أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم هيبة - فينومينولوجيا الموت















المزيد.....


فينومينولوجيا الموت


ابراهيم هيبة

الحوار المتمدن-العدد: 3234 - 2011 / 1 / 2 - 19:38
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لولا وجود الموت لغدت الحياة جحيما لا يطاق؛ فوحده الموت من يضع نهاية معقولة لكل حياة— ببطولاتها وفضائحها. ومهما اختلفت نظرياتنا و تباينت حول الموت، فإننا ولابد أن نلتقي عند الرأي التالي: الإنسان حيوان رافض للموت. فقط تأمل جيدا أي نشاط بشري وسترى بأنه ليس في حقيقته سوى تملصا من الموت....إن المرء بيننا يقضي أكثر من نصف حياته يشتغل ليل نهار وذلك لأجل تحقيق انجاز ما؛ ونحن لا ننفكّ نلاحظ، من حين لآخر، هذا المرء إما منكبا على تطوير نظرية علمية، أو عاملا على توسيع إمبراطورية اقتصادية، أو مصرّا على تعزيز قوة عسكرية أو مد حدود سياسية؛ ناهيك عن معشر الكتاب والفنانين والفلاسفة الذين لا ينامون إلا لماما مهووسين بإتمام رواياتهم وأنساقهم و سيمفونياتهم؛ حتى الإنسان العادي، هو الآخر، يرفض أن يغادر هذا العالم من دون أن يترك ذرية تحمل اسمه. ماذا أقول؟ لا أحد يريد الرحيل، من هنا، من دون أن يترك أثرا؛ فالكل يريد أن يخلّد اسمه بأي ثمن، حتى ولو كلف ذلك اقتراف جرم حجمه موت خمسين مليون من البشر. هذا، إذا، هو الوجه الحقيقي لكل رغبة في الخلود و الخوف من الوجود النكرة؛ والذي ليس في حقيقته سوى الخوف أللاشعوري من الموت.
كل وجودنا الإنساني خوف من الموت. فقط انظر إلى طقوس تشييع موتانا؛ فنحن نهتم بهم كما لو أنهم لا يزالون أحياء، نغسّلهم بأطهر المياه وأزكى العطور، كما نضعهم في أجود الأكفان وأفخر التوابيت؛ وكل هذا يعكس قلقنا الدفين حيال إمكانية أن يصبح موتانا جزءا من التراب. كما أننا لا نفوِّت أدنى فرصة في تخليدهم عبر الصور و التذكارات و التراجم؛ وهذه كلها أمور تعكس هاجس الذاكرة لدينا، والذي بدوره ليس سوى تعبيرا عن رفضنا للموت. إن النظر مليّا في هذه الأمور لا يمكن إلاَّ أن يقود المرء إلى الاستنتاج بأن كل مظاهر الوجود الإنساني انعكاس لردة فعل البشر ضد الموت.
من بين أكبر الأخطاء التي يقع فيها الإنسان نسيانه بأن الحياة محايثة للموت. إنه يرى الموت في كل مكان وفي كل كائن، ولكنه لا يقوم بالاستنتاجات اللازمة؛ ولا يكاد يمر يوم واحد دون أن يصادف في طريقه شجرة متهالكة أو أطلالا تشهد على حضارة غابرة أو صديقا ينهكه المرض، لكن هذا الإنسان غالبا ما يعجز عن فهم أن الأمر يتعلق بأكبر الحقائق الأونطولوجية. إنه يرى دائما في هذه الأمثلة– وهي تمظهرات نموذجية للموت– مجرد حوادث (accidents) بيوطبيعية أو تاريخية. وهذه خاصية الإنسان السطحي الذي ينظر دائما إلى الموت كحدث خارجي، وليس كمعطى جوهري يدخل في تركيبة الكائن ... ولأنه يفتقر إلى العمق الميتافيزيقي، يعجز هذا الإنسان السطحي عن رؤية الحياة كما هي— أي كونها سيرا تدريجيا نحو الموت. والحق أن الحياة ليست في جوهرها سوى احتضارا طويلا، ويمكن رد ذلك إلى كون الحياة وجودا محايثا للمرض و العدم. فعندما يلزم أحدنا الفراش جراء مرض ألمَّ به، يدرك عند ئد إلى أي حد كانت الحياة مجرد أكذوبة كبرى؛ وكيف أن الصحة كانت مجرد غفلة