعاتي هاته؛ فهي لم تنبثق لا عن تأمل ولا عن تفكر، بل كل ذلك كان نتيجة لشعور واحد فقط: الوحدة ـ وحدة كائن ما يكروسكوبي أمام الامتدادات المطلقة للكسموس.
المجتمع سجن لا مفر منه والوحدة المطلقة تقتل؛ لذلك يجب أن نكون عمليين ونأخذ بنصيحة رالف والدو إمرسون— أي أن يضع المرء رأسه في هاته ويديه في ذاك. نحن نجتمع لتوفير الغذاء والكساء، ولكننا ننعزل ونتوحد حتى نتمكن من الإنصات لصوت الذات. وإن كان هذا التباين يكشف عن شيء، فإنما يكشف عن أن الاجتماع ينبثق عن ميول قطيعية، بينما العزلة والتوحد سلوك نخبوي. وفي الحقيقة، لست أبالغ إن قلت بأنه لا داعي أن يتكبد احدنا عناء خلق جسور للتواصل مع المجتمع؛ فهذا الأخير لا يحكمه إلا منطق المنفعة الشخصية— إنه أشبه بسوق مؤقتة أو مخيم للاجئين. فيما يخصني، يمكنني أن أقول بأنني لا أجد ذاتي إلا خارج المجتمع؛ فلم يحدث أبدا أنني انخرطت في حديث حميمي وعميق مع كائن بشري ما. كل أفكاري العميقة وكشوفاتي الصوفية أدين بها لحواراتي مع الطبيعة ــ أي كل تلك الأوقات التي كنت أقضيها متجولا في الشواطئ المهجورة والبراري الموحشة. والحق أنه لا وجود لتواصل حقيقي مع المجتمع، فهذا الأخير ملوث وعفن، وتعمّه كل أشكال الجلبة والضوضاء؛ وإذا ما رغب أحدنا في بعض الهدوء والهواء النقي، فلابد له من أن يتجه نحو الصحراء أو يصعد قمم الجبال.
كن جميلا تجد نفسك وحيدا؛ وليست الوحدة في أحد أوجهها إلا تلك الضريبة التي ندفعها ثمنا لرفضنا الانخراط في هذا التآمر المتبادل الذي يسمى بالمجتمع. وفي الحقيقة، يمكنني أن أقول بأنه باستثناء بعض الأشخاص، الذين يمكن أن أعدّهم على رؤوس أصابع اليد الواحدة، لا تفعل البقية من البشر شيئا آخر سوى تعميق إحساسي بالوحدة— لم يحصل أبدا أن شعرت بالوحدة القاتلة مثلما كنت اشعر بها عندما أكون في صالون أو عندما أدعى إلى حفلة أحدهم. وباستثناء الموسيقى ، لم أكن أجد، في هذا العالم، من وسيلة أخرى للتخفيف من وحدتي إلا تلك الحوارات التي كنت أجريها من حين لآخر مع حفنة من الفلاسفة الوجوديين ورعاة الغنم. والحق أن الحياة لا تصبح محتملة إلا بالقرب من الصفاء الروحي لهؤلاء والتوقد الذهني لأولئك.
كان يحدث لي أحيانا أنني كنت أنزوي منعزلا لأيام وأيام في حجرة ما على أحد السطوح، اقضي وقتي منغمسا في مؤلفات سيوران أو مواعظ بوذا، وعندما كنت انزل إلى شوارع المدينة كانت أول رغبة تستهويني هي أن ألوي راجعا إلى حجرتي وانغمس في عزلتي من جديد، بل و على نحو أعمق. العالم الخارجي تافه، فبدلا من أن يضع عنك أعبائك، تجده يعرض عليك أعباء أخرى؛ وفي كل مرة كان يقترب مني أحدهم كنت، وحتى احمي نفسي من سخافاته، ألجأ على الفور إلى إستراتيجية القنفذــ أي انطوي على نفسي بالكامل وأغلق كل المنافذ.
عندما يتعلق الأمر بكل ما هو جوهري وروحي، لا يكون لدى العالم الخارجي أي شيء يقدمه لنا، إنه عالم يعج بالأوهام والأكاذيب؛ ولذلك يكون من الجيد أن ينسحب منه المرء كلما سنحت له الفرصة و على قدر ما يستطيع... كل واحد منا يحلم بأن يقوم ذات يوم بجولة حول العالم، ولكن أليس العالم الحقيقي هو هذا العالم الجواني المتواري خلف جدار النفس؟ فعندما يتقادم الوجود في عيني المرء وتفقد كل مباهج الحياة بريقها، وتصبح كل الميول والملذات أشياء مبتذلة ومستهلكة، ألا يكون من الأجدى للمرء أن يحوِّل نظره عن الآخرين حتى يرى نفسه؛ وأن يتنحى جانبا على هامش الوجود حتى يقترب من مركز ذاته؟ وحدها العزلة تمكّننا من لحظات ميتافيزيقية كهاته.
