أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامى لبيب - حكمت المحكمة ( 1 )















المزيد.....


حكمت المحكمة ( 1 )


سامى لبيب

الحوار المتمدن-العدد: 3217 - 2010 / 12 / 16 - 11:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


نحن بصدد إجراء محاكمة للنصوص والتراث الدينى الذى يُراد له ان يكون حاضراً مهيمنا ً ليفرض منظومته على واقع معاش بكل حمولته الثقيلة وتراثه القديم .
كأى محاكمة ستكون هناك قضية يطرحها الإدعاء ويدافع عنها هيئة من المحامين لينظرها قاضى بجواره هيئة من المحلفين .. وستكون طبيعة قضايانا هى محاكمة لفكر وتراث وتاريخ .

ولكن هل لنا أن نحاكم تاريخ مرعليه مئات وألوف السنين وتبعثر صانعيه فى التراب .؟!
بالطبع يكون من العبث محاكمة تاريخ وأحداث قديمة إنقضت وتوارت وتراكم عليها التراب بل تبدد أصحابها ولم يعد لهم وجود فتكون أركان الجريمة هنا غير قائمة ولا متواجدة بشخوصها وأحداثها والمتضررين منها , كمثل محاكمة شخصية تاريخية كهولاكو .. فرغما ًعن جرائمه البشعة فلن نجد جهة تحمل منهجه وسلوكه وتريده إستحضاره ولن نرى من يتبنى مسيرته ويعتقد أنها مازالت قادرة على التواجد فى الواقع لتكون منهجا ً وسلوكا ً .. فمن هنا يكون من العبث محاكمة تاريخ هولاكو أو أى شخصية أخرى أمست تقبع داخل أوراق التاريخ الصفراء لا تبارحها .
محاكماتنا هنا ستكون لمعتقدات وأديان مازال أتباعها يرون أن تاريخهم القديم صالح لكل زمان ومكان ويأملون أن يطبقوا كل ما ورد فى تراثهم وتاريخهم من شرائع على أرض الواقع لذا فهم وقعوا هم وتراثهم تحت طائلة القانون والإدانة .

يُجدر الإشارة أننا سنمارس جميعنا الدور الذى يناسبنا من الإدعاء أو الدفاع وسنشترك فى هيئة المحلفين ويبقى القاضى هو الحكم الذى سيحسر أراء المحلفين منسجما ً بالضرورة مع القانون .

*** القضية الأولى : حد الردة.

ينادى الحاجب بصوت جهورى محكمة ليدخل القاضى ومعه مستشاريه ليحتلوا مقاعدهم على المنصة داعيا ً الجميع للجلوس وليردد الحاجب : قضية حد الردة .
يأذن القاضي للمدعى العام بالتقدم بأوراق القضية وعرض الدعوى .

- الإدعاء : سيدي القاضي ..السادة المحلفون .
نحن أمام قضية مرفوعة من جمعيات ومنظمات لحقوق الإنسان كصاحبة للحق المدنى ضد كافة المؤسسات والتيارات والأحزاب الدينية التى تدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية .
يأتى حد الردة ضمن التشريعات الإسلامية والتى هى محور القضية المطروحة أمام عدالتكم .. فحد الردة يشرعن لقتل أي مسلم يرتد عن دين الإسلام راضيا ً لنفسه بملأ إرادته الحرة أي معتقد فكرى أو فلسفي أو ديني غير دين الإسلام .

" من بدل دينه فاقتلوه "..هذا الحديث ورد على لسان نبي الإسلام يعنى بتأسيس شريعة قتل المسلم إذا ترك دين الإسلام وأرتضى لنفسه أي معتقد أخر ..ولا يأتى هذا الحديث منفردا ً بل نجد أحاديث أخرى وردت في السنة النبوية نذكر منها :
" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ " (متفق عليه)
وهناك حديث آخر لعائشة :
" قَالَتْ عَائِشَةُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَوْ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ " أخرجه النسائي بإسناد حسن ومثله عن عثمان رضي الله عنه .

هذه الأحاديث وجدت طريقها كشريعة للإسلام .. وهنا ترى هيئة الإدعاء إن وجود مثل هكذا تشريع هو مناهض لحق الإنسان في حرية الفكر والإعتقاد وهو ما أقره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في البندين الثامن عشر والتاسع عشر
تقول المادة 18
لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حده.
المادة 19
لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود.