ميتافيزيقية. فبفضل المرض فقط نتمكن من معرفة واقع كوننا نسكن جسدا فانيا... كثيرون منا يتذكرون تلك اللحظات التي كانوا فيها طريحي الفراش، وكيف كانوا يستشعرون تلك التمزقات الداخلية والاختناقات الفيزيولوجية التي كانت تجري بدواخلهم، وكيف كانوا يرون أنه في الوقت الذي كان فيه المرض يفتح ثقوبا في أجسادهم، كان في الوقت نفسه يفتح لهم نوافذ على حقائق أونطولوجية منسية وعوالم ميتافيزيقية مخفية. وإذا كان هناك من بعد فلسفي للمرض، فهو خلقه لوعي حاد بالموت لدى الإنسان؛ فالآلام التي نمرُّ عبرها في تجربة المرض تربطنا من جديد بشرطنا الوجودي الحقيقي– أي كون الإنسان حيوانا فانيا– وتخلّصنا من وهم الإقامة الدائمة في هذا العالم. هذا هو المرض: ارتجاجات خفيفة تعمل كمدخل مبسَّط للرجّة الحاسمة التي هي الموت.
ومن هنا يمكن أن نستشف مدى ابتذال الصحة، وكيف أنها انتعاش جسدي يتم على حساب الروح؛ وكيف أن الأصحاء لا يمكن أن يحضوا بتجربة الاحتضار الطويل أو الشعور الإستشرافي بالموت. وأنَّى لهم أن يحضوا بتجربة كتلك و هم يسكنون أجسادا نائمة؟ ! إن الأصحاء لا يطرحون سؤال الموت؛ وحتى وإن حدث أن طرحوه فإن ذلك لا يكون إلا من باب التَّعَالُمِ الفلسفي. وهم عندما يتحدثون عن الموت فإنهم يتحدثون عنه كمرور حاسم نحو العدم؛ وبذلك يبرهنون عن افتقارهم للوعي بالموت كفعالية أونطولوجية عادمة تسكن كل ما هو موجود. وحدها هذه الفعالية الأونطولوجية العادمة، والتي تعمل كتآكل بطئ للكائن، تمكِّننا من كشوفات حقيقية حول طبيعة الوجود. ولكن الأصحاء– والناس السطحيين عموما– يجهلون كل ذلك التآكل البطئ والاحتضار الباطني؛ وتراهم يعوِّلون على تلك اللحظات الأخيرة حيث يلفظ المرء آخر أنفاسه؛ ولكن تلك اللحظات الأخيرة لا تكشف لهم عن أي شيء؛ فهي مجرد محاولات دونكيشوتية لجسد يقاوم النهاية الحاسمة. وبذلك، يمر هؤلاء الناس– خاويي الوفاض– نحو العدم المطلق بعد أن عاشوا في العدم النسبي.
إن مشكلتنا مع الموت لا تكمن في أنه ينهي كل شيء إلى الأبد، بل تكمن في أنه تعديم تدريجي— أي انسحاب بطيء لمجموع الطاقات والقوى الحيوية التي تشكِّل كياننا. وهذا التعديم التدريجي لا نلبث أن نلمسه في شرطين أونطولوجيين يخترقان كينونة كل واحد منا:المرض والشيخوخة. ونحن عندما نتحدث عن المرض والشيخوخة فإننا ضمنيا نتحدث عن تطورات دراماتيكية تأخذ من الجسد مسرحا لعملياتها؛ فحينما يغزو الشيب الرأس، وتجتاح التجاعيد الوجه، وتبرز الوجنتان، ويتقوس الظهر، وتبدأ الأعصاب في تسجيل أدنى الإضرابات العضوية على نحو شبه يومي، عندئذ يبدأ المرء في اكتشاف مدى الزيف والكذب الذين كان يعيش فيهما. والحق أنه إذا كانت هناك من أكذوبة كبرى فهي الجسد؛ فالواحد منا يبدأ الربع الأول من حياته وهو يتباهى بكونه يملك جسدا ينفجر طاقة وحيوية، ولكن مع مرور الأيام تبدأ حقيقة مضادة تلوح في الأفق، وهي أن هذا الجسد محكوم عليه بالتفكك. والحق أن الجسد ليس محكوما عليه بالتفكك فقط بل هو التفكك بعينه. إنه تفككي إلى حد الحمق؛ وهو ليس فقط وسطا حاملا للمرض بل هو المرض في حد ذاته، إنه عدم عضال ومادة تراجيدية تنتهي بفضيحة خَلقية تسمَّى بالجيفة. وفي الحقيقة لولا خدعة التورية لوجب علينا أن نسمي الجسد باسمه الحقيقي: السراب البيولوجي.
