أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - يتيم (3)















المزيد.....



يتيم (3)


يحيى علوان

الحوار المتمدن-العدد: 3192 - 2010 / 11 / 21 - 17:16
المحور: الادب والفن
    


يتيم
( فصل من كتاب مُطارَدٌ بين الله والحدود )

( 3 )




مَنْ قالَ أَنَّ المرايا سطوحٌ مَلساءُ جامدةٌ ، وفي أَحسنِ أحوالها مُنفَعِلَةٌ ؟!
مَنْ قالَ .... ؟ ومَنْ قالْ ..؟؟
ها هيّ ذي تُسَرِّحُ ضَفائرَ الصبايا ، تَرَمَّلنَ باكِراً بحروبِ البدوِ الخاسرةِ ، أَعياهُنَّ رَدحٌ مَكتومٌ ، حتى وقت
صلاةِ الفجرِ ، فيما يَلي ساعةَ "الفجور" .. !!

+ عاد إيهاب مزهواً يزحفُ ، ناولكَ قنينةَ الماء ... إحتضَنْتَها بكَفيكَ ، تستمتِعُ بحُبَيْباتِ ماءٍ تَجَمَّعَتْ على سطحها الخارجيِّ .. رُحتَ تُمَرِّرُها على جبهتكَ ووجهِكَ ، ثُمَّ تَلحَسُها ، تَتَزاحَمُ فيكَ قبضةٌ من المشاعِرِ .. أُولاها أَنَّكَ لَنْ تموتَ عطَشَاً ! جرعتانِ مُترعتان رَشَوْتَ بهما جوفَكَ .. ورُحتَ تَتَسَمَّعُ لقَرقراتٍ ، هي شتائمُ بطنكَ ، لأنَّكَ أَهمَلتَ صُراخَه طَلَباً لِقَطْرٍ !
تناوَلَ إيهاب القنينة ، وراح كصغيرٍ يتلذَّذُ بشرابٍ حلوٍ من خلالِ جُرعاتٍ صغيرةٍ مُتَتاليةٍ ... أخرَجَ الناظور ، لاهثاً ، يمسح المنطقة ... عاوَدَ الكرَّةَ ، صفَقَ كفاً بأخرى وتأفّفَ ..

كان الوقتُ عصراً والشمس مالَت تَتَّجِه نحو مَغارتها ، لكنها لم تفقد ، بعدُ ، شيئاً من عنفوانها .. فبعد أَنْ تزوّدتَ بجرعة طيبة من الماء ، إستعادتْ مساماتُكَ نشاطها ، تَنفُثُ عَرَقاً ،كأَنَّ تِنّيناً ينفَخُ فيها أَنفاسَ اللهَبِ . حاوَلتَ نزعَ قميصِكَ ، لا تَفَكُّهاً ، ولا تَهَتُّكاً أَمامَ السماء ، فلم تَعُد تَقوى على الإصطبار . إلاّ أَنَّ إيهاب منعَكَ من ذلك ، لأنها الإنتحارُ بعينه ! بَلْ أنه لامَكَ على طيشِكَ لأنكَ لَمْ تحتسبْ كفايةً ، لعوارض المناخ ..
فجأةً إنتبه إلى أنكَ حاسِرَ الرأسِ ، صَفَعَ نفسه مؤنباً ، لأنه لَمْ يفطِنْ إلى ذلك من قبل !

لاشيءَ غيرَ إنتظارٍ مُهلِكٍ ... سماءٌ عاريةٌ من الطيرِ ، لا تَستُرُ عَورَتها كِسرَةُ غيمٍ ... رملٌ أَبلَهٌ ، لَمْ يَلِدْ غيرَ سحليَّةٍ مَلساءَ بَلهاءَ مِثلَه ( أبو بريص ) ، تزحفُ خَطفاً ، مَذعورة ً .. تَقتَرِبُ منكَ ، كأنها تُحدِّقُ فيكَ بعينينِ غَبيِّتَينِ ، ثمَّ تهربُ وتَندَسُّ في باطنِ الأرض ، كأنها إرتَعَبَتْ من هيئتكَ أَوْ رَثَتْ لحالِكَ ...
مرَّ زمنٌ .. إستطالَ ، فأرهَقَ بريسمَ الأعصاب . نَفَدَ الماءُ ، وإحترقَتْ آخر ذُؤابات الصبر.

سَتُواتيكَ فكرةُ أُنْ تَحفُرَ بيديكَ العاريتين في باطن الساقية علَّكَ تصلُ إلى طبقَةٍ فيها آثارُ رطوبةٍ من مَطَرِ الليلةِ الفائتة تحميكَ لحينٍ ...
لكنْ هيهات !! قد يَصِحُّ ذلكَ نظرياً وفي أَرضٍ أُخرى ، إلاّ في هذه اللعنة ...
ومثلُ صابئيٍ ستقولُ " آمنتُ بالجاري ، ولا شيءَ سواه ! " لكنْ مَنْ سيُقرِضُكَ نهراً .. جدولاً .. ساقيةً ، .. سترضى ، حتى ، بِشُربَةٍ واحدة !
وسَتَقولُ لِنَفسِكَ : " أَحلمُ بشمسٍ يَنسَرِبُ ذَهبُ جَدائلِها من شَقٍّ في حائطِ فَيءٍ رَؤومٍ .. وسأعيدُ لأمريء
القيس ولعنترَةَ والتَغلُبي وذي الرِمّة والمتنبي بواديهم .. وليأتِ أَحدُهم لهذا الجحيم لنَرَ إِنْ كان بمقدوره
أَنْ يقولَ شيئاً في مدحِ هذه البيداء .. ! "

.................................

أَحمَقُ هذا الرملُ .. من قَديمٍ يراوِحُ مكانه ، لايُغادر "مَلعَبه"، لايَمَلُّ ولا يَضْجَرُ من لُعبَةِ الكِثبانِ ... يُنَقِّلُها ، يُذريها .. يعودُ يُلَمْلمُها ويُبَعثرُها ، عَابِثٌ مثلَ مَخبولٍ ... يطمِرُ الآثارَ كَلِصٍّ ، لا يُخَلِّفُ وراءه بصمةً .. أم تُراه رَبيبَ القبائلِ وقطّاعِ الطُرُقِ والمحتلّين .. يسترُهم ويمحو آثارَهَم ، آثامَهم ..!!

وسطَ الهذيانِ وإختلاطِ الرؤى والمشاهدِ في رأسكَ ، سيقدحُ لكَ خاطرٌ ، قرأتَ مَرَّةً تحقيقاً بمجلةٍ إنكليزية عن عالم رياضيات وفيزياويٍّ هنديٍّ تجاوزَ التسعين ، يحتفظ بكامل قواه العقلية والجسمانية ، فأسَرَّ القراء بأنَّه إعتادَ ، منذ عقودٍ ، أَنْ يشرَبَ صباحاً ، قبلَ الفطورِ ، كوباً كاملاً من إدراره (بولِه) !! .. فيهتِفُ الخاطرُ من داخلِكَ : " وجدتَها !"
لكن ضِدَّه إستهجَنَ الفكرةَ مُتَعلِّلاً بأنكَ عندما تدخُلُ الحمّامَ لقضاءِ حاجةٍ صغيرة ، تقومُ بعدَها بغسلِ يديكَ
بالماءِ والصابون ، فكيف َ تشرَبُ ما يُبطِلُ وضوءَ المؤمن ، وما تغسِلُ يديكَ منه ؟!

على مَبعَدَةِ قَفْزَةٍ ثلاثيَّة ، يَستديرُ ما كانَ يوماً ساقيةً ، ناحيَةَ اليمين ، حيثُ إنكَثَبَ الرملُ عند المنعطفِ ..
فأَعلى كَتِفَ الساقية ، مما أوسَعَ قليلاً في الظلَّ الساقِطِ إلى القاع ... رُحتَ تهذي ، تزحفُ لتصِل إلى شريط
شحيحٍ من الظلِّ ، حَسِبتَه الخلاص .. فيما أَخَذَتْ حَوَاسُّكَ تَنحَسِرُ.. في الأُذنِ طَنينٌ مُتَّصِلٌ يشبه صريرَ بابٍ
قديمٍ .. تَفَطَّرَتِ الشفاه وزَحَفَ اليَباسُ من اللسانِ ومُقَدِّمَةِ الحَلْقِ إلى باطنهِ فأَكساهُ بما يُشبِه الصمغَ ، جَرَّبتَ
أَنْ تَتَمَطَّقَ ، فأُسقِطَ في يَدِكَ / حَلْقِكَ .. تَضَبَّبَت الرؤيةُ في عينيكَ ، كأَنَّ طَبَقَةً من الحليبِ صُبَّتْ على
نَظّاراتِكَ ورُحتِ تفركُها بين السَبّابَةِ والإبهام ، فما إِنجَلَتْ ..
ـ " عَطَشي ، الفُلفُلُ ، الذي أَهرَقَ دمعَ السما ، لَمّا ضَيَّعَتْ دوغلاتو(5) ، كانَ صغيراً يحبو ..
أَنا مُتعَبٌ .. لكنَّ بي فُضلَةً من حماقةٍ يُمكنُ أَنْ تَقهرَ الظمأَ ... "

حينَ وصَلتَ إلى الشريطِ المُرتجى ، أُصبتَ بخيبةٍ ، لأنه لا يُغطِّيكَ .. فرُحتَ تُلصِقُ ظهرَكَ بجدار الساقية ، مُمَدَّداً
على الخاصرةِ والكَتِفِ ... ولَمّا كان شريطُ الظلِّ بخيلاً ، رُحتَ تُفاوِضُ جِسمَكَ ، أيَّ جزءٍ منه يَصطبرُ أكثر
ولا يعرقِلُ عَمَلَ البقيَّةِ ... أخيراً تَقَرَّرَ أَنْ يكونَ الجزء من الركبتينِ فما دون ، تحتَ الشمسِ ..!
خلالَ ذلكَ وما بعده ، ستكون فَقَدتَ الإحساسَ بالزمن الفعلِيَّ .. ففي حالٍ من الهستيريا تغدو الدقائقُ دهراً
.. وما يَستَتبِعُها من نزفٍ عصبيٍّ يُربِكُ عملَ بقيّة الحواسِّ والأعضاء .
......................
......................
لَمْ يكن إيهاب قريباً منكَ .. كان مُنشغلاً عنكَ ، يَرقَبُ شبحاً لا يأتي ، يُمطِرُ روحَه والغيبَ شتائمَ وتقريعاتٍ
لا يسمعها ولا يعرفُ عنها أحدٌ ، إلاّ هو ! ويدخُلُ في حواراتٍ ، تَصِلُ حَدَّ السُبابِ ، مع نفسه ....!
كُنتَ تكره الـ "إمّا ؟ وإمّا ..؟ " لأنكَ ترى فيها فاشيَّةً .. لا تترك أمام الفرد ، إلاّ الإختيارَ بين واحد من
أمرين مُحددين مسبقاً ، وتُصادر بقيةَ الخيارات ...

الآنَ ستكون عمليَّاً ، لا نظريَّاً ، أمامَ خيارٍ مشابهٍ ، يستدعي منكَ حسماً ... إذْ لامفَرَّ أمامك! إما أنْ تَشرَبَ بَولَكَ فتفوزَ بفرصةٍ للبقاء على قيدِ الحياة ، أو تَهلَكَ في هذه البَرِّيَةِ فتكونَ وليمةً للعُقبان والحدآن .. ! ناديتَ على إيهاب ، لَمْ يسمعكَ ، ولم تبقَ لك طاقةٌ تصرخُ بها ..حاولتَ أَنْ تزحفَ بإتجاهه ، خانتكَ قواكَ .. لا مجالَ للتسويفِ والمماطلة إذن ، ستُفرِغُ مثانتكَ في قنينة البلاستيك ، وتشعرُ براحة لأنّكَ تخَلَّصتَ من ضغطٍ على جُرابِ المثانة .. لكنه لَمْ يُخَفِّفْ من ضغطِ ما هو أَلعَنُ ..!


سَتُمسِكُ بالقنينةِ ، تَتَأملُها ومحتواها .. أَتكونُ هذه آخرُ ما تَبَقّى لكَ كَيْ تبقى على قيدِ الحياةِ ؟ بعدَ أَن راوَغتَ
الموتَ وأَفلَتَّ من قبضتِه مراراً .. كانَ آخرها القصفُ بالغازات السامَّة في كردستانَ قبل بضعةِ أشهر .. ؟!
ستَصدِمُكَ رائحةُ أَمونيا نَفّاذةٌ ، فتَسُدَّ أَنفَكَ وتنتظرُ قليلاً ، عساها تتَبَخَّرُ ويبرَدَ السائلُ داكنُ الصُفرَةِ ، كريهُ
الرائحةِ ... يُفتَرَضُ به أَنْ يفعلَ مفعولَ " الإكسير "!
.............................
.............................

سَتُغمِضُ عينيكَ ، تحاولُ خداعَ ما بقيَ لكَ من حواسٍّ ، بِشُربِ سائلٍ مُحايدٍ ! يمكنكَ أَنْ تَبُلَّ به جَوفَكَ
، فَطَّرَه العَطَش !
بطيئاً ، بطيئاً .. تُقَرِّبُ القنينَةَ من فَمِكَ ، تَزكُمُكَ الرائحةُ اللعينةُ ... لكنَّ حاجتَكَ تَتآمرُ عليكَ وتُسَوِّغُ لكَ
التجريبَ ، على الأَقَلْ .. فَتَشُدَّ شَفَتَيْكَ على فمِ القنينة ، تَقْطَعُ التنفُّسَ ، تفادياً لما يُعَكِّرُ أَحشاءَكَ ... تَستَنْهضُ
من قاعِ كُهوفِ الماضي رائحةَ زهر الرازقي ، تخدَعُ بها حواسَّكَ ، فَستستجيبُ فوراً ...
يَقشَعِّرُّ جِلدُكَ كأَنَّ بردَ الصباحات اللذيذِ لامَسَه ، وقتَ كُنتَ تمرُّ بحدائقَ في الطريقِ إلى المخبَزِ ، لتشتري
خبزاً للفطورِ ، فتأسِرُكَ رائحةُ الزهرِ ، حتى تقطفَ واحدةً تضعها في جيبِكَ .. على أَمَلِ أَنْ تُعَطِّرَ بها رسالةً لماجدة
أو لأختها ناهدة ، تُلقيها لها في الدربِ لما تَعودُ من المدرَسَةِ ...

.......................

تَسحَبُ جرعةً صَغيرةً ، تُدَوِّرُها في فَمِكَ بسرعةٍ فَتَحرقُ طارفَ لسانِكَ مُلوحَةٌ فيها شيءٌ من الحُموضَةِ والمرارة..
تَتَحاملُ على نفسِكَ ، تُقنِعُها أَنّه دواءٌ ، كذلكَ الذي سَقَتْكَ أُمُّكَ إياه ، عندما مَرِضتَ وأَنتَ صغيرٌ ، فَسَدَّتْ
فَمَكَ بقوَّةٍ كي لا تَلفُظَه .. وراحتْ تُمَسِّدُ شَعرَكَ بحنوٍّ ، لتُقنِعَكَ بفائدته كي تَتَعافى بسرعةٍ ...

مَنْ لَكَ الآنَ في هذا الهَبَاء ، يربِتُ على كَتِفِكَ ، يُصَبِّرُكَ ..؟!
لا أَحدَ إِلاّكَ .. فأنظر إلى بدائلِكَ ، وتَصَرَّفْ !!
.......................
......................
ستقولُ لنفسِكَ .. هو دواءٌ ، حسب ! تَسُدُّ عينيكَ وتأخُذُ جرعَةً كبيرَةً تُرسِلُها إلى باطِنِكَ سريعاً ، قبلَ أَنْ
تستأنِفَ التنفُّس ...
تُفَكِّرُ لَوْ أَنَّ " السائلَ " اللعينَ كانَ أقلَّ حرارةً لأَمكنَ شربُه على نحوٍ أَسهَلْ !!
ما هي إلاَّ ثوانٍ .. شَعَرتَ بجوفِكَ يَغلي .. ثُمَّ تَحَوَّلَ إلى بُركانٍ ، راحَ يقذِفُ ما به من حِمَمٍ إلى أَعلى ...
حاولتَ مقاومتَه صَكَكْتَ على أَسنانِكَ ، وأَقفَلتَ فمَكَ بيديكَ الأثنتَيْنِ ونَزَفتَ تَعرُّقاً .. فما نَفَعَ ... إنفَجَرَ البركانُ وإجتاحَ كل َّ ما يعترِضُه ... مَصحوباً بـ"رَعدٍ" ، جَلَبَ إنتباهَ إيهاب ، فأسرَعَ يزحَفُ بإتجاهِكَ ..
شرَرٌ مَلأَ المشهدَ أمامَ ناظِرَيكَ ، فسَقَطَ رأسُكَ دونَ مُقاومَةٍ ، وأنتَ منبَطِحٌ على الأَرضِ ...
يا مَنْ سقطَ رأسُكَ على الأرض .. هل تَملِكُ شبراً من الأرض ..؟ أيَّةُ أَرضٍ ، أو حتى قبرٍ ؟!
......................
......................

+ هنا إنقَطَعَ " الفيلم " .. وعليكَ الآنَ أَنْ تُكمِلَ ..!!

* * *

ـ أحسَسْتُ ببرودَةٍ لذيذةٍ تُلامِسُ وجهي ، وقبلَ أَنْ أفتَحَ عينَيَّ ، فَتنغَرِزَ بهما إِبرُ الشمسِ ، تناهى إليَّ صوتُ إيهاب يُرَدِّدُ أَدعِيَةً وتَعاويذَ ،
لَمْ أسمعْ بها من قبلُ .. وبحركةٍ بطيئة ( slow motion ) أَفرَدتُ جفوني ، رأيتُه ينحني عندَ رأسي ،
يُظلِّلُه بسترته وبيده زمزميةُ ماءٍ ، خاكيةٌ كالتي كُنَّا نستخدمها في الجَبَلِ ... صبَّ حفنةَ ماءٍ منها على وجهي ، راحَ يَفرُكُه بيدٍ خَشنَةٍ ...
سَقاني جُرعَةً كريمةً ك..ااااادَتْ تُطفيءُ لَهيبَ جَوفي ، إلاَّ أَنه رَماها خاويةً ، وساعدني أَنْ أَجلِسَ ...
شَعَرتُ بقلبي يَنُطُّ مثلَ سنجابٍ مرعوبٍ ، أَمسَكتُ رأَسي بكلتا يدَيَّ ، محاولاً إستعادةَ ما مَرَّ ، وكَمْ من الوقتِ
إنقضى ...
كانتْ الشمسُ قد إحدَودَبتْ تَحتَضِنُ الأفقَ ، تُغويهِ لتَجُرَّه إلى مَخدَعِها ..
.......................

أكمِلي ، أنتِ ، لأَنَّ نَبَضي وتنفسي يتسارعانِ كُلَّما إستحضرتُ ذاكَ المساء ..!


+ ستأخذُ المساءَ حَروناً ، بجريرَةِ الفجرِ ، قنوعاً بالوردِ وحصافَةِ الزرع ، وستقولُ مَعَ نفسِكَ :" أَيها الزمنُ إِحمِني
من رَطانَةِ المجهولِ وهزائمَ تَتَلَفَّعُ ببطولَةٍ كاذبةٍ .. فَليَمُتْ النهارُ ساعةً ، ساعة .. وليَمُتْ العطَشُ قطرَةً ، قطرَة ، وليَمُتْ ما ليسَ لي
من اليقينِ تجربةً إِثرَ أُخرى ، على الجانبِ الآخر من بَحرِالمعرفَةِ ...
يا لِعَطَشي ، تتلوه الفلاةُ صلاةً للرملِ ، وترنيمةَ أَمَلٍ بنجاة .. ! "

أَنتَ الذي كُنتَ تريدُ إصطيادَ الأفُقِ ، ونَزَفتَ النَظَرَ.. ها قد نَفَقَ ، على شَفَقِ المدى ، نهارٌ مُترَعٌ بالتوجّسِ وغُبارِ الإنتظار ... وسيهطِلُ لَيلٌ آخَرُ مُوحِشٌ ٌبلا سُمّارٍ ، خالياً إلاّ من خَرَسِ وعدٍ بالعبورِ مَزمومٍ على نفسه .... فَعنْ قاربِ العُبورِ ،
نَأَتْ سواحِلُ الحدودِ في ضبابِ العَطَشِ ، وتَشَوُّشِ المشهد ..،
كانَ الوقتُ قد غدا عصراً يترنَّح شوقاً للغروب ...
سَتُحسُّ بِرَهبَةِ السكونِ في بَرِيَّةٍ موحشةٍ ، ضاقَ مداها .
وعندما تَمرُقُ الريح رَخِيَّةً ، فتُلامِسُ سحنَةَ الرملِ الكالحة ، تقعُ في مصيَدَةِ لظاه ، تشهَقُ ، تستغيثُ بغيمٍ
غابَ ، وإنْ حَظَرَ لا يُبالِـي .. ولايكترِثُ بطالِبِ نجدةٍ ...!

.............................
.............................

من هنا مَرَّتْ "رُكباناتٌ" و"دَشتاتٌ"(6) بعثَرَتها الريحُ في بحثِها عن طواحينَ للعِشقِ .... إِبتَلَعَ السرابُ كلَّ
شيءٍ ... لَمْ يُبقِ غيرَ حبلِ نجاةٍ قصيرٍ كالعُمرِ، وَوَسائدَ رملٍ خاليةً من النوم ، عافَهَا حتى النُعاس ...

ستَهمُسُ مع نفسِكَ حتى لا يسمعَكَ الصدى: " ياصحراءُ ، كوني كريمةً .. كوني رئيفَةًً .. كوني صغيرةً ، حتى نَعبُرَ ، مَرَّةً ، بسلامٍ .. ! فلا علاقَةَ لنا بالحربِ ، إلاّ بالكلام ... وشعاراتٍ ، لو حالَفَنا الحظُّ ، لَكُنّا ، في ,,غاراتٍ,, ليليةٍ ، لَطَّخْنا بها الجدرانَ..! فالكلامُ ما زال هُوَ الكلام .. لَمْ يتحوّل بَعدُ إلى رَصاصٍ ، أو إلى خُبزٍ وفاكهةٍ ، إلاّ لسَقْطِ المَتاع ! لذلكَ أَرخى عِيسُ الحاجةِ رِحالَه في مرابِعِنا ، يُقاسمُنا الإعصارَ والغُبارَ ...
نَرسِمُ على جَبينِ الرمل صورَةَ ظِلَّنا والمكانْ ، عَسَى ريحُ الصَبَا تَتَعثَّرُ ، ذاتَ تيهٍ ، فَتَرى أسماءنا زَجَّجَتْها البُرُوقُ والرُعودُ ، وتحملُها لأهلينا ، هَدَّهمُ الإنتظارُ ... سَيوزِّعُونَ الشرابَ النبيلَ وشَربَتَ الإسكنجبيلَ مثلَ المنشوراتِ السِريَّة .."
...........................

كنتما من فرطِ الإرهاقِ والتوجُّس تقولان الكلامَ جُمَلاً ممزَّقَةً لا تكتملُ ، حَفاظاً عليها من الترَهُّل وسط الهجير ، وتَقتيراً في رطوبة الحَلْقِ .. تتوسّلان الخَطوَ أًنْ ينتظر ، كـيْ تَلحَقا به ، تَعْرِجان .. فيروحُ ظلاّكما يُجَرجِرانكما بعدَ أَنْ فقدتما الرِسَنَ واللجامَ معاً ..
في اللحظاتِ الزُرقِ ، المتأرجحَةِ بينَ نهارٍ يُوَلِّي هارباً ، وبينَ مساءٍ يزحفُ مُتَسَلِّلاً من كَهفِهِ .. يَنثُرُ حشراتِ
الليلِ عليكما والنجومَ في خيمةِ الله ، سيأسُرُكَ الظمأُ في هذه الأرض المِعْطَاش ، رغم كل الإحتياط والتدبير !
إيهاب يَنُطُّ أَمامَكَ ويستحِثُّكَ على الإسراعِ ... تُريدُ أَنْ تُجاري خَطوَهُ ، لكنَّ قِواكَ الشارِدَةَ منكَ لَمْ تُطاوعكَ ... تَتَوقّفُ لإلتقاطِ أَنفاسٍ
راحتْ تتسارعُ ، فَجَفَّفَتْ بلعومكَ .....

وصلتما الدراجَةَ ... طارَ بها إيهاب ... كان هو الآخر يلهثُ مُغالباً تِنّينَ العطَشِ .. ! غيرَ مرةٍ كِدتَ تسقطُ
فيصيحُ بكَ أَنْ إمْسِكْ به بقوة ... كنتَ في صراعٍ مع نوبةِ دُوُارٍ خَلخَلَتْ بقايا قواكَ وتوازُنِكَ .. خلالَ ذلكَ
كانتْ الشمسُ قَدْ وَدَّعتِ الفلاةَ وإنسلَّتْ إلى مَخدعها ..
وعندما وصلتما القريةَ عائدَيْنِ لبيتِ إيهاب ، إستقبَلَتْكُما تظاهرةٌ من كلابِ القريةِ ، كانت شَرِسَةَ الطِباع ، تَتَقافَزُ للظَفَرِ بكما .
ولولا عصاكَ ،كنتَ تَهُشّها بها ، لَكانَتْ فازَتْ برجلِ واحدٍ منكما .
......................
من بابِ الدارِ صاحَ إيهاب منادياً سعيدة ... سَقَطَ عند المدخلِ يَصيحُ .. ماء ..!!
جاءت تركُضُ حافِيَةً ، حاسِرَةَ الرأسِ .. مُهَدَّلَةَ الزيقِ ، إنحَنَتْ عليهِ تَلطِمُ وجهها وتَصفِقُ كَفاً بأُخرى ...
قُلتَ لها " عَجِّلي بشربةِ ماءٍ " .. نهظَتْ مُسرِعَةً ، دونَ أَنْ تُكَلِّفَ نَفسَها عناء إلقاءِ نظرةٍ عليكَ .. كانتْ
مُرتَبِكةً ... إذْ رَأَتْ إيهاب مُلقىً على الأرضِ ، يُصدِرُ ما ليس يشبَهُ الشَخيرَ ، بلْ ما يصدُرُ عنْ ثورٍ يُنْحَرُ !
أَحضَرَتْ طاسةَ ماءٍ ، وكانت قد ألقَتْ إيشارباً خفيفاً على رأسها ..كَيفَ ما إتَّفّقَ . شَرِبَ .. إستعادَ أنفاسَه ببطءٍ
.. إلتَفَتَ ناحيتِكَ ، حيثُ كنتَ تَتّكأُ إلى الحائط جالساً بجانبه ، ناولَكَ الطاسةَ ، أنعَشَتْ برودَتَها مَواتَ "الروح ".
تََعاونْتَ مع سعيدة على حَملِ إيهاب إلى الغرفة ، حيثُ نامَ فوراً على بطنه ودفنَ وجهه في الوسادة .

...................................

فيما كنتَ تَجلِسُ على الحصير ، غير بعيدٍ عن بابِ الغرفة ، خَرَجتْ سعيدة منها مُكتَئبَةً .. قَرفَصَتْ إلى
جانبكَ صامتةً ، شاردةَ الذهنِ ، تُجَرِّحُ وجه الأرض بعودٍ ..
إبتلعَ الظلامُ حكايةَ البارحةِ ، إغبَرَّ القمرُ .. نَزَلَ من إرجوحته وإنسَلَّ في فراشه خلفَ الكُثبان .. إزدَرَدَ الليلُ نجومه .....
..............................
..............................

غداً سترحلُ ، تتأبَّطُ ذراعَ الريح .. وتبحثُ عنها في سرابِ بحرٍ من الرمل لا يحفَظُ عهداً ولا وعداً ،
تماما ًكالكتابة على وجه الماء ...
ـ ... سعيدة فيها كلُّ ما يستحقُّ التضحيةَ بالبلاغةِ ومزالقِ التأويل ..
فقد جاءتْ بعد الغروب ، وذهبتْ قبلَ الشروق ، وتَرَكَتْ في يديَّ حفنةً من التورياتِ ولَمْ تَعُدْ ... ربما لأنّني
لَمْ أعرف كيفَ أُقبِّلُ ساقها المَرمَرْ ... ربما لأننا ضَيَّعنا المسافةَ بيننا ، ولربما ما كانَ لَنا أَنْ نلتقي هاهنا ، على غيرِ مبعدَةٍ من برابرَةِ الليلِ ...
في ظُلمَةٍ لا تَنقُصها إلاّ ذئابُ البريَّةِ تَتَنادى .. كنتُ أَبحثُ عن حُلُمٍ ، فما
أَفلَحتُ إلاّ في الحصولِ على إيحاءٍ .. في يَقظَةِ حلم ..ٍ


* * *


+ في الصباحِ التالي أخبرَكَ إيهاب ، على صينيةِ الفُطورِ ، أنَّ العبورَ سيتمُّ هذا النهار دونَ عراقيل .. فمسؤول المَخفَركان في مأموريةٍ مفاجئةٍ أمس .. وسيكونُ اليومَ موجوداً ، وينقضي كل شيءٍ بخير ، إنْ شاءَ الله ..! وبالتالي لستما بحاجة إلى مناورةٍ مُرهِقَةٍ مثلَ يومِ أمس !!
رَبَتَ على كتِفكَ مُطَمِّناً ، فَرَفَعَتْ سعيدة وجهها ويديها إلى السماءِ بالدعاء لتحقيقِ ما نَوَيْتُما .. وعلى غَيرِ
إتفاقٍ صدرَ عنكَ وإيهاب "آمين "!
وبرهاناً على صِدقِ ما أَكّده ، لَمْ يُكَلِّفْ سعيدة بتحضيرِ زُوّادةٍ للطريق ، وإكتفى بقنينة ماء فقط !

...............................

رَكبتما الدراجةَ البخاريةَ ، حتى خَلَّفتما القريةَ وراءكما .. وصرتما على طريقٍ توصِلُ إلى المخفر الحدوديِّ
مباشرةً ...رَكَنَها خلفَ حائطِ طينٍ مُنهَدِمٍ ، وشَرَعتما تحسبانِ المسافةَ خَطوَاً بين ظِلٍّ ، تَجُرّانه وراءكما، وبنايةٍ
تأبى الإقترابَ المُشتَهى ..

.............................

تَتهامسانِ ، أَنتَ والعراءَ ، يداً بيد ْ ، تَتَقَدَّمان " غِلمان َ" الجرأَةِ في عبورٍ مُتَهَتِّكٍ ، لا يَعرِفُ الحِشمَة .. إِيهاب يَطُقُّ الأرضَ بعِكَّازه ، يَتَاَرجَحُ مثلَ عَقْعَقٍ يمشي على رجلٍ واحدةٍ .. يشيرُ لكَ أَنْ تَتْبَعَهُ دونَ أَنْ يلْتَفِتَ إليكَ . وحين لَوَّحَ حَرَسُ الحدودِ لكما بيده ، فيما يشبه المَسخَرَةَ ، إِنتفضَ الشَكُّ بداخلِكَ ، حَسِبتَها مؤامرةً للوقيعةِ بكَ ...
ماذا لوْ أَنَّ الحارِسَ غيَّرَ رأيَه فأطلَقَ النارَ عليكَ في الظَهر ..؟!
................................
لِلغَيبِ ، فرسُخٌ بَقِيَ .. بَعدَهُ خُطُواتٍ من غيبوبَةِ مجهولٍ .. تراهُ قَنّاصاً يَنتَظِرُ في العَراء .. إِيهابُ ، يُلَوِّحُ
بأِشاراتٍ من تَورِيَةٍ ، تَستَعصي على أُمِيَّتِكَ .. فما حَفِظتَ شيئاً من مَجازِ الكَمَأِ ، ولا من غُبارِ مَعنىً ،
يَستُرُ طَلاسِمَ غَدِ الدَسيسَةِ المُضْمَرِ ...
........................
.........................

لَمْ يَبقَ لكَ سوى بضعةِ خُطواتٍ تكفي لنَقلِكَ من تيهِ العذابِ هذا ، لِتَذرَعَ الغُموضَ بسَحنَةِ الرملِ ، مُبتَهِجاً
، فتَحِلَّ رِباطَ عُلَبِ الذكرى .. تُحدِّقَ في المَدى ، عَلَّ إستراحةً من الشَدِّ تُوافيكَ ، مثلَ كلبٍ عجوزٍ ، يُسَلِّمُ
كوابيسه للنسيانِ وينامُ .. كي تَسترجِعَ وجوهاً ظَلَّتْ نَظِرَةً لأَنَّ الغائبَ لا يشيخ ، وجوهاً سَقَطَتْ من جيبوبكَ في طُرُقاتِ الرحيلِ ، ولَمْ تَعُدْ إليكَ .
.................................

ـ ها نحنُ في حُضنِ الرَملِ والهباءِ .. نَذرَعُ مَجاهيلَ الخواتيمَ السبعة ، دونَ ندىً يغسِلُ الجِباهَ ، ولا حصىً أملَسَ تحتَ اللسانِ ..
يَستَحلِبُ الرِضابَ من سيفِ اليَباس .. لا شَجَرَ في المنتهى ، سوى سِدرَةِ الغَيهبِ ، صَقيلَةً ، بَشُوشَةً ، نصعَدُها بِسُلَّمٍ من لَهيبِ الخَزَّافِ ...
عالمٌ مسكونٌ بالرهبةِ والتوجُّسِ ...
وساوسُ تَندلِقُ من دهاليزِ " المُمكِنِ " دونَ رادعٍ من مَنطِقٍ شَرَّقَه العطش !
هُنا قاتلي الحُلو .... وهناكَ خَلاصيَ المشؤوم ..!

هنيئاً لـ"القَدَرِ "، يَستنبِتُ وُجُودَهُ من جديدٍ .. فقد وَصَلنا ، نحنُ صَيْدَهُ ، إِذْ شاخَ ينتظِرُنا ..

سنَجتازُ خطَّ العبور ، مُرتَجِفُ الخافِقِ أنا ، تَعبَثُ بيَ الريحُ مثلما تفعَلُ بكيسٍ مِنْ وَرَقٍ .. رجلايَ ترتعشانِ ،
فأروحُ أَذْرِي وَجَلي في عتمَةِ الضوء ، نظَراتي مُثبِّتةًٌ على إيهاب يَنُطُّ قُدّامَي ، حتى يقِفَ ويُخرِجَ من جيبه قُصاصةً تحمِلُ الإشارةَ المُتَّفَقِ عليها ، كي أَخُطَّ الجوابَ وأُوَقِّعَ ... ولأنَّني لَمْ أُصدِّقْ الأمر .. جَرَرْتُه إلى مسافةٍ أُخرى ، ظِنَنتُ أَنَّنا صِرنا خارجَ مرمى حُرّاس الحدود ... لَمْ يفهم لماذا ، لكنه أَطاعَ وعِكّازَه ، ليضمنَ التوقيع ، فمن دونه لنْ يحصلَ على الفلوس !


ألفُ مبروكٍ لمَنْ رَكِبَ الريحَ ، ولَمْ تَكْتَرِثْ له حدودٌ أو يكْتَرِثْ لعبورٍ .. !!

تَخشَّبَ فَمِي .. سألتُه عن حفنةِ ماءٍ ، فأوضحَ أَنَّ مهمته إنتهتْ ههنا وسيعود ، فيما سيتكفَّلُ الآخر ببقية
الأمر . أَشارَ إلى ما يُشبِه الفزّاعة ، يقف في البعيد مع دراجةٍ بخارية.. يعتمرُ عمامةً أَفغانيّةً ، لَفَّ طَرَفاً منها
على وجهه بما يُشبِه الخِمارَ ... لَوَّحَ لنا من البُعد ، رافِعاً إلى الأعلى ، ما لا شَكَّ في أَنه كلاشن ..

حاوَلتُ أَنْ أأتَلِفَ مع المَشهد ... أنسى ، فأعود أَأتَلِفُ !
ركِبني بَغلُ الفَزَعِ ، فَجفَّتْ رَغبتي في مواصلةِ المشوار ... لكن أَينَ البديلْ ؟
خلفي جبهةُ حربٍ ، لَمَّا تزلْ بكامل "عافيتها " وقيافَتها تُشعِلُ السماءَ وتحرقُ المدى ..وما بينهما !
فصواريخ صدام تجاوَزَتْ طهران لتصل " مَشهَد "، أو تكاد ، كُنّا نسمعُ أصواتَ إنفجاراتها في البعيد ... وأمامي حربٌ أَهلية ،
سأكون دونَ إرادةٍ مني ، عدواً لأحدُ أطرافها .. إذا نَجَوتُ وحَلَلْتُ ظيفاً عندَ الآخر ...
+ ستَضرَعُ إلى نفسِكَ بتَوَجُّسٍ عامِرٍ باللُهاثِ والعَطَشِ ..
سَتَمضي في الفراغاتِ بينَ الكلماتِ ، مُبارِكاً الصدفَةَ ، دونَ رياء .. تُقايضُ الرملَ بآخر ، والعطَشَ بما هوَ خافٍ
، كَمَّمَته " الأقدار "..

ما دُمتَ وَصَلتَ ، هَهُنا ... هذه أَبوابُ الهلاكِ مُتَبَرِّجَةً ، فما نَفعُكَ بأكياسِ الماضي ؟!
لا القهقَرى فيها نَفعٌ ، ولا نَسرٌ يُشيرُ بجناحٍ لِهاجِسٍ رَضِيٍّ !
إرفَعْ رايَتَكَ بيضاءَ لَمّا تَحضرُ الذِكرى ، تَكِرُّ حَبَّاتِها .... بعدَ أُخرى .. لا تَنفَعُ مَعَها سُفْرَةٌ من الأطايِبِ
والمازاتِ .. لأنّها ، ببساطةٍ ، ستُهيلُ عليكَ تُرابَها ، حاسِراً بِلا كَفَنٍ ..

ستَظَلُّ تُراوِحُ في بُرزُخِ الظمأِ ... في النفيرِ الصامِتِ للضروراتِ ، تَتَمَلَّقُ لا أُبالِيَّةَ حَيرَتِكَ ، بلا كتابٍ ، بلا
مرآةٍ .. تَسرُقُ لُقمَةَ العَقلِ ، في هذا الرملِ المخبولِ والظهيرَةِ الرَعناء ، يَئِسَ من إِشفائها العَطَّارُ ... فما فَتِئتْ تُحاوِلُ ، بمجونٍ ،
إنضاجَ ثَمَرِ الصِلصَالِ العاصي .. تَستَحلِبُ دمعَ صخورِ كريتر !
................................

إِرمِ شُصَّكَ في الهواء .. فهذا بَحرٌ أيضاً ، عَلَّكَ تَصطادُ غَيْمَةً ضالَّةً ... إِسحَبْها ، مثلَ طيَّارَةٍ وَرَقِيِّةٍ .. خَلِّها في عَينِ الشمسِ ..
قَدْ تُظَلِّلُكَ من " مَطَرِ القيامة " هذا ..
.................................

أَيكونُ سلفادور دالي مَرَّ من هنا ، يسحَلُ ساعاتِه وزمنه خلفَه .. أَسَالَهَا جمرُ الباديةِ ، فنَشَرَها لِتَجِفَّ
فوقَ الأغصانِ وحِبال الغسيل ؟!!

إنْ أَتاكَ الوجعُ نهاراً ، تَتَشاغَلُ عنه بأيِّ شيءٍ ... ماذا تَفعَلُ إِنْ تَرَبَّعَ على جِفونكَ عُتمَةً ؟! أَينَ تَهرَبُ منه إِِنْ ظَلَّ يَنْقُرُ قَحْفَكَ بمِطارِقَ ،
تُتْعِبُ الوَعيَ .. ولا أَريكَةَ لِلراحَةِ ....

تَهَجَّسْ ! وإهمِسْ صُراخَكَ .. فالصحراءُ ليستْ لكَ ، وكذا الرملُ ....
لكَ العبورُ فقط ، إلى ما ليسَ لكَ ، حيثُ تتساوى الشُبهةُ بالقَدَرِ ...
تأَبّطِ الصحوَ حتى آخرِ الغيبِ ...
وإقطعِ المَلهاةَ خطوةً ، خُطوَة ، حتى إكتمالِ النُذورِ بلاغَةً .. فالمَغيبُ غوايةُ المآذنِ ..
................................
................................

فإذا بِغَدِكَ يَغمِزُكَ ، ويحرِّضُكَ على الهرولَةِ للغَيبِ ، مُلَثَّمَاً .. هناكَ على ظهرِ دراجةٍ بخاريةٍ ...







ـــــــــــــــ



(5) دوغلاتو ، بالأكديَّةِ ، تعني دجلة ( الجبّار، الهادر، العظيم ).. تقولُ الأسطورة أنه كانَ طِفلَ السماء ...
(6) " الرُكبان " و " الدَشْتْ " من المقامات الشرقية المُُثيرة للشَجَن ...



#يحيى_علوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فصل من كتاب (2-3)
- يتيم
- سَجَرتُ تَنّورَ الذكرى
- كتاب - حوارات المنفيين -
- كتاب - أَيها القناع الصغير، أَعرِفُكَ جيداً -
- كتاب - همس - الجثة لاتسبح ضد التيار
- مونولوج لابنِ الجبابرة *
- لِلعَتمَةِ ذُبالَتي !
- حَسَدْ
- شمعةُ أُمي ، دَمعةُ أَبي
- يوغا
- هاجِرْ
- مَنْ نحنُ ؟!
- نُثار (5)
- شبَّاك
- سلاماً أيُها الأَرَقُ
- نُثار ( 4 )
- أَسئلةٌ حَيْرى
- نُثار ( 3 )
- نُثار ( 2 )


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - يتيم (3)