لا شيء يثير الشفقة أكثر من الطريقة التي يعالج بها البشر وقوعهم في الوحدة؛ فعندما تكتسحهم هذه الأخيرة تجدهم ينتشرون في الأرض بحثا عن وسيلة للهو، ولكن للهو ثمنه الباهظ الذي يتمثل في التلهي— أي التولي عن الذات والهروب من مواجهتها. والخوف من هذا التولي والهروب هو ما يرن في رأسي في كل مرة تهزني نزوة النزول إلى العالم والاجتماع بأشباهي من البشر. والحق أنه عندما يجد المرء نفسه متشوقا للانغماس في العالم أو الالتحاق بالآخرين، فإنما يثبت، بما لا يدع مجالا للشك، بأن العالم أكبر منه، وبأنه هو والآخرين من نفس الطينة. كل مآسي البشر— يقول باسكال— تأتي من أنه لا احد يعرف كيف ينزوي في غرفته ويتحمل وحدته؛ وهذا بالفعل ما نفعله نحن اليوم، حيث أنه لا أحد يستطيع أن يتعايش مع وحدته ولو للحظات معدودة؛ وكلما دخل أحدنا إلى شقته، فوجد نفسه وجها لوجه مع ذاته، يهرع على الفور إلى تشغيل التلفاز، ويمكنني أن أضيف بأنه لو حدث أن حكومة صادرت كل وسائل اللهو أو أجهزة التلفاز، لارتفعت معدلات الجريمة بين مواطنيها إلى مستويات غير مسبوقة. ماذا أقول؟— قليلة هي تلك القلوب التي تتحمل وزر الصمت.
كل تجربة عميقة نمر بها هي في جوهرها تجربة دينية، وبالرغم من أن أخصّائيي التحليل النفسي لا ينفكون يختزلون مشكلة الوحدة في تعقيدات لا شعورية أو أعطاب في العلاقات الاجتماعية، إلا أن الوحدة في عمقها هي أكثر من كونها كذلك ــ إنها مشكلة يتداخل فيها الديني بالمرضي، والوجودي بالميتافيزيقي، أي الكينونة في كليتها الشاملة. ويمكنني أن أقول بأن الإحساس بالوحدة أو الإقدام على الانسحاب من ضجة المجتمع لا ينبثق إلا عن حدس ديني عميق مفاده أن هذا العالم عالم غير مُقِْنع.
فيما يخصني، لا أملك إلا أن أقول بأن هذا العالم لم يعد يعنيني في شيء، وأمّا بالنسبة للحياة فإنني لم أعد انتظر منها أكثر من قراءة رواية و احتساء كوب من القهوة في هدوء وسكينة؛ وأما البقية من البشر فإنني أتفاداهم تفادي المرء للجذام— إنهم لا يولّدون لدي إلا ألإحساس بالضجر والتفاهة؛ فأنا لا أجد ذاتي إلا في الصحراء، ولا ألمس بعض الدفئ إلا عندما أتحدث إلى الراهب الذي يسكن في دواخلي.
عندما أتأمل أحيانا حياتي، لا أرى فيها شيئا آخر غير صراع طويل مع الوحدة؛ إنني أشعر وكأنني منفي، ولكن بدون منفى، أو كبدوي تائه، ولكن بدون جمل ولا صحراء. ولهذا السبب، أجدني لا أتمسك بأي شيء في هذه الحياة، وأمر بها مرور ابن السبيل؛ ومع ذلك، وبالرغم من كل ما يمكن أن أقوله عن الجوانب الكارثية لمشكلة الوحدة، إلا أنه لا يمكننا أن ننكر بأنها كارثة لا تخلو من منافع ؛ ذلك أنه عندما تجتاحنا الوحدة يحصل أننا نفقد الأصدقاء وتتقطع كل خيوط التواصل بيننا وبين العالم الخارجي، إلا أن المرء يكتشف بالمقابل ذاته، وربما يكتشف حتى الله؛ فعندما توصد في وجوهنا كل الأبواب ويستحيل علينا التواصل مع الأرض وما فوق الأرض، نبحث بالضرورة عن عزاء في السماء. ونحن كلنا نخضع لهذه الصيغة؛ ذلك أنه لا أحد منا يتحمل الوحدة المطلقة.



#ابراهيم_هيبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبادة الأنا
- فينومينولوجيا الموت
- بؤس الفلسفة
- الإنسان المنفصل
- تهافت الآلهة
- الحيوان الرومانسي
- شهوة التسلط
- على أجنحة الموسيقى
- الإنسان الأخير
- فكر و وجود
- مدح الصمت
- سيميولوجيا الحجاب
- الإتجاه المعاكس
- بعيداً عن القطيع
- السيف و اليقين
- لماذا الله؟
- داء النبوة
- الأونطولوجيا الطبيعية


المزيد.....




- ترامب: جامعة كولومبيا ارتكبت -خطأ فادحا- بإلغاء حضور الفصول ...
- عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف منفذي هجمات سيبرانية
- واشنطن تدعو بغداد لحماية القوات الأميركية بعد هجومين جديدين ...
- رئيس الوزراء الفلسطيني يعلن حزمة إصلاحات جديدة
- الاحتلال يقتحم مناطق بالضفة ويشتبك مع فلسطينيين بالخليل
- تصاعد الاحتجاجات بجامعات أميركية للمطالبة بوقف العدوان على غ ...
- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم هيبة - مائة عام من العزلة