....أنظر إلى شباب اليوم، هذا يتباهى بعضلاته، وذاك برشاقته، وأخرى بقدها الممشوق، وتلك ببشرتها النظرة— ولكن ماذا يعكس، في حقيقته، كل هذا التباهي؟ إنه يعكس نوعا من العمى الأونطولوجي والنسيان الميتافيزيقي الذين يدفع الإنسان ثمنهما عاجلا أم آجلا. إن كل ذلك التباهي ما هو إلا نسيان بأن الجسد مجرد جيفة مؤجَّلة إلى حين، وهو نسيان أيضا بأن تلك البشرة النظرة ليست سوى زيا تنكّريا يخفي بنية بشعة اسمها الهيكل العظمي ... وماذا بوسع أي امرئ يقظ أن يفعل عندما يتوقف عند جثة في طور التحلل، أو عند هيكل عظمى بعيونه الغائرة وابتسامته الغريبة وأطرافه البشعة؟ إنني أستطيع أن أجزم بأنه ليس لهذا المرء إلاّ أن يستنتج بأن كل إنسان ما هو إلاّ ركام من العظام والأنسجة المحكومة بقوانين التحول والتلاشي؛ ولن يفوته أيضا أن يستنتج بأن كل "أنا" لا توجد إلا بالمعنى المجازي للكلمة، وبأن كل واحد منا ليس في حقيقته سوى اندماجا زائلا لتآلفات ذرية تنتظر لحظة اندثارها. "الموت كامن في كل شيء. اعملوا بدون توقف لأجل خلاصكم،" هكذا يقول بوذا. والعمل لأجل خلاصنا معناه، هنا، أن نتحرر من الاعتقاد بأننا ذوات مطلقة، وأن نحقق الاستنارة بوعينا لأنفسنا ككائنات مؤقَّتة.
كل تأمل صادق لجثة في طور التفكك أو هيكل عظمي منغمس في جوف الأرض، وسواء تعلق الأمر بجثة إنسان أو حيوان، لابد أن نخرج منه بإلهامين اثنين: فالهيكل العظمي يلهمنا الحكمة بينما الجثة تلهمنا خيار الزهد. ولكن عندما أجول بنظري الآن في أشباهي من البشر، وانظر جيدا في أهوائهم كما في أحوالهم، لا أجد أي أحد منهم مستعدا للحكمة فكيف بالزهد؛ ومن ينظر مليّا في حياتنا المعاصرة لا يمكنه إلا أن يستخلص بأنها أطروحة مضادة للموت: ماذا تكون كل صيدلية في حد ذاتها سوى رفضا علميا لواقع كوننا كائنات فانية؟ ! وأي هدف لكل تلك المستحضرات والأدوية سوى قطع الطريق على المرض والشيخوخة، وهما مقدمتان للموت؟ !
الإنسان حيوان رعديد أمام الموت؛ ففي الوقت الذي ينظر فيه إلى موت كلب أو شجرة ما كإمكان جد عادي، ويستقبل موت أعدائه بفرح سافر، تراه– ويا لسخرية الوقائع– بالكاد يصدّق إمكانية موته هو. إنه في عمق أعماقه يتصرف كما لو أنه إله. وحتى إن حدث أن اعترف بإمكانية موته، فإنه لن يتوانى عن النظر إليه كموت سامِِ أو كحدث تراجيدي دونه كل التراجيديات. أَوَ لا يتيح لنا هذا الموقف النرجسي من موت الذات، وما ينطوي عليه من تتفيه لموت الآخرين، القول بأن الإنسان عنصري في كل شيء، وبما في ذلك الموت؟ ! وفي الحقيقة ليس بالشيء الجديد على الإنسان أن يكون حيوانا رافضا للموت، فهو في بعده الطبيعي إرادة قوة لا تنفك تستهدف الإحتياطات الحيوية للوجود— أي البحث عن المزيد من الانتعاش والقوة والاخضرار كما يقول نيتشه.
إن الاجتماع الإنساني يَرْشَحُ بالمظاهر والسلوكيات الرافضة للموت؛ ولطالما تكرر ذلك الموقف حيث يجلس الواحد منا إلى ثلة من أصدقائه، وكيف يبدأ أحدهم في الحديث عن ما يتكبده من متاعب و ما ينفقه من أموال لإيجاد علاج لأمراض أمه العجوز أو أبيه المتهالك؛ والحق أنه إن كان هناك من تفسير لكل تلك المتاعب المادية و المعنوية، فهو أنه لا أحد من عجائزنا وشيوخنا يريد الموت في الوقت المناسب؛ فهم الآخرون أيضا يريدون العيش وإلى أجل غير مسمى... وحده بوذا من أنقد كرامتنا ولمس محايثة الموت للوجود. لقد خرج بوذا، ذات يوم، من إقامته في جولة روتينية في أنحاء إمارته، وإذ به يصادف في الطريق ثلاث حالات لبؤس الإنسان: رجل تنهكه الشيخوخة، وآخر يرزح تحث عبئ المرض، وثالث ميت. ولقد كانت هذه النماذج الثلاثة كافية لإيقاظ بوذا من سباته الميتافيزيقي و حثه على إعادة النظر في علاقته بالوجود، ناهيك عن كل تلك الإستراتيجيات السلوكية المعروفة التي اتخذها بعد ذلك. وأما نحن فإننا مصابون ببلادة ما بعدها بلادة: إننا نرى يوميا ما رآه بوذا ذات مرة ولكننا لا نعتبر؛ إننا نرى مفاعيل الموت في كل مكان ولكننا لا نعيش تجربة الإحساس بالموت. وإن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدل على أننا مشدودون إلى الحياة وعلى نحو فيه الكثير من العبودية؛ وفي الحقيقة يتوجب على الإنسان أن يمر من هذه الحياة مرور المسافر، أو أن يتصرف إزائها تصرف المتفرج— أي أن يجعل بينه وبين الأشياء مسافة كافية تبقيه بمنأى عن أي تورط فيها. فأن تنظر إلى الحياة نظرة لامبالاة، وأن تتعامل مع كل المثل كأوهام زائلة، ومع كل الرغبات و الطموحات كنزوات طائشة، وأن تقتنع بأن كل ما يقع تحث الشمس أمر عابر وسينزلق عاجلا أم أجلا نحو العدم— كل هذا يمكّن المرء من استعداد جيد للموت. وإن كان هناك من خطر يحدق بالإنسان في هذه الحياة فهو الاعتقاد الخاطئ بديمومة الأشياء، والذي بدوره يولِّد سلسلة لا حصر لها من الآلام و المتاعب.
لقد كتب صاحب الجمهورية بأن "نتفلسف معناه أن نتدرب على الموت،" ونحن نتفق مع هذا القول على طول الخط، إلا أننا نختلف مع صاحبه في أننا لا نبغي من هذا الضرب من التفلسف تخليص الروح من ربقة الجسد أو رفعها إلى سماء المثل؛ فكل ما نريده من تفلسف كهذا هو تدريب المرء على استدخال الخواء والتمرن على التجرد من كل ما هو عرضي. وأنا، شخصيا، أقوم بهذا الإستدخال والتجرد في كل لحظة من حياتي— أي في كل مرة أفشل فيها في تحقيق هدف دنيوي ما، أو في كل مرة أكون فيها مرغما على الرضوخ لانفصال عاطفي قسري، أو الإذعان لسلطة أقوى مني. فقط عبر هذه الأشكال المخففة من الموت أعوِّد نفسي على مذاق العدم، وأهيئ روحي للنهاية الكبرى. والحق أنه لكي يهيئ المرء نفسه للموت الأكبر، لابد من أن يعوِّد نفسه على الأنماط الصغرى من الموت؛ فعندما يرحل شخص عزيز عنك، ألا يتعلق الأمر بموت جزء منك؟ ! إن الإنسان مطالب بلمس الموت، ولو على نحو رمزي، عبر التجارب الاعتيادية للحياة والتي تتمثل في اضطرابات الجسد، والطبيعة العابرة للأشياء، وخضوع الوجود الإنساني لقوانين التحول والاندثار، ونسبية كينونته أمام إطلاقية الزمن والعدم. وهكذا فنحن لن ننتصر على الموت ونتعالى عليه إلا بالرغبة فيه، أو على الأقل عندما لا يعود هناك، بالنسبة إلينا، أي فرق بين أن نموت اليوم أو صباح غد أو حتى بعد مائة عام. فعندما يكون المرء قد مات لأكثر من مرة في حياته، يمر نحو العدم المطلق كما لو أنه يمر في اتجاه بعد آخر من أبعاد كينونته؛ وهذا ما يخلق الفرق بين الإنسان المتعمق الذي يملك الإحساس الحاد بالطبيعة الفانية للأشياء، والإنسان السطحي الذي لا يتجاوز مستوى كينونته مستوى الحجر والشجر. ومن المؤكد أن كلا من الإنسانين سيموتان، لكن الإنسان الأول سيلتقي بالموت كما لو أن الأمر يتعلق بلقاء مع جابي للضرائب، بينما الإنسان الثاني سينزلق نحوه انزلاق المرء نحو هاوية مظلمة.
فيما يخصني لم يمر علي أبدا ولو يوم واحد دون أن أدخل في حوار مع الموت؛ بل إنني كنت قادرا على تمثله حتى وأنا جالس إلى مائدة الطعام؛ وكل القرارات التي اتخذتها في حياتي كان لهاجس الموت كلمة فيها. وفي الحقيقة، لا شيء يغير الإنسان بشكل جوهري مثل معرفته بأنه كائن فان؛ فهذه المعرفة تضع المرء أمام خيارين أونطولوجيين لا ثالث لهما: الانغماس في الحياة أو الزهد فيها. والحق أنه لاشيء أشد غرابة من المفارقات التي تنجم عن الوعي الشديد بالموت؛ ففي الوقت الذي يدفع فيه هذا الأخير بعض الناس إلى التكالب على الحياة والتسابق لامتصاص كل إمكانية من إمكانياتها، إيمانا منهم بأنها آخر فرصة وجودية ممكنة، ترى هذا الوعي بالموت نفسه يدفع أناسا آخرين إلى الإحجام عن كل شيء و يشل كل قوى الحياة فيهم. ففي الوقت الذي تنظر فيه تلك الفئة الأولى من الناس إلى الحياة على أنها فرصة لا تتكرر، تجد الفئة الثانية تنظر إليها كشكل من أشكال اللاموت— أي حالة من الموت الغير–مفعَّل.
الموت قدر أونطولوجي لا فكاك منه، ولكن ثمة ما يجعل منه أكثر من كونه كذلك، وهو كونه قدرا مزدوجا – أي قدرا صعبا. عندما أنظر في الاجتماع الإنساني أجد قلة من الناس فقط من لهم القدرة على مواجهة هذا القدر الصعب بشيء من الحكمة ورباطة الجأش.والحقيقة أن الناس يمكنهم أن يتصرفوا بلا مبالاة مطلقة إزاء أي شيء في هذه الحياة، إلاَّ إزاء الموت؛ فلا شيء يقض مضاجعهم مثل مشاهدتهم لقوى الحياة وهي تنسحب رويدا رويدا من ذواتهم. والناس لا يرتعدون أمام الموت لكونه حتمية لا مفرّ منها، بل لكونه حتمية تراجيدية؛ فالموت لا يقوم بعمله إلاّ عبر تمزقات مريعة تخترق أنسجة الجسد وتشنجات حادة تخرِّب أوتار الروح. وانطلاقا من هذا المنظور، يمكننا أن نلمس ضعف فلسفة الموت عند الزميل أبيقور؛ فهذا الأخير يطمئننا بأنه ليس ثمة أي شيء نخافه بخصوص الموت؛ وذلك لأن"الموت لا شيء" و" كل خير أو شر يكمن في الإحساس؛ بينما الموت هو الفقدان الكامل [ لكل إحساس]، وما دمنا نحن موجودين فلا وجود للموت، وعندما يوجد الموت لا نوجد نحن." إذن فالموت حسب أبيقور ليس سوى عدما أكسيولوجيا— ينتهي معه الإحساس بأي قيمة سالبة أو موجبة— وبذلك ليس هناك أي مبرر لخوفنا منه مادام وجودنا لا يتساوق مع وجوده. ولا مراء في أن تصورا كهذا يختزل الموت إلى مجرد انطفاء كلّي لإمكانيات الحياة فينا— إنه ينسى بأن مشكلتنا الكبرى ليست مع الموت كنهاية مطلقة، بل هي مع الموت كمسلسل طويل في التفكك . فالموت ليس نهاية الحياة، بل هو أزمة الحياة؛ والحياة ليست وجودا مضادا للموت، بل هي تاريخه.
إن مظاهر غفلتنا تجاه الموت لا تعدّ ولا تحصى. وليس الطموح، بكل أنواعه، سوى واحدا من هذه المظاهر. وفي كل مرة أنظر عن يميني أو عن شمالي، لا أجد إلاّ أناسا منهمكين في مشاريع قد تكلِّف الشخص لإتمام الواحد منها أكثر من نصف عمره؛ ولكن البشر وعلى عادتهم يتجاهلون واقع كونهم كائنات فانية؛ كما أنهم يفتقرون إلى الوعي الذاتي بمحدودية كينونتهم؛ وهكذا تراهم يشتغلون على أشياء لها امتداد زمني أطول من امتدادهم هم، ويباشرون الأمور كما لو أنهم يملكون تفويضا بالإقامة الدائمة في هذا العالم. ماذا أقول؟ كلما تأملت جيدا في مشروع ما، أجده، وعلى الرغم مما قد ينطوي عليه من الديناميكية والعمل الخلاّق، مجرد نسيان مكِّلف للموت وجهلا سيء العواقب بالطابع الإنصرامي للوجود. وفي الحقيقة، ليس من المبالغة في شيء القول بأن ذلك النسيان و التجاهل يخفي في طياته خوفا من الموت، والذي إذا نظرنا إليه من زاوية فلسفية نجده يتبدّى كنوع من التخلّي المطلق، بحيث نكون مجبرين أمامه على أن نرفع أيدينا عن كل الأشياء، وندعها تمرّ نحو العدم كما سنمرّ نحوه نحن أيضا ولو بعد حين.
عندما أنظر جيدا في أحوال البشر لا أرى شيئا هم في أمسّ الحاجة إليه مثل حاجتهم إلى بيداغوجيا في الموت يتعلمون من خلالها مواجهة هذا الأخير. ولن تتأتى لهم هذه المواجهة إلاّ بأمرين اثنين: تمثل العدم والنفي؛ فالبشر مطالبون بأن يعوّدوا أنفسهم على تمثّل حجم العدم المتواري خلف الأشياء، وقانون اللاديمومة الذي يحكم كل ما هو موجود. ليقم فقط هؤلاء البشر، من حين لأخر، بمراجعات سريعة لدروس التاريخ وسيرون كيف كان الموت على قوته العادمة، بالمرصاد لأعظم الإمبراطوريات، و أعتى الجيوش، وأكبر الآلهة. ومن يستطيع اليوم أن يقول صائحا " المجد لروما"؟! وكم هو، اليوم، عدد تلك القلوب التي كانت ترتجف من الخوف والخشية لسماعها أسماء كزيوس، أو أمون ، أو عشتار؟ ! والحق أنه إذا أمكننا الخروج باستنتاج من هذه الأمثلة فهو أنه لاشيء أكثر دقة من الموت. وهو دقيق إلى حد أنه لم يسبق له أن اخطأ أي شيء يقع تحث الشمس— إنه أمهر حصّاد على الإطلاق ... ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الموت حتمية لا يمكن تفاديها، يبقى لنا هامش للمناورة يتمثل في قدرتنا على النفي– أي قدرتنا على تحويل وجودنا من وجود تأكيدي ممتلئ إلى وجود تجرّدي سالب؛ وتحويل كهذا يتطلّب أن ننفصل عما نمتلك – أي أن يدأب الواحد منا، وذلك من وقت لأخر، على النظر إلى وجهه أو بشرته أو متاعه كما لو أنها أشياء لا تخصّه، وأن يستحضر في ذهنه دائما بأنها مجرد حُجب تمنعه من النظر إلى ما هو جوهري فيه. كما يجب عليه أيضا أن يتعود على قول كلمة "لا" في وجه أي من أهوائه أو غرائزه، وأن لا يوفّر ولو فرصة واحدة في أن يعتبرها مجرد قوى متسوّلة .... فأن يقتنع المرء بأن ما يملكه ليس له، وبأن ما هو عليه ليس من صنع يديه، وأن يكف أيضا عن التورط في أي شيء— هذا ما أسمّيه بالاستنارة أو الهبوط التام إلى الجذور القصوى للكائن. و باختصار شديد، يلزم علينا أن نتعامل مع الكون بلا مبالاة مطلقة؛ " فالإنسان ليس في حاجة إلى الكون على الإطلاق."
