عبد العظيم فنجان
الحوار المتمدن-العدد: 3221 - 2010 / 12 / 20 - 20:23
المحور:
الادب والفن
اشارة : سبق لي أن نشرت مقاطع ومجتزءات من هذه القصيدة ، على موقع " الحوار المتمدن " لكنه الآن في صيغته النهائية ، التي ستأخذ طريقها الى النشر في مجموعتي الشعرية الجديدة ، و" السيدة ذات القلب الاعظم " عنوان قصيدة الشاعرة السومرية أنخيدوانا في مديح إينانا / عشتار البابلية ، وفيها محاولة اعلاء لشأن إينانا على بقية الآلهة ، وحسب رأي الباحثين كانت تلك ردة فعل طبيعية بمواجهة صعود الآلهة الذكور على حساب الآلهة الاناث في البانثيون السومري .
مثلما جمعت انخيدوانا تناقضات اينانا في قصيدتها ، حاولت أن اضفي على هذه التناقضات معنى معاصرا لامرأة هذه القصيدة .
...........................
اغنية السيدة ذات القلب الأعظم
منكِ ، من عفوكِ وعفويتكِ وصدقكِ ، ومن يأسكِ وشجاعتكِ ، وإليكِ : إليكِ أيتها السومرية القلب ، الهائمة على وجهها ، مثل عاصفة تبحث عن أقدامها في ليل العالم
أنتِ فكرة في مخيال الشعر ، يكتبها الشعراء جيلا بعد جيل ، وحين تتحقق الكتابة تنفتحُ الفكرة على فكرة اخرى تنسفُ الكتابة ، فلا يكتبكِ أحد إلا بالمحو ، ولا يمحوكِ إلا من رآكِ ، وكل من رآك رأى ذاته فخرّ صعقا ، ثم صاح من الوجد : أبحث ُ لكِ عن وجه ، أنتِ الموصوفة بالعطر ، وروحك لا تشرق إلا على الغصن ، مثل وردة .
لن أقطفكِ كما يفعلُ العشاقُ ، إذ لستُ أحدا من هؤلاء ، لستُ من اؤلئك :
إنني عاشقٌ يجدلُ سلة أحلامه من دخان النوم على المصاطب ، من النجوم التي تومض في سماء اسمكِ ، من الرحيق الذي يعط من مسامكِ ، فيكوّن سحابا أزرقا إليه يصعد المطرُ ، ومنه يسقط الكلم الطيب ، والرمان ، والتين ، والزيتون ، وطور سنين ..
اقيمُ بينكِ وبينكِ ، فلا بيت إلا الشِعر ، ولا سقف إلا القصيدة .
لا أذكرُ أين رأيتكِ أول مرة ، ربما خلف النسيان والذاكرة : لا أذكرُ من وجهكِ إلا وجهكِ كله ، ولم أتحرَّ عن اسمكِ في الأسماء ، رغم أن اسمك في الينابيع ، يختلف مع مذاق كل نبع .
لكِ الماءُ في كل قطرة ،
في كل بذرة لكِ بستان ،
ولك خلف كل نافذة مسافر.
هناك قطارات تقلكِ إلى كل مكان ، وأنتِ راكب واحد : محطات كثيرة تنتظركِ . تمشين مع المطر تحت المظلات ، تشربين في الحانات كؤوس عشاق لم يأتوا إلى الموعد ، وتنامين مع شعراء على مصاطب من الهواء .
سريرك غابة ، وهم بعض أشجارك .
لكنني قدتُ أيامي بعصا طولكِ . تبعتُ آثاركِ في الأسفار ، فعثرتُ على مدن لم تخلق ، لكنها مأهولة بضواحيك وأنحائك : مأهولة بخطواتكِ ، بطيرانكِ ، وبشعركِ الذي يغطّيكِ عارية في الماء ، في النار ، في الهواء ، وفي التراب .
عثرتُ عليكِ تحت ثيابي ، فارتديتكِ ، ومشيتُ عاريا ، يكسوني الندى بعادات براعمكِ .
شاهدتكِ على شاشات السينما ، وأنتِ جالسة إلى جواري ، وصافحتكِ في منامات كنتُ فيها يقظا .
قرأتكِ في الأديان ،
وتنفستُكِ في قرى التهمتها الحرائق .
سمعتُ أجراسكِ في كنائس فخشعتُ وصليتُ ، شملني غناؤك بالحنان في الأزقة فترنحتُ وبكيتُ ، تعتني حنينكِ في المنافي فانشطرتُ في الجهات .
هدهدني صوتكِ ،
وأنا نائم في مهد صوتكِ .
وكثيرا خفتُ من جبروت ضعفكِ ، كثيرا آويت شجاعتي إلى سلامكِ ، و قدّمتُ عنقي إلى حروبكِ ، كثيرا شربتُ دموعكِ ، وسكرتُ في حانات نومكِ .
إنني متورط ٌ بما لا أعرفُ كنهه :
لا أعرفُ ما هو الحبَّ بالضبط ، إلا إذا كان هذا الذي يوّترني مثل قوس ٍ ، هو الحبُ .
إلا هذا التردد ، إلا هذا اليقين ، إلا هذا الخوف ، إلا هذا الذهاب ، إلا هذا الإياب ..
إلا إذا كان هذا الطيران ،
كالريشة ،
من يدكِ هذه الى يدكِ تلك ، هو الحبُ .
إلا إذا كان هذا الحبل
الذي يتدلى من سقف العالم ، وأنا أتأرجحُ معه ، هو الحبُ .
إلا إذا كان هذا الشغف بأن أتيه في أقاصي وجهكِ ، هو الحبُ .
إلا إذا كان هذا الخطر المحفوف بهديل الحمامة ، هو الحبُ .
إلا إذا كان هذا النعاس المقيم في مهد السهاد ، هو الحبُ .
إلا إذا كان هذا السرير المحروس بقبائل من القلق ، هو الحبُ .
إلا إذا كان ازدهار الرقة في الشوك وتفاقم الخشونة في الحرير، هو الحبُ .
إلا إذا كانت هذا السهم الذي ينطلق نحوكِ فيمزق قلبي هو الحبُ .
لكنني أعرفُ مساراتٍ كثيرةٍ ، وكلّ مسار نهايته أنتِ.
إذا صرتِ حربا ،
فأنا الميادين ، والغبار ، والعربات ، وأنا القتلى كلهم .
إذا صرتِ خمرا ، فأنا سكرانكِ الأبدي .
اجرفيني إذا صرتِ ريحا ، فأنا ريشة بملامح حصاة .
اجرفيني إذا صرتِ إعصارا ، فأنا حصاة بملامح ريشة .
اكسريني ، فأنا انسان ..
استعاراتُ غيابكِ تجري ، تسيلُ في ساقية الحضور ، ومجازاتُ حضوركِ تشغلُ الغيابَ عن نقل أقدامه .
لا أقول : " احبكِ " لأنني قلتُ ذلك لأُخريات قبلكِ .
لأنني خِطتُ على قمصانهن أزرارَ صعلكتي وعُريي .
لأنني نمتُ في الممزق من صفحاتهن ، واغتسلتُ بالحار من مياههن العميقة .
لأنني كتبتُ بأصابعهن أغلاطي الجميلة .
لأنني شطفتُ يأسي بدموعهن ، وآخيتُ بين خيباتهن ودموعي .
كان نصيبي من الحب أن أقع في غرام جميلة ، تحرضني على أن أكفر بجمال جميلتي السابقة :
لن أكفر لأن كل جميلة أنتِ .
كل كفر أنتِ ،
وكل طاعة .
كل شِعر أنتِ ،
و كل نثر .
احبكِ لأنكِ كلّهنَّ ، لأنكِ الفيء ، وأنا الجسرُ الذي لم ينم ، في حياته ، على وسادة من فيء .
لأنكِ السفينة ،
وأنا الطوفانُ الذي يحدسُ أن مَن يوقفه عن الغرق في الطوفان ، هو أنتِ .
كل صباح يـُريني هياميُ كيف أتدلى من عنقكِ ، ككِسرة من مياه القمر، لأن جسدكِ النورُ : هكذا خنقني حبرُكِ من بداية السطر ، أنا الجاهز العنق لكل مشنقة ، لكنني رأيتُ الخلاص يلمعُ ، كالموسى ، بين نهديكِ فألتقطتُ حرّيتي بأسناني . من يومها وأنا ألفُّ عنقي حول منديلكِ ، واغني :
أنتِ عشبة الخلود ، التي من أجلها يكتبُ العالم خطواته اللامتناهية في دفتر الخطر .
أنتِ المغامرة ، والوصول .
أنتِ العودة بقبضة التجربة .
أنتِ الزمن ، قوارب الخيال ، والطيران .
أنتِ الرغبة ، الجسد ، وأنتِ اللعنة والغفران ، وحلاوة الخطيئة .
أنتِ تنهداتُ النبع :
جريانُ الدفء في نهرٍ من البشاشة .
أنتِ سدودٌ من الحنان :
خيط ٌ من الطفولة ، لم يزل يرتفع من أجل طائرتي .
أنتِ أجملُ سرقاتي من الكتبِ :
زادي أنتِ ،
ومتعتي عندما تسطعُ شمسُ الافلاس ،
ويخرُّ التشرّدُ صعقا من جيوبي .
أنتِ هروبي من الثكنات :
متاهتي أنتِ ،
وحدودي .
أنتِ منفاي :
وطني الذي ولدتُ فيه مقذوفا إلى خارج العالم .
أنتِ فيروز
عندما يغرقُ المطرُ بالصباح .
أنتِ صباحٌ
يشرقُ من قصيدة منتصف الليل .
أنتِ اغنية ، منذ قرون ، وأنا أبحثُ عن بداية لأكتبها :
أعرفكِ تماما كما أعرف الملائكة ، رغم أنني لم أقابلكِ مرة .
لم أعرفكِ قط ، كما لم أعرف الملائكة ، رغم أني أحفظكِ عن ظهر قلب .
أعرفكِ خائبة ، وأعرفني لا أفوقكِ إلا في ذلك .
أعرفكِ تكتبين العثرات ، وأعرفني أقودُ خطواتي إليها .
اعرفكِ بمستوى المصابيح : تكنسين عن أكتافي ظلام الأزقة .
أعرفكِ خلف العالم ،
وألمحكِ ، خلف الشبابيك ، تجلدين المارة بخواطر ينسجها صمتكِ .
أعرفكِ مشطورة بينكِ وبينكِ .
أعرفكِ ذاهبة وقادمة .
أعرفكِ ممّا يسببُ الدوارَ للبحر .
أعرفكِ ممّا يعودُ الصيادون به لينتبذوا بحرا بعيدا عن دموع زوجاتهم .
أعرفكِ ممّا يُفرّقون به بين الليل والظلام .
أعرفكِ ممّا يجعلُ القوارب سكرانة تنقلُ على ظهرها العواصف .
أعرفكِ مما يجعل الشواطيء آهلة بالقبلات واللؤلؤ .
وأعرفكِ ممّا يجعلُ الشيطان والملاك في حيرة من أمر الله .
أشعرُكِ امرأة .
أشعرُكِ في اللانهاية ، هناك ..
في غرامياتٍ شائكة ، وفي حبٍ لم يحصل بعد .
أشعركِ في القفص تمنحين القضبان أجنحة الحرية .
أشعركِ تحت السوط تباركين الحزانى .
أشعرُكِ المختارة من العشق ، والعاشقة من الشاعرات .
أشعرُكِ هائمة على وجهكِ ، في العالم .
أشعركِ تحملين العالم .
أشعركِ تلدين العالم .
أشعرُكِ المسافات ، الخطوات ، والبـُعد .
أشعرُكِ افقا من الغموض ، وغموضا يغسلُ الافق بحزنه .
أشعرُكِ تبحرين في نهرالكون وقاربكِ الزمن .
أشعرُكِ في الساعات تجرجرين الزمن من ياقته .
أشعرُكِ الطمأنينة عندما تتعطل حواس الأمان .
أشعرُكِ الأمان يكسو الخوف جلباب نومه .
أشعرُكِ الخوفَ يجلس مع الأمان على مائدة واحدة .
أشعرُكِ إنسانا ، وأشعرني ذائبا فيكِ ،
لكن ذلك هو ما يـُقلقني :
يـُقلقني أنكِ امرأة ويقلقني أنني رجلٌ .
يـٌقلقني أن الحبَّ لا يستطيع أن يصهرنا أكثر من أن تكوني الخيط وأن أكون الشمع ، أو أن تكوني الشمع وأنا الخيط .
آه ،
الشـِعر هو الخلاص عندما يذيبنا كالشعلة في النار ، فلنصرخ إذن : إن لم تجمعنا الحياة معا ، فليجمعنا الشـِعرُ ..
كلانا يعرفُ أن الآخر ليس هو الآخر ، وأن المستحيل كلمة فارغة .
كلانا يجهل أن الآخر هو الآخر ، وأن الحب لغة مستحيلة .
كلانا يؤمن أن الشعر هو الحب ، وأن الحب هو الشعر .
كلانا يكتب الشـِعر على صدر أيامه ، فيموت شهيدا .
قلتِ مرة : أنتَ ملاكي ،
فصرتُ شيطانا .
قلتِ مرة : أنتَ حدودي ،
فصرتُ متاهة .
قلتِ مرة : أنتَ عنواني ،
فتلاشيتُ ، ولم أعد أحدا ..
يا زميلتي في الخوف ، يا نهاية البـُعد ومبيت الخطوات في المسافة .
يا طالعة بوجهكِ المبتسم ، يا مبتسمة بقلب الطفل .
يا ناضجة كالطلع ، يا جريمة عادلة .
يا شريكة الليل ، وغريبة النهار .
يا مَن تلوذ بإسمكِ البراري ساعة يريق مياهه الجفافُ .
يا من لا يطيق جمالك الجمالُ .
يا من يبتكرون القبل من اجل شفاهكِ .
يا من اشركتِ بي واشركتُ بكِ ، فلم نعد نحب بعضينا كما أنتِ أو كما أنا .
نزغنا رمحُ العشق في القلب فانقلبنا :
تحبينني كما هم اولئكِ السائرون في نومهم ، واتعبدكِ كما يفعل البدائيون في الكهوف :
كما يحب الحمقى والاغبياء والسكارى ،
كما يتعبد العميان نورا منسيا .
كما يتهجد الاميون حروفا من الصخر .
احبكِ ،
وأعرفُ أني لا أستطيع أن أحبكِ لأن العالم خسر قلبه في الحروب والمعارك .
لأنكِ الحب ذاته .
لأنكِ الشك ، وأنا القلق الذي يفور في صحنه الجمر .
لأننا جرحنا المهدَ ،
وخرّبنا سرير الطمأنينة .
لعبتُ معكِ لعبة الغرق ، فولد الماء .
لعبتُ معكِ لعبة الماء ، فولد المطر .
لعبتُ معكِ لعبة المطر ، فولدتْ الغيوم .
لعبتُ معكِ لعبة الغيوم ، فولد البرق .
لعبتُ معكِ لعبة البرق ، فولد المرمر.
لعبتُ معكِ لعبة المرمر ، فوُلد صدرك :
لعبتُ معكِ لعبة صدركِ ، فوُلدتْ حلمتان .
ثم
نفد اللعب ، فجأة ، فقد وصلتْ التقاليد ،
وولدتْ العائلة ، ثم نشبت الحرب .
عندما نقبّوا ، بحثا عنك في طبقات سومر ، وجدوا حلمة واحدة : حلمتكِ الثانية لا يعرف أحد أين أستقرتْ :
لعل الغزاة ، في أحد أدوارهم ، حملوا غبارها إلى بلادهم ، فجُن الهواء وولدتْ العاصفة .
لعل الريح حملتها فنبتتْ أولُ شجرة رمان على الأرض .
لعلها وقعتْ في يد الماء فسكرتْ الينابيعُ ، وترنّح العالمُ .
لعلها ..
لعلها صارت كلمة ، تشعبتْ جذورها بين سطور أوراقي ، ثم فاضت بحنان على هذه القصيدة .
............................................................................................................................
[email protected]
#عبد_العظيم_فنجان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