إن رفع سيف حد الردة مشهورا ً في وجه الإنسان المسلم هو اغتصاب وانتهاك لحقه الطبيعى فى الإعتقاد والنيل فى الوقت ذاته من حريته وكرامته الإنسانية ..كما هو تعدى صارخ على القوانين الحافظة لحقوق الإنسان ..ويأتى كذلك كممارسة لفعل إرهابى ضد للمسلم فى أن يعتقد مُجبرا ً رغما ً عنه حتى لا يفقد حياته ...هو تشريع يجعل الإنسان متجمدا ً مشلولا ً خائفا ًو بائسا ً لا يقدر ان يتحرك خارج القطيع ..ويعطينا رؤية عن المحاولات الحثيثة لتحصين العقائد الهشة من الاقتراب والنقد .
لذا أطالب كهيئة إدعاء بتجريم حد الردة فكرا ً وسلوكا ً وممارسة وأخذ تعهد وإقرار من كافة المؤسسات التى تروج له أن تكف عن الدعوة والإلحاح لتطبيقه بإعتباره مناهض لحق الإنسان وهو ما أقره الدستور والقوانين والمواثيق الدولية .. فحد الردة تشريع قديم قاصر على زمانه وغير صالح لاستدعائه ولا سبيل لتطبيقه فهو تاريخ جماعة بشرية وعليه أن يكون في هذا الإطار .

يأذن القاضي لهيئة الدفاع أن تدلى بدفاعها .

- سيدي القاضي ..السادة المحلفون :
حد الردة هو تشريع سنه رب العالمين للحفاظ على وحدة المسلمين وعدم إثارة الفتن داخل الأمة .. وهو يجئ ليضرب بيد من حديد على كل العابثين بالمعتقدات والذين يحاولون إثارة الفتنة بين الجماعة بالميل لهذا الدين حينا ً والانصراف عنه حينا ً أخرى .
نجد حد الردة هو أصيل في الأديان فلم يأتي التشريع الإسلامي منفردا ً في تسويق فكرة قتل المرتد فقد سبقه التراث العبراني .. فلم ينفرد رب العالمين بتشريعه للإسلام فقط بل هو تشريع إلهي منذ أرسل الله تشريعاته ونواميسه للبشر فنجد أن التوراة تذكر في كتابها :

جاء فى سفر التثنية [ 13 : 6 ] :
(( وَإِذَا أَضَلَّكَ سِرّاً أَخُوكَ ابْنُ أُمِّكَ، أَوِ ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ، أَوْ زَوْجَتُكَ الْمَحْبُوبَةُ، أَوْ صَدِيقُكَ الْحَمِيمُ قَائِلاً: لِنَذْهَبْ وَنَعْبُدْ آلِهَةً أُخْرَى غَرِيبَةً عَنْكَ وَعَنْ آبَائِكَ 7مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الأُخْرَى الْمُحِيطَةِ بِكَ أَوِ الْبَعِيدَةِ عَنْكَ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاهَا، 8فَلاَ تَسْتَجِبْ لَهُ وَلاَ تُصْغِ إِلَيْهِ، وَلاَ يُشْفِقْ قَلْبُكَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَتَرََّأفْ بِهِ، وَلاَ تَتَسَتَّرْ عَلَيْهِ. بَلْ حَتْماً تَقْتُلُهُ. كُنْ أَنْتَ أَوَّلَ قَاتِلِيهِ، ثُمَّ يَعْقُبُكَ بَقِيَّةُ الشَّعْبِ. ارْجُمْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ. . . ))

وإذا كانت هيئة الدفاع ساقت لنا عدة أحاديث فلدينا المزيد من النص التوراتي الذي أكد حد الردة فنجد في [لاويين 18/21
(( إِذَا ارْتَكَبَ بَيْنَكُمْ، رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، مُقِيمٌ فِي إِحْدَى مُدُنِكُمُ الَّتِي يُوَرِّثُكُمْ إِيَّاهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمُ، الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مُتَعَدِّياً عَهْدَهُ، فَغَوَى وَعَبَدَ آلِهَةً أُخْرَى وَسَجَدَ لَهَا أَوْ لِلشَّمْسِ أَوْ لِلْقَمَرِ أَوْ لأَيٍّ مِنْ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ مِمَّا حَظَرْتُهُ عَلَيْكُمْ، 4وَشَاعَ خَبَرُهُ، فَسَمِعْتُمْ بِهِ، وَتَحَقَّقْتُمْ بَعْدَ فَحْصٍ دَقِيقٍ أَنَّ ذَلِكَ الرِّجْسَ اقْتُرِفَ فِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْرِجُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ أَوْ تِلْكَ الْمَرْأَةَ، الَّذِي ارْتَكَبَ ذَلِكَ الإِثْمَ إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ، وَارْجُمُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ ))

وكذلك [تثنية 13/12].
(( إن سمعت عن إحدى مدنك التي يعطيك الرب إلهك لتسكن فيها قولا: قد خرج أناس بنو لئيم من وسطك وطوّحوا سكان مدينتهم قائلين نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفوها، وفحصت وفتشت وسألت جيدا وإذا الأمر صحيح وأكيد قد عُمل ذلك الرجس في وسطك، فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة!!، للرب إلهك، فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعد. ولا يلتصق بيدك شيء من المحرّم؛ لكي يرجع الرب من حمو غضبه، ويعطيك رحمة، يرحمك ويكثرك كما حلف لآبائك ))
لذا علينا ألا نشكك في أن حد الردة هو تشريع إلهي سمائى أوصى به الله أنبياءه والمرسلين .

* القاضي مقاطعاً الدفاع : بداية نحن لسنا بصدد أنه تشريع إلهي أم لا ولكننا كمؤسسة قانونية قضائية ننظر مدى توافق حد الردة مع القوانين والوثائق والدستور الذى يمنح الإنسان حق الفكر والاعتقاد و الرأي .
ولى عدة أسئلة لهيئة الدفاع :
السؤال الأول : هل حد الردة في الإسلام هو قانون عام أم قانون يخص المسلم فحسب .. بمعنى هل حديث " من بدل دينه فقتلوه " يعنى من بدل أي دين أم من بدل دين الإسلام فحسب .. وبمعنى آخر هل ترون تطبيق هذا الحد على من أرتد عن المسيحية أو اليهودية للإسلام .؟
السؤال الثاني :هل يطبق حد الردة على المسلم الذي ولد على دين الإسلام ثم جاءت ردته ؟
السؤال الثالث : أرى الدفاع لم يتطرق لما أثاره الإدعاء بأن هناك إنتهاك للإعلان العالمى لحقوق الإنسان بمادتيه 18 و19 .

هيئة الدفاع تتقدم ثانية للمنصة ..
- سيدي القاضي حد الردة كتشريع يُطبق على المسلم الذي يرتد عن الإسلام وغير معنى بالمسيحي واليهودي الذي بدل دينه للإسلام , فهو بالطبع مُرحب به فقد إرتضى الهدى على الضلال . !
أما بالنسبة للسؤال الثانى فحد الرد معنى بأي مسلم إنتسب للإسلام عن اختيار أو وراثة .. ولكن يُجدر الإشارة بأن الشريعة السمحاء لا تطبق حد الردة على المرتد إلا بعد أن يستتاب فإذا أصر على إرتداده تُخلع رأسه من جسده . !!
أما بالنسبة للبندين الثامن عشر والتاسع عشر من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فالإسلام غير معنى بهما ولا بكل البنود الأخرى فلدينا شريعتنا ومنهجنا ودستورنا .!

هيئة الإدعاء تستأذن القاضي بالتعقيب ...

- سيدي القاضي .. هيئة الدفاع أرادت أن تغرقنا في مناورات حتى تسعف هذا التشريع من الإدانة ...فهي أرفقت فى أوراق دفاعها أن هناك نصوص إلهية سابقة في التوراة تدعو لقتل المرتد.
يمكنا أن نرفق المزيد من الآيات فالتراث الديني حافل بالاستبداد وسحق أي إنسان يحاول أن يمارس حريته .. فحتى الإنجيل الخالي من للتشريعات يمكن لمن يريد الإتكاء على نص يُمرر قتل المرتد سيجد غايته كما ورد بإنجيل لوقا : " أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن املك عليهم فإتوا بهم إلى هنا و اذبحوهم قدامي ."
بالفعل لم تأتى هذه الآية صريحة وواضحة كما في التشريع التوراتي والإسلامي ولكن يُمكن لوى عنقها لتطويعها لقتل المرتد وهو ما إتكأت عليه المسيحية في العصور الوسطى لقتل من أدعت أنهم مرتدين من سحرة و هراطقة فتم حرقهم بناء على هذا النص ,علاوة على استدعاء ترسانة النصوص التوراتية التي أوردها مشكورا ً هيئة الدفاع .
الطريف سيدي القاضي أن الإسلام يعتبر التوراة والإنجيل محرفتان والطرافة نتلمسها عندما تتوافق نصوص ممعنة في التخلف والهمجية لنجد وحدة الأديان حاضرة.!!

السادة المدافعون ... بداية لا يوجد منطق سليم ولا منهج محترم يتكأ فى تمرير وممارسة قوانين منحرفة بوجود آخرين يطبقون مثل هذه القوانين الفاسدة ولديهم مثلها !!
كما أن قضيتنا ليست معنية بالنصوص التوراتية والإنجيلية فلا هي حاضرة بنصها ولا أصحابها ولا فارضة نفسها على الواقع .. وقد استطاع الفكر العلماني والتنويري أن يحجم أي جموح لتلك الديانتين فسكنت معابدها .. وعندما نجد حضور لليهود والنصارى مطالبين بتطبيق حد الردة المنتهك لحرية وكرامة الإنسان فهنا لن نتوانى أن نقدم نصوصهم للإدانة والمحاكمة .
اليهودية والمسيحية الحالية لا ترفع رايات قتل المرتد وكون هناك نصوص قديمة دعت لذلك فاليهود والنصارى يرونها نصوص تاريخية تكتفي بكونها تاريخ فقط لتلك الفترة الزمنية وغير قابل للتحقيق والحضور وهذا ما نأمله فى الإسلام .

لقد سهى على هيئة الدفاع أن قضيتنا هذه لن يكون لها أي معنى أوقيمة لو أعلنت الجهات والمرجعيات الدينية الإسلامية بأن حد الردة يقتصر على كونه تاريخ لجماعة بشرية محددة بزمانها فقط وغير مُطالب بحضوره وتطبيقه في واقعنا .. ولكننا نرى إصرار غريب من تلك المرجعيات والهيئات والتيارات الدينية في تطبيق هذا الشرع الذي ينظرون له بأنه إرادة إلهية أو بمعنى أدق هم يريدون تسويق هذه الرؤية منتهكا ً بالضرورة حرية وكرامة الإنسان ولاغيا ً تاريخ طويل وشاق للإنسان لتأكيد حريته وإنسانيته .

يواصل الإدعاء مرافعته .

هل نعتبر حد الردة تشريع إلهي جاء صالحا ً لكل زمان ومكان أي أن له قابلية التطبيق في عصرنا الراهن ؟!... أم نعتبر هذا التشريع هو تشريع بشرى جاء في زمانه ومكانه معبرا ً عن واقعه وظرفه السياسي والموضوعي والتاريخي وأنه بذلك لا يخرج عن كونه تاريخ .. ولا يحق لأحد بإسقاطه على الواقع .

حتى لو إعتبرناه جدلا ً تشريعا ً إلهيا ً فنحن أمام إشكاليتين ..الأولى خاصة بفكرة الله والحساب والعقاب الإلهي .. فأين حرية الاختيار والتي ستقام علي أساسها مراسيم المحاكمة الإلهية الذائعة الصيت إذا كان الإنسان لا يستطيع الاختيار بين الإيمان أو اللاإيمان .
والإشكالية الثانية أن العصر الراهن يرفض بشدة المساومة والانتقاص من حق الإنسان في حرية فكره وإعتقاده وإيمانه فهل يعنى ذلك أن الإنسان بحضارته تجاوز منظور وفكر ورؤية إلهية مُفترضة .!!

إتكأ الدفاع على مقولة أن الارتداد عن الدين هو إثارة للفتنة والعبث وتقويض المجتمع .. وأود أن أخوض فى تلك النقطة سيدى حتى لا تلقى الكلمات على عواهنها وتكون بمثابة قنبلة دخان تُلقى حتى تُمرر انتهاكات عظيمة .
فمن العبث بالفعل أن نتصور أن تغيير الإنسان لمعتقده وفكره سيثير الفتنة وسيقوض المجتمع وسيجعل الأعداء يتكالبون .!! .. ومن السخافة تصور أن مجرد إعتقاد بفكرة أو الإيمان بخرافة أو الانصراف عنها لخرافة أخرى هو تغيير لولاءات وانضمام للأعداء .
ومن السخرية أن نتصور بأن هناك فكرة تنتصر أو تُهزم بمن ينتسب لها أو ينصرف عنها ..إنهم بدون أن يدروا يصنفون إيمانهم كفكرة هشة وخاوية تتداعى وتنهار بإنصراف هذا أو ذاك وتستمد قوتها من إجبار وقهر التابعين فى أن يمكثوا داخل الحظيرة الإيمانية لا يفارقونها .!

ولتسمح لي سيدي القاضي أن نلقى الضوء عن سبب تشريع حد الردة في المعتقدات والأديان القديمة حتى ندرك العوامل والأسباب الحقيقة المُنتجة لهذا التشريع وحتى لا يأتي الدفاع بمقولة أنها إرادات إلهية وأن هناك فتنة ستكون مصحوبة بإرتداد المسلم عن دين الإسلام .

الدين في نشأته هو مشروع تأطير لهوية اجتماعية لمجموعة بشرية تبحث لها عن تواجد وتمايز وسط جماعات بشرية أخرى تتصارع على مصادر الغذاء والماء .. فيكون الإله هو المظلة والراية التي تتجمع حولها الجماعة البشرية لتوحدها وتعطى لها هوية خاصة .. ولم يكن هذا الأمر غريبا ً على تلك العوالم القديمة فى جعل الدين بمثابة الدستور والحزب الحاكم .

الجماعات الإنسانية على مدار التاريخ تحتاج لرابط ومنظومة تحدد ملامحها وهويتها , وتجعل للانتماء وجود مادي يحدد إطارها وسماتها لتميزها عن الجماعات البشرية الأخرى فيغدو الارتباط كناموس يلف الإنسان ويحتضنه ويحتويه .
مع حجم الضآلة المعرفية وانعدام وجود مفردات ثقافية تصبغ العلاقات الاجتماعية ابتدعت الجماعات البشرية الأولى فكرة الإله كمظلة تحتوى المجموع ويصبح المعتقد والدين بمثابة علم وراية تلتف حوله الجماعة وتنصهر في داخله كرمز للانتماء والهوية .. ولا بأس من استحضار رموز إضافية لتوثيق الهوية فيتحول النبي أو زعيم العشيرة كقائد الجماعة لتوثيق وحدتها .

من هنا لا يكون غريبا ً أن نجد هذا التعدد الهائل للإلهة والطواطم فى العصور الأولى للبشرية .. فكل إله هو رمز لكل جماعة تميزها عن غيرها من الجماعات الأخرى وتطفى عليه ملامحها الخاصة مستمدة من الطبيعة والجغرافيا إستلهاماتها .. كما لا تكون الطقوس والشعائر كالرقص والغناء أو الطواف حول المعبودات إلا كرموز تكمل بها هويتها وتجعلها متميزة ومتفردة عن جماعات بشرية أخرى .
أن ابتداع فكرة الآلهة لم تقتصر كحاجة معرفية أو الاحتماء في كيان يمنحهم الأمان والمدد فقط بقدر ما هو رمز توحيدي للجماعة البشرية يحدد ويؤطر هويتها .. فيكون الدين هنا هو الهوية الجمعية للجماعة البشرية .

بظهور الجماعة لم يلغى من داخلها الصراع ..فهي توحدت بالفعل داخل إطار عام ولكن لم يُلغى الصراع ولن يُلغى طالما هناك حياة ليكون البقاء للأقوى وذو السطوة ..ومن هنا ظهر القائد أو السياسي الذي يَحمل مشروعا قوميا ً وطبقيا ًيخدم مصلحته ومصلحة وأحلام الجماعة .

لذلك كان الخروج عن الدين هو خروج عن النظام والهوية الاجتماعية .. وهو مفارقة للجماعة كما جاء صريحاً وواضحا ً في التعبير الإسلامي .
فعلينا أن ندرك مفهوم الردة والارتداد كما فهمها السياسي ( النبي ) وكما كان يدركها الإنسان القديم .فيمكن القول بأن فكرة قتل المرتد تأتى في سياق فكر السياسي ( النبي ) الذي رأى ضرورة سن مثل هكذا تشريع للحفاظ على مشروعه السياسي وحرصا ً منه على تماسك جبهته الداخلية من الخلل والاضطراب

الارتداد بمفهوم هذا الزمان الذي جعل الدين دستور وهوية هو ترك وانفصال عن الجماعة البشرية والانضمام بالضرورة لمشروع جماعة بشرية أخرى منافسة ..هو خصم حقيقي من رصيد الجماعة وإضافة لرصيد جماعة أخرى .
لذا جاء قتل المرتد كحفاظ على الجماعة البشرية من التبعثر ودرء للفتنة وضربها في مهدها مع حرمان أصحاب المشاريع الدينية الأخرى من الإضافة ..فلا تكون الأمور أكثر من هذا حتى لا يتصور البعض أن هناك إلها ً منزعجا ً لارتداد إنسان عن الإيمان فلماذا إذن مسرحية المحاكمة الإلهية في العالم الخرافي إذا كان الإيمان يتم قسرا ً .

حد الردة تم استخدامه على مدار تاريخه لتأمين الجبهة الداخلية من أي تمرد وتشرذم وكضمان حقيقى أن يبقى التابعين تحت هيمنة المشروع السياسي والاجتماعي المرسوم لهم .. والطريف أن مظلة حد الردة السياسية لم تقف عن حدود الإيمان أو اللاإيمان بل امتدت لتعطى لنا نماذج سياسية شديدة الوضوح والفجاجة ..فنجد أن أول حروب الردة والتي قام بها الخليفة أبو بكر الصديق كانت ضد الرافضين لولايته كخليفة للمسلمين وامتناعهم عن أداء الزكاة التي تمثل العصب الاقتصادي الحساس للدولة الوليدة والتي لا يمكن التهاون والتخاذل أمامه فكما واضح أنهم لم يتركوا الإسلام ولم يحيدوا عن تعاليمه.
حد الردة هو تشريع إنساني بشرى قديم لم يخطأ هدفه ومرماه , فهو رغبة السياسي ( النبي ) في تأمين مشروعه السياسي وتحصينه من أي خلل أو تفسخ يلحق به.

لعلنا نكون قد وصلنا لمرادنا في هذه القضية من تأكيد فكرة أن الدين بتشريعاته وقصصه لم يأتي إلا برغبة وتخطيط ورؤية واحتياج السياسي الذي أبتدع النص والتشريع لتحقيق حُلمه وأجندته السياسية .

من هنا سيدي القاضي يجب أن ندرك بأن حد الردة بمفهومه القديم ومحاولة استحضاره على واقعنا هو إنتهاك صارخ لحرية وكرامة الإنسان كما أوردها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي سبق إرفاقه في ملفات القضية .
لذا أطالب :
بتجريم حد الردة وحظره فكرا ً وتشريعا ً وتطبيقا ً وتجريم كل ممارسيه سواء أكانت جماعات أو هيئات أو أفراد وتقديمهم للمحاكمة بتهمة انتهاك حقوق الإنسان وحريته .
كما لا يجب أن يفوتنا فرصة التحذير من خطورة إستدعاء والترويج للنصوص التاريخ القديم الذي هو ملك زمانه فقط بما يعبر عن رغبات ورؤى حالة سياسية محددة لفرضه على واقع معاصر تجاوز بالضرورة فكرة أن الاعتقاد يمثل الهوية الاجتماعية للإنسان .. بل هي حرية خاصة لا تضيف لانتمائه أو تقلل منه شيئا ً.

يعلن القاضى : بعد الإطلاع على كافة المستندات واقوال الإدعاء والدفاع نرى أن كل مشاهد القضية قد إكتملت ملامحها ولكن سنعطى الفرصة كاملة للحاضرين بقاعة المحكمة والذين يريدون الإضافة والتعقيب بالإدلاء بأقوالهم بأن يتفضلوا بتقديم رؤيتهم الخاصة سواء بالرفض أو التأييد ليكون الحكم النهائي في نهاية التعليقات .

دمتم بخير ...



#سامى_لبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 19 ) - الأديان كمظلة حاضنة لكل ...
- الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 18 ) - كيف تكون كاذبا ً منافقا ...
- هموم مصرية ( 1 ) قراءة فى ملف الأقباط .. إلى أين تذهب مصر ؟!
- خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 5 ) - نحن نخلق آلهتنا و ...
- خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 4 ) - الله محدود أم غير ...
- الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 17 ) - الإرهابيون لماذا هم هكذ ...
- خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 3 ) - من يُطلق الرصاص ؟ ...
- تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 10 ) - صور متفرقة .
- خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 2 ) - إختار الإجابة الص ...
- خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 1 ) - العالم ديّ بتستهب ...
- نحن نخلق آلهتنا ( 10 ) - الله جعلناه لصا ً .
- * الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 16 ) - تعلم كيف تكره فهو أوث ...
- لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 10 ) - إبحث عن الذكر .
- تديين السياسة أم تسييس الدين ( 5 ) - آيات حسب الطلب .
- تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 9 ) .
- الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 15 ) - كيف تكون مزدوجا ً فاقدا ...
- تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 8 ) - لن نرى حضارة طا ...
- لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 9 ) - فوبيا الآخر والشيطان ..إ ...
- تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 7 ) .
- الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 14 ) - كيف تكون متبلدا ً و مست ...


المزيد.....




- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامى لبيب - حكمت المحكمة ( 1 )