أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - كتاب - حوارات المنفيين -















المزيد.....



كتاب - حوارات المنفيين -


يحيى علوان

الحوار المتمدن-العدد: 3108 - 2010 / 8 / 28 - 09:38
المحور: الادب والفن
    



حوارات المنفيين


حوارات المنفيين
تأليف: برتولد بريشت
نقلها إلى العربية: يحيى علوان
الناشر: دار كنعان
للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية
جميع الحقوق محفوظة
دمشق – ص.ب 443 هاتف: 2134433 (11 - 963 +)
فاكس: 3314455 – 2134433 (11 - 963 +)
E-mail: [email protected]
الطبعة الثانية: 2004 / عدد النسخ 1000
إخراج: لبنى حمد

يمكن الاطلاع على كتب الدار ومنشوراتها
على صفحة الشبكة التالية:
http://www.furat.com


برتولد بريشت




حوارات المنفيين



نقلها عن الألمانية
يحيـى علــوان

m

ليس هذا نصاً مسرحياً أو قصيدة أو مقالة في علم الجمال.. إنه نص جديد لم يألفه القارئ العربي عن بريشت، نص نثري فريد من نوعه، يُجسّد معاناة فنان ، أمضى القسم الأكبر من حياته الفنية - الإبداعية في المهجر منفياً، بعيداً عن وطنه وجمهوره –قراءً ومشاهدين- مجبراً ومختاراً. مجبراً بفعل مناهضته للبربرية النازية، التي رأى فيها غولاً يهدد البشرية والحضارة الإنسانية بالمسخ.. ومختاراً لأنه فضّل المنفى والمهجر على القنوط داخل الوطن.
لقد اختار برتولد بريشت المنفى من أجل هدف مركزي. فبعد أن تعذّرت عليه مواصلة العيش والنضال ضد النازية في ألمانيا، هاجر ليواصل النضال ضدها، بكل ما أُوتي به من إمكانيات، لفضحها والمساعدة على دحرها.
تعذّر عليه البقاء في ألمانيا بعد أن جاء النازيون إلى السلطة في مطلع 1933، ومنعوا طباعة وعرض المسرحية الساخرة، التي كان قد أعدها لـ »فولكس بوينه« (مسرح الشعب) تحت عنوان »رؤوس مستديرة ورؤوس مدببة«. وهي من المسرحيات التي تسخر من النازية.
وعندما نظّم النازيون مهزلة حرق الرايخستاغ في 27 / 2 / 1933، شمّ بريشت رائحة الخطر، وأدرك أنهم سيشنون حملة رسمية سافرة ضد الشيوعيين وكل الديمقراطيين والمناهضين للفاشية، وهو ما حدث فعلاً. في اليوم التالي لذلك، حزم حقائبه، وترك البلاد إلى براغ هرباً من النازيين. ومنذ ذلك التاريخ بدأت رحلته في المنفى، التي قاربت (18) عاماً. ابتدأها ببراغ، ومنها إلى فينا وزيورخ، فإلى الدنيمارك والسويد وفنلندا، ومن هناك إلى أمريكا.
حتى في المهجر لم يكن بريشت بمنأى عن المضايقات. ففي الدنيمارك، كانت الشرطة تراقب اللاجئين عن كثب، وكان رئيس الشرطة في كوبنهاغن على اتصال دائم بنظيره في برلين. لكن كل المحاولات، التي بذلها النازيون لحمل الحكومة الدنيماركية على تسليمها اللاجئين السياسيين، لا سيما بريشت، لم تنجح، إذ كانت السلطات هناك ترد برفض حازم. وفي الولايات المتحدة، استُدعي في 19 / 9 / 1947 للمثول أمام »لجنة النشاط المعادي لأمريكا«(*) سيئة الصيت.
إن بريشت، الذي كان قد ناضل ضد هتلر والنازية في وطنه، لم يتوخّ من المهجر سوى متابعة ذلك النضال. وقد أخذ على عاتقه مهمة أساسية، هي تحطيم العدو. لذلك انكبَ على العمل فوراً دون أن يحيد عن هذا الهدف، ودون أن يدع مجالاً لما يلهيه عن ذلك. كان ينظر بجدية ومسؤولية إلى دوره ككاتب، مما جعله يستخدم كل الأسلحة في مهاجمة قلاع البربرية. ففي صيف 1933 زار باريس وقدم عمل الباليه الذي كتبه باسم »الخطايا السبع الرئيسية للبرجوازيين الصغار«. وفي نفس العام نَقّح مسودات مسرحية »رؤوس مستديرة ورؤوس مدببة«، التي هرّبها معه عندما غادر ألمانيا ونشرها في الدنيمارك. وفي العام التالي (1934) نشر في باريس مجموعة شعرية عنوانها »أغنيات، قصائد وأناشيد«. وفي نفس العام صدرت له في أمستردام »القروش الثلاثة«، التي أعدَّ فيما بعد عنها مسرحية »أوبرا القروش الثلاثة«.
ومثل عدد كبير من اللاجئين الألمان، بقي بريشت متعلقاً بوطنه، في انتظار يوم العودة. يرصد أقل تغيير، ويُمطر بأسئلته كل قادم جديد. في البداية اعتقد أن سفره مؤقت، وهجرته لن تدوم طويلاً فكتب قصيدته الشهيرة:
»لا تدق مسماراً في الجدار
ارمِ بمعطفك فوق الكرسي!
لماذا تتموّن لأربعة أيام
وأنت عائد غداً؟.. إلخ«
وهكذا نراه يجهد دائماً للتحدث إلى مواطنيه، إلى المنفيين في الخارج و»المنفيين« في الداخل ليشد أزرهم للوقوف بوجه الفاشية. وكانت تلح عليه وتشغله فكرة الاتصال بهم في الداخل، عن طريق برامج إذاعية سرية! أو عن طريق بيانات ومنشورات تدخل إلى ألمانيا سراً! ونظراً لصعوبات إدخال تلك المنشورات إلى الوطن، ومن ثم توزيعها، كتب بريشت سلسلة من التعليمات عن الدعاية السرية تحت عنوان: »المصاعب الخمس إزاء كتابة الحقيقة« قال فيها:
»من الضروري التحلّي بشجاعة كتابة الحقيقة حيثما قُمعت، والتعرف عليها بدهاء مهما كان مخبؤها مستعصياً، وبفن تحويلها إلى سلاح، وباحتيال يُمكِّن من بثّها، وبالبصيرة الضرورية لاختيار أولئك الذين ستكون الحقيقة أكثر فاعلية بأيديهم«.
إزاء ذلك كله، راح يعمل بدأب وجهادية عالية. وتشير مشاريعه المسرحية العديدة، التي تعود إلى تلك الفترة إلى أن سؤالاً وحيداً كان يتملّكهُ: كيف يمكن إلحاق الهزيمة بالنازية؟ غير هيّاب بمصاعب الحصول على الإقامة، وشظف العيش، وغياب المسرح الملائم لعرض مسرحياته، وتناقص إمكانيات نشر أعماله.. إلخ.
كتب فويشت فاغنر(*)
»إذا كان المنفى قد سحق بعض الناس وحوّلهم إلى يائسين وخُبثاء، فإنه في الوقت نفسه، صلّب من عزيمة الآخرين وجعلهم أكبر حجماً«.
كان برتولد بريشت من هذا النوع الأخير. فخلافاً لبعض المنفيين الألمان، الذين فقدوا شجاعتهم، وبلغ اليأس بهم حد الانتحار، كانت تجربة تلك السنوات بالنسبة له ولتوماس مان وغيرهما، تجربة مثمرة ومشددة للعزائم. ومنها اكتسب بريشت قوة معنوية. كما كانت عاملاً في شحذ مواهبه. في المنفى كتب أعماله الأكثر جمالاً والأكثر غنىً. فإلى سنوات نهاية الثلاثينات ترقى مسرحية »حياة غاليلي« و»صعود آرتورو إوي« و»إنسان سي تشوان الطيب«، إضافة إلى العديد من الدراسات والقصائد. وأضاف إلى ذلك خلال إقامته في أمريكا مسرحيات أخرى مثل »رُؤى سيمون ماشار« و»شفَيَك في الحرب العالمية الثانية« و»دائرة الطباشير القوقازية«.
كان بريشت على قناعة راسخة بأن النصر سيتحقق ذات يوم، وبأنه سيكون نصراً تفرضه الإرادة الشعبية. وهكذا التقت تربيته السياسية وإيمانه العميق وإنسانيته ليعطياه قوة هائلة خلال تلك السنين، حين كان من السهل جداً أن يسقط المنفيون -وهذا ما حصل فعلاً للكثيرين- ضحية للتشاؤم والكآبة واليأس. كان يقول للمحبطين واليائسين والمتسائلين: على مَنْ نتّكِل: »لا تتكلوا على أحد غيركم!«.
هذا لا يعني أن بريشت كان على الدوام في منجى من الأسى والشك والمرارة. لكنه كان يمتلك ميزة ثمينة، تِلكمُ هي روح الفكاهة والمرح، المرح الجاد والمتبَصِّر والواقعي، الذي يمتلكه عادة ذوو البصيرة. مثل هذا المرح كان بالنسبة له »ترياقاً« قوياً ضد الانهيار.
إذ كان يعرف ويدرك أنه إزاء وضع مأساوي. لكنه كان يرفض الاعتقاد بأن الفجيعة هي المصير الأخير والعبء الحتمي، الذي لا مفر منه.
كان يحارب اليأس والتخاذل أمام الصعاب ويخوض نقاشات حادة ومطوّلة مع أبناء وطنه، سواء مَنْ كانوا في المهجر أم مَنْ بقوا في ألمانيا. وفي هذا الصدد كتب إلى »مَنْ خانته شجاعته«.
»إن وضعنا أسوأ مما كنا نعتقد: فإذا لم نُنجز أفعالاً تفوق قدرة البشر، فسيكون الضياع مصيرنا. تقولُ: لقد ناضلت كثيراً ولم أعد قادراً على النضال.. فاسمع ما أقوله لك: إِنْ لم تعد قادراً على النضال ستهلك، سواء كان الخطأ خطأك أم لا«.
وبكلمات أكثر حدّة كتب بريشت إلى زميله السابق هاينرش جورج، الذي أصبح رجعياً متعاوناً مع النازية، كتب إليه طالباً منه التدخل لصالح ممثل آخر هو هانس أوتو، الذي علم بريشت بأنه اعتُقِلَ وعُذِّب قبل أن يغتاله النازيون:
»يبدو أنه لا يمكن الظن بأن لديك أدنى اعتراض على النظام الراهن. لقد قيلَ لنا أنك سرعان مع اعترفت بالخطأ، الذي اقترفته باحتكاكِكَ بنا، نحن معشر الشيوعيين، لفترة من الزمن.. لا تنسى أن الزمن يتغيّر وأنكَ كنتَ مخطئاً – أنت وكل الذين على شاكلتكَ – حين تعتقد بديمومة البربرية وعدم إمكانية قهر الجزّارين«.
ومهما كانت صلتهم حميمة به، فإن بريشت لم يهادن ولم يتهاون مع أولئك الذين كان يعتقد أنهم خانوه وخانوا قضيته. فها هو كارل كراوس –الناقد النمساوي الكبير، الذي كان قد دافع عنه بصلابة في صحيفة »دي فاكل« (المِشعَلْ«، والذي كان بريشت يقدره عالياً، ها هو قد صمت في مواجهة الرعب النازي. فَفهِمَ بريشت صمته آنذاك على أنه إدانة للنازية فكتبَ قصيدة جاء فيها:
»حين يعتذر الإنسان الفصيح لأنه فقد صوته
يظهر الصمت على المنصة،
ينزع القناع الذي يُخفيه ويصرخ:
أنا شاهد!«
ولكن قبل أن تصل القصيدة كراوس، تكلّم هذا الأخير مؤيداً المستشار النمساوي دولفوس، ضد الاشتراكيين الديمقراطيين، الذين راحوا ضحية لانقلاب 1934 حيث هُزموا وذُبحوا. نطق كراوس بعد صمته، مُندّداً بالألمان، الذين »هجروا وطنهم«.. عندئذ كتب بريشت:
»لقد شهد ضد أولئك الذين أُرغموا على الصمت،
أدان المقتولين،
ومَجّدَ القَتَلة،
يا له من زمن ترتجفون منه خوفاً،
زمن يصبح فيه الإنسان الشجاع،
-إن كان مُقيماً في جهله-
عاجزاً عن انتظار الوقت القصير
الضروري لتمجيد أعماله الخيّرة«
كان بريشت يتمتع بنظرة علمية ثاقبة، مكّنته من التفاؤل الثوري. لم يُقيّم الأحداث والأمور في حالة »سكون«. ومن هذا المنطلق كان مناضلاً صلباً، لم تثنه الصعاب عن الدعوة إلى النضال والعمل الدؤوب لدحر الفاشية، فحارب اللامبالاة والتشكيك بجدوى كل شيء. ذلك أنه آمن بأن الشك وفقدان الثقة بالنصر، آفة تصيب المناضل وتبعده عن الهدف الأساسي. في هذا الصدد يشير بريشت إلى الفكرة ذاتها في مسرحية »بنادق الأم كرار«(*)، حيث نرى الأم كرار وشقيقها بيدرو وابنها معتقلين في فرنسا، بمعسكر. أحد حراس المعسكر يخاطب بيدرو متشككاً بجدوى المعارك، التي يخوضها الإسبان دفاعاً عن الجمهورية، فيجيبه بيدرو، مشيراً إلى أخته الأم كرار:
»هي أيضاً تساءلت عن جدوى الكفاح، ولم تستمر على تساؤلها حتى النهاية. لكنها تساءلت فترة من الزمن. آخرون مثلها تساءلوا زمناً طويلاً، وحتى النهاية تقريباً. نحن لم نُهزم إلا لأنهم تساءلوا زمناً طويلاً. هل فهمت؟ وأنتَ أيضاً، إذا ما تساءلتَ طويلاً، سوف تهزم مثلما هُزمنا نحن«.
* * *
في هذا الكتاب »حوارات المنفيين« نجد واحداً من الذرى التي أبدعها بريشت وبشكل فني آخّاذ في تعرية الفاشية والسخرية منها والحط من شأنها. كتب فريدريك أُوين في كتابه القيم »برتولد بريشت حياته، فنه وعصره« يقول:
»نادرة هي الكتب، التي تجلّى فيها ذكاء بريشت وحيوية ذهنه بشكل أكثر إشعاعاً وأكثر إمتاعاً مما تجليا في كتابه –حوارات المنفيين- الذي كتبه عام 1941 في فنلندا ونشر بعد وفاته. إن هذا الكتاب يكشف لنا أصالة بريشت أكثر من أي كتاب آخر.. إنه يسحرنا خاصة بسبب اللذة التي يستشعرها إزاء التأمل التجريبي«.
في هذا الكتاب يعرض لنا بريشت شخصين غريبين لاجئين من ألمانيا النازية، يلتقيان في مطعم بمحطة القطار في هلسنكي. أحدهما طويل، بدين، أبيض اليدين. إنه تسيفل، عالم الفيزياء، أما الثاني فهو نحيف، صغير الحجم وله يدا عامل تعدين. إنه كالا. وعلى الرغم من أن الأول، هو الذي يمثل بريشت كما يبدو ظاهرياً، من خلال بعض التفصيلات الذاتية، التي يمر على ذكرها هنا وهناك أثناء الحوارات والتداعيات- فإن الاثنين ينطقان بلسان بريشت وأفكاره. فمهما اختلفا، نراهما لا يتقاطعان، وسرعان ما يتفقان.
أما حواراتهما، التي تتناول أموراً عديدة، شخصية وسياسية واجتماعية وتاريخية، فلسفية وأخلاقية.. إلخ فإنها تعبر عن تلك المقدرة الفريدة، التي مكّنت بريشت من التعبير بكلمات مبسطة و»عادية« عن أعمق المواضيع والأفكار.
اتّبع برتولد بريشت في صياغة كتابه هذا، إسلوب التهكم والفكاهة والسخرية اللاذعة، بعد أن استعصى عليه التعبير بأسلوب آخر –كما أظن- عما يريده، بحيث يشعر بفرح وسرور غامرين. وهكذا نراه إختار هذا الشكل، الذي يذكر ببيتهوفن وسيمفونيته التاسعة، عندما أدخل لأول مرة –في تاريخ التأليف السيمفوني- مقطعاً مغنى، نشيد الفرح لشيلر. إذ يقول العارفون بشؤون الموسيقى الكلاسيكية، أن بيتهوفن لجأ إلى ذلك بعد أن أدخل كل الآلات الموسيقية، فوجدها قاصرة عن التعبير عما كان يعتمل بداخله من أفكار. فلم يجد بُداً من الخروج عن الشكل السائد آنذاك، فأحدث ما سُمّي فيما بعد »ثورة« في التأليف السمفوني. وإذا لم أكن مغالياً، فإني أجد بريشت، في كتابه هذا، فعل الشيء ذاته، إذ اختار شكلاً مناسباً حرّر فرحته، وأتاح له العزف على كل »الآلات«.. الهزل، التهكم، السخرية والتغريب.. ليصل إلى ما أراد.
على هذا النحو هيمن على الموضوع ببراعة لاعب ماهر، وقدرة أستاذ متمّكن. فكانت اللغة طيّعة بين يديه لخدمة الفكرة، التي أراد إيصالها: تسفيه الفاشية والنازية وفضح أفكارها وممارساتها. وفي الوقت ذاته الدفاع عن المبادئ الإنسانية بشكل فني بعيد عن الهتافات المباشرة والفجّة. بتهكمه وسخريته المحرّضة، رسم لنا ملامح شخصيتين عاشتا خراب الفاشية وحروبها، يتحاوران حواراً مفتوحاً على التداعي، بما يقرب من الهذيان أحياناً، لكنه ليس كذلك.
استخدم بريشت في كتابه هذا أسلوباً أقرب إلى »السهل الممتنع«. إذ غالباً ما اعتمد مفردات ذات جرس واحد أو متقارب، لكنها ثنائية المعنى وذات معاني متغايرة تماماً. وليس من النادر في هذا النص، أن يجد مَنْ يطالعه باللغة الألمانية، أن التهكم والسخرية لا يكمنان في الفكرة أو ما يسوقه من طرائف، إنما –أيضاً- في طريقة التعبير عنها، وذلك باختيار، وإقامة تراكيب وعلاقات بين بعض المفردات أو أجزاء منها أحياناً، تُعطي مدلولات مختلفة.. فتأتي السخرية طازجة، لاذعة، تُشفي الغليل، فكيف بها بالنسبة لمن كتبَهَا؟!
وفي هذا الكتاب، كما في غيره، نجد أن بريشت يعتمد المنظور العلمي، سواء في رصده للظواهر والأحداث أو في تقييمها، وصياغة الموقف منها. إلا أنه لم يعرض ذلك بأسلوب تحليل أكاديمي أ ومدرسي، إنما اختار أسلوباً فريداً من نوعه، وغير مألوف كثيراً بالنسبة لدائرة واسعة من قراء العربية.
رب مَنْ يتساءل فيما إذا كان التهكم والسخرية الوسيلة الأكثر فاعلية من غيرها للكشف عن طبيعة الفاشية والتصدي لاستشرائها.. يقيناً أن بريشت كان يعي هذا جيداً، وهو أمر يشهد عليه تنوع أعماله وتعدد الأشكال الجديدة، التي اتبعها خلال السنوات التي أمضاها في منافيه. لذلك يجب النظر إلى هذا العمل بالارتباط مع كل نشاط بريشت الفني – الإبداعي، وليس بمعزلٍ عنه. غير أننا نلاحظ أن هذا العمل يختلف في شكله عما سبقه وما تلاه من أعمال.
وأخيراً لا أزعم أني بهذه الترجمة، أوفيتُ النص حقه. فهو كما أشرتُ سابقاً »السهل الممتنع«، الذي يصعب نقله إلى أية لغةٍ أخرى، دون التفريط ببعض من جماليته. ذلك أن بريشت يستخدم هنا تراكيب لغوية خاصة به ويقيم، كما أسلفت، علاقات متنوعة بين المفردات –وهو أمر توفره اللغة الألمانية لأنها تعتمد التركيب- لا تتوفر في الإنكليزية أو العربية مثلاً.
وعليه فإذا وجد القارئ بعضاً من المتعة فيما أضعه بين يديه، وما حرصت على نقله بأمانة للحفاظ على روحه، سأكون قد وُفّقتُ إلى جزء من هذه المهمة، التي لا أعتبرها يسيرة في هذا النص، على أية حال.

يحيى علوان







1
حول الجوازات /
وتكافؤ البيرة والسيكار/
وحب النظام






(التهمت لعنة الحرب نصف أوروبا.. وكانت ما تزال فتيةً وجميلة، تُفكّر بالقفز إلى أمريكا.. عندما التقى في مطعم هليسنكفورس رجلان، كانا يتطلعان حولهما بحذر، ويتحدثان بشؤون السياسة. كان الأول طويلاً وبديناً وله يدان ناصعتا البياض. أما الآخر فكان نحيفاً وله يدا عامل تعدين. رفع البدين كأس البيرة ونظر إليه متفحصاً):

البدين: يمكن للبيرة أن تكون شيئاً آخر غير البيرة، ويمكن للسيكار أن يكون شيئاً آخر غير السيكار، إلا أن جواز السفر يجب أن يكون جوازاً حقيقياً، كي يُسمح لحامله بدخول بلدٍ ما.
النحيف: جواز السفر أثمن جزء في الإنسان فلا يُصنع بنفس السهولة التي يُصنع بها إنسان. فالإنسان يمكن أن يُصنع في أي مكان وبكل رعونه وبدون سبب معقول، غير أن جواز السفر ليس كذلك أبداً. لذلك يُعترف به عندما يكون جيداً، في حين لا يُعترف بالإنسان مهما كان جيداً.
البدين: يمكننا القول أن الإنسان ما هو إلا حامل آلي للجواز. إذّ يُدَسُ في جيبه كما تودع الوثائق والمستندات الثمينة في الخزانة الحديدية، التي لا قيمة لها سوى أنها تحوي أشياء ثمينة.
النحيف: ومع ذلك يمكن للمرء أن يدعي بأن الإنسان ضروري للجواز بمعنى من المعاني. الجواز هو الشيء الأساسي وعليك أن تخلع قبعتك احتراماً له. ولكن بدون أن يكون هناك إنسان تابع لا يمكن أن يحقق وجوده، أو قل لا يمكن أن يحقق وجوده كاملاً. تماماً كما هي الحال بالنسبة للطبيب الجرّاح، إنه يحتاج المريض كي يستطيع إجراء عملية. وبهذا المعنى فإنه غير مستقل، لأنه وبكل علمه وما درسه وتعلمه شيء ناقص، كذلك الحال في دولة عصرية. فالشيء الأساسي فيها هو الفوهرر، الدوتشه(*) إلا أنهما يحتاجان إلى من يقودان، ولا بد من وجود مَنْ يتكفّل بذلك وإلا فإن الأمور لا تسير.
البدين: الأسمان اللذان ذكرتهما تواً، يذكراني بالبيرة والسيكار هنا. وبودي أن أعتبرهما علامةً رائدةً لأفضل ما يمكن الحصول عليه هنا. وأجد ظاهرة صحية في كون البيرة ليست بيرة والسيكار ليس سيكاراً. إذ لو افترضنا عدم وجود اتفاق وتنسيق هنا، لما أمكن إدارة هذا المطعم، الذي نجلس فيه الآن. ويمكنني أن أتصور القهوة هي الأخرى مغشوشة وليست قهوة حقيقية.
النحيف: ماذا تعني بظاهرة صحية؟
البدين: أعني أن التوازن قائم، فلا داعي للخجل من المقارنة، ذلك أنهما يتحديان العالم بأسره سوية(*)، لا يمكن لأحدهما أن يجد صديقاً أفضل من الآخر. فتعاونهما يجري بشكل منسّق. لننظر إلى الأمر من زاوية أخرى، لو افترضنا، على سبيل المثال، أن القهوة هي قهوة حقيقية وأن البيرة ليست بيرة، عندئذٍ سيعتبر العالم البيرة شيئاً رخيصاً ويلعنها. وعندئذٍ ماذا؟ يبدو أني ابتعدتُ بك عن موضوعك، أي الجواز.
النحيف: آه، إنه ليس بموضوع أثير لا يمكنني التخلي عنه. إن ما يدهشني أنكَ بدأتَ تعدَّ الناس كما لو أن أحداً منهم قد فُقِد. ولكن عليك أن تعرف جيداً أن الإنسان يظل إنساناً ولا شيء غيره. وأن الأمر سيّان عندما يجوع.
(ينهض البدين، ينحني ويقدم نفسه):
اسمي تسيفل، فيزياوي
(يفكر النحيف فيما إذا كان عليه أن ينهض أيضاً ويقوم بنفس الحركة ويقدم نفسه. يحسم الأمر مع نفسه ويبقى جالساً فيقول):
يمكنك أن تسميني كالا، هذا يكفي.
(عندها يجلس البدين ويسحب نفساً عميقاً من سيكاره، الذي شكا منه عدة مرات قبل أن يستأنف الحديث):
تسيفل: لقد ازدادت هموم الناس كثيراً في السنوات الأخيرة، خاصة في ظل هياكل الدولة الجديدة. ولم يعد الأمر كما كان في السابق، إذ أن الدولة قلقة. فالرجال العظام، الذين ظهروا في عدة أماكن من أوروبا، يُبدون اهتماماً متزايداً بالناس، ولا يكتفون بأنهم بحاجة إلى مزيد من الناس. في البداية أَعيى الناس سؤال: لماذا قام الفوهرر بجمع الناس من كل مناطق الحدود وأمر بنقلهم إلى داخل ألمانيا. ولم يتضح الأمر إلا في هذا الوقت، وقت الحرب. حيث راح الفوهرر يستهلك الكثير منهم، وهو لهذا السبب بحاجة إلى المزيد. إلا أن الجوازات وجدت بالدرجة الأولى للمحافظة على النظام. إنها ضرورية جداً في هذه الأوقات. تصوّر، أننا، نحن الاثنين، نسير بدون وثائق تثبت هويتنا، بحيث يتعذر التعرف علينا إذا ما أرادوا طردنا من هنا، عندها سيكون ذلك مخالفاً للنظام. لقد تحدثتَ قبل قليل عن الجرّاح. إن الجراحة مستمرة لأن الجراح يعرف بالضبط موقع الزائدة الدودية في الجسم مثلاً. أما إذا أراد أحدٌ إجراء عملية في الرأس أو الركبة، على سبيل المثال لا الحصر، دون أن يكون متسلحاً بمعرفة الجرّاح ومهارته، فلا بد أن تسبب عملية الاستئصال تلك تَبِعات جمّة. ويستطيع أي محبٍ للنظام أن يؤكد لك صحةَ ذلك.
كالا: كان شيفنغر من أكثر الرجال، الذين عرفتهم في حياتي، تنظيماً وحباً للنظام، كان من رجال الأس أس في معسكر اعتقال داخاو. ومما قيل عنه أنه ما كان يسمح لعشيقته أن تتغنّج وتهز عجيزتها، إثارةً له، في أي يوم آخر عدا أيام السبت، وفي المساء فقط. لم يكن يتسامح معها حتى في حالات السهو. فلم يكن يسمح لها أن تضع قنينة الليمون على الطاولة، إذا كانت قاعدتها مبلّلة. وعندما كان يجلدنا بالسوط، كان يقوم بعمله بمنتهى الدقة. بحيث تكون آثار السوط منقوشة على أجسادنا بنسق دقيق يمكن قياسه بالمليمتر. كان شعوره وتعلّقه بالنظام يسري في عروقه إلى حد يُفضِّل معه عدم جَلدِنا، إذا لم يكن الجلد منظماً ومنسقاً.
تسيفل: هذه نقطة هامة جداً. إذ لا يمكن للمرء أن يجد نظاماً أكثر دقة مما هو موجود في السجن أو الجيش. ثمة حكاية قديمة تقول أن جنرالاً فرنسياً قال لنابليون، عندما اندلعت حرب السبعينات، أن الجيش متأهب حتى آخر زر من الأزرار. وما كان ذلك بوعد قليل. إذ أن الأمر يتوقف إلى حدٍ بعيد على آخر زر. فبآخر زر من الأزرار تُريح الحرب. إن آخر قطرة من الدم مهمة، لكن ليس كأهمية آخر زر. هذا هو النظام بعينه، والذي بواسطته يربح المرء الحرب. فلا يمكن إدخال النظام في الدم كما في الأزرار. فهيئة أركان الحرب لا تعرف فيما إذا سالت آخر قطرة من الدم أم لا، ولكنها تعرف بدقة عن آخر زر.
كالا: كلمة آخر، التي قلتها، هي أجمل كلمة سمعتها منك حتى الآن، ففي المستنقع كان رجل الأس أس يقول لنا دوماً أن علينا أن نندفع بآخر ما لدينا من قوة. وبخلاف ذلك كانت تثور ثائرته. وهكذا فإنهم يريدون كسب الحرب بآخر ما لديهم من قوة: ويصرّون على ذلك.
تسيفل: إنهم يريدون بذلك أن يكون الأمر جدياً.
كالا: جدية دموية. فالجد غير الدموي ليس بجدٍ!
تسيفل: هذا ما يعود بنا إلى قضية الأزرار. فالنظام لا يلعب في الحياة التجارية ما يلعبه في الجيش، ففي الحياة التجارية يمكن تحقيق أرباح حتى بنظام مرتبك، في حين أن الأخير لا يجلب في الحرب سوى الخسائر، ويمكن القول، أن الأمر في الحياة التجارية يتوقف على كل قرش، وفي الحرب على آخر زر.
كالا: في الواقع إن أمر الحرب لا يتوقف على الأزرار، إذ يعرف الجميع أن ليس هناك من مجال يتم فيه تبديد الثروات كما في الحرب. هل رأيتَ في حياتكَ إدارة عسكرية مقتصدة؟ النظام هنا، إذن، معاكس لمبدأ الإدخار والاقتصاد.
تسيفل: كلا، طبعاً. إنما النظام هنا يعني التبذير بشكل مبرمج. فكل ما يجري تبذيره وهدمه وتحطيمه يجب أن يُخطّطَ له على الورق ويجري ترقيمه. هذا هو النظام. إن انتهاج النظام والالتزام به قضية تربوية محضة. إذ لا يمكن للمرء أن يقوم بأعمالٍ معينةٍ، ما لم يؤَدِها بشكل منتظم، بما في ذلك أتفه الأعمال. فلو أمرتَ أحد السجناء مثلاً أن يحفر حفرةً، ثم أمرته يردمها من جديد وتركته يكرر العملية عدة مرات على هواه، سترى أنه إما أن ينجن أو يثور، وكلاهما سيان. ولكن على العكس من ذلك إذا علّمته كيف يمسك بالمجرفة بحيث لا يغرسها سنتميتر واحداً أعمق مما يجب، وكيف يمكنه أن يحفر جدار الحفرة بشكل مستقيم مستخدماً شاقول البناء، وكيف يردم الحفرة ويساويها حتى لتبدو أرضاً مستوية..، عندها فقط سينجز العمل حتى آخر خطٍ –كما يقول الرسامون الهندسيون. من جهةٍ ثانيةٍ أن الإنسانية لا تتحقق هذه الأيام بدون رشوة، وهي نوع من النظام أيضاً. ستجد إنسانية عندما تعثر على موظف يأخذ رشوة. فبقليل من الرشوة يمكنك أن تنشر العدالة. فلكي أقف في الطابور بدائرة الجوازات في النمسا، دفعتُ »بقشيشاً«. إذ نظرتُ في وجه أحد الموظفين، كان طيب القلب فأخذ »البقشيش« مني. إن الأنظمة الفاشية لا تسمح بالرشوة لأنها (أي الأنظمة) لا إنسانية!
كالا: ذات مرة ادعى أحدهم أن القاذورات والأوساخ ما هي إلا مادة في غير محلها الصحيح. فالنفايات والقاذورات في أصيص الورد لا يمكن تسميتها قاذورات. في الأساس أنا من محبي النظام. ولكني شاهدت مرة فلماً لشارلي شابلن وضع، في أحد مشاهد الفلم، ملابسه وحاجيات أخرى في حقيبة وأغلقها. كان المنظر غير منظم، لأن أجزاءً كثيرة من الملابس بقيت مدلاة خارج الحقيبة. عندها تناول مقصاً وبتر الأكمام وأرجل البنطلون وكل ما لم تتسع له الحقيبة، مما أصابني بدهشة. أراك لا تكترث بحب النظام؟
تسيفل: إني أعترف بالفوائد الجمّة للإهمال والتراخي فقط. فقد أنقذ الإهمال والتباطؤ أرواح آلافٍ من الناس. أما في الحرب، فغالباً ما يؤدي أقلُّ تراخٍ أو إهمالٍ للأوامر، إلى إزهاق الأرواح.
كالا: هذا صحيح، كان عمّي في الجبهة، مرة. وبينما كان وزملاؤه منبطحين في الخندق، سمعوا عبر التلفون أمراً بالانسحاب الفوري. إلا أنهم لم يصغوا جيداً إلى نص الأمر. ذلك أنهم كانوا مشغولين بأكل البطاطا المشوية. وهكذا وقعوا في الأسر وبذلك أُنقذت حياتهم.
تسيفل: أو خذ، على سبيل المثال، طياراً منهكاً من شدة التعب، يقرأ أجهزة القياس بشكل غير دقيق، فيلقي بحمولته من القنابل جنب عمارة سكنية بدلاً من أن يلقيها فوقها. وهكذا يتم إنقاذ حياة خمسين شخصاً على الأقل. إن ما أريد قوله هو أن الناس لم ينضجوا بعد لعمل الفضيلة كما نضجوا في حبهم للنظام والالتزام به إذ ما زال فهمهم للفضيلة ناقصاً. فكل ما يتخذونه من إجراءات غبي، ويظل التطبيق المهمل والمتراخي للخطط هو ما ينقذهم ويحميهم من الشرور الكبيرة..
تسيفل: كان لدي مساعد مختبر اسمه هايسش يعنى كثيراً بتنظيم كل شيء. عندما أكون قد أعددتُ بعض الأجهزة للقيام بتجربةٍ ما، وخلال ذلك يجري طلبي على التلفون، كان يقوم بجمع كل الأشياء على عجل ويرتب المكان. وفي كل صباح كان »ينظف« المناضد من الأجهزة والأدوات.. حتى قصاصة الورق التي أسجل فيها الملاحظات لليوم التالي، كان يرميها في سلة المهملات. كان.. والحق يقال: يبذل جهداً في ذلك، حتى لا يمكن الشكوى منه. ورغم ذلك حصل بعض التذمر فعلاً، وكان في غير محله. فعندما كان يختفي شيء، أي يجري كنسه، كان هايسش ينظر بعينين بليدتين ليس فيهما أي بريق لذكاء، مما كان يبعث على الشفقة.
لم أكن أتصور أبداً أن لهايسش حياة خاصة وسرية. إلا أنه كان يملك هذه الحياة فعلاً. فعندما جاء هتلر إلى السلطة، ظهر أن السيد هايسش كان طوال الوقت محارباً قديماً في صفوف حزب هتلر. وفي صبيحة اليوم، الذي أُعلن فيه هتلر مستشاراً للرايخ، قال صاحبي وهو يُعلّق معطفي، سيدي الدكتور، الآن سيعم النظام كل ألمانيا. وعندها ألقى عليّ خطبة..
كالا: يمكنك أن تصوغ الأمر على النحو التالي: حيث لا تكون الأشياء في مكانها الصحيح، تكون الفوضى. وحيثما يكون المكان الصحيح خالياً من أي شيء يكون النظام.
تسيفل: يوجد النظام هذه الأيام، حيث لا يوجد هناك شيء، وهو دليل نقص.

(هزّ النحيف برأسه، وفي وجهه علامةُ شخص جدي تأثر بالجمل الأخيرة التي قيلت، والتي ظن أنه فهمها. شرب قهوته بجرعات بطيئة. بعد ذلك نهضا، افترقا، وذهب كل إلى جهته).









2
حول المادية المبتذلة
و
جماعة »المفكرين الأحرار«






(تسيفل وكالا كانا مندهشين جداً عندما إلتقيا بعد يومين في مطعم المحطة.. كان كالا بنفس مظهره السابق. أما تسيفل فقد خلع معطفه الثقيل، الذي كان يرتديه في المرة السابقة رغم أن الطقس كان صيفاً).

تسيفل: لقد وجدتُ غرفة. أتدري كم أشعر بالفرح عندما أستطيع لمَّ الـ 90 كغم من وزني –عظاماً ولحماً- تحت سقف؟ ذلك أنه ليس بالأمر اليسير أن تحتفظ –في هذه الأيام- بهذا القدر الكبير من اللحم. فالمسؤولية تكون أكبر في هذه الحال، عندما يذوي 90 كغم.. أي أكبر مما يذوي جسم لا يزيد وزنه على 65 كغم فقط(*).
كالا: لا بد أنها أسهل عليك. فالبدانة تعطي انطباعاً جيداً، وتدلُّ على اليُسر، وهذا ما يخلق انطباعاً جيداً عند الآخرين.
تسيفل: ولكني لا آكل أكثر منك.
كالا: لا تكن حساساً جداً. فأنا لستُ ضد أن تأكل حتى تشبع. في الأوساط الراقية، ربما يعتبرون أن من العار أن يجوع أحدهم، ولكن بالنسبة لنا لا نعتبره عاراً أن يأكل المرء حتى يشبع.
تسيفل: أجد في كلامك شيئاً هاماً. ذلك أن سمعة ما يسمى بالمادية سيئة عند الأوساط المرفهة. فهم يتحدثون كثيراً عن الملذات المادية المبتذلة وينصحون الطبقات السفلى بالابتعاد عنها. في الحقيقة لا حاجةَ بهم إلى تقديم هذه النصيحة. فالطبقات الدنيا ليس لديها فكّة (النقود الصغيرة – ي.ع). إني أستغرب دوماً لماذا لا يعمد الكتّاب اليساريون في كتاباتهم التحريضية إلى تقديم وصفٍ مُغرٍ للملذات التي يمكن الاستمتاع بها عندما تتوفر النقود اللازمة لذلك. إني أشاهد على الدوام، كُتب جيب تعطيكَ معلوماتٍ عن الفلسفة والأخلاق عند الطبقات المرفهة. ولكني لم أشاهد كُتب جيب عن الأكل والقضايا المتداولة فوق، ولا تعرفها الطبقات الدنيا، كما لو أنه لا تنقصها إلا معرفة كانط! إنه لمن المحزن أن البعض لم يرَ الأهرامات، ولكنه من المفجع جداً أن لا يكون هذا البعض قد شاهد قطعة لحم ستيك مقلية بشكل جيد ومغطاة بالفطر. لماذا لا يقدم هؤلاء الكتّاب اليساريون وصفاً بسيطاً ومختصراً لأنواع الجبنة، أو صورة مخترعة صناعية لفطيرة حقيقية؟ من المؤكد أن ذلك سيكون مربياً ومثَقِفاً. فتقديم وصف لحساء لذيذ من لحم العجل لا يتعارض مطلقاً مع الإنسانية. هل تعرف كيف يشعر المرء عندما يلبس حذاءً محترماً؟ أعني من جلد خفيف لين وحسب المقاس؟ ستشعر كما لو أنكَ راقص. مَنْ منكم يعرف أيةَ راحة يشعر بها المرء عندما يرتدي بنطالاً من قماشٍ ناعم وحسب المقاس؟ إنه الجهل. فالجهل بقطعة الستيك وبالحذاء وبالبنطال هو جهل مضاعف لأنك لا تعرف ما هو طعمها وكيف تحصل عليها. ولكن الجهل يكون مضاعفاً ثلاث مرات عنما لا تعرف أنه توجد مثل هذه الحاجيات.
كالا: إننا لا نحتاج إلى إثارة شهيتنا، فلدينا ما يكفي من الجوع.
تسيفل: نعم، ذلكم هو الشيء الوحيد الذي لا تتعلمونه من الكتب، فإذا كان على المرء أن يصدق محاضرات الكتاب اليساريين، فإن عليكم أن تتعلموا من الكتب أيضاً أنكم جياع. فالألمان ضعيفو التأهيل بالنسبة للمادية. فما أن يمتلكوها حتى يستخرجوا منها فكرة. فالمادي هو ذلك الذي يؤمن أن الأفكار هي نتاج الظروف المادية وليس العكس. فالمادة ليست هي الأسبق! ويمكن للمرء أن يقول بأن هناك صنفين فقط من الناس في ألمانيا فممثلوا الصنف الأول نحيفون ناحلوا الأجسام ولكنهم يعرفون كل المدارس الفلسفية. أما ممثلوا الصنف الثاني فإنهم سمانٌ متينو البنية، يعرفون كل أنواع النبيذ. ذات مرة سمعت شجاراً بين اثنين، أحمدهما من الصنف (أ) والآخر من الصنف (ب). فأخذ الثاني على الأول وعابَ عليه أنه لا يفكر إلا بالأكل. فأجاب الأول: إن السيد المتحدث لا يفكر إلا به. وكلاهما كان على حق. فالدينُ خلق أقوى الأبطال وأفضل المتعلمين، ولكنه كان على الدوام متزمتاً بعض الشيء لذلك ظهرت الآن إلحادية نارية تقدمية، ستستهلك وقتاً طويلاً.
كالا: لديك شيء من الحق. كنتُ مع »المفكرين الأحرار« وكانت قناعتنا تُبقينا بحالة استعداد دائم. والوقت الذي تبقى لدينا في مجرى نضالنا من أجل مدرسة علمانية صرفناه على فضح وتعرية »جيش الإنقاذ«(*)، أما وقتُ الدعايةِ لطريقة الحرق(**)، فقد اقتصدناه من أوقات الأكل. بعض الأحيان كنتُ أفكر أنه لو رآنا شخص من بعيد كيف نتناقش ضد الدين ونسوق الحجج ضده، لاعتبرنا طائفةً جديدة من نوع خاص، مهما كان ورعاً تقياً يعمر الإيمان قلبه.
ولكني ما لبثتُ أن تركتُ جماعة »المفكرين الأحرار« لأن صديقتي أحرجتني، إذ وضعتني أمام أحد أمرين: إما الجماعة وإما قضاء الأحد معها. وبما أنه كان لديّ شعور كبير بالذنب، فقد تخليتُ عن أي عملٍ مضادٍ للدين.
تسيفل: حسناً فعلت. يسرني أنكَ تركت الجماعة.
كالا: ولكني انتميت إلى أخرى.
تسيفل: واحتفظتَ بصديقتك؟
كالا: كلا، فقد خسرتها، كما خسرتني هي، إذ وضعتني كذلك أمام الخيار ذاته عندما انتميت إلى الجماعة الجديدة.
فالتعامل مع الدين مثل التعامل مع الكحول. إذ لا يمكننا التخلص منه ما دام يعني التقدم. كان أسوأ الشرّيبون هم الحوذيون خلال أوقات الشتاء. أما سُوّاق هذه الأيام فيتدفأون على محركات سياراتهم ويدخرون بذلك ثمن الكحول.
تسيفل: تقصد أنكَ ضد الكحول ولكن تؤيد المحركات.
كالا: شيء مقارب مما تقول. ولكن قل لي هل أنت مرتاح في غرفتك؟
تسيفل: لم أطرح بعد مثل هذا السؤال على نفسي. إذ أني لا أسألَ ولا أضع حلاً لأية قضية، إذا كان أكثر الأجوبة إقناعاً وأكثر الحلول جذرية لا يقدمني خطوة واحدة إلى أمام. فعندما أقع في بركة من الرمال المتحركة لا أسألُ نفسي أي نوع من التدفئة أفضل، البخارية أم تدفئة الموقد!.
إني أنوي الشروع بكتابة مذكراتي في الغرفة.
كالا: كنتُ أظن أن المرء يشرع بكتابةِ مذكراته عندما يقترب من نهايته. لأنه عندها سيكون قد امتلك نظرة أوسع وأصبح يعرف كيف يعبّر عن أفكاره بدقة.
تسيفل: لا أملك نظرة شاملة ولا أعبر بشكل دقيق، ولكني أَفي بالشرط (أي الاقتراب من النهاية ) تماماً مثلما يفعل كل الآخرين في هذا الجزء من الكرة الأرضية. ذلك أني ربما سأتوقف عن الكتابة تماماً في المرحلة الأخيرة من حياتي.
على أية حال إنها ليست أفضل مكان للكتابة، لأني أحتاج إلى سيكار يصعب الحصول عليه هنا بسبب الحصار. ولكن من أجل ثمانين صفحة من القطع الكبير، قد أكتفي بأربعين سيكاراً إذا ما اشتغلتُ بشكل منهجي. ولكن الذي يقلقني هو شيء آخر تماماً. ذلك أنه لن يفاجأ أحدٌ عندما يسمع أن شخصاً مهماً معروفاً يريد الكتابة عن العالم الذي يعيشونه هم، وعن مجرياته وأحداثه، ويُسطر إزاء ذلك أفكاره وغاياته، ومع ذلك سأخوض الأمر رغم أني لست بشخص مهم.
كالا: في هذا الصدد يمكنك أن تحسب أنك ستحرز نجاحاً مفاجئاً.
تسيفل: تعني بهجوم صاعق على المؤخرة، في نقطة يكون فيها العدو –القارئ- قد استرخى حالماً ولا يستطيع اتخاذ موقف الدفاع في الوقت المناسب؟
كالا: تماماً. لأن القارئ لن يكتشف أنكَ شخص غير مهم إلا بعد فواتِ الأوان. عندها تكون قد قدّمتَ له نصف أفكاركَ تقريباً. وسيكون قد التهمها بنهم دون أن يلتفت: متى ستنزل الصاعقة به. آنذاك ستكون قد عرّفته على أهدافك. فحتى لو اتخذ موقفاً نقدياً منك ومن عملك، سيظل شيء ما من العمل عالقاً في ذهنه.
(نظر تسيفل إلى كالا متفحصاً فيما إذا كان في لهجته أي نوع من التهكم. غير أن عَينَي كالا كانتا جادتين ومصوبتين ناحيته. احتسى جرعة من بيرته التي ما كانت بيرة. ثم عاد إلى نظراته المتأملة في البعد).
تسيفل: من الناحية الأخلاقية أشعر بنوع من الارتياح. ففي الوقت الذي تؤخذ فيه نوايا الأشخاص والكتّاب المهمين –مهما كان نوعها- مأخذ الجد وتجري الدعاية لها والتهليل لها، ويتقاضون لقاءها مالاً جيداً، في هذا الوقت ذاته يجري إهمال وإضطهاد واحتقار تلك النوايا الصادرة عن شخص أو كاتبٍ غير مهم. ونتيجة لذلك، يتراءى لي أن على الكتّاب غير المهمين إذا ما كتبوا وأرادوا لأعمالهم أن تُطبع وترى النور، عليهم أن يستعيروا أفكار وأهداف الكتّاب والأشخاص المهمين، ولا يمثلوا أفكارهم، هم أنفسهم. لذلك يبدو لي أَنْ لا مفر من ذلك.
كالا: ربما يتعين عليك أن تكتب كتاباً صغيراً من كتب الجيب.
تسيفل: ولماذا كتاب صغير؟ أراكَ تطعنني في الظهر وتثبط عزيمتي، هل تعتقد أن الكاتب المهم مسموح له أن يكتب كتاباً كبيراً ويفرض على القارئ متطلباته المبالغة والكثيرة، في حين يتوجب عليّ أن أختصر، لأني أريد أن أسجل أفكاري غير الهامة فعلاً، التي يستطيع أي شخص امتلاكها، هذا إذا لم تكن موجودة لديه أصلاً دون الحاجة إلى الاعتراف بأنه أخذها مني؟!
كالا: أتفق معك في هذا المضمار إنها جزء من الاستبداد العام. أتساءل لماذا لا يُسمح لشخص ضئيل وغير مهم بالتعبير عن أفكاره بشكل تفصيلي وكامل ولا يجري الاستماع إليه بكل أدب حتى النهاية؟
تسيفل: يبدو أن الأمر اختلط عليك. أؤكد لك أني شخص غير مهم، ولكني لستُ إنساناً ضئيلاً مغموراً. إذ أنك تخلط في الاصطلاحات. ففي الوقت الذي لا يجوز للمرء أن يتحدث بهذه البساطة عن »إنسان مهم مغمور«، لا تجري مراعاة أي حد عندما يجري الحديث دوماً عن »إنسان مغمور وغير مهم«. لذلك فإني أحتج على ذلك بشدة. إذ توجد بيننا، نحن معشر الناس غير المهمين، فروقات كبيرة. فكما أن هناك أناساً يمتلكون، وبقدر خاص، صفات كالشجاعة والاقتدار ونكران الذات، يوجد آخرون لا يمتلكون تلك الصفات وبنفس القدر. ومن بين هؤلاء أنا. وعليه فإني ظاهرة استثنائية ولست شخصاً ضئيلاً أياً كان.
كالا: أرجو المعذرة.
تسيفل: ليس خافياً أن الناس غير المهمين في عصرنا محكومون بالنسيان والموت. فالتقدم الذي حصل في كل فروع العلم، في التكنيك وفي السياسة قبل كل شيء، أدى بهم إلى الاختفاء من على سطح الأرض. إن القدرة الفائقة لعصرنا تكمن في خلق شيء من لا شيء.. هذا العدد الهائل من الناس المهمين(*) الذين أنتجهم هذا العصر. إنهم يظهرون بأعداد جماهيرية متزايدة، وعلى وجه الدقة ينظمون مسيرات بأعداد جماهيرية كبيرة. فحيثما جالت العين، تقع على كائنات تتصرف مثل أكبر الأبطال والقديسين. أين كان يمكن في الماضي مشاهدة هذا القدر من الشجاعة وروح التضحية والاقتدار؟ لم يكن بالإمكان، وجود حروب كحروب عصرنا، وأوقات سلم كالتي في عصرنا. ذلك أنها كانت تستلزم توفير عدد من الناس المهمين، »أصحاب الفضائل« أكبر مما كان متوفراً آنذاك.
كالا: ولكن ما دام عصر »غير الأبطال« قد وّلى، فإن آراءهم ما عادت تهم أحداً.
تسيفل: بالعكس! فالناس تُقْبِلُ بشوق على الاكتشافات في مجال الأفكار التي أضحت نادرة. ما الضير في أن نُقدم أو نتعرّف، مثلاً، على صورة أدق عن الحياة الداخلية لآخر فصيلة من الديناصورات المتأخرة، وهي أكبر الكائنات المفترسة للنباتات وقد عاشت على الأرض منذ عصور سحيقة قبل التاريخ؟ فقد ماتت وانقرضت، ربما لأنها لم تقبل التزاوج مع كائنات أخرى(*). ولهذا قد يستثير الناس نشر شيء موثق عنها.
كالا: ما دُمتَ تقارن نفسك مع الديناصورات، أعتقد أن الوقت قد حان لكتابةِ مذكراتك، فلا يوجد لديكَ وقت كثير، ولا يوجد مَنْ لا يريدُ فهمك.
تسيفل: إن مراحل الانتقال والتحول تجري بشكل سريع وأَخاذ. فالعلم يتسع اليوم، بحيث أن مرحلة الانتقال من عصر إلى عصر تجري نحو الخلف.. فعلى مدى زمن طويل، تحصل تغيرات وتشوهات صغيرة جداً تهيء الإطار العام للانقلاب والتحول الفجائي. لكن هذا الإطار يظهر بشكل فجائي ودراماتيكي. فالديناصورات ما تزال تتحرك –ولو لحين- في أحسن المجتمعات، حتى وإن عافتها الأنفس أحياناً. فتراها تحصل على الترحيب حتى وإن كانت تسحق كل شيء ولا تبقي خلفها شيئاً، عندما تطأه.
قد يستغرق ذلك وقتاً طويلاً نسبياً ولكن سرعان ما يحصل التحول الكبير المفاجئ. وإذا لم يكن لديكَ تحفظ كبير، فإني أرجوك أن تستمع –بين آونة وأخرى- إلى هذا الفصل أو ذاك من مذكراتي.
كالا: وهو كذلك.

(بعد ذلك نهضا، وافترقا، وذهب كل إلى جهته).







3
حول أعداء الإنسانية/
مطالب المدرسة القليلة/
السيد رايتر





(كان تسيفل يذهب كل يوم إلى مطعم المحطة، حيث توجد زاوية صغيرة مخصصة لبيع السكائر. وبأوقات متباعدة غير منتظمة كانت تأتي فتاة تحمل بعض أكياس النايلون، تفتحها لمدة عشر دقائق فتبيع السيكار والسكائر. كان تسيفل يحمل في جيبه فصلاً من مذكراته ويتحرق شوقاً لمجيء كالا. ولما تأخر هذا لمدة أسبوع، فقد ظن تسيفل أنه كتب هذا الفصل عبثاً. لذلك لم يواصل كتابة الفصول الأخرى. ذلك أنه لم يكن يعرف أحداً في هلسنكي يتكلم الألمانية سوى كالا. ولكن في اليوم العاشر أو الحادي عشر ظهر كالا، ولم يبدِ أيَّ فزع أو أي رد فعل عندما لوّح له تسيفل بمسودة مذكراته).

تسيفل: سأبدأ بمدخل متواضع، ألفتُ فيه الانتباه إلى أن الأفكار التي سأقدمها، كانت حتى فترة قصيرة، أفكار الملايين من الناس، وعليه لا يمكن إلا أن تحظى ببعض الاهتمام. والآن سأتجاوز المقدمة وما بعدها لأدخل مباشرة إلى ملاحظاتي حول التربية والتعليم، اللذين حصلتُ عليهما. إني أعتبر هذه الملاحظات ذات قيمة معرفية والبعض الآخر رائع جداً. تقدّم مني بعض الشيء كي لا تزعجك ضجة المكان. (ثم يقرأ):
»أعرف أنه غالباً ما يجري التشكيك بفضل وإيجابيات مدارسنا. فلا يجري الاعتراف بمبدئها الرائع أو احترامها. ويتلخص دورها في أنها تأخذ الفتيان اليافعين، لتزجهم وتُدخلهم إلى عالمها، الذي يعكس صورة العالم. تأخذ الولد وترميه، دون مقدمات كثيرة من اللف والدوران، في المستنقع العفن، وتقول له: إما أن تسبح أو تشبع طيناً عفناً!
إن مهمة معلمي المدارس تكمن في تجسيد النماذج الأساسية للإنسانية، تلك النماذج التي سيتعامل الصغير معها في الحياة عندما يكبر. إذ تتاح له الفرصة أن يدرس، أربع إلى ست ساعات في اليوم، كل شيء عن الفظاظة والشر والظلم. وهكذا ترى أنه ليس مَضيعة أن يدفع المرء نقوداً من أجل مثل هذه الدروس، ولكن رغم ذلك فإن الدولة تتحمل تكاليفها.
وفي المدرسة يواجه الطفل هيئة لا إنسانية لن ينساها أبداً، لأنها تمتلك قوة لا حدود لها تقريباً إنه المعلم. مسلح بمعارف ومعلومات تربوية وخبرة سنوات طويلة من التعليم، يربي التلاميذ بالصورة التي يريدها هو.
فالتلميذ يتعلم كل شيء ضروري لتقدمه في الحياة، وهو نفس الشيء الضروري لنجاحه في المدرسة. إن الأمر يتعلق بإتقان خداع المعلومات، والقدرة على الانتقام دون أن يناله عقاب، والتأقلم بسرعة مع النذالات والحقارات والتملق والخنوع والاستعداد للتجسس على زملائه وأقرانه للمسؤولين.. وما إلى ذلك.
لكن الفراسة تظل هي الأهم. ويمكن الحصول عليها من خلاله معرفة المعلم والتعرف عليه، فعلى التلميذ أن يحدّد ويتعرف على نقاط ضعف المعلم ويتعلم كيفية استغلالها، وإلا فإنه لن يستطيع الدفاع عن نفسه. كان أحسن معلمينا رجلاً كبير الحجم قبيحاً وغريب الأطوار، قيل أنه كان يطمح في شبابه أن يصير بروفسوراً، غير أنه فشل في مسعاه ذلك. وقد أدت خيبة الأمل تلك إلى تفجير كل القوى والطاقات الشريرة الموجودة لديه. إذ كان يفرح عندما نأتي إلى الامتحان بدون تحضير. وكان يطلق صرخات مزمجرة عندما لا نعرف إجابة على واحد من الأسئلة. ومما زاده كرهاً في نظرنا هو أنه وفي كل حصة من الحصص كان يتوارى مرتين أو ثلاثاً خلف السبورة، فيخرج من جيبه قطعة خبز وجبنة فيدسها في فمه، ثم يواصل إلقاء الدرس علينا بفم مملوء. كان يدرسنا الكيمياء ولكن ما كان يُمانِع لو طُلِبَ إليه أن يدرسنا موضوعاً آخر في غير اختصاصه. ذلك أنه يحتاج موضوعاً يدرسه، كما يحتاج الممثل الخرافة كي يقدم نفسه من خلالها. فقد كانت مهمته تنحصر في كيفية إمكان أن يصنع منا بشراً. فلم يفشل في مهمته كثيراً. ذلك أننا لم نتعلم الكيمياء على يده، بل كيف ينتقم المرء لنفسه.
في كل سنة كان يزورنا مفتش، قيل أنه يريد التأكد مما تعلمناه. ولكننا عرفنا أيضاً أن المفتش يريد التأكد من كيفية إلقاء الدرس من قبل المعلم. وعندما جاء مرة أخرى انتهزنا فرصة زيارته للإيقاع بمعلمنا. فلم نجب عن أي سؤال وبقينا جالسين كالأغبياء. في ذلك اليوم لم يصرخ بنا الرجل لأننا لم نجب عن الأسئلة المتعلقة بمرض الصُفرة وبقي فترة طريح الفراش. وعندما عاد إلينا بعد شفائه، ما عاد ذلك المعلم الذي عرفناه ولم يعد يأكل الجبن بالخبز خلال الدرس. أما معلم الفرنسية فقد كانت لديه نقاط ضعف أخرى. فكان أمهرنا في استغلالها أحد زملائي (ب). كان انتقالنا إلى صف أعلى يتوقف على نتائج الامتحان التحريري بهذا الدرس. فقد كان هذا المعلم يعتمد طريقة خاصة به في وضع الدرجات. مَنْ لم تكن لديه أية غلطة كان يحصل على أعلى درجة (1)(*). ومن كان لديه عشر غلطات يحصل على (2) وهكذا.. وكان يؤشر مواضع الخطأ بالقلم الأحمر، غير الأذكياء من التلاميذ كانوا يمسحون الخطوط الحمراء من تحت بعض الأخطاء ويتقدمون إليه شاكين أنه أخطأ في حساب درجاتهم. إلا أنه كان يمسك الورقة بشكل أفقي وينظر إليها جانباً ليتبين المواضع الممسوحة فيكتشف الغش. أما زميلي (ب) فكان يتبع طريقة ذكية، يَجرُّ فيها خطوطاً حمراء تحت عدد من الكلمات الصحيحة ويذهب إلى المعلم مولولاً، شاكياً قلة درجته، وأن المعلم أخطأ في حساب الأخطاء لأنه عَدَّ كلماتٍ صحيحة ضمن الخطأ. وعندما ينظر المعلم إلى الكلمات الصحيحة المؤشر تحتها فيرى أنها ليست خطأ، سرعان ما يستخرج دفتره ويصحح نتيجة صاحبي بحساب عدد الدرجات المساوي للكلمات الصحيحة.. عندها ينال أعلى درجة بيننا. وعليه يمكن القول أن التلاميذ تعلموا من خلال ذلك كيف يفكرون.
لقد ضَمِنت الدولة حيوية الدرس بطريقة بسيطة يتوجب فيها على كل معلم أن يقدم لطلابه كمية محددة ومحدودة من المعلومات.. وتجري هذه العملية كل سنة. فتمضي سنة وتجيء أخرى ويُطلب إليه تقديم نفس المعلومات، حتى يصل حالة من الإشباع، يبدأ معها يعرض كل أحشائه أمام التلاميذ. ويروح يتحدث عن الخيبات التي أصابته، وعن همومه المالية، وإخفاقاته ومشاكله العائلية. يروح يتحدث عن كل ذلك في الدرس وأمام التلاميذ، بل يشركهم فيها. وهكذا تراه يفكر بتطوير وبناء العالم الروحي لهؤلاء الصغار بكل السبل والأشكال. وبهذه الطريقة كان يهيئهم للدخول في عالم يلاقون فيه أناساً مثله، مشوهين، معوقين، وماكرين كالثعالب.
سمعتُ أن المدارس، أو على الأقل بعضها، يجري بناؤه، هذه الأيام، استناداً إلى مبادئ أخرى، تختلف عما كان قائماً عندما كنتُ تلميذاً في المدرسة. إذ يجري التعامل مع التلاميذ بصورة مفهومة وعادلة. وإذا كانت الحال كذلك فعلاً فإني سأشعر بالأسف. فقد تعلمنا نحن في المدرسة الفروق بين الناس وطبقاتهم، وكان ذلك من ضمن الدروس التي كنا نتلقاها. فأبناء العوائل المرفهة والغنية كانوا يلقون رعاية أحسن بكثير مما يلقاه أبناء العمال. فإذا تم شطب هذا الدرس من مناهج التدريس في المدارس الجديدة، فإنه يتعين على التلاميذ أن يتعلموا هذه الفروقات الهامة من الحياة العامة وليس من المدرسة. عندها سيمرون بتجارب صعبة لأنهم سيدخلون المجتمع غير مجهزين بالمعارف الأساسية الضرورية.
أما أنا، فدخلت المجتمع متهيئاً بشكل آخر! كنتُ متسلحاً بمعارف راسخة عن طبيعة الناس في الحياة. وبعد أن قطعتُ شوطاً لا بأس به في تحصيلي الدراسي، ظننت أني وصلت منتصف الطريق، وأنَّ بإمكاني أن أشق دربي في الحياة بأقل حاجة للفضيلة. ولكن يا لخيبتي! فذات يوم جاءوا وطلبوا كل الفضائل دفعة واحدة«.
بهذا انتهى اليوم معك، فقد أرهقتك ما فيه الكفاية.
كالا: موقفك من المدرسة غير مألوف. وعلى أية حال ألاحظ الآن أني تعلمت بعض الشيء أيضاً من المدرسة. أتذكر أننا تلقينا في اليوم الأول لدخولنا المدرسة درساً جيداً، فعندما انصرف ذوونا من حفلة دخولنا المدرسة، أدخلونا إلى الصف وكنا نظيفين جميعاً. أوقفنا المعلم في طابور إلى الحائط وأصدر إلينا الأمر التالي: »كلٌ يبحث له عن مكان!« فأسرعنا نحو الطاولات. وبما أنه كانت هناك طاولة ناقصة، فقد ظل أحد التلاميذ واقفاً في الممر بين الطاولات بينما جلس الآخرون. وعندما لمحه المعلم واقفاً لطمه لطمةً قوية على وجهه. وكان ذلك بمثابة درس جيد لنا جميعاً، تعلمنا من خلاله أنه يجب أن لا نفشل!
تسيفل: إنها لعبقرية من هذا المعلم، ماذا كان اسمه؟
كالا: السيد رايتر.
تسيفل: أستغرب كيف بقي معلم مدرسة بسيط. لا بد أنه كان هناك مَنْ يعاديه في إدارة المدرسة.
تسيفل: كما كان هناك معلم جيد آخر. كان يريد أن يوقظ فينا الشعور بالشرف –كما كان يردد دوماً- عندما..
تسيفل: لنبق عند السيد رايتر، من فضلك. إنه نموذج جيد. فقد استطاع بأدوات ووسائل إيضاح بسيطة، هي عبارة عن صفٍ عادي بعددٍ قليل من الطاولات، أن يصور لكم العالم الذي ينتظركم.. أن يعرضه أمام أعينكم بمنتهى الوضوح. وهكذا استطاع بخطوط ذكية بسيطة أن يرسم لكم لوحة بريشة فنان مقتدر! ويمكنني أن أقسم أنه قام بذلك بشكل غريزي تماماً! غريزة معلم مدرسة بسيط.
كالا: على أية حال، حصل على التكريم بوقت متأخر جداً. أما المعلم الآخر فكان حريصاً على النظافة جداً. فإذا صادف أن جاء أحدنا بجعبة الكتب القماشية غير نظيفة لأن أمه لم تغسلها ولم يكن لديها واحدة أخرى نظيفة، فكان عليه أن ينهض أمام التلاميذ ويلوح بها منادياً بأعلى صوته: عندي جعبة قذرة.
تسيفل: هذه شجاعة أيضاً، ولكنها لم تعد المعيار. لقد قلتَ أنه كان يريد أن يوقظ فيكم الشعور بالشرف ولكنها فكرة تقليدية جداً، في حين أن السيد رايتر أوضح لكم الوظيفة ولم يعط حلاً. فقد عرض المشكلة، وعكس الواقع من خلالها، وترك الاستنتاج لكم!
ومن الطبيعي أن هذه الطريقة أكثر فائدة.
أشكركَ لأنك عرفتني عليه.
كالا: بكل سرور.

(بعدها افترقا، وذهب كل إلى جهته).







4
تمثال الشاعر الكبير كيفي/
الدعارة






(في يوم كان الطقس جميلاً، ذهب تسيفل وكالا يتمشيان مواصلين أحاديثهما في ميدان المحطة ولكنهما بقيا واقفين أمام تمثال حجري كبير. تمثال رجل جالس).

تسيفل: هذا هو كيفي، وعلى المرء أن يقرأ له بعض الشيء.
كالا: يقال أنه كان شاعراً جيداً ولكنه مات من الجوع، ولم ينفعه الشعر.
تسيفل: سمعت أنه يوجد تقليد وطني هنا، أن أفضل الشعراء يموت جوعاً، ولكن هذا التقليد مستمر ببعض الهفوات والنواقص، ذلك أن بعضهم مات بسبب الكحول.
كالا: بودي أن أعرف لماذا وضعوه هنا قبالة المحطة.
تسيفل: ليكون مثالاً محذراً ومنذراً في أغلب الظن. إنهم يصلون إلى كل شيء عبر التهديدات. ويبدو أن النحات كان ظريفاً ومفعماً بروح الدعابة، إذ أعطاه مسحة حالمة كما لو أنه (الشاعر) كان يحلم بكسرة خبز لا تعود لأحد.
كالا: يبدو أنه كان يوجد البعض ممّن جاهروا الجمهور بآرائهم.
تسيفل: نعم ولكن بصيغة شعرية أو مزجوها بأخرى. هذا بالذات، يذكرني بقصة قرأتها في مكان ما عن »الرجل في الغرفة الأخرى«.
ثمة امرأة كانت لها علاقة جنسية مع كائن ما، يُفترض أنها تحتقره. وكان هناك شخص آخر –لنسمه (س)- تَحرُص هِيَ على كسب وِدّه واحترامه يعرف بعلاقتها تلك. فقد دَبّرت الأمر ذات مرة على نحو تركت فيه (س)، الذي كان يسكن غرفة مجاورة، يسمع كل شيء عندما تضطجع في الفراش مع الكائن –لنسمه (ص)- وتمارس الحب معه. وبنت تلك المرأة خطتها على أساس أن يسمع (س) كل شيء، ولكنه لا يرى شيئاً. كان (ص) بارداً معها مما يتوجب عليها إثارته دوماً. فكانت تكشف عما بين فخذيها وتتركه ينظر إليها. وفي نفس الوقت توجه له كلماتٍ نابية وتشتمه بحيث يسمع (س) كل شيء وهو في الغرفة المجاورة. وهكذا يستمر المشهد.. تهجم عليه بكل حقدٍ وتصرخ »ابعد يدكً عني!«. وبعد ذلك تديرله (أي لـ ص) عجيزتها بحركة متغنجة، ولكنها تصيح »لن أسمح لك ولن أدعك تغتصبني!«. ثم تركع عند قدميه وكأنها تتوسل إليه، إلا أنها تصيح: »خنزير، خنزير!«.
كان (ص) يرى و(س) يسمع. وبهذه الطريقة دافعت عن شرفها. وهذا ما يشبه حالة شاعر كان يُستدعى لإلقاء قصائده في قاعة صغيرة. غير أنه وفي كل مرة قبل أن يدخل القاعة، كان يذهب إلى الباحة –خلف القاعة- ويلطخ حذاءه بالأوحال ويدخل. كي يقول عنه الجمهور أنه مشغول إلى حدٍّ لا يستطيع فيه حتى تنظيف حذائه. كل ذلك من أجل الجمهور.
كالا: هل كتبتَ شيئاً جديداً؟
تسيفل: سجلت بعض النقاط فقط. ويسعدني أن أقرأها عليك. لأني لا أعتقد أن وقتي سيتسع لكتابتها وترتيبها في فصول. سأبدأ بالقصاصة الأولى:
»معركة بكُراتِ الثلج. خبز وزبد. ديكة العراك. رأس أمي. تأخر الوقت للأكل. درس في المدرسة، كتب مدرسية، ممحاة، استراحة لربع ساعة، كستناء، كلبُ الجزار يقبع في الزاوية، الأطفال المرتبون لا يمشون حفاة، سكين جيب صغيرة، أجراس، حذاء تزحلق، أنبوب بحري، رمي الحجر على الشباك، لم يكن الاعتياد على أكل مُخلّل اللّهانة أمراً صحياً. أبي يريد أن يرتاح. أوتو يسبب متاعب لأمه. لا تقل –خره-! عندما تصافح أحداً لا تخفض نظرك وإنما تطلّع في عيني المقابل«. ما هو رأيكَ؟ كيف تجدها؟
كالا: لا أدري بعد، ولكن واصل القراءة.
تسيفل: »اجلب بيرة! حوذي السادة في شارع كلاوكه شنق نفسه. ماريا الصغيرة تجلس على صخرة. شحذ السكين. قضم الأظافر. حك الكوع والذقن ومفرق الرأس. يمكن للسكين أن تغوص في الأرض بشكل مائل، كَتَبَ على الباب الحديدي بالطباشير. عرف البوليس بذلك. قطعة نقد معدنية صغيرة تُرمى على جدار البيت، إلى أية مسافة ترتد عنه؟ قفز هو وتركها جالسة. القتلة المجرمون يجلسون على آرائك من فرو القط. بالطباشير: من أين لك هذا؟ دُقَلٌ. أسافين قصيرة مدببة تدق في الأرض وتُطرَدُ من بيتك بالهراوات. هنود حمر، روس، ألمان، يابانيون، فارس، نابليون، بايرن(*)، رومان. أيها القذر كان عليك أن تعرف. كلب. جبان. مأبون. ثور. بعير. عجل. حيوان وغد. شخص هش وغير منظم. اشتراكي صعلوك. عاهرة. صدر الدجاج. التسول ممنوع. انتبه في الطابق الرابع يسكن مخبر للبوليس«.
القصاصة الثالثة:
»ظهيرة يوم الأحد. فرقة الآلات الهوائية في حديقة البيرة. مقانق حارة مع الخبز. هؤلاء الفتيات مصابات بمرض سيء جداً. عندما تذهب إلى امرأة. في زقاق هازه رقم 11 يسكن القس سانكت ماكس. كدمات زرقاء تحت العين. الاعتراف عند فتاة جميلة ليس بجريمة. يتورط المرء عندما لا يسيطر على نفسه. مصاطب جلوس. أحزمة البنطلون. العنصر السيء ملفوظ. أربعة من خمسة. لا تضع يدك في جيب بنطلونك! دراجة هوائية. دع المطاط يجف. ساعة الإهمال والاحتقار الكبرى في مكتبة الاستعارة. الآنسة ذات النظارات. خمسة فلوس لكل كتاب. ذات الصدر العامر، دخول المسبح بدون منشفة يكلفك عشرة فلوس فقط. قسم النساء. كستناء. بعيداً في الجنوب. حتى على جدران المدينة. شعب الله. لا بأس، لا بد لها من فَرَجْ«.
كالا: كيف ستجعل كل هذا الخليط منسجماً مع بعضه؟ هل هكذا.. ببساطة كل ما يقفز إلى رأسك؟
تسيفل: كلا، إني أنسق ذلك وأصبه في مادة مرتبة. هل تريد أن أقرأ عليك قصاصة أخرى؟
كالا: بالتأكيد، بالتأكيد.
تسيفل: »مريح، ولكن آه من التبعات. العادة الشهرية. ماريا الصغيرة تجلس على الرابية وتقطف الشليك البرّي. فلاحون باردون. أُلقي القبض عليه. بيض. دون سن السادسة عشرة، أمر يعاقب عليه القانون. خمس مرات. أيتها البنت امسكي تنورك جيداً عندما تهب الريح كي لا يظهر شيء. وقوفاً. دون انتباه. معصية قاتلة. حاد مثل شفرة الحلاقة. ضرب مبرح، أعطى اسماً غير اسمه الحقيقي. كم كان رائعاً. عندما كان في الحبس. أُزيلت بكارتها. شوهدت في بارك المدينة. ثمن البوظة خمسة فلوس، وبطاقة السينما (25) فلساً. أُنظر في عيني! من الخلف أو ما يسمى بالطريقة الفرنسية!«.
القصاصة الخامسة:
»أميل زولا. خسّة. كازانوفا بسبب بعض التخطيطات التي أعدها. موباسان. نيتشه. عليك أن تكون أميناً في نقل أحداث المعارك وصورها. عندها سيبول فارسي على قبري. في المكتبة. في المدينة. عندما تظل تقرأ طوال اليوم، في السابعة مساءً، تكون منهكاً، وعصبياً، ولكن هل يوجد إله؟ من الأحسن لك أن تمارس الرياضة مثل الآخرين! إما أن يكون طيباً أو جباراً. هذان هما السخرية والتهكم الحديثين. مهنة فكرية. ما دمتَ تمدُّ قدميكَ تحت رجلي أبيك، فإني أرفض مثل هذه الغايات. تمتع بالعالم ولو لمرة واحدة. أمر مثير للغثيان. ناس من عصر النهضة. ولكن المهن الفكرية مزدحمة وليس فيها شاغر. يرقص ويغني في المآتم. طيور الغابة تغرد بشكل رائع. لا تسألني! هل أن شكسبير إنكليزي؟ نحن الألمان أثقف شعب. فاوست. معلم المدرسة الألماني ربح حرب السبعينات. التسميم بالغاز. عالم في فينوسبيرغ. رحم الله رفاته فقد صمد. بيسمارك كان شغوفاً بالموسيقى. كان الله في عون مُعدّي القوانين لأنهم لا يدرون ما يفعلون. الأفواج القوية تساعد نفسها بنفسها. العسل الاصطناعي أكثر فائدة من عسل النحل, ولكنه غالٍ كغذاء للشعب, ثَبُتَ علمياً. تمّت السيطرة على ثلاثة مواقع معادية. أحسن شيء، النصر النهائي والحاسم. يمكن قبول الضحايا حتى بعد انتهاء العرض.«
كالا: جميل كيف انعطفت بالموضوع إلى الحرب.
تسيفل: هل تعتقد أنه يتعين علي أن أضعها في فصل؟
كالا: ولأي غرض؟
تسيفل: كي تبدو حديثة جداً، لأن الجديد أصبح قديماً.
كالا: لا يمكنك الاعتماد على هذه المقولة. فالإنسان نفسه أصبح قديماً. التفكير والحياة والأكل كلها أصبحت قديمة. أعني يمكنك أن تكتب ما تريد لأن الطباعة أصبحت قديمة أيضاً.
تسيفل: كلماتك تقلقني، فالملاحظات التي دوّنتُها في القصاصات الخمس ما هي إلا مخطط أولي لصورةٍ أوضح موجودة لدي. فالمذكرات تتطرق إلى »أصحاب الفضيلة«.
كالا: فكرتُ بمذكراتك، نحن الذين نسكن الأحياء الفقيرة، تربينا على أن نكون أكثر فضيلة منهم. فعندما كنتُ في السابعة من العمر، كنتُ أستيقظ في الصباح الباكر، وقبل الذهاب إلى المدرسة، أشتغل بنقل الصحف. كنا نشيطين ونسمح لوالدينا أن يأخذا النقود التي نحصل عليها بجهدنا، وهو ضرب من الطاعة، وعندما كان أبونا يعود إلى البيت سكراناً ولا يشعر بالراحة لأنه بدّد نصف أجرته الأسبوعية على الكحول، كان يضربنا. وهكذا تعلمنا منذ الصغر كيف نتحمل الألم. وعندما كنا نحصل خلال وجبات الطعام على بطاطا فقط، حتى وإن كانت كمية قليلة لا تسد الرمق، كان يتعين علينا أن نقول –شكراً- من أجل التعبير عن العرفان والشكر ليس إلاّ.
تسيفل: ولذلك ترى أن الكثير منكم أصبح فاضلاً. إذ لا يتحمل الضغط والابتزاز بهذه الطريقة إلا الفقراء. وعليه يمكن ابتزاز حتى الفاضلين منكم. ولكني واثق من أنكم ما تزالون تمتلكون بعضاً مما يمكن اعتباره رغبة وأمنية. ذات مرة كانت عندنا في البيت خادمة. كانت شاطرة ونظيفة، ونشطة جداً. كانت تستيقظ في السادسة صباحاً. لم تخرج تقريباً ولم يكن لديها صديق أو عشيق. كانت تقضي الوقت كله معنا نحن الأطفال. تقص علينا الحكايات وتلعب معنا. وعلى سبيل المثال لم تكن لدينا لعب أطفال، لذلك كانت تُخفي الممحاة الممطاطية في مكان ما من جسمها. وكان يتعين علينا أن نُفتش عنها في أعلى فخذيها حيث تربط جواربها وتشدها نحو الأعلى، أو بين نهديها أو حيث ينتهي فخذاها. كنا نمارس تلك اللعبة معها بفرح غامر. لكن أخي الأصغر حكى لوالدتي وبغباء عن تلك اللعبة. فلم تجد والدتي في اللعبة ما يُضحكها، بل قالت أننا صغار جداً لمثل تلك اللعبة، وأن ليس من الحصافة من ماريا في شيء أن تلعب معنا هكذا، طبعاً حسب رأيها! وهكذا ترى أنها كانت غير متكاملة. أما والدي فقد عَقَّب على ذلك بالقول أن ماريا من عامة الناس.
كالا: كان على والدك أن يعطيها إجازات أكثر للاستراحة خارج البيت. ولو تمّ ذلك لبقيت الأواني والصحون دون من يغسلها. وهكذا ترى أنكم كنتم معتمدين على فضيلتها.
تسيفل: شيء جميل الاعتماد على ذلك. ما أزال أتذكر كيف أني فرحت فيما بعد لأن الأخلاق ظهرت فيها نواقص أثناء التطبيق. كنتُ في السابعة عشرة وكانت عندي صديقة طالبة صغيرة اسمها أورسولا. كانت في الخامسة عشرة ولكنها كانت ناضجة جداً، غالباً ما كنا نذهب للتزحلق سوية. ولكن ذلك ما كان يكفيها. إذ لاحظتُ أنها تحبني، وتتأوه وتتنهد عميقاً وتصدر زفيراً حاراً عندما أقبلها في طريق العودة. عن ذلك سَررت صديقاً لي واتفقنا على أن يحصل شيء ما. لكنه قال لي أن الأمر ليس بسيطاً، فبدون معلومات مسبقة يمكن أن تحصل أكثر الأمور حراجة. فقد يحصل ما يصعب الفصل بين اثنين، ويمكن ملاحظة ذلك عند الكلاب، التي لا يمكن الفصل بينهما إذا ما..، إلا عند سكب سطل من الماء عليها. وفي حالة الإنسان لا يتم ذلك إلا بنقل الطرفين بسيارة إسعاف، ويمكنكَ أن تتصور مدى الحراجة التي سيعانيان منها. لا تضحك، لا تضحك!
فقد أخذت القضية على محمل الجد، لذلك ذهبت إلى واحدة من بائعات الهوى، كي أحصل على المعلومات الضرورية.
كالا: هذا أمر أسميه أنا شعور بالمسؤولية. فلو لم تكن قد تربيتَ على ذلك منذ الصغر لما وُِجدَ عندك في الكِبَر.
تسيفل: ما دُمنا بصدد الدعارة، أما تلاحظ أي قدر من الفضيلة تبدي بائعة الهوى عندما تمارس مهنتها. طَبِّق أنتَ منهج الدعارة وستلاحظ أية قاذورات ستنتج عن ذلك. كإنسان مثقف، لا يمكنك أن تفكر في تعليق شيء من ذلك على الجدار عندك. إنه عُُريٌ جنسي بحت. ولكن خذ مثلاً »ليدا مع فحل البجع(*)« إنها لوحة لواط مرسومة بشكل رقيق ولكنها سرعان ما اكتسبت دمغة الفن، فأصبح بإمكانك –في حالة إذا ما استلزم الأمر- أن تريها لأطفالك. أما تأثيرها الجنسي فيبلغ عشرة أضعاف الصور الأخرى، لأنها عمل فني! هكذا هو الفن، لأن تأثيره أكثر إثارة من التأمل المعتاد لجوهر الشيء.
كالا: أعتقد أننا نقرأ القليل، القليل جداً للكتاب الكلاسيكيين.
تسيفل: يجب أن لا تغيب عنك أي من مكتبات السجون. شعاري خير الكتب في مكتبات السجون! فلو تم تطبيق ذلك لأصبحت مهمة العمر بالنسبة للمشرفين على إصلاح السجون ولما بقيت السجون مبعث خجل لموظفيها. إذ أنهم سيقضون بسهولة وبدون أي خجل، ستة أشهر في الحبس لقاء كيس بطاطا مسروق!
كالا: هل تؤيد العفة والطهارة؟
تسيفل: أنا ضد الأوضاع المرتبة والمنظمة في زريبة الخنازير.
كالا: قبل أن أدخل إلى جماعة »المفكرين الأحرار« كنتُ منتمياً إلى نادٍ للعراة. فهؤلاء أكثر الناس عفةً وطهارة. إذ أنهم لا يجدون حراجة من أي شيء غير محتشم ولا يُستثارون أبداً. يشعرون بالفخر كونهم تغلبوا على الشعور بالخجل وتجاوزوه ويقدرون على دفع بدل العضوية. ولكني تخلفت عن دفعه. فسألوني فيما إذا كنتُ لا أخجل من ذلك. وعليه قررتُ الاستقالة وأخذ حشمتي معي. يعني أني بقيتُ فترة طويلة بلا مزاج لأي.... فقد شاهدتُ كثير في ذلك النادي.
تسيفل: أنت على حق، وأنا معك في ذلك. إذ أني إلى جانب البلد الذي يوجد فيه معنى لغياب العِفّة.

(افترقا عند ميدان المحطة، وذهب كل إلى جهته).







5
الجزء الثاني من مذكرات تسيفل/
صعوبات الرجال العظام






(عندما التقيا مرة أخرى، جلب تسيفل معه فصلاً منجزاً من مذكراته).

تسيفل: (شرع يقرأ): مهنتي فيزيائي. وقد لعب جزء من الفيزياء –الميكانيك- دوراً كبيراً في صياغة الحياة المعاصرة وبقائها. ومع ذلك فليست لدي علاقة بالميكانيك. حتى زملائي المهندسون فإن علاقتهم مسالمة وهادئة بالميكانيك، كعلاقة مدير عام كبير للسكك بالقطارات.
قضيت قرابة عشر سنوات من حياتي أعمل في معهد يقع في أحد الشوارع المشجرة. كنتُ أتناول طعامي في مطعم قريب، وعهدت بترتيب شقتي وتنظيفها إلى خادمة. وكان أصدقائي، زملاء لي في الاختصاص.
عشتُ أهدأ حياة بالنسبة لمتخصص مثقف. وكما سبق أن ذكرتُ، تلقيت تعليماً جيداً رافقته بعض الامتيازات، التي لم تكن كبيرة، ولكنها مع ذلك ميزتني عن الآخرين. فقد تحدرت من »عائلة مرفهة«. وبفضل يُسرِ حال أهلي تلقيت تعليماً جعلني أعيش حياةً أخرى تختلف عن تلك التي يعيشها ملايين من أبناء عامة الناس. وكنت سيداً بين زملائي بلا منازع، إذ كان بمقدوري أن آكل –أكثر من مرة في اليوم- طعاماً ساخناً. وإلى جانب ذلك كنت أدخن وأذهب إلى المسرح مساءً، وأستحم في اليوم الواحد قدر ما أستطيع. كانت الأحذية التي أستخدمها خفيفة جداً ومن جلد فاخر نفيس. أما بنطلوناتي، فما كانت أكياس طحين كحال الباقين. كنت أتمتع بمنظر لوحة وأستمتع بقطعة موسيقية دونما صعوبة أو حيرة. وعندما أتحدث مع خادمتي عن الطقس، كنتُ أظن ذلك جزءاً من الإنسانية.
كانت الأوضاع هادئة نسبياً في ذلك الزمن. أما حكومة الجمهورية، فما كانت بالجيدة ولا بالسيئة. ويمكن القول، بشكل عام، أنها كانت جيدة تقريباً. لأنها كانت تُعنى بشؤونها فقط، كتوزيع المناصب والوظائف.. وتركت الناس، الذين ما كانت لهم علاقة مباشرة بها وكل الباقين الذين يكونون الشعب، تركتهم في راحتهم إلى حد ما.
تركوني وأجهزتي ومعداتي وشأني. فمضيت في مهنتي بسلام عموماً. ولكن ذلك لا يعني أن الأمور كانت تسير بدون أية تعقيدات. ويبدو أنه كان لا بد من بعض أعمال العنف سواء تعلق بامرأة أم بأحد الزملاء. وفي بعض الأحيان كانوا يرسلون لي واحداً فاقداً نصف شخصيته أو بالأحرى لا يساوي شيئاً، وهذا ما مكنّني من تدبير الأمر معه بسهولة كما يفعل أي شخص آخر مثلي. غير أن أيام الجمهورية باتت معدودة.
لا أنوي هنا، وليست لدي المقدرة على تقديم صورة عن البطالة، التي أصبحت وبشكل مفاجئ مرعبة وعامة، ولا أريد تقديم وصف لعملية الأفقار العامة أو تصوير القوى المؤثرة والفاعلة في الأحداث. كان الوضع منذراً بالخطر ومبعثاً للقلق الكبير، ولم يكن من السهل اكتشاف الأسباب التي كانت تؤدي إلى ذلك التدهور العاصف.
لم يكن أحد يعرف لماذا بدا أن صراعات رهيبة اجتاحت العالم المتمدن. أما العاملون في معاهد البحث الاقتصادي، والذين كانت لديهم ملاحظات دقيقة عن الظواهر الاقتصادية، فقد كانوا يهزون رؤوسهم غير عارفين ما يجري. وانغمر السياسيون في »حركة« أشبه برَجفة سقالات أوقات الهزة الأرضية. وتم إلغاء النشريات والبحوث الاقتصادية، التي كان يعدها الاقتصاديون، وجرت الاستعاضة عنها بعددٍ لا يُحصى من مجلات التنجيم وقراءة البخت والأبراج.
انتبهتُ إلى شيء نادر، إذ توصلت إلى أن الحياة في مراكز الحضارة أضحت على درجةٍ من التعقيد والتَشوُّه يتعذر معها على أحسن الأدمغة أن ينفذ إلى داخلها ويقدم أي تنبؤ عنها. وبما أن كامل وجودنا يتوقف على الاقتصاد، غير أن هذا الأخير كان شأناً معقداً يستلزم فهمه والولوج إلى داخله قدراً كبيراً من الفهم لم يكن متوفراً على الإطلاق آنذاك! فقد أقام الناس هنا اقتصاداً يحتاج الولوج إلى داخله إلى –أناس خارقين!-.
على أن دراسة الوضع والبحث فيه كانت تُفضي إلى بعض العراقيل والمصاعب. وأود هنا الإشارة إلى واحدة من معضلات الفيزياء الحديثة. فالبحوث في مجال عالم الذرة تتعرقل، لأن ذلك يستلزم منا توفير عدسات تكبير قوية كي نتمكن من رؤية أصغر مكونات المادة. كما أن الضوء المستخدم في مثل هذه الميكروسكوبات يجب أن يكون قوياً إلى درجةٍ تنشأ عنه حرارة قوية، مما يتسبب في خلق ثوراتٍ حقيقية في عالم الذرة. أي أن ما نريد مشاهدته، يتعين علينا أن نُحرقه ونحن نشاهده. وهكذا فإننا لا نشاهد الحياة الاعتيادية للعالم المجهري، وإنما حياة مهدمة محطمة نتيجة لرصدنا ومشاهدتنا لها. ويظهر شيء مقارب من هذا في العالم الاجتماعي. فالبحث في المجريات الاجتماعية لا يتركها سالمة دون مساسٍ بها، بل يؤثر عليها كثيراً، يؤثر عليها باتجاه تثويرها. ولهذا السبب يتوضح لماذا أن بعض الدوائر والأوساط لا تشجّعُ على القيام بأبحاثٍ معمقة في الحقل الاجتماعي.
وبما أنه لم يتقدّم بنفسه أحد من »الناس الخارقين« الذين يستطيعون الولوج في عالم الاقتصاد، فقد اقترح »البعض« أن يتولوا بأنفسهم أمر تبسيط الاقتصاد بشكل راديكالي، كيما تسهل رؤيته وتوجيهه. عندها سمع البعض بهذه النية وأكد عزمه على عدم الاهتمام إطلاقاً بالاقتصاد.
وفجأة راح »البعيد«(*) يتردد على كل لسان. فقد جمع هذا »الرجل العظيم« -قبل سنوات عندما كان في مدينة كبيرة مشهورة بفنها وبيرتها الرائعة(*)- جمع حوله العديد من البرجوازيين الصغار وأقنعهم، بلهجة خطابية غير مألوفة في بلادنا، أن عصراً كبيراً يولد تواً.
وبعد أن أتم بضع سنوات من تقديم نمرة في السيرك فاز بثقة رئيس الرايخ، وهو جنرال خسر الحرب العالمية الأولى، وأحيل على التقاعد كي يتفرغ للتحضير للثانية.
وبما أنني شهدت »عصراً كبيراً«(*) في شبابي، فقد تقدمتُ بطلبٍ للحصول على وظيفة في براغ، وتركتُ البلاد أعلاها سافلها.
(لعدة مراتٍ حاول كالا مقاطعة القراءة ولكن احترامه لما هو مكتوب منعه من ذلك).
كالا: متى سمعتَ للمرة الأولى بالفاشية؟
تسيفل: قبل سنوات. أي عندما سمعت بوجود حركة موجهة بالأساس ضد التأخر التقليدي في حركة القطارات الإيطالية، وتعتزم استعادة مملكة روما القديمة. وسمعت أن أعضاء هذه الحركة يلبسون قمصاناً سوداً، وظننت في حينها أنه لا بد أن يكون هناك ثمة خطأ ما, إذ لا يمكن ملاحظة الأوساخ على الأسود، وأن القمصان البنية(*) أكثر ملاءمة وعملية. ولكن جاءت بعد ذلك حركة استفادت من خبرة الأولى ولبست القمصان البنية. وتبين أن القضية الرئيسية هي أن »هذا الشيء«(*) وعد الإيطاليين بحياةٍ غنيةٍ كان يراها هو فقط. وطبقاً للصحف الإيطالية فإن دعوته تلك أثارت عاصفة من التأييد والحماس بين السكان.
كالا: أرى.... عند حلول »العصر الكبير«(*) سيصبح بالإمكان طردهم لأنهم ليسوا مستعدين لتقديم استعراضات بطولية طواعية.
تسيفل: لقد تسنى لي أن أتدبر أمر توفير بعض الصغار من »أصحاب الفضيلة«(*)، لاستعمالي الخاص، وما كان الأمر عسيراً أو باهظاً. فقد كنت مقتدراً من الناحية المالية، وهكذا وعدتُ المسؤول الكبير في موضوع نظرية الذرة، وأعربت له عن استعدادي لتحمل المخاطر فيما إذا فشلت في مهمتي. وكي أقرب لك الصورة.. فإن ما كنتُ بصدده، يساوي الصعود إلى قمة ماترهورن. قد يتراءى لك أنني إنسان خامل يحب الراحة، ولكنك لم ترني في مختبر التجارب.
كالا: استناداً إلى كلامكَ، يمكن أن يتولد عنك انطباع بأنك برجوازي صغير لا يسعى إلا من أجل راحته فقط.
تسيفل: أعرف أي نوع من الناس تقصد. إنكم تعتبرونها مضايقة لكم إذا ما منعكم أحد أن تضلوا الطريق. ولكني أرى أن المضايقة هي عندما أُمنع من تطوير شيء خارج عني، ولنقلْ نظرية الذرة مثلاً. إذ أن التمكن من التحكم بالجو، أمرٌ يختلف عن »السيطرة على الأجواء«(*).
كالا: إن الأمر ليس بتلك السهولة التي نتصورها بالنسبة للرجال العظام.
تسيفل: لا أجد مبرراً على الإطلاق أن يكون سهلاً عليهم.
كالا: فإذا كان المرء بحالة مالية جيدة، عندها يصعب أن تلحق به المضايقة والضغوط، على الأقل مؤقتاً، ولكن الأمر أصعب بكثير بالنسبة للذين لا مال عندهم.
تسيفل: إنك تعود من جديد وتتحدث عمن لا مال عندهم أي عن الشعب. فالحركات الفاشية في كل مكان تسمي نفسها، حركات شعبية. وتطلق صرخات قوية بعض الأحيان ضد الأغنياء، خاصة عندما تريد تبرعات لملأ خزينة الحزب، وإن كانت تلك الخزينة تمتلئ ببدلات اشتراك الأعضاء. ولكن كلما تزمتوا مع الأغنياء أكثر تدفقت عليهم أموال أكثر وازدادوا ثراءً وغنىً. ولكن يتعين عليهم أن يقدموا مقابل ذلك ما يساويه من الخدمات والتسهيلات. ففي هذه الأيام يُطلب الكثير من الرجال العظام، وليس من العسير فهم أنهم لا يستطيعون تلبية كل المطالب الفظيعة. فعلى سبيل المثال يُطلبُ منهم أن ينكروا ذواتهم نهائياً. لكني أتساءل هنا كيف يمكنهم القيام بذلك؟ ولماذا هم بالذات (أي الرجال العظام) دون غيرهم؟ ولكن يتوجب التأكيد أن هؤلاء الرجال العظام لا يحصلون من كل ذلك على شيء سوى الهم وليالي الأرق، مما يتوجب على »البعيد«(*) أن يذرف الدموع علناً وباللترات ويؤكد أنه يقصد ذلك فعلاً وبصدق، وبعد ذلك يتبعه الشعب إلى الحرب بدافع من المثالية وليس بدافع الربح.
كالا: قبل بضع سنوات ألقى كلمة قال فيها أنه لا يملك مالاً ولا عقاراً ولا أرصدة في البنوك. ولكن ذلك لم يقع موقعاً حسناً في الآذان. فقد شعر البعض بالحراجة لأنهم لا يملكون أكثر من مصنع أو مصنعين. أما الآخرون فقد رفضوا معسكرات الاعتقال التي بناها خصيصاً لهم. آنذاك شغل الناسَ سؤال: كيف يتدبر أمره ومن أين يعيش؟ بعد ذلك تبين أنه لا يحتاج الكثير. لأن لديه بطاقة مفتوحة ومجانية للدخول إلى الأوبرا. وهكذا تعيَّن عليه أن يقطع كل الشائعات ويقرر اختيار المهنة التي يريدها. فاختار أن يكون كاتباً. وبما أنه مستشار الرايخ، فقد أمر بأن لا يُصرفَ له راتب المستشار وكان مبعث سروره. لكنه أصدر أمراً ثانياً بشراء كتابه »كفاحي« باعتباره كاتباً وليس بصفته مستشار الرايخ، الكتاب الذي يتبين فيه كيف أن نضاله حقق النجاح الكامل. ومن مبيعات كتابه أقام جيش الرايخ واشترى قصراً يليق بمقامه كمستشار وعاش عيشة محترمة.
تسيفل: من الطريف ملاحظة الجهود التي يبذلونها للبرهنة على أن قتل ملايين الناس واضطهاد الشعوب وتصدير التشويه الفكري إلى شعوب بأسرها يجري دون مقابل، بل إحساناً منهم.
كالا: يريدون أن يبينوا أنهم لا ينجرّون وراء الصغائر وأنهم يعيشون مع الأفكار الكبيرة، بعيدين عن كل الوضاعات، خاصة عندما يخططون للحرب.

(عندها افترقا، وذهب إلى جهته).










6
المصير المحزن للأفكار الكبيرة/
السكان المدنيون، مُشكلة






(تطلع تسيفل بشيء من السأم إلى المبنى المغبر لوزارة الخارجية، حيث يتعين عليهما تجديد إقامتهما. ولاحظ في إحدى واجهات العرض صحيفة سويدية معلقة، نشرت تقارير عن الزحف الألماني على فرنسا).

تسيفل: كل الأفكار الكبيرة تفشل بسبب الناس.
كالا: لو كان صهري هنا لأيدك تماماً. إذ فقد ذراعه، لذلك فكر أن يفتح له محلاً لبيع السيكار والسكائر مع جناح صغير ملحق به لبيع أدوات التطريز والخياطة والحياكة لأن النساء يرغبن التدخين، ولكنهن لا يفضلن الدخول إلى محلات بيع التبغ. إلا أن الفكرة فشلت لأنه لم يحصل على إجازة لفتح المحل، كما أنه لم يتضرر لأنه حتى لو حصل عليها، لما استطاع أصلاً تدبير المال اللازم لفتح المحل.
هذا الذي ذكرته الآن لا أسميه بفكرة كبيرة. هل قرأت كيف أن السكان المدنيين في فرنسا يعرقلون الآن الحرب الشاملة؟ فقد خربوا كل خطط قيادات الجيش. إذ عرقلوا كل العمليات العسكرية. فالسيل الهائل من النازحين، سَدَّ الشوارع والطرق وعرقل حركة القوات. تصور أن أجساد الناس عرقلت، بل أوقفت حركة الدبابات، بعد النجاح الذي أُحرِزَ في صناعتها إذ جرى تصميمها للسير دون أن تتوقف وسط أوحال الغابات التي يصل عمقها إلى نصف متر.. تصور رغم ذلك فإنها لم تفلح في الحركة بسبب أجساد الناس وجثثهم. كما أن الناس والنازحين الجائعين أكلوا كل خزين القوات من المؤونة، وبدا السكان المدنيون مثل طاعون من الجراد. فقد كتب أحد المراسلين الحربيين لصحيفة، يقول أن المدنيين أصبحوا مشكلة جدية بالنسبة للعسكر.
كالا: بالنسبة للألمان؟
تسيفل: لا. بالنسبة للفرنسيين، أي أن الشعب الفرنسي أصبح مشكلة بالنسبة للعساكر الفرنسيين.
كالا: هذا عمل تخريبي بحت.
تسيفل: على أية حال إنه عمل تخريبي من حيث تأثيره في نهاية المطاف. ذلك أنه ما نفع أدق وأحسن حسابات هيئات الأركان عندما يندفع الشعب في الوسط ويخرب ساحة المعركة؟ عندها لن تنفع كل الأوامر العسكرية ولا كل التحذيرات والخطب والنداءات. فما أن تحلّق بعض الطائرات المعادية فوق مدينة، حتى يترك البيوت كل مَنْ هبَّ ودب ويملأون الشوارع دونما أي وازع من تفكير. أن سلوكهم هذا سيربك العمليات العسكرية ويعرقلها.
كالا: ذنبُ من تعتقد؟
تسيفل: كان يجب التفكير بوقت مبكر بإخلاء القارة كلها. إن إخلاء وإبعاد الشعوب بشكل تام سيوفر فرصة جيدة لشن الحرب وسيمكن من الاستخدام الأمثل للأسلحة الحديثة. على أن يكون الإخلاء ليس مؤقتاً. فالحروب الحديثة تندلع بسرعة خاطفة، وإذا لم يكن كل شيء جاهزاً، أي أن تكون عملية الإبعاد والإخلاء قد تمت حقاً، فستكون الخسارة محققة. يضاف إلى ذلك أن عملية الإخلاء يجب أن تتم على نطاق عالمي لأن الحروب تتسع بسرعة خاطفة لا يمكن فيها للمرء التنبوء أين ستندلع.
كالا: إخلاء على النطاق العالمي ولأجل غير مؤقت؟ إنه يستلزم تنظيماً هائلاً.
تسيفل: هناك فكرة عند الجنرال آماديوس شتولب ناغل يمكن أن تكون حلاً وسطاً ومؤقتاً. إذ يقترح أن يتم نقل السكان المدنيين بطائرات نقل خاصة ويجري إنزالهم بمظلات خلف خطوط العدو وفي أراضيه. إن من شأن ذلك أن يكون له تأثير ثنائي. فمن ناحية يمكن إحراز التقدم والزحف دون عوائق من قبل السكان المدنيين، ويمكن توفير حصتهم من التموين للجيوش المتقدمة ضد الأعداء. ولأن ذلك سيشيع الإرباك والذعر في صفوف الأعداء ويسد طرق الامدادات والاتصالات ويقطع خطوط إمداداتهم من ناحية ثانية.
كالا: تلك هي بيضة كولومبوس السحرية! فكما قال الفوهرر أن بيض كولومبوس ملقى في الشارع ولا يحتاج المرء سوى أن يلتقطه ويمارس اللعبة.
تسيفل: إن هذه الفكرة ألمانية في حكمتها وطابعها غير التقليدي. إلا أنها لا تقدم حلاً نهائياً للمعضلة. لأن العدو سيلجأ إلى إتباع نفس الأسلوب ويلقي بسكانه المدنيين في أراضي الطرف الآخر. ذلك أن الحروب تندلع وتنتهي عملاً بمقولة »العين بالعين والسن بالسن«. ولكن من المؤكد أنه إذا لم تعد الحرب الشاملة كابوساً يُخيّم على المستقبل، عندها سيمكن التوصل إلى حل. إما التخلص من المدنيين،؟ وإما أن تصبح الحرب غير ممكنة. ولكن سيتم اتخاذ القرار بشأن ذلك في وقتٍ ما، قد لا يطول.

(عندها أفرغ تسيفل كأسه في جوفه ببطء كما لو أنه كان الكأس الأخير. ثم نهضا، افترقا، وذهب كل إلى جهته).









7
الجزء الثالث من مذكرات تسيفل/
حول التعليم






(أخرج تسيفل بعض المسودات من جيب سترته عندما سأله كالا بسرعة)

كالا: هل هناك ثمة حادثة دفعت بك إلى السفر؟ إذ أنك لم تأتِ على ذكر هذه القضية في مذكراتك. أعتقد أنه من غير المريح أن تُبقي ذلك دون إضاءة.
تسيفل: لم أتطرق إلى هذا الموضوع لأنه قد لا يحظى باهتمام عام. كان عندنا في المعهد أحد المساعدين، لا يستطيع التفريق بين البروتون ونواة الخلية. وكان مقتنعاً بأن النظام الذي يعج باليهود هو الذي يعرقل ترقيته وصعوده ولهذا السبب انتمى إلى الحزب(*). وذات مرة كان عليَّ أن أقوم بتصليح عمل أعدّه هو، فوجد أني لا أُناسب النهضة القومية، وأكرهه شخصياً لأنه يؤيد »البعيد«(*). وكان ذلك كافياً ليجعل إقامتي مشكلة حقيقية. بعد أن استلم هذا »البعيد« الحكم في البلاد. وأنا، بطبيعتي، لا أستطيع التعبير عن عواطفي بشكل مكشوف، كما أني لا أطيق القيادة الحماسية. وفي »العصور الكبيرة«(*) فإن أمثالي يربكون الصورة المتناسقة. وسمعت أنهم أعدوا معسكرات خاصة لأمثالي بهدف حمايتنا من غضبة الشعب، لكنهم لم يلقوا بي في الحبس. والآن سأواصل القراءة.
كالا: تعني أنك لم تكن مثقفاً بما فيه الكفاية كي تصلح لهذا البلد؟
تسيفل: لم أكن مثقفاً إلى الدرجة التي أستطيع فيها –وسط كل تلك القاذورات- الحفاظ على إنسانيتي وأواصل العيش بكرامة. ليكن ذلك، سمها ضعفاً أو ما تشاء، لكني لست إنسانياً إلى تلك الدرجة التي أستطيع أن أبقى فيها إنساناً وسط ذلك القدر الهائل من اللاإنسانية والوحشية.
كالا: كنت أعرف شخصاً، كان كيمياوياً، فصنع الغاز السام، لكنه كان »سلبياً«(*)، ويلقي محاضرات أمام الشبيبة »السلبية« يهاجم فيها الحرب باعتبارها الجنون بعينه. ذات مرة انفعل في إحدى محاضراته وانتقد الحرب بعنف. أخذوه إلى التحقيق لحمايته، وعلموه كيف يكون معتدلاً في اختيار تعابيره.
تسيفل: لماذا تركتموه يتحدث؟
كالا: لأنه كان على حق عندما قال أَنْ لا علاقة له بما أُنتج، وأن علاقته بالغاز السام مثل علاقة عامل في مصنع للدراجات الهوائية بما ينتجه المعمل. إذ أنه كان ضد ما أُنتج من غاز سام، تماماً مثلنا. وهكذا عرفنا بالضبط أننا نعمل تمهيداً للحرب، أن الدراجات الهوائية، التي هي في الواقع منتوجات بريئة، إذا لم تتسنى لها إمكانية عبور الحدود، لأن الأسواق ممتلئة بها، فلا بد أنه سيأتي يوم جميل تعبر فيه الدبابات الحدود. فقد سمعتُ بعض الناس يقول أن التجارة والاقتصاد أمر إنساني، والحرب فقط هي غير إنسانية. إلا أن التجارة والاقتصاد عندنا ليسا إنسانيين أولاً، ويقودان إلى الحرب ثانياً. ورغم ذلك يريدون حرباً إنسانية. إذا أردتم الحرب، تفضلوا، ولكن بعيداً عن السكان المدنيين! بالمدفعية وليس بالغاز السام!
لقد سمعت أن الكونغرس الأمريكي حدّد أرباح التسلح قانونياً بـ10% فقط. وكان يمكن له أن يحدد نسبة الخسارة البشرية في الحرب بما لا يزيد على 10%! إن البربرية تنشأ من البربرية، كما تنشأ الحرب من الاقتصاد. أرجو المعذرة لأني تحدثت عن شؤون السياسة.
تسيفل: ليس للثقافة أية علاقة بالاقتصاد.
كالا: للأسف.
تسيفل: ماذا تعني بـ»للأسف«؟ أرجو أن تتحدث معي بلغة مفهومة لأني رجل علم لا يفقه بسهولة.
كالا: تعلمتُ في المدارس المسائية وكنتُ متردداً فيما ينبغي عليّ تعلمه: عالم الطيور أو الكيمياء أم عالم النباتات سواسية، لأنه ما كان يمكن لي استخدام أي منها، فإذا كنت أنت قد درستَ الفيزياء، فقد تكون فكرتَ بفرص العمل التي يمكن أن تتوفر لك من خلال اختصاصك. أما بالنسبة لنا، فإن الأمر كان يتعلق بالثقافة فقط، أي أن نثقف أنفسنا.
تسيفل: بعد ذلك أي فرع اخترت؟
كالا: اخترتُ عالم الطيور، ومشت الأمور في البداية، إلا أنني سرعان ما طُردت من العمل، وأصبحت في المساء أشعر بالتعب، لذلك انقطعت عن الدراسة. كانت المحاضرات مجانية، لم تكلف شيئاً ولم تنفع شيئاً، لكن كتاباً صغيراً من كتب الجيب كان يكلف سعره دزينة من السكائر. ربما لم أكن أمتلك الرغبة والكفاءة الصحيحة لتجاوز كل المصاعب. ولكن مع مرور الوقت استطاع ابن صاحبة البيت، التي أسكن عندها، أن يحفظ عن ظهر قلب كل الأسماء في عالم النبات. فقد كانت لديه طاقة عجيبة على الحفظ. إذ ما كان يخرج في الليل ولا يتمشى عصراً ولا يذهب إلى السينما. لم يفعل أي شيء سوى تعليم نفسه. وبذلك أَضرَّ بصحته، حيث تعين عليه أن يلبس نظارات طبية تعرقله أثناء العمل. لكنه مع ذلك بقي عاطلاً عن العمل.
تسيفل: تماماً مثلما تقول، إن الأمر يتوقف عليكم أنتم، فيما إذا كنتم تريدون التعلم والمعرفة أم لا. أنا متأكد من أن ابن مضيفتك كان بإمكانه أن يتعلم أكثر، لأنه ما كان يستغل كل وقته. فلو فكر قليلاً لانتبه إلى أنه عندما يذهب إلى التواليت بين آونة وأخرى، فإنه لا يأخذ معه كتاباً، أو أنه كان يحيد ببصره عن الكتاب بعض الأحيان خلال وقت القراءة، وقد لا يستغرق ذلك أكثر من ثلاث ثوان. ولكن إذا ما جمعنا هذا الوقت خلال عشرين أو ثلاثين سنة من القراءة، فسنرى أنه هَدْرٌ لأسبوع كامل من القراءة والحصول على المعرفة! فعالم النبات، عالم رحيب وواسع جداً، وأن الحصول على معرفة كاملة عنه تتطلب معاناة لا إنسانية حول الموضوع، خاصة من قبل عامل ميكانيك لديه عمل آخر وغير متفرغ لعالم النبات. وإنه لمن الخطأ أن تطرح سؤال: ما نفع المعرفة؟ لأن من لا يطلب العلم من أجل العلم، فمن الأحسن له أن يترك هذا الموضوع لأنه لا يمتلك عقل عالم.
كالا: ولكني لم أطرح السؤال عندما بدأتُ بالكورس الأول.
تسيفل: إذن، كنتَ مؤهلاً لذلك، ولم يكن للعلم موقف مضاد منك. أعتقد أن تأهيلك يرجع إلى كونكَ مهتماً بهذا الحقل منذ صغرك. ومن الناحية الأخلاقية، كنتَ متفوقاً حتى على الأستاذ، الذي كان يلقي المحاضرات عليكم، لأنه كان يؤدي واجباً ويتقاضى مرتباً لقاء ذلك، ولكن للأسف، أنك لم تصمد ولم تواصل الدراسة.
كالا: لستُ أدري ما نفع ذلك على طول الخط. لماذا يتعين علي أن أربي حسي الجمالي وأتطلع إلى لوحات روبنز، في الوقت الذي تأتي فيه البنات بوجوه اكتست ألوانها بدخان المعامل، إن ابن مضيفتي يدرس عالم النبات، في حين أن أمه لا تمتلك نقوداً لتشتري رأساً من الخس!.
تسيفل: إذن يمكننا أن نصوغ الأمر على النحو التالي: إذا كانت الحاجة للمعرفة والتعليم والثقافة قد تحوّلت في بلد ما إلى عمل يوضع في مصاف الأعمال البطولية المضحية، وأصبحت حاجة عامة ولكن تستلزم فضيلة عالية، فإن ذلك يلقي ضوءاً سيئاً على هذا البلد.
(بعدها افترقا، وذهب كل إلى جهته).







8
حول مفهوم الطيبة/
الوحوش الألمان/
حول الجِدْ






كالا: إن لكلمة »طيب« طعم قبيح.
تسيفل: الأمريكان يستخدمون للرجل أو الإنسان الطيب كلمة »sucker« وتلفظ »ساكر«، ولكن أفضل طريقة لنطقها هي أن تَبصُق بها من زاوية فمك، عندها ستعلم أنك لفظتها بصورة صحيحة.
كالا: فكر بـ »مساعد خباز طيب«(*) يمشي سوية مع عامل تعدين مرهق، هل تتصور كيف سيبدوان بعيونهما الغائرة خلف الطحين وتراب الفحم؟ الناس الطيبون هم أولئك الذين لا نستطيع تسميتهم »أحسن الناس«. فبفضل عمال النسيج نحصل على الملابس، وبفضل الفلاحين ونتاجهم نأكل، وبفضل عمال البناء والحديد نحصل على المساكن، ونحصل على الشراب من عمال التقطير، ونتثقف من تحت يد عمال الطباعة. ولقاء ذلك لا يحصلون إلا على أجور »هلامية«.. أيُّ نكران ذات هذا الذي يفوق ما عند القديسين!
تسيفل: من قال أنهم طيبون؟ إذ هناك ما ينقصهم كي يكونوا طيبين حقاً، هو أن يتفقوا ويوافقوا بأن يظل أجرهم »هلامياً« ومع ذلك يشعرون بالفرح كوننا نعيش حياةً مرفهة. ولكنهم ليسوا كذلك.
كالا: أرجو أن لا تتغابى أو تتظاهر هكذا. أسألك بشرفك وضميرك، هل تنصحهم أن يقبلوا بأجرهم الزهيد ويفرحوا؟
تسيفل: كلا.
كالا: إذن لا تريدهم أن يكونوا طيبين؟
تسيفل: لن أنصح أحداً أن يتصرف بشكل إنساني دون أن يراعي أقصى درجات الحذر، ففي ذلك مجازفة كبيرة. بعد الحرب العالمية الأولى ظهر في ألمانيا كتاب يحمل عنواناً مثيراً »الإنسان طيب!« غير أني شعرت فوراً بعدم الراحة، بل والقلق، وأطلقت زفيراً قوياً عندما قرأتُ مقالة لناقد تحت عنوان »الإنسان طيب، لكن العمل لذيذ«. من ناحية أخرى عثرتُ على قصيدة لكاتب مسرحي(*) حفظناها عندما كنا في المدرسة الإعدادية، إذ يصور فيها الطيبة كشيء بطولي:
»على حائطي تتدلى قطعة فنية يابانية،
قناعٌ خشبي لشيطان، مطلي بطلاء ذهبي
عندما أنظر إليه، كنت أتحسس
شرايين صدغيه المتغصنة،
كم هو باهظ ومرهق أن تكون شريراً«.
وهذا ما يجرني إلى السؤال التالي: ما هو موقفك من الوحوش الألمان؟ وعلى فكرة، أنا متحفظ على كلمة »ألماني«. »أن تكون ألمانياً، يعني أن تكون جذرياً« سواء في تلميع أرضية البيت بالشمع، أو في متابعة اليهود ومضايقتهم. »فالفرد الألماني مرشح بصورة اعتيادية لكرسي الفلسفة«. كان يمكن للأمر أن يكون طبيعياً لو اقتصر على التفريق والتمييز، ولكن بسبب من هؤلاء (يقصد النازيين – ي. ع) أصبح رديفاً للمتعطشين للدم. وأستطيع أن أتخيل الألماني بعد دخول باريس وقبالة ستالينغراد وفي ليديتسه، ولكن الحمد لله انتهى هذا الإلحاح الآن إلى درجة يريد معها تغيير اسمه. وإلا قُلْ لي كيف سيبدأ حياةً جديدة عندما يعرفه الجميع؟ ولغرض التمويه كان يمكن أن نسمي بلدنا بالبلد التاسع، وأناسه بـ»التاسعون« وأن لهم تسعة أرواح.. وما إلى ذلك، ولكن يجب تغيير الرقم بين آونة وأخرى كي لا يعطي إيقاعاً كريهاً. إنه لمن المقزّز حقاً رؤية كل غبي يمشي متبختراً، فخوراً كما لو أنه كتب »الأرملة المضحكة« مثلاً أو غيرها. لا بد أني ابتعدتُ عن الموضوع. أردتُ فقط أن أسألك: هل تصدق ما يُقال عن الفظاعات والبشاعات التي يرتكبها الألمان؟
كالا: نعم.
تسيفل: ولا تعتقد أنها مجرد دعاية؟
كالا: من قبل الحلفاء؟
تسيفل: أو من قبل النازيين.
كالا: بدون أدنى شك، أعتقد أن قسوة هائلة تسيطر داخل الجيش الألماني. فعندما يريدون الغزو والسرقة، يضربون حتى تتألم أيديهم من الضرب. ذلك أنهم، عن طريق الإقناع والمزاح والنكتة، لن يحملوا أحداً على التنازل لهم عن ممتلكاته وثرواته، ولن يفعل ذلك حتى لو تحدثوا معه بلسان الملائكة.
تسيفل: »في الجيش الألماني تسيطر قسوة قوية« لا بُدَّ أنك تعرف أن هذا التعبير يحمل معنيين.
كالا: هناك فكرة خاطئة لدى البعض عن »السيطرة«. فأغلب الناس لا يدرك أنه خاضع للسيطرة طوال حياته. وهذا أمر واقع. ذلك أنهم يقومون بما يتوجب عليهم القيام به حتى بدون إملاء من فوق أو تسلط وما إلى ذلك. وعندما تلاحظ ذلك وتفكر به، فلا بد أنك ستثور غضباً. فعندما نرى أن هتلر يسيطر على ألمانيا، فإن ذلك يعني أنه يسود عليها، إلا أن هناك كثيراً من الناس الذين لهم أفكار أخرى ولكن ليس بمقدورهم التعبير عنها أو أنهم لن يعبروا عنها أبداً، ومن الطبيعي أن يوجد مثل هؤلاء الناس، غير أن الأمر الحاسم هنا هو أنه عما قريب، لن نشهد سيطرته هو فقط وإنما أفكاره أيضاً. إذ توجد لديه الأدوات اللازمة ليهزم عقلهم، إنه يقدم المعلومات عن مجريات الأمور بواسطة الإعلام مثلاً. وإذا كنت تفكر أن هذه المعلومات خاطئة، فليس بمقدورك الحصول على الصحيحة. وعليه تبقى بدون معلومات، فضلاً عن ذلك فإنه عندما يريد زج الناس في حرب نهب قذرة، فإنه يخاطب »أنبل وأجمل« ما عندهم.
لقد نقلتُ قصيدة عندما كنت في ستوكهولم، وهي ليست سيئة. (مدّ يده في حقيبته اليدوية الصغيرة، التي كادت تنشق وتتفتق لكثرة ما جمع بها من وثائق وقصاصات جرائد ومسودات مكتوبة باليد. سحب قصاصة مكتوبة بقلم الرصاص) كالا يشرع بقراءة القصيدة المعنونة »نداء الصابرين وأصحاب الفضيلة«:
في ليل الإرهاب الذي جاء مؤخراً
ظهر على المسرح، بعض المخضرمين، يلبسون خماراً
وأثبتوا ولاءهم للحكام.
روح الانتقام، نشوانة، خرجت تواً من الحلاق
بينما يقوم الضمير بإجراء بروفة
على ذاكرتها، التي ما خَذَلتها يوماً.
قوبلت قصيدة ذي القامة القصيرة دميمة الخلقة،
والمعوقة، بترحيب حار
الفظاظة كانت مرتبكة فتلفتت حول نفسها،
وما حظيت بشيء عندما ظهرت على المسرح،
تزحلقت على الخشبة، فأصلحت الأمر
عندما راحت تضرب الأرض بأقدامها
بعنف، حتى أحدثت فتحةً فيها.
بعدها جاء الجهل، أقسم اليمين
-وزَبَدُ الجهالة يتطاير من فمه- أن الذنبَ
ذنب المعرفة. وهتف »يسقط العارف الأحسن!«
جاء الذين لا يفقهون وحملوه، من أكتافه
المهترئة، خارج المسرح.
وجاءت الوضاعة، قدّمت نفسها فنانةً
كبيرة جائعة، وقبل أن تتوارى، انحنت
عدة مرات للأنذال الذين أعطوها
مناصب عالية.
الشماتة بالحوادث المؤسفة، أنعشت جو
القاعة عندما دخلت باعتبارها هزلية
محبوبة. إلا أنها أصيبت، وهي تضحك،
بكسر بسيط.
في الجزء الثاني من العرض – المسابقة، ظهر
الطموح أولاً. كان رياضياً طويلاً، كبير الحجم.
قفز في الهواء عالياً، فأصيب رأسه الصغير
بأذى عندما ارتطم بالسقف من فرط القفز.
لكن لم يرمش له جفن، عندما لم يجد منظم
المسابقة سلماً يصعد عليه فيعلق له
الوسام، فعلقه بدبوس في لحم
الطموح مباشرة.
بقليل من الشحوب قدّمت العدالة نفسها.
تحدثت عن بعض التفاهات الصغيرة، ووعدت
بمحاضرة شاملة للمستقبل.
عطش المعرفة شاب قوي، حكى كيف أن
النظام فتح عينيه على مسؤولية ذوي الأنوف
المعقوفة(*) في الاضطرابات العامة.
بعد ذلك جاءت روح التضحية، فتاة شابة
نحيفة، بوجه جاد، تحمل صحناً كبيراً في
يديها المرتجفتين. شرعت تجمع القروش من العمال
وتقول بصوت خفيض متعب:
فكروا بأطفالكم!
النظام هو الآخر ظهر على خشبة المسرح،
إعتلته قبعة نظيفة. راح يوزع شهادات الدكتوراه على الكذابين، وإجازات الجراحة
الطبية على القتلة. لم تكن على بدلته ذرة
من تراب، رغم أنه يتسلل ليلاً خلف البيوت
ليسرق ما بقي في المزابل.
كانت طوابير طويلة، لا نهائية من المسروقين
تمر أمام طاولته فيوقع لها –على اليد-
بريشته وصولات. أما أخته (أي أخت النظام)
الإدخار فقد ظهرت تحمل سلة تجمع فيها كِسَرَ
الخبز اليابس من أفواه المرضى والعاجزين.
أما النشاط، فجاء يلقف الهواء بصعوبة
وكأنه يحتضر. كانت السياط تزين رقبته،
وينتج قنبلة يدوية بأقل مما تستغرقه
»شفطة« الأنف. وقبل أن تقول: آه!
يُحضّر غازاً ساماً يكفي لألفي عائلة.
كل هؤلاء الأَعلام، أطفال وأحفاد البرد
والجوع، ظهروا من بين الشعب، وقدموا
أنفسهم دون تردد، كونهم خدام الاضطهاد.
تسيفل: هل أفهم من كلامك أن بإمكان هتلر أن يشكل من هذه الأصناف الإثني عشر جيوشاً كبيرة من الأس أس؟
كالا: إنكَ لا تحقق الربح إذا لم تنزل بكل العُدّة.
تسيفل: الرأسمالية هي المسؤولة عن كل ذلك.. تلك هي الديباجة.
كالا: للأسف، كلا.
تسيفل: أتفق معك لأنها ليست معروفة بما فيه الكفاية. بل أتفق في أني، أنا شخصياً، لديّ عادة خطيرة هي أني أخفي الديباجات حتى وإن كانت حول حقائق مفيدة. إن مثل هذه العادة لا تدوم في الكيمياء. هل تعرف أن نبيَّك كارل ماركس قَيَّم النوعيات الأخلاقية للبروليتاريا ببرود تام؟ وصحيح أنه امتدحهم. لقد أخذ غوبلز من ماركس فكرة أن البروليتاريين أناس من الدرجة الثانية، إلا أنه نسي بأن ماركس أضاف إلى ذلك أنهم سئموا هذا الوضع ولن يقبلوا به بعد اليوم.
كالا: كيف تدعي أن كارل ماركس شتم العمال؟ أرجو أن تكون دقيقاً في كلامك.
تسيفل: دعني أكون دقيقاً، وإلا بدوتُ أمامك غبياً، وعندها لن ينفع شيء. فكارل ماركس لم يشتم العمال وإنما استخدم العبارة التي تشتم بها البرجوازية العمال عادة. إن معرفتي بالماركسية ناقصة، ومن الأفضل لك أن تأخذ الحذر، فالمعرفة الكاملة بالماركسية تكلف هذه الأيام –كما أخبرني أحد الأصدقاء- عشرين إلى خمسة وعشرين ألف مارك ذهبي. هذا ناهيك عن المضايقات، وبأقل من هذا السعر لن تحصل على شيء صحيح. ففي أفضل الأحوال تحصل على ماركسية ناقصة بلا هيغل أو ريكاردو.. إلخ. لقد حسب صديقي تكاليف الكتب فقط، أما أجور الجامعة وساعات العمل فقد أهملها. لأنها ستفوتُ عليكَ بسبب الصعوبات التي ستخلق لك، وربما الاعتقال. فإذا قرأتَ ماركس فإنه سيقلب كل ما عندك من مفاهيم عن التاريخ والفلسفة.
كالا: وماذا عن كون العامل إنساناً من الدرجة الثانية؟
تسيفل: إنها تعني أن العامل مسلوب من إنسانيته ويتعين عليه أن يقوم فقط بما يستوجب القيام به. لذلك فإن إنسانيته مهدورة، كما لو أنه في عالم يتوقف وجوده (أي العالم) على هذه الإنسانية المسلوبة والمهدورة.
فالهوموسابْيَن(*) لا يعمل إلا عندما يحيق به الخطر، حسب ما يقول ماركس، ويسمح للأجناس الأرقى منه أن تبتزه وتستغله. ولا يعمل شيئاً صحيحاً إلا في حالات الضرورة. أي أنه يستعيد إنسانيته فقط عندما لا يكون هناك مخرج آخر. لذلك فإن البروليتاري يحقق رسالته برفع الإنسانية إلى درجة أرقى.
كالا: أنا شخصياً، وبشكل غريزي، ضد هذه الرسالة. إنها تبدو منافقة، وأنا لا أثق بالمنافقين. فهل تثق بهم أنت؟ بودي أن أعرف ماذا تعني كلمة رسالة حرفياً.
تسيفل: إنها متحدّرة من أصل لاتيني وتعني، أَنْ تُرسل، أَنْ تبعث.
كالا: هكذا ظننت أنا أيضاً. أي أن البروليتاري يجب أن يكون واسطة النقل مرة أخرى. إنهم يفكرون بدولة مثالية ويتوجب علينا، نحن، أن نبنيها لهم، وبذلك نكون المنفذين ويظلون هم القادة، أليس كذلك؟ نحن، الذين يجب أن ننقذ الأنسانيةـ، ولكن ما هي الإنسانية؟ إنها هم. ففي ستوكهولم التقيت بيهودي مهاجر، كان يعمل في أحد البنوك بدرجة مفوض تجاري. لقد أبدى تحفظات جدية..، منها أننا نحن الاشتراكيين لم نقم بثورة، إنما تركنا هتلر يستولي على السلطة. يبدو أنه كان يحلم بألمانيا المفوضين التجاريين. وهكذا كان يجري تقييم الروس من نفس وجهةِ النظر هذه. فصحيفة فرانكفورت تكتب دوماً أنه لا توجد في روسيا شيوعية حقيقية. وبهذه الصورة كان الاتحاد السوفييتي يتلقى نقداً سيئاً. وتقول الصحيفة، مع ذلك تظل تجربة هامة. إنهم يقولون ذلك بلهجة تبدو موضوعية وكأن الحكم النهائي متوقف عليهم، فيما إذا كانت هذه التجربة ممكنة التحقيق من الناحية الفنية أم لا. ولربما تحدث النبلاء الفرنسيون عن المقصلة بنفس الطريقة.
تسيفل: هل فهمتكَ بشكل صحيح، أنك ترفض تحرير الإنسانية؟
كالا: في كل الأحوال لن أدفع ثمن القهوة ولن أتحمل عبء أحد! أرجو عدم مؤاخذتي لأني أشعر بالقرف من نفسي في بعض الأحيان، لأني أعيش في وقت كهذا، لا أعمل شيئاً سوى الثرثرة.
تسيفل: أولاً، يمكنني أن أجيبك بأننا، نحن الاثنين، لم نبلغ بعد من الجدية حد التخمة. ثانياً أن الجدية، كموقف وسلوك حياتي، محتقرة بعض الشيء في الوقت الحاضر. لأن أكثر الناس جدية هم هتلر وصحبه. إنه من أكثر القتلة جدية. وأنت تعرف أن القتل شيء جدّي وليس سطحياً، ويمكن للبولونيين أن يؤكدوا لك ذلك. ثالثاً أننا لسنا بحاجة لأن نتصرف بشكل عفيف ورصين، لأننا لسنا بجزارين، ويمكنك أن تعبر دوماً عن المسائل الجيدة بطريقة ساخرة أو مضحكة.
كالا: صحيح ما قاله أحد الخطباء من مشعلي النيران(*): أن البرجوازية لا تمتلك شيئاً تخسره سوى نقودها!
(بعد ذلك افترقا، وذهب كل إلى جهته).









9
سويسرا مشهورة بحب الحرية والجبنة/
التربية الأولى في ألمانيا/
الأمريكان






تسيفل: سويسرا بلد معروف، يمكنك أن تكون هناك حراً، ولكن يتعين عليك أن تكون سائحاً.
كالا: كنت هناك، ولم أشعر بالحرية كثيراً.
تسيفل: يبدو أنك لم تسكن في فندق. كان عليك أن تنزل في أحد الفنادق، ومن هناك يمكنك الذهاب إلى أي مكان تريد، يمكنك الذهاب إلى أعلى الجبال، حيث أجمل المناظر الطبيعية، فلا تجد حواجز أو أي شيء من هذا القبيل. إنك لا تشعر بحرية أكبر مما تجده في الجبل.
كالا: سمعت أن السويسريين لا يصعدون الجبال إلا عندما يكونون أدلاء للسياح، وعندها لن يكونوا أحرارً تماماً، إذ يتعين عليهم أن يحملوا السياح صعوداً.
تسيفل: ربما يكون أدلاء الجبال أقل تعطشاً للحرية من بقية السويسريين. فمبعث العطش أو الجوع التاريخي للحرية في سويسرا ناجم عن موقعها غير الملائم، إذ أنها محاطة بقوىً تحب السيطرة على شيء ما. لذلك ترى السويسريين على أهبة الاستعداد للرحيل دوماً. ولولا هذا الوضع لما احتاجوا إلى التعطش للحرية. فهل سمعت في كل حياتك شيئاً اسمه عطش للحرية عند الأسكيمو؟ ذلك أن موقعهم ملائم جداً.
كالا: لكن من حسن حظ السويسريين أنهم محاطون بقوى عديدة تمتلك نوايا شريرة تجاههم. فلا تحسد إحداهن الأخرى على ضم سويسرا إليها. وعندما تتوفق إحدى القوى، أي تكون أقوى، عندها تنتهي سويسرا.
تسيفل: إذا أردت سماع وجهة نظري: اخرج بعيداً عن أي بلد يوجد فيه عطش كبير نحو الحرية. ومن الأفضل لك أن تختار بلداً أصغر، ولكن بموقع أكثر ملاءمة.
كالا: صدقت. إنه لأَمر مريب أن يجري الحديث كثيراً عن الحرية في بلد ما. وفي هذا السياق تحضرني عبارة تتردد كثيراً خاصة عندما تجري الشكوى والتذمر من الإرهاب، العبارة تقول: »الحرية تسود عندنا«، وهذا يعني على الفور: »توجد عندنا حرية للرأي، ويمكنك أن تعتنق أي معتقد تَريد«. إلى هذا الحد، يصح القول في كل مكان. ولكن لا يمكنك التعبير عن معتقداتك، لأنه أمر يعاقب عليه القانون. ففي سويسرا، مثلاً، إذا قلت شيئا ضد الفاشيةً أكثر من أنك لا تحبها، وهو أمر لا يشكل أية خطورة ولا قيمة له، عندها يقال لك على الفور: »لا يجوز التعبير عن رأي كهذا وإلا فإن حريتنا ستتعرض للخطر، وسيدخل الألمان بلادنا«. وإذا ما قلتَ أنك تؤيد الشيوعية، فسيقال لك فوراً أنه من غير المسموح لك التصريح برأي كهذا لأن الشيوعية تعني غياب الحرية. لأن الرأسماليين لا يشعرون بالحرية في ظل الشيوعية. وتجري ملاحقتهم لأن لديهم أفكاراً مغايرة، كما أن العمال، هم أيضاً، لن يعودوا أحرارً في الحصول على فرصة عمل عند الرأسماليين.
ذات مرة قال لي سيد في إحدى دور الضيافة: »حاول مرة أن تبادر في روسيا لإنشاء مصنع! إنكَ لا تستطيع حتى شراء بيت واحد«. فقلتُ له »وهل يمكنني شراء بيت هنا؟« فقال »في أي وقت تشاء! حرّر شيكاً وعندها سينتهي الأمر«.
تأسفت كثيراً لأني لا أملك رصيداً في البنك، وإلا لكان بإمكاني أن أفتح مصنعاً.
تسيفل: المقصود أنه توجد عندهم بعض الحريات الخاصة، ولا يجري اعتقالك فوراً، عندما تفلتُ منك، على مائدة الشرب، بعض الأفكار خارج المسموح بها.
كالا: حتى عند مائدة الشرب لا يمكنك التصريح برأيك. فقد اكتشف الألمان وغيرهم من قبل، أن هذه الملتقيات خطيرة. لذلك تراهم تسلّلوا تحت الموائد، موائد الطعام والشراب، وبذلك قضوا على عطش المواطنين للحرية من الجذر.
تسيفل: إنهم يقومون بكل ما يستطيعون ولكنهم لم ينتهوا بعد، فقد أقاموا في معسكرات الاعتقال أشياء مثالية. ولكن كما تعرف، فإن روما لا تبنى بيوم واحد، فما زال الناس يتمتعون بسلسلة من الحريات. إذ لا يزال بإمكانك، وفي ألمانيا، أن تتجول في المدينة، وتظل واقفاً أمام واجهات المحلات، وإِنْ كان ذلك غير محبب، لأنك عندها تكون بلا هدف.
كالا: نعم، إنهم يبحثون دوماً عن هدف. فالهدف هو الذي يُصوّبون نحوه.
تسيفل: لم يكن من المنصف جداً ظَنُ الناس أنها كذبة مقصودة من أن معسكرات الاعتقال أُعدت لفرض التربية أصلاً. إنها مؤسسات نموذجية للتربية، صحيح أنهم يجرون التجارب هناك على الأعداء، ولكنها وُجِدَت للجميع.
طبيعي أن الدولة ما زالت ضعيفة نسبياً، لأنها لم تطبق بعد كل ما هي بصدده. فما زال العمال يرجعون إلى بيوتهم بعد العمل في حين يتوجب عليهم القيام بأعمال أخرى. حسنٌ، إنهم (أي النازيون – ي. ع) يستلمون الأطفال منذ سن السادسة، ويربونهم حتى يغدو شبيبة وعندها يدخلونهم شبيبة »البعيد«(*). ومن ثم يأخذونهم للخدمة العسكرية ويدخلونهم في »حزب الشبيبة والرجال«. ولكن ماذا عن الأطفال الرضع مثلاً؟ هل توجد تشكيلة أو منظمة خاصة بهم؟ أين هي منظمة صغار »البعيد«؟ ها هنا موطن الضعف. فقد يتسرب الخطر من هذا الموقع بالذات!
كالا: لست أدري فيما إذا اتخذوا شيئاً بصدد الصغار. فالأطفال الأكبر من هؤلاء يمكنهم التجسس على آبائهم والأصغر منهم يمكن أن يتولوا جمع الحديد الخردة. أما بالنسبة للرضع، فلا بد أن يبدأوا معهم منذ وجودهم في أرحام أمهاتهم. وهذا ما يوفر للعلم حقلاً للتجربة والبحث. أعني أنه ليس من الضرر في شيء أن تسمع الحوامل الكثير من المارشات العسكرية وتقرأ دوماً كتب وخطب الفوهرر، ولكن هذه الفكرة لا تزال بدائية. إذ يجب إعداد تمارين للأمهات الحوامل، تمارين تؤثر على أمزجتهن، وما دام الأمر يتعلق بالأمزجة، فإن على وزارة الدعاية أن تتولى ذلك، وتباشر بالعمل فوراً دون إضاعة لحظة واحدة.
تسيفل: إن الاهتمام بالطفل يحتل أهمية كبرى، فالطفل أثمن ما تملك الأمة. ومن فضائل الرايخ الثالث أن أجيالاً جديدة ستولد، لذلك يجب أن تكون هناك شوارب »البعيد« ولكن التربية تبدأ من الرحم. فمن التقاليد القديمة أنه يتوجب على المرأة الحامل أن تقوم ببعض التمارين والحركات، ومن المفيد حتى التعود على المشي برؤوس متجهة نحو الأعلى لمراقبة قاذفات القنابل المعادية وأداء التحية لها.
كالا: ربما أن الشيء الأهم هو أن يجري اختيار الأطفال الكبار نسبياً والشبيبة الأكثر نضجاً من كل المناطق –حيث يفسدون- ويجري تغريبهم عن الدولة وحياة المنافسة. إذ ما نفع أن تبذُلَ جهوداً كبيرة من أجل تربية الشبيبة بالإيمان المطلق بالفوهرر وبالمستقبل، وبعد ذلك يدخلون حياة المنافسة، التي تستغلهم وتعتصرهم، ومن ثم يصابون بالمرارة ويتسرب الشك إلى نفوسهم حول معتقداتهم؟ إذن من الضروري إلغاء حياة المنافسة.
تسيفل: صحيح، لا بد أن يترك ذلك أثراً جيداً.
كالا: ما دامت حياة المنافسة قائمة، فإن العطش نحو الحرية موجود. فما حاجتنا بها، إنها ثقيلة ومنهكة.
تسيفل: بالنسبة للأكثرية.
كالا: خذ الأمريكان مثلاً، إنهم شعب كبير. ففي البداية، كان عليهم أن يصدوا هجمات الهنود الحمر. أما الآن فقد غزاهم المليونيرية. إذ أنهم يتعرضون الآن، دوماً، لهجمات ملوك المواد الغذائية، ومطوقون باحتكارات النفط، ويتلظّون من شركات السكك الحديد. هكذا فإن العدو وحش بارد الأعصاب، يلتهم الأطفال والنساء في جوف مناجم الفحم، ويُطبق عليهم في مصانع السيارات. فالصحافة تدفع بهم إلى الخلف، والبنوك تسرقهم في وضح النهار وعلى قارعة الطريق، في حين يتهددهم الطرد من العمل في كل لحظة. وعندما يُطردون من العمل فإنهم يكافحون حتى بأظافرهم من أجل حريتهم، من أجل حرية أن يفعل كل فرد ما يشتهي، وهو أمر يرحب به المليونيرية.
تسيفل: (باستغراب): هكذا إذن! يجب أن يكونوا مستفَزين متوثبين مثل الوحوش الكاسرة وإلا فإن الهزيمة ستلحق بهم. أَنْ تُجرّبَ بعض مباهج الحياة كما تشتهي، قد يكلفك ثمناً باهظاً، ثمن وجودك. لقد استقيت ذلك من مصدر موثوق. كان لدي عمٌ هناك في أمريكا، زارنا ذات مرة عندما كنت لا أزال صبياً. لن أنسى ذلك أبداً. كان متفائلاً طوال اليوم. وكان الرجل المسكين يظل يوزع الابتسامات حتى تظهر كل أسنانه – الذهب. أما والدي، الذي كان يعاني من الروماتزم، فكان يطلب من أخيه القادم من أمريكا أن يضربه عدة مرات في اليوم على كتفيه وعلى ظهره كي يرتاح من الألم. لقد جلب عمي معه من أمريكا سيارة. كانت السيارات في ذلك الوقت من النوادر. ذات مرة أخذنا في نزهة بالسيارة باتجاه منطقة جبلية. كان يحدثنا طوال الطريق كيف كان يتوجب على المرء في الماضي أن يتسلق الجبل مشياً على الأقدام. وخلال صعود الجبل تعطلت السيارة وظلت واقفة، مما حَتَّم علينا مواصلة المشوار صعوداً على الأقدام، وكادت أنفاس عمي تنقطع من تعب التسلق، ولكنه ظل يؤكد أن أحوال السيارات ستتحسن.
كالا: هناك لغط كبير جداً بين الأمريكان عن الحرية. وكما قلتُ لك قبل قليل فإنه أمر مريب. إن مَنْ يتحدث عن الحرية لا بد أن يكون حذاؤه ضيقاً ويضغط على قدميه. إذ أني نادراً ما أسمع أحداً من الذين يلبسون أحذية مريحة، يتحدث عن كم هو مريح حذاؤه ولا يضغط على قدميه، أو يولد له مسامير مؤذية. كنت معجباً بأمريكا وبما سمعته عنها، حتى أني رغبتُ مرة أن أكون أمريكياً أو على الأقل أن أزورها، وأتمتع بالحرية هناك. وبقيت أروح وأجيء بين بونتيس وبيلاتس، فما كان عند الأول وقت لي، أما الثاني فلم يكن راغباً. وطلب القنصل مني أن أركض حول مجمع العمارات أربع مرات، يفحصني بعدها طبيب ويثبت في وثيقة رسمية أن ضغط دمي لم يرتفع. بعد ذلك طلب إليّ أن أؤكد أنْ ليست لدي أية أغراض من سفرتي. فأكدتُ له ذلك. ولكن عندما حدّق في عينيَّ، طلب مني أن أؤكد له بأنه لم يسبق أن كانت لي أية أغراض أو أهداف، لكني لم أستطع ذلك. لهذا لم أستطع دخول بلد الحرية. إني متأكد من أن حبي للحرية لم يكن يكفي لزيارة هذا البلد.

(بعدها افترقا، وذهب كل إلى جهته).







10
فرنسا أو الوطنية/
التَجَذُّرْ






(افتتح تسيفل حديثه بمقدمة محزنة، أنه لم يعد يرى إمكانية لمواصلة مذكراته، لأنه اكتشف أن ما عاشه وعايشه قليل جداً).

كالا: لا بد أنك عايشت بعض الأشياء. فإذا لم تكن قد عشت أحداثاً كبيرة، فلا بد أنك عشت أحداثاً صغيرة. صف هذه الأحداث الصغيرة!
تسيفل: تلك هي مسألة نظرية فقط أن تكون لكل شخص حياة. ولكن ما هذا إلا تهوين للأمر، لأنه لا يصح إلا بحدود المنطق. إذ هناك من يسميها حياة أن يعيش سبعين سنة وهو نباتي، وآخر يعيش ثلاث سنوات(*) ويسميها حياة. إني أعرف أن بإمكان المرء الاستمتاع بمنظر عندما يجلس فوق صخرة على كتف نهر صغير، تماماً كما لو كان على قمة ماترهورن. ويمكن القول أن بالإمكان الاستمتاع بما أبدعه الله في كلتا الحالتين، ولكني أفضل المشهد من القمة. إنها قضية أذواق، ومن الطبيعي أنه يمكن للمرء أن يتحدث باهتمام عن كل شيء، ولكن ليست كل الأشياء تستحق الاهتمام. على أية حال أنهيتُ كتابة مذكراتي، وهو أمر محزن.
كالا: ولكن يمكنك أن تتحدث شفاهاً عن كل شيء، أين كنت، ولماذا تركت البلاد، باختصار كيف عشت؟
تسيفل: عندها نصل إلى فرنسا، لا باتري. حمداً لله أني لست فرنسياً، إنهم، في نظري، وطنيون أكثر من اللازم.
كالا: نعم، نعم. واصل الحديث.. وما اعتراضك عليهم؟
تسيفل: إنها بلد تجري ممارسة الوطنية فيه وكأنها واجب لا فكَاكَ منه، تجري ممارسته بشدة. إذ أنهم ليسوا في حالة زواج مع بلدهم، بل أنها معشوقتهم وتغار عليهم!
كالا: كانت لي صديقة تسألني كل ربع ساعة عما إذا كنت أحبها. وعندما اضطجع معها في السرير، كانت تقول أني أحبها من أجل الجنس. وعندما أصغي لها وهي تتحدث، كانت تقول أني ما كنت لأحبها لو صمتت دون كلام. كان الاستمرار في الحياة معها أمراً شاقاً.
تسيفل: تصور أنهم في فرنسا، من فرط حبهم وتعلقهم بالوطن، اشتهرعندهم شاعر واعتبروه أصيلاً، لأنه تجرأ مرة وسافر خارج فرنسا. فقد كتبوا عنه كتباً عديدة يناقشون فيها ما إذا كان مريضاً أو أصيلاً لأنه سافر خارج البلاد مرة!
كالا: لا بد أن حب الوطن يحظى بتقدير عالٍ هناك، ويأتي مباشرة بعد حب الأكل والطعام، وكما سمعت، فإن هذا الحب متطور عندهم أكثر من أي مكان آخر. ولكن السيء في الأمر هو أنهم نادراً ما يسمحون للناس أن يكونوا وطنيين.
تسيفل: كيف؟
كالا: خذ هذه الحرب مثلاً. فقد بدأت عندما صوّت »الأوغاد« لصالح اليسار وطالبوا بيوم عمل من سبع ساعات. أما الذهب فلم يستطع فعل شيء، إذ أصيب بالرشح وسافر إلى أمريكا. وهكذا لم يعد بالإمكان التسلح. كان »الأوغاد« ضد الفاشية، تماماً لنفس السبب الذي طالبوا فيه بيوم عمل من سبع ساعات. وهكذا اندلعت الحرب. الجنرالات قالوا أنهم لا يستطيعون فعل شيء إذا توقف التسلح. ولذلك أوقفوا الحرب لأنهم ظنوا أن »الأوغاد« لا يستطيعون فعل شيء عندما تدخل القوات الأجنبية إلى البلاد، لكن الوطنيين واصلوا النضال، فجرى اعتقالهم ليتبينوا ما معنى أن يعارضوا الدولة، وكم هو باهظ ذلك الأمر. وفي جيكوسلوفاكيا كان هناك ثمة أمر مشابه تقريباً. إذ يتوجب على المرء أن يكون وطنياً شمولياً كي يبقى وطنياً حسب في بلد كهذا. لا بد أنك ستؤيدني كما أعرفك.
تسيفل: إنها لمفارقة حقاً أنه يتعين على المرء أن يحب البلد الذي يجب عليه أن يدفع فيه الضرائب: فالقنوط والقناعة هما أساس حب الوطن، وهي صفة جيدة، إذا لم يكن هناك غيرها.
كالا: ومن خلال ذلك يجري اختزال حب الوطن. إذ لا يعود أمامك خيار حقيقي. تماماً كما يتعين عليك أن تحب المرأة التي تتزوجها، بدلاً من أن تتزوج التي تحبها. لماذا أنا أطالب بحرية الاختيار أولاً. أطالب مثلاً بأن تريني جزءاً من فرنسا، ومنطقة جيدة من انكلترا، وجبلين من سويسرا، وجزءاً من النرويج مطلاً على البحر، ومن ثم يمكنني أن أشير، أريد أن يكون هذا وطناً لي، عندها سأحترمه. أما حالتنا الآن، فإنها لا تبعث على الاحترام، كما لو كان عندك شباك قديم سقطت منه ذات مرة.
تسيفل: هذا موقف عدمي في سخريته، وبلا جذور، يعجبني كثيراً.
كالا: دوماً، أسمع حديثاً عن وجود تجذُّر عند الإنسان، ولكني أعرف أن المخلوقات الوحيدة، التي تمتلك جذوراً، هي الأشجار، وليتها لم تمتلك. إذ كان بإمكانها أن تطير بعيداً وتسافر بالطائرة.
تسيفل: وهذا يعني أن المرء يحب ما سَفَحَ عَرَقَّهُ من أجله. وقد يكون هذا هو الإيضاح المعقول لحب الوطن.
كالا: ولكن ليس بالنسبة لي، لأني لا أحب كل ما تعرقتُ من أجله، ليس كل شيء تعرقت من أجله وبذرت حيامني فيه سدى. فقد كانت لي علاقة مع فتاة. ذات مرة ذهبت معها إلى بحيرة فانزي، لأن جسدها كان يعجبني كثيراً، كانت ترتدي ملابس جميلة، وعندما انتصف النهار تناولنا الغداء، بعد ذلك أرادت تأجير قارب للنزهة، فجرى ذلك. ثم قالت بعدها أن لا بد لها من شرب قهوة العصر.. وعندما حانت الساعة، تركتها منبطحة بين الأحراش رغم أن نزع كلسونها لا يأخذ وقتاً أكثر من نصف دقيقة. ورغم ذلك أقول لك أنها كانت تمتلك جسداً رائعاً من الدرجة الأولى.
تسيفل: تطرقت في حديثك إلى أشياء جميلة، عندما أفكر في أي بلد كنتُ أفضل العيش، فإني سأختار ذلك البلد الذي يمكن لشخص –وفي لحظة تأمل شاردة- أن يتمتم مع نفسه »هذا مكان جميل«، فيحصل على تمثال بصفته وطنياً. ذلك لأنه من غير المتوقع في هذا البلد أن يصدر من امريءٍ ما شيء مثير يبعث على الاحترام. كذلك فإن الشخص الذي لا يتمتم، يجب أن يقام له نصب أو تمثال لأنه لم يقل شيئاً مخلاً أو زائداً عن الحاجة.
كالا: باحتلالهم له، كرّهوا الوطنيين بَلَدَهُم(*). بعض الأحيان أفكر: أية بلاد جميلة كان يمكن أن تكون لو أننا امتلكناها! وفي هذا الصدد تحضرني قصيدة من بضعة مقاطع. لكن عليك أن لا تظن بأن لي علاقة بالشعر، واختيار ما يناسب بعض المواضع والمواضيع، إنها مجرد صدفة أني قرأت بعض القصائد في مكان ما، ولا أحفظها عن ظهر قلب. فالقصيدة التي سأتلو عليك بعضاً منها تتغزّل بمدننا وغابات بلادنا:
»أنت يا غابات بايرن اللطيفة،
ويا غابة شفارتسفالد الظليلة..
بعدها يأتي شيء نسيته، ثم تستمر القصيدة:
»يا غابات تيرنغن الحمراء، يا مدن الرور
السوداء، يغطيها تراب الحديد والفحم..
ثم يأتي شيء ما وتستمر:
»آه، يا برلين، التي تغص بالأحياء،
مزدحة فوق الإسفلت وما تحته،
يا مرافئ هنزا وسكسونيا،
أيتها المدن التي تعمل كدبيب النمل،
معفرة بالدخان، مشدودة العيون ناحية الشرق«
كم تستأهل القضية! إن جوهر الأمر أن تعود بلادنا لنا!

(نظر تسيفل إلى كالا مستغرباً، ولم يلحظ عليه شيئاً مما يبدو على سحنات وجوه الآخرين عندما يتحدثون عن الوطن. بعدها أفرغ كأسه في جوفه وهو يهز رأسه من شدة الدهشة).









11
الدنيمارك أو الفكاهة/
حول ديالكتيك هيغل






(جاء الحديث عن الدنيمارك، حيث مرّ بها كل من تسيفل وكالا لأنها تقع على الطريق).

تسيفل: من الشائع هناك أن يجري التلاعب بالكلمات على نحو فكاهي.
كالا: لا تحدثني عن المصاعد الكهربائية، لأني أتحدث لك عن خبرة. فالدنيماركيون أناس ظرفاء، استقبلونا بما يليق من ضيافة. وشغلوا أنفسهم وتفكيرهم كيف يمكن أن يساعدوننا، ولكن كان علينا في النهاية أن نتوصل نحن إلى ذلك. فمن حسن حظنا أنه لم تكن توجد في عمارات العاصمة مصاعد كهربائية. وكان من المتعارف عليه بصورة عامة، أنه من غير اللائق أن نظل ننتظر الصدقات، دون أن نبحث عن عمل نتقاضى لقاءه أجراً. وعندها لاحظنا أنه يتعين على كل عائلة أن تحمل سطل الزبالة من فوق لتنزل به أسفل العمارة. أخذنا هذا الشغل، وكان أكثر احتراماً من انتظار الصدقات.
تسيفل: إنهم فكهون جداً. ولا يزالون يتحدثون حتى اليوم، وبشكل طريف، عن وزير للمالية كان عندهم. ويتداولون عنه نكتة، أنه عندما زارته لجنة لمراجعة الميزانية، نهض بكبرياء وضرب الطاولة بقبضته، قائلاً: »أيها السادة، إذا كنتم تصرون على مراجعة الميزانية، فإني لن أظل وزيراً للمالية«. بعد ذلك غادرت اللجنة وعادت بعد نصف سنة وأجرت الكشف، فتأكدت من أن ما قاله هو عين الحقيقة والصدق. فألقي به في السجن وأقاموا له تمثالاً!
كالا: لقد تطورت روح الفكاهة عندهم بشكل كبير خلال الحرب العالمية الأولى. فقد ظلوا محايدين ويبيعون بشكل جيد. يبيعون كل ما يعوم إلى الشاطئ الإنكليزي، باعتباره باخرة أو عوامة. وهكذا رفعوا كثيراً من مستوى الرفاه الوطني عندهم، رغم أن خسائرهم من البحارة كانت تفوق خسارة كل القوى المتحاربة.
تسيفل: نعم، استغلوا الحرب موسماً للبيع. فكانوا يبيعون الكولاش(*) المعلب، فيحشون العلب بكل ما هو عفن وجاف بدلاً من أن يتركوه ملقىً عندهم. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية وقفوا، وبمنتهى اليقظة مدججين بالسلاح. وظلوا يؤكدون: نحن أضعف من أن ندافع عن أنفسنا، وعلينا أن نبيع الخنازير. ثمة وزير أجنبي حاول إقناعهم وتشجيعهم، فحكى لهم قصةً من قصص الصيد القديمة.. ذات مرة حلّق نسر فوق أرنب. لكن الأرنب لم يستطع الهرب، أو لنقل لم يشأ الهرب، فاستلقى على ظهره وراح يضرب برجليه على قفصه الصدري كمن يضرب على طبل. وأنتم تعرفون أن رجلي الأرنب قويتان لأنهما مخصصتان للركض والهرب.
لكن الدنيماركيين ضحكوا كثيراً للقصة، وقالوا للوزير أنهم مطمئنون جداً من الألمان. لأنه إذا ما احتل الألمان الدنيمارك فلن يجدوا خنازير يشترونها، لأن الروس عندهم سيتوقفون عن تصدير العلف اللازم لإطعام الخنازير. كانوا يشعرون بالأمان إلى درجة لم تفاجئهم فيها ألمانيا عندما اقترحت عليهم توقيع معاهدة عدم إعتداء.
كالا: كانوا ديمقراطيين ومتمسكين بحق كل فرد في أن يقول أو يقوم بنكتة. كانت حكومتهم إشتراكية – ديمقراطية، ولكنهم احتفظوا برئيس الوزراء لأن شاربه كان مضحكاً(*).
تسيفل: كان جميع الدنيماركيين على قناعة بأن الفاشية لن تعيش عندهم، لأن لديهم الكثير، الكثير من الفكاهة والنكتة. إنهم يعيشون بهذا القدر أو ذاك على بيع الخنازير، وكان عليهم أن يحتفظوا بعلاقات جيدة مع الألمان الذين يحتاجون الخنازير. ولكنهم كانوا يؤلفون نكات حتى على أنفسهم.. منها أن الدنيماركي عندما يريد أن يبيع الخنازير للألمان، فإنه يمشي بهدوء، وعلى رؤوس أصابعه كي لا يزعج الخنازير. لكن الفاشية لم تفهم فكاهة الدنيماركيين. فذات صباح، حلّقت مجموعة من الطائرات فوق هذه البلاد واحتلت كل شيء. إلا أن الدنيماركيين ظلوا يؤكدون أن من غير الممكن احتلال وقتل روح الفكاهة عندهم. كما أنه من غير الممكن ترجمة نكاتهم لأنها تتكون من العلاقات، التي يقيمونها بين بعض الكلمات أو بعض أجزاء من الكلمات واستخداماتها المتنوعة واللاذعة، إلى درجة لم ينتبه فيها الألمان إلى سر النكتة. وأصبح الدنيماركيون يتلقون قصاصةً من الورق بمثابة إيصال، لقاء كل خنزير، مما وضع فكاهتهم أمام امتحان صعب. لأن هناك فرقاً كبيراً بين أن تبيع الخنازير لمنْ لا تحترمهم، وبين أن لا تحترم من تبيعه الخنازير.
كالا: ولكنهم قالوا نكتة في نفس يوم الاحتلال، تقول: هل تعرف لماذا جاء الألمان في الصباح الباكر –هنا لا بد من الإشارة إلى أن الألمان من أحسن المبكرين في النهوض الصباحي-؟ فيجيبونك لأنهم لم يناموا نومة هادئة بسبب مضايقات البوليس.
عندما سمع واحد من الأفواج الدنيماركية بالاحتلال، أصدر الأمر إلى منتسبيه بالتحرك باتجاه (زورز) التي تفصل الحدود بين الدنيمارك والسويد. وظلوا يسيرون ساعات طويلة، حتى وصلوا إلى العبّارة، دفعوا الأجرة، وركبوا كي يعبروا إلى السويد، وعندما صاروا هناك أُجريت معهم مقابلة قالوا فيها أن فوجهم يريد أن تظل الدنيمارك تقاوم ببسالة، لكن السويد أرجعتهم لأن لديها كفاية من مثل هذا الفوج.
تسيفل: لا تطاق الحياة في بلد لا يحتمل الفكاهة، ولكن الأدهى أن تعيش في بلد تحتاج فيه إلى روح فكهة.
كالا: عندما لم تجد أمي ما تضعه لنا على الخبز، كالزبد مثلاً، كانت تطلي قطعة الخبز بشيء من الفكاهة وتقدمه لنا. لم يكن طعمه سيئاً، على أية حال، لكنه لا يُشبع.
تسيفل: في مجال ذكر الفكاهة والطرافة، أتذكر الفيلسوف هيغل دوماً. فقد اشتريت بعضاً من كتبه، التي لا أزال أحتفظ بها، كيما أتمكن من الفلسفة.
كالا: حدثني بالله عليك. فأنا لست مثقفاً كي أقرأه.
تسيفل: لقد عالج الموضوعات بشكل جعل منه أكثر الفلاسفة فكاهة، تماماً مثل سقراط، الذي اعتمد منهجاً مشابهاً، لكنه (أي هيغل) كان سيء الحظ، إذ تم تعيينه في بروسيا حيث كتب وصفاً للدولة، كانت عينه ترمش، ويبدو أنها خطأ ولادي، بقي يلازمه دون وعي منه حتى مماته. لقد كان طريفاً إلى حد لم يستطع فيه التفكير بالنظام دون اللانظام. إذ كان يثق أنه، إلى جانب أقصى درجات التنظيم، يوجد وعلى مقربة منه أقصى درجات اللانظام والفوضى. بل إنه ذهب أبعد من ذلك، فقال أنه وفي نفس المكان يوجد الاثنان معاً! وفهم أنه في ظل الدولة تنشأ أشد التناقضات بين الطبقات، إلى درجة قال فيها أن اتساق الدولة يعتاش على اللاإنسجام واللاإتساق القائم بين الطبقات، ورفض فكرة أن 1 = 1، ليس من منطلق أن كل ما هو موجود متحرك حركة لا نهائية ويتحول إلى شيء آخر بلا انقطاع، إلى ضده، وإنما لأنه لا يوجد ما يتطابق مع نفسه. لقد شغلته كثيراً قضية شجاعة الجبناء وجبن الشجعان، وبصورة عامة كل المتناقضات، ولا بد أنك تفهم كيف أن الظواهر تبدو هادئة ومستديمة، ولكن سرعان ما يحصل الانفجار. كانت المفاهيم عنده متحركة كما لو كانت تتأرجح في كرسي هزاز.
قرأت كتابه »المنطق الكبير« عندما أُصبتُ بالروماتزم فلم يعد بإمكاني الحركة. إنه من أكثر الأعمال فكاهية في العالم. إذ يعالج فيه حياة المفاهيم وعالمها، في وجودها المتحرك، غير المستقر، والمتقلب، تماماً مثلما يتشاجر اثنان ويهدد أحدهما الآخر بالسكين، بعدها يجلسان سوية ويتناولان العشاء سوية، وكأن شيئاً لم يكن. إنها (أي المفاهيم) تظهر بصورة ثنائية، وكأن الشيء متزوج نقيضه. يقيمان الصفقات سوية، ويوقعان العقود بشكل ثنائي، ويقيمان المحاكمات ثنائياً، وينظمان عمليات السطو والغارات سوية، يكتبان الكتب ثنائياً، ويدليان بالتصريحات بنفس الطريقة أيضاً، وكأنهما كلٌ ممزّق، وفي كل قضية تراهما زوجاً غير موحد! فكل ما يقوله النظام تنفيه وتناقضه الفوضى في نفس اللحظة، باعتبارها شريكته، التي لا فكاكَ منها. إذن تراهما لا يستطيعان العيش بدون الآخر ولا مع الآخر.
كالا: وهل أن الكتاب يعالج مثل هذه المفاهيم فقط؟
تسيفل: إن المفاهيم التي يتعامل بها الناس هي بمثابة المقبض الذي نحرك به الأشياء. ويوضح الكتاب كيف يمكن للمرء أن يغور إلى الأسباب التي تحرك الظواهر والأحداث. وقد سمى هيغل هذه النكتة بالديالكتيك. ومثل عظام الفكهين الظرفاء تراه يحدثك عن كل ذلك بمنتهى الجدية، جدية قاتلة. على فكرة، أين سمعت به؟
كالا: في السياسة.
تسيفل: هذا الحقل هو الآخر واحد من نكاته. فكبار القادة يعتبرون أنفسهم تلاميذ مؤلف كتاب »الدولة«. وهذه نقطة إيجابية في صالحهم، لأني لم أرَ في حياتي مَنْ لا يتمتع بروح فكاهة ودعابة استطاع فهم ديالكتيك هيغل.
كالا: نحن نهتم به، فقد أخذنا مقاطع منه، وعلى المرء أن يتمسك بها كما تفعل السرطانات. نحن نهتم به لأننا شاهدنا الكثير مما يحمل النكتة، تماماً مثلما وصفتها أنت للتو. فعلى سبيل المثال، أولئك الذين كانوا منا –أي من عامة الشعب- فوصلوا إلى الحكومة واشتركوا فيها، جرت عليهم تغييرات مضحكة، لم يعودوا معها من الشعب، إنما أصبحوا جزءاً من الحكومة.
سمعتُ به لأول مرة في عام 1918. في تلك الأيام كانت سلطة لودندورف قوية، ذلك أنه كان يدس أنفه في كل شيء. كان هناك انضباط حديدي، وبدا كل شيء كما كان قبل ألف سنة. مرت بضعة أيام حتى وضع لودندورف نظارة النبلاء الزرقاء على أنفه وعبر الحدود، بدلاً من الجيوش التي خطط لها. أو خذ مثلاً أحد الفلاحين في إحدى الندوات، التي كنا ننظمها. كان ذلك الفلاح ضدنا لأنه يقول أننا نريد مصادرة كل ما لديه. لكن جاء البنك وملاك الأرض فصادروا كل ما لديه، فقال أنهم أشد الناس شيوعية. ألا تعتبر ذلك نكتة!.
تسيفل: إن الهجرة هي أفضل مدرسة للديالكتيك، فالمهاجرون هم أشد الناس ديالكتيكية. إنهم مهاجرون نتيجة للتغيرات، إنهم لا يدرسون إلا المتغيرات. فتراهم يتوصلون إلى أكبر الأحداث ويحلون عقدها من خلال رصد أصغر المظاهر والتفصيلات، هذا إذا كان لديهم فهم كافٍ للظواهر. فعندما يحرز عدوهم النصر، سرعان ما يبدأون بحساب كم كلف النصر. إن لديهم حاسة شم شديدة لرصد التناقضات.
يحيا الديالكتيك!

(ولولا خوفهما من النهوض بشكل احتفالي، تفادياً لما يمكن أن يخلق لهم من متاعب، لَنَهضