أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - باحث (قصة قصيرة)















المزيد.....


باحث (قصة قصيرة)


حمادي بلخشين

الحوار المتمدن-العدد: 3215 - 2010 / 12 / 14 - 18:43
المحور: الادب والفن
    


باحث
ـــــــــــــ 1 ـــــــــــــــــ

أفاق محمود العابد على يد عم صابر تحرّك منكبيه الهزيلين:
ــ محمود... محمود... أفق يا ولدي.
ثم و هو يستحثّه بصوته الواهن:
ــ أفق يا ولدي... بعد عشر دقائق، سيبدأ تدفق العمّال.
هبّ محمود العابد جالسا.. قدوم عمّال الحظيرة يمثل إشارة حمراء لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال، ليس فقط بالنسبة إليه، بل بالنسبة الى عمّ صابر، الرجل الطيّب الذي خاطر بعمله كحارس ليليّ، كي يوفـّر له سقفا ينام تحته... حين تطلع محمود العابد الى الإطار المفتوح على الطبيعة، والذي يعد بمشروع نافذة، صفع بسماء داكنة تتخللها خيوط مطر خريفي كئيب ينهمر بعنف... شعر محمود العابد بانقباض في صدره، وظلمة في قلبه، و مرارة في حلقه و تدمير شامل في كيانه.
وهو يجمع أكياس الإسمنت الفارغة التي طالما وقته بعض برودة الأرضية المغبرّة، ردّد مزمجرا:" هذا يوم عصيب".

فيما مضى، كان محمود العابد يحرص على دسّ الأكياس (وهي مطوية بعناية فائقة) في فرجة مخفيّة ما بين الحائط وقوالب الأسمنت المسلّح، لكنه اليوم ألقاها ــ و الى الأبد ــ من النافذة.

ما ان اتم محمود العابد طمس آثار مبيته، حتى سلّم على عم صابر ثم أنسلّ من فتحة خلفيّة كان قد شقها بنفسه بين الأسلاك الشائكة.. إجتاز سكة قطار الضواحي، بعد أن ألقى نظرتين معاكستين.. شعرة بقشعريرة تجتاح جسده الهزيل، حين تذكّر أنّ فتاة في مقتبل العمر قد صرعت بالأمس في نفس المكان الذي عبره منذ قليل، تمنّى لو كان مكانها..أي مصير مظلم يرتقبه في وطن لعين تحوّل الى سجن كبير.. منذ أشهر قليلة، أصبح الانتحار هاجسه اليوميّ.. إيمانه بالله وحده، هو الذي كان يحول دائما دون التنفيذ " لو فقدت إيماني عند الظهر، فسأنتحر قبل العصر، ولو فقدت إيماني عند المغرب فسأنتحر قبل العشاء" هكذا قال ذات يأس لشقيقته منى... فور اجتيازه السكّة الحديديّة ألقى ببنيانه المهدّم على أقرب مقعد خشبي مبتلّ، كان المطر قد خفت هطوله، جال بنظره طويلا الى المحطة القديمة ذات المعمار الكولنيالي العتيق، ثم أطلق زفرة مدوية،" ما هو الفرق بين إستعمار تونسي وآخر فرنسي، إذا كان انتهاك آدميّة الإنسان هو القاسم المشترك بينهما؟".
لمّا كان مجازا في اللغة العربية، فقد تفرغ محمود العابد في الشهور الأخيرة الى نقض مفاهيم قديمة ذات قوالب إحتفالية جوفاء، ثم إعادة صياغتها وفق مقتضيات المرحلة:
أشياء من قبيل :


بلادي إذا جارت عليّ بغيضة
و قومي اذا جاروا عليّ لئام !
و من قبيل:
و لي وطن أقسـمت، أنّـــي أبيعه
لئلا أرى نفسي من الجوع هالكا!
و من قبيل:
القهر و الفقر و الضرّاء تعرفني
والغمّ و الهمّ و التشريد و الألم!

حين أفضى محمود العابد إلى صديقه جمال ساسي( مهندس شاب فقد بين عدوتي تونس و إيطاليا، و لم يعثر له على أثر) بنماذج من أحدث تركيباته الشعرية، نصحه الأخير بالإقلاع فورا عن تلك العادة المهلكة، و كأضعف احتياط، عدم تدوينها، ثم التحرّي في تسويقها بعد انتقاء سامعيها بحذر شديد).
أما حين قرأ على جاره مصطفى السعيداني مقطعا محوّرا من النشيد الرسميّ ورد على هذا النحو المحرّف :

يعيش بتونس من خانها
و أفسد في كل أركانها
و ما كان من جندها ساعة
و لكنه كـــان ســـــجّانها

انتفض جاره السابق كعصفور بلله القطر، ثم

صاح متعمّدا إسماع كل من كان في المقهى:
ــ لا يا سيدي... لا يا سيدي
ثم وهو يرفع نبرة صوته:
ـــ بل أردّد كما يفعل سيادة الرئيس و صانع التغيير.
ثم وهو يسبل يديه و يضم فخذيه آخذ وضع الإستعداد العسكري:
ـــ فلا عاش في تونس من خانها
ولا عاش من ليس من جندهـا
نمــوت و نحيا علـــــى عهدها
حيـــاة الكـرام و موت العظام

ما إن فرغ من ذلك، حتى اندفع متعثرا نحو الخارج، كمن طارده شبح !
مصطفى السعيداني( طبيب بيطري شاب، شديد الجبن، كثير الهلع، بلغ خوفه من مخالب السلطة و سوء ظنه بتماسيحها و غيلانها، الى حدّ إجبار زوجته المتدينة على خلع خمارها حتى في البيت، كما هددها بالطلاق و الفراق إن لم تفتح الباب الخارجيّ وهي سافرة... كان شعار مصطفى السعيداني:" خاف ربيّ و خاف مليّ ما يخافش من ربيّ"... رحم الله مصطفى السعيداني... من كان يتخيل أن نهايته ستكون قبل مرور شهرين من حادثة المقهي و عل أيدي زبانية " صانع التغيير"... فرغم بعد مصطفى السعيداني عن السياسة، فقد قتل قتلة من خرج على النظام بكلاشنكوفه... لقد سحقته آلة التعذيب العمياء، هكذا دون تمييز... لمجرّد تشابه ملامحه مع مطلوب أمنيّ خطير !

أدخل محمود العابد يده في جيب بنطلونه المبتلّ.. حالما إستعاد وعيه، توقفت أصابعه وهي في طريقها إلي القعر المتهرئ، ارتسمت على ملامحه علامات الخيبة.. كان عليه أن يتذكر أنّ آخر عقب سيجارة قد دخنها قبيل إخلاده للنوم.. لقد ذبحته البطالة و أنهكه الانتظار، و دمّره تسويف أصحاب المشاريع الحرّة، و سدّت في وجهه أبواب الأمل تماما، لنيل وظيفة حكومية تناسب شهادته الجامعية، بعد دخوله قائمة أصحاب السوابق العدليّة، إثر محاولة عبور فاشلة الى العدوة الإيطالية نال بسببها سنتين سجنا، السنة الأولي لمحاولة تخطي الحدود الأقليمية،بدون رخصة و السنة الثانية لتطاوله على رئيس المحكمة.
حين حكم عليه بسنة صاح من شدة القهر:
"أذن انتم لا ترحموا ولا تتركوا رحمة ربّي تنزل"
ردّ عليه رئيس المحكمة و هو يلملم أوراقه:
ــ أحمد الله، لقد راعينا في حالتك أقصى ظروف التخفيف الممكنة.
أجابه محمود العابد وهو يحاول التملص من قبضة شرطيين:
ــ انكم توصدون أمامي أبواب المستقبل.
رد عليه القاضي وهو ينهض من كرسيّه:
ــ أنت من إختار هذا المصير!
ثم وهو يحرك هامته في هيئة المتعجّب:
ـــ يفعل الجاهل بنفسه مالا يفعله عدو بعدوّه.
صاح فيه محمود العابد و قد أظلمت الدنيا في عينيه:
ــ بل أنت الجاهل، وأنت العدوّ.

ظلّ محمود العابد يتسكّع سائر يومه.. الجوع يقرص بطنه، و الأسى يجتاح قلبه، و اليأس يملأ كيانه و يسدّ عليه منافذ الأمل. منذ عصر أمس، لم يقرب محمود العابد طعاما.. قبيل مغرب أمس، حين آوى الى حظيرة البناء، كان يأمل في مشاركة عم صابر عشاءه الأخير، لكن أمله خاب حين وجد عم صابر ينتظر قدومه على أحرّ من الجمر كي يتولى الحراسة بدلا عنه، حتى يتفرغ الى رعاية ابنته الصغيرة آمنة، بعد أن تمّ نقل الأم الى القسم الإستعجالي بمستشفى شارل نيكول لإستئصال زائدة دوديّة.. وهو يشاهد عمّ صابر يغادره بقفته المحكمة الربط فوق العجلة الخلفية لدارجته الهوائية، إستحيى محمود العابد أن ينبّهه الى وجوب تخلّيه عن طعام لن يحتاج إليه ليلته تلك، رغم إدراك محمود العابد أن عمّ صابر أكرم طبعا و أسخى نفسا من أن يتعمد الرجوع بقفته العامرة ليترك نزيله وهو يكابد آلام الجوع، ولكن الخطب الذي ألمّ بعم صابر قد أفقده فيما يبدو كلّ صواب...لأجل ذلك، ظلّ محمود العابد يقاسي كلب الجوع كامل ليلته تلك حتى مطلع الفجر... كان يعز على محمود صابر ترك موقعه (حتى وهو يدرك جيدا أن ليلته تلك ستكون الأخيرة) في سبيل البحث بين مزابل الحيّ عن قطعة خبز أو حتى قشرة بطيخ يوقف بها ألم الجوع.. ظل هكذا حتى أغفى قبل شروق الشمس بقليل ليستيقظ على صوت عم صابر وهو يستحثه على مغادرة المكان.

ــــــــ 2 ــــــ

قبيل حلول الظلام، أحس محمود العابد بإحباط شديد وهو يجتاز عمارة فخمة ذات خمس طوابق يحتلّ طابقها الأرضي سوبر ماركت مترامي الأطراف تعلوه قاعة أفراح فخمة، يتوجّها نزل بخمس نجوم على ملك لاعب كرة أميّ لا يعني له المعرّي و لا الخليل بن أحمد الفراهيدي شيئا، و لا يدري ايهما أسبق اجراما في تاريخ إسقاطنا النهائي، الأمويون العرب ام العثمانيون الأتراك.

هاهي تباشير شتاء قاس تطرق الأبواب دون رحمة ساعة لم يعد هناك أي أمل في المبيت تحت حمى عم صابر، بعد أن سمع بالأمس آمر الحظيرة وهو يهدد الحارس البائس بالطرد في صورة استقبال لاجئه من جديد، لأجل ذلك لا بدّ لمحمود العابد أن يتحرّك لإيجاد حلّ لتشرده في البلاد.

عند انطلاق آذان المغرب دخل محمود العابد مقهى شعبيا مزدحما ،أغلق على نفسه الحمّام.. أخرج من جيبه آخر موس حلاقة، لم يحتج الأمر الى أكثر من خمس دقائق لفسخ لحية أصبحت تثير شكوك من حوله.. أخرج مقصا صغيرا حذف به ما نما من شعره .. منذ سنوات عدة تعوّد فعل ذلك دون أي مساعدة.. في بدء الأمر كانت النتائج كارثية حتى بالمقاييس الصومالية، أما الآن فقد بلغ درجة الإتقان.. جمع سقاطات الشعر المستقرة على الأرض، دسها في مكبّ قمامة، سوّى شعره، حفّ شاربيه بعناية، و هو يستمهل طارق عجول.. نفض ما علق بسترته من شعر و غبار قديم.. مسح حذاءه ثم نزع حزامه الجلدي، ثبّته على المغسل ثم أحدث فيه ثقبة إضافية كان قبل أسبوعين فقط في غنى عنها.. أعاد حزامه الى موضعه.. وهو يغادر المكان، هاله سواد ياقة قميصه، حاول ثنيها لكنه صدم بسواد باطنها أيضا.

حين غادر المقهى، لفحته نسمة خريف باردة، عاد على عقبيه حين تذكر قمصانا فاخرة رآها معروضة خارج محلّ قريب، انتقى منها ثلاثة قمصان وضع واحدا في يد و اثنين في اليد الأخرى، دخل الغرفة المخصصة للتجريب، لم يطل به المقام حتى خرج بقميص واحد في كل يد. سلمهما شاكرا الي البائع العجوز ثم خرج معتذرا عن الإزعاج، حين وصل الي المقهى نزع قميصه القديم ألقاه في مكبّ القمامة، سوى قميصه الجديد، حمد الله ان لون سترته الداكن لا يكشف عن قذارتها، ثم خرج.
ـــــــــــــ 3 ـــــــــــــــــ
بعد مسيرة ربع ساعة، مرّ محمود العابد على أفخر مطعم بالمدينة، حين رآه خاليا عاد على أعقابه..إحتاج الى ساعة جوع إضافية كي يرجع من جديد.. حين شاهد مروان الخمّاسي يتوسّط طاولة عامرة بما لذّ و طاب، قرر دخول المطعم وقد بلغ منه الجوع مبلغا كبيرا، حين همّ بالدخول، شعر بيد تستوقفه، حين التفت رأى سيدة محجبة لا تتجاوز الثلاثين.. لحظة التقت عيونهما، نكست الشابة رأسها ثم أسرت إليه بصوت خافت:
ــ الله يسترك يا خويا
ـــ ...
ــ نهارين ما ذقتش الماكلة!
ثم وهي تشير الي صبيين متعلقين بجلبابها:
ــ أبوهم في الحبس و ما أعرفتش آش باش نعمل.
طمأنها قائلا :
ــ إنشاء الله يكون خير.. انتظري.
ثم مستدركا:
ــ عشر دقائق على أقصى تقدير.
" سأدع زوجات الإصوليين أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الدعارة او التسول" هكذا صرح وزير الداخلية الرهيب..." ها هو الكلب العقور يفي بوعده!" هكذا حدّث محمود العابد نفسه وهو يغادر المرأة المتسوّلة.

حين اجتاز المدخل الرخامي الصقيل لاحت لمحمود العابد زاوية محشورة بأفخر أنواع السجائر المستوردة.. فور تسلم قائمة الطعام أمر النادل (دون أن يكلف نفسه النظر الى ناحيته) باحضارعلبة "جيتان" على الحساب، قبل يغمس رأسه في القائمة المعروضة.
حين وافاه النادل بعلبة السجائر الفرنسية، كان محمود العابد قد اختار لنفسه دجاجة مصلية و سلاطة مشوية و بعض الفاكهة و وكوبا كبيرا من الآيس كريم الإيطالي. ثم أوصي الشاب بلفّ دجاجتين و رغيفين و كمية كبيرة من البطاطا المقلية و علبة من إلآيس كريم و كثير من الفاكهة و وضعها في كيس بلاستكي مصحوبا بفاتورة خاصة بها.

فور إنصراف النادل، أشعل محمود العابد سيجارة جيتان ثم شرع في تدخينها، لكنه سرعان ما أحسّ بدوار فأطفأها محدثا نفسه:" كان عليّ ملء بطني قبل ذلك".

كان محمود العابد يفكر في التوجّه الى حيث يجلس الملياردير مروان الخمّاسي، حين بلغته قهقهة الأخير، حين التفت محمود العابد الى مصدر الصوت، عاين الرجل الوجيه وهو يتدحرج نحو دورة المياه.. زواج شقيقة مروان الخمّاسي كلّف والده مليون دينار بما فيها أجرة المغني كاظم الساهر وراقصة مصرية معروفة.. نهض محمود العابد من مكانه، إتجه الى مكتب الإستقبال، قابلته فتاة سمراء تحمل على صدرها معلّقة ذهبية عليها اسمها. كانت الفتاة شديدة السمرة لكن جاذبيتها لا تقاوم، بادرها قائلا:
ـــ من فضلك اخت فوزية، هل يمكنك إسداء عمل انساني؟
اجابته الفتاة كاشفة عن أسنان ناصعة البياض:
ــ تفضل سيدي.
ثم مستدركة:
ــ لو كان ذلك في إمكاني.
دنا منها قليلا ثم قال بلهجة متوسلة:
ــ هناك سيدة محجبة ستأتي في الأسبوع الأول من كل شهر. فهل يمكنك تسليمها مبلغا ماليا سأتركه هنا على ذمتها؟
ثم مستدركا:
ـــ فقد تجبرني كثرة تنقلاتي على التغيب.
ـــ بكل سرور.
أضاف محمود العابد وهو يراقب دورة المياه.
ــ بعد قليل سأوافيك بكل التفاصيل.
حين عاين ظهور مروان الخماسي، غادر محمود العابد الفتاة فوزية دون انذار ثم اتجه ناحية الرجل الثري، لكنه سرعان ما توقف قليلا ملتفا الى الوراء محييا فوزية بإشارة من يده.. حين قدّر أنّ مروان الخمّاسي قد اقترب منه بالقدر المطلوب، استدار ناحيته ليمسك به و كأنه يتفادى اصطداما محققا.. حالما قدم اعتذاره بكل ذوق وأدب، واصل محمود العابد طريقه نحو دورة المياه.. فور دخوله سارع الى إخراج حافظة أنيقة في حجم الكف وجد فيها مبلغا ماليا محترما دسه سريعا في جيبه.. في طريق عودته، أسقط الحافظة السليبة بجانب صاحبها الموسر.. بمجرد جلوسه، أقبل عليه النادل بما لذ و طاب، تسلم منه فاتورة الطلبات الملفوفة، دفع له بقشيشا أدهشه، تناول الكيس الكبير،ثم هرع نحو الشارع.. ما أن لمحته السيدة المحجبة حتى هرعت إليه، ناولها الكيس الثقيل:
ــ تفضلّي.. بالشفاء و الهناء.
ردّت باستحياء شديد:
ــ الله يزيد فضلك.
ردّ محمود العابد بخشوع أشدّ:
ــ يا تغلطي يا أختي.. بل ((هذا من فضل ربّي))!
ثم محذرا:
ــ هناك علبة آيس كريم ستذوب ان لم تدركيها.
ثم وهو يناولها مائة دينار.
ــ انشاء الله تعالى، لك مثلها في أول يوم جمعة من كل شهر.
اضاف وهي يعاين غبطة المرأة :
ـــ سلي عن فوزية.. موظفة الإستقبال. ستجدين الأمانة عندها.
ــ الله يسترك يا خويا.
" دعوة منقاة تـناسب مقتضيات المرحلة!" هكذا فكّر محمود العابد وهو يغادرالمرأة مسرعا الى حيث الدجاجة المنتظرة.
بعد تناول الأكل و شرب القهوة و التحلّي بالآيس كريم و تدخين سيجارة جيتان، سلّم محمود العابد العاملة فوزية مساعدة شهرين مع إكرامية مشجّعة.. حين مرّ بمتجر الأقمصة، إقتنى دمية باربي في طول الصغيرة آمنة، كان محمود العابد يعلم جيدا أن الأمّورة الصغيرة قد شدّدت على أبيها الحصار في المدة الأخيرة كي يقتني لها واحدة في حجم اليد، غير ان إمكانيات عم صابر لم تكن تسمح له بذلك، كما لم تسمح له قبل ذلك بشراء كبش العيد. بكل إباء، رفض محمود العابد تناول بقية الخمسين دينارا ( ما يزيد قليلا عن ثمن قميص!) " خلّ عندك يا راجل" هكا قال وهو ينصرف متبوعا بدعوات البائع العجوز.
ــــــــــــــــــــ 4 ــــــــــــــــــ
في طريقه الي حظيرة البناء، ترحّم محمود العابد على " برق الليل"، أسرع نشال عرفته البلاد التونسية منذ فجر الإستقلال المزيف، جمعته به زنزانة بسجن برج الرّومي الرّهيب... كأدبه مع كل قادم جديد، أراد "برق الليل" إستعباد محمود العابد و ضمّه الي عبيده، ولكن رؤية برق الليل عضده الأيمن كارلوس كخرقة بين قدميّ محمود العابد جعلت " برق الليل" يعيد حساباته من جديد...ظل محمود العابد ملازما لبرق الليل سنتين كاملتين تعلّم في الشهرين الأولين منهما، أصول النشل على أسس صحيحة.. في أول درس له، و حين تفحّص" برق الليل" سبابة ووسطى وإبهام محمود العابد، لم يملك نفسه أن صاح ك(( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء))" ثم هو يتابع متعجبا:" أستاذ،شاعر، قبضاي، كن ما شئت، و لكن الحقيقة الجوهريّة التي يجب أن تؤمن بها، هي أنك قد ولدت لتكون نشّالا عالميّا" ثم وهو يضرب على منكبه" رفعت الأقلام و جفت الصّحف!".

كان من العاديّ أن تنتهي دورة محمود العابد بعد ثلاثين حصّة تعليمية يشرف على نصفها كارلوس، و على النصف الآخر "برق الليل"، ولكن قبل بداية الحصّة الثامنة عشر، وحين إكتشف "برق الليل" نشل محفظته من قبل تلميذه محمود العابد، لم ير داعيا لمواصلة التمارين! إكتفى مرة أخرى بـ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء))، قبل أن يعرض على محمود العابد أن يكون أقرب رجاله، و وكيل أعماله و وريث كل أمواله، و وليّ عهده على مملكة العالم السفليّ، غير أن محمود العابد إعتذر بكل لباقة، مصارحا "برق الليل" بأن السّطو على أموال الغير ليس من أخلاقه، ولا من شيمه، كما أن تكديس المال، و التهافت على الكماليّات و زخارف الدنيا ليس من مأربه، وإنما أراد دخول تلك التجربة المثيرة، لأنها تلتقي كثيرا، في ضرورة استحضار الخفة والسرعة و البراعة و الدم البارد مع فنون القتال التي مارسها منذ الصغر... رغم ذلك علّق "برق الليل" قائلا:" على كل حال لن تخسر شيئا بتعلمك النشل" ثم و هو يضيف ضاحكا" يروح مال الجدّين و تبقى صنعة اليدين!"... ها هي "صنعة اليدين" تعيد إليه الأمل في الحياة.. فكّر محمود العابد بأن يخصّص منذ الغدّ دفترا صغيرا يدوّن فيه نفقات سفره، و تدخينه كي يرجعها الى مروان الخماسي و أمثاله من المسلوبين حين تستوي شركته المرتقبة على سوقها( فلا يعقل ولا يليق به اتخاذ النشل مهنة قارة)، أما مصاريفه اليومية و ما يتبرع به للسائل و المحروم فمصاريف غير قابلة للإعادة.

كان محمود العابد منهمكا في تفكيره حين نبهه نباح الكلب"روكي" ثم تقافزه من حوله، الى وصوله تخوم حظيرة البناء، حيث إستقبله عم صابر، ليفضى إليه أن زوجته بخير. ثم وهو يدني إليه لبنة كبيرة كي يتخذها مقعدا:
ــ يمكنك منذ الليلة المبيت حيث أسكن ففي شقة واحدة متسّع للجميع.
غير أن محمود العابد شكر سعيه و أثنى على تضامنه معه، قبل أن يناوله الصندوق الفاخر الذي يضمّ باربي آمنة مشفوعا بمائتي دينار وضعتا في ظرف مفتوح كتب عليه" خروف العيد"... حين سأله عم صابر عن سر التحوّل الذي طرا عليه، أخبره بأنه قد استخلص دينا قديما كان مقصّرا حين تغاضى عنه كل هذه المدّة.. تمنى لعم صابر عيدا سعيدا ثم فارقه و قد إخضلت عيون الرجلين تأثّرا.
ــــــــــــــ 5 ــــــــــــــــــــ
قبيل وصول محمود العابد الى النزل المتواضع الذي أعتزم الإقامة فيه طوال"المرحلة التأسيسيّة" كما أطلق عليها، فوجئ بحشد من الناس يلتف حول فريق تلفــزيّ... وصلـــه صوت كهل أصلع يضع نظارة طبية وهو يتابع بعربية سليمة"... ثم اذا كانت الأمم الأروبية المعاصرة تعتز بمفكرين صارت كتاباتهم غير مفهومة لديهم، رغم انها كتبت قبل قرنين او ثلاث أو اربعة قرون من رحيل هؤلاء الكتاب، فما بالك بأمتنا التي يمكن فهم شعرها الجاهلي، رغم ضربه في عمق التاريخ بما يربو عن ألفيتين كاملتين؟" ما ان أتم الأصلع كلامه حتى توجهت المذيعة الشابة الى محمود العابد:
ــ الإسم الكريم؟
ــ الإسم لا يهمّ... ما أريد إضافته كاختصاصي في الميدان، هو التأكيد على ثراء مخزوننا الثقافيّ و قدرته الخارقة على بثّ الأمل و إشاعة العدل والتقليص من حجم التفاوت الطبقيّ.
ـــ ...
ـــ فمناضل واحد من الشعراء الصعاليك الذين يصل نسبهم الى الجد التاسع ــ و كل ذلك موثق ــ و الذين يغامرون بأرواحهم في سبيل جمع وإعادة توزيع الثروات على أسس عادلة...
ـــ...
ـــ أشرف ألف مرّة من "روبن وود" المغامر الانكليزي الذي يشك الكثير في وجوده التاريخيّ!
سألته الصحفيّة الشابة:
ــ يبدو ان تجربتك المهنية التي مرّرت بها كانت جدّ ثريّة.
تحسّس محمود العابد جيبه العامر ثم قال:
ــ بكل تأكيد!
ــ لم نتشرف بعد بمعرفتك.
ثم وهي تقترب منه أكثر:
ـــ الإسم الكريم من فضلك؟
إبتسم محمود العابد ثم رد قائلا:
ــ أخوك الشنفرى.
ــ ...
ـــ باحث مستقلّ!

أوسلو 28/8/2009



#حمادي_بلخشين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فضائح -خير القرون- السّلفية (21 /21)
- فضائح -خير القرون- السّلفية (20/21)
- فضائح -خير القرون- السّلفية (19)
- فضائح -خير القرون- السّلفية (18)
- فضائح -خير القرون- السّلفية(17)
- فضائح -خير القرون- السلفية(16)
- فضائح -خير القرون-السلفية (15)
- فضائح -خير القرون- السّلفيّة (14)
- فضائح -خير القرون- السلفية(13)
- فضائح -خير القرون- السلفية(12)
- فضائح -خير القرون- السّلفيّة (11)
- فضائح- خير القرون-السّلفية (10)
- فضائح- خير القرون-السّلفية (9)
- فضائح -خير القرون- السلفية (8)
- فضائح -خير القرون- السّلفية (7)
- فضائح- خير القرون- السّلفية (6)
- فضائح -خير القرون- السلفية (5)
- فضائح- خير- القرون السلفية (4)
- فضائح -خير القرون- السلفية (3)
- فضائح -خير القرون- السلفية ( 2 )


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - باحث (قصة قصيرة)