الوعي الحاد بالموت يدفع المرء إلى تبنّي أخلاق مغايرة. لِمَ علي أن أحسد هذا الإنسان أو ذاك طالما أنه مجرد ركام من العظام والأنسجة المرشَّحة للاندثار؟ ! و لِمَ أحب هذا الوجه أو أكرهه طالما أنه مجرد جمجمة متستِّرة؟ ! إنني أكاد أجزم بأنه لكي ينال المرء سعادته، لا بد له من أن يتمثل حتمية الموت كلما كان في لقاء مع أحد من أبناء جنسه؛ فهذا التمثّل يمكِّن المرء من أخلاق لاإكتراثية تقوِّض كل تلك الحدود التقليدية بين الحب والكراهية، و بين الخير والشر.
وما من شك في أن هذه الاستراتيجيات التي أدعو إليها هي استراتيجيات زهدية، ولكن الزهد هنا لا علاقة له بزهد النسّاك والمتصوفة وآباء الصحراء— إن زهدي زهد علماني: فأنا عندما أرفض الانصياع لإرادة الحياة فيّ، لا أفعل ذلك على خلفية أنني أؤمن بخطيئة أصلية، أو أنني أرنو إلى تخلية صوفية أو تحلية عرفانية، بكل ما أفعله أفعله لأنال حريتي فقط. هذه، إذن، هي بيداغوجيا الموت الرمزي كما أتصورها؛ فبفضل تمارينها العدمية، وتكتيكاتها التجرُّدية يتمكن المرء أخيرا من نيل حريته إزاء نفسه ، وإزاء الوجود والموت— أي إزاء كل شيء. صحيح أنه بعد ممارستنا لهذه التمارين نجد أنفسنا في وجود فارغ، لكن الفراغ، هنا، فراغ من نوع متعال— إنه فراغ مخلِّص.
عندما أتأمل الآن علاقتنا، نحن أبناء القرن الحادي والعشرين، بالموت، لا أملك إلاّ أن أشعر بالحسرة والأسى؛ فنحن لم نعد نحتفل بالموت كما كان يفعل أجدادنا. لقد أصبح من النادر أن ترى شخصا يحتضر أمام عينيك، وذلك لأن أغلب الناس اليوم يموتون في المستشفيات— فاحتضار المرء في بيته وبين أهله لم يعد ممكنا ولا حتى مرغوبا فيه. إننا باختصار لم نعد نرغب في رؤية الموتى؛ كما أن ديكتاتورية الرأسمالية لم تعد تسمح بأن يعاين المرء موت أحد أقاربه لأكثر من يوم واحد؛ إنها لا تريد منا أكثر من أن نُقبر موتانا على عجل ونلحق بركبها السعيد؛ فلا مجال للتأمل والاعتبار. حتى ذلك السير في المواكب المهيبة للجنازات أصبح شبه مستحيل في مدننا "المتقدمة"، والتي تختنق شوارعها من زحمة الشاحنات والسيارات. أمّا مراسيم الدفن فقد أصبحت أقرب إلى التمثيل الصِّرف منه إلى أيِّ شيء آخر، وحضورها لم يعد يتجاوز مستوى البروتوكول؛ وهذا ما أستشعره في كل مرة أحضر أحدها، حيث أرى الحاضرين وعلامات نفاد الصبر بادية على وجوههم— إنهم ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء المراسيم ليعودوا إلى العالم وينغمسوا فيه حتى الأذنين. والحق أن الكثيرين منا لا يزورون المقبرة إلا مرة أو مرتين في العمر؛مرة ليدفن الواحد منا أباه أو أمه، ومرة ليُدفن هو. إننا، باختصار، لم نعد نزر المقابر للتأمل والتذكر— تذكر شرطنا الأونطولوجي ككائنات فانية... و في أيامنا هذه أصبحت المقابر مجرد أمكنة مهجورة تقع على هوامش مدننا العملاقة، بل إنها لا تكاد تتجاوز مستوى كونها مجرد مستودعات نضع فيها هالكينا. لقد انقضى ذلك الزمن الذي كانت فيه المقبرة جزءاَََََ لا يتجزأ من المحيط الاجتماعي، وموقعا جيدا يجدد الإنسان من خلاله اتصاله بكل ما هو جوهري وعظيم. ماذا أقول؟ لقد نسينا أو تناسينا بأن ارتياد المقابر، زيارة ومبيتا، كانت جزءاََ من رحلة بوذا في بحثه عن الخلاص؛ كما أننا نسينا بأن تلامذته كانوا لا يتوانون عن التطوع للعمل في المدافن ومعارض الجثث. وأية أمكنة أفضل من هذه للعلاج من أمراض الكينونة و ميول النفس؟ ! لقد كان أولئك الناس بممارساتهم تلك يحثّوننا على تأمل الطابع الكارثي و الإندثاري للأشياء؛ وذلك باعتبار هذا التأمل فرصة ليراجع المرء قناعاته الدنيوية و يخطو أول خطوة على الطريق (Tao). والحق أن طرق تحرر الإنسان هي نفسها تلك الطرق التي تمر عبر الجحيم.
وأين نحن اليوم من هؤلاء البوذيين الأوائل، نحن الذين لا نتمثـل الوجود إلا كموضوع استهلاك؟! إن الواحد منا ليدخل إلى المقبرة ثم يخرج منها دون أن يستوعب أي شيء. فأن يكون المرء في مقبرة ما معناه أنه في حضرة معلم كبير. والحق أن آخر مقبرة في العالم لهي أشدّ بلاغة وبيانا من كل ما كتبه فلاسفتنا ومعلـّمُونا عن الموت؛ ولكن مشكلتنا الكبرى، نحن البشر، أننا نتمتع بالبصر ولكننا نفتقر إلى البصيرة. إننا نرى الموتى، و لكننا لا نرى الموت.



#ابراهيم_هيبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بؤس الفلسفة
- الإنسان المنفصل
- تهافت الآلهة
- الحيوان الرومانسي
- شهوة التسلط
- على أجنحة الموسيقى
- الإنسان الأخير
- فكر و وجود
- مدح الصمت
- سيميولوجيا الحجاب
- الإتجاه المعاكس
- بعيداً عن القطيع
- السيف و اليقين
- لماذا الله؟
- داء النبوة
- الأونطولوجيا الطبيعية


المزيد.....




- مجلس الشعب السوري يرفع الحصانة القانونية عن أحد نوابه تمهيدا ...
- تحذير عسكري إسرائيلي: إذا لم ينضم الحريديم للجيش فإن إسرائيل ...
- السفير الروسي ردا على بايدن: بوتين لم يطلق أي تصريحات مهينة ...
- بالفيديو.. صواريخ -حزب الله- اللبناني تضرب قوة عسكرية إسرائي ...
- وزير الدفاع الكندي يشكو من نفاد مخزون بلاده من الذخيرة بسبب ...
- مصر.. خطاب هام للرئيس السيسي بخصوص الفترة المقبلة يوم الثلاث ...
- -أضاف ابناً وهميا سعوديا-.. القضاء الكويتي يحكم بحبس مواطن 3 ...
- -تلغراف- تكشف وجود متطرفين يقاتلون إلى جانب قوات كييف وتفاصي ...
- إعلام سوري: سماع دوي انفجارات في سماء مدينة حلب
- البنتاغون: لم نقدم لإسرائيل جميع الأسلحة التي طلبتها


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم هيبة - فينومينولوجيا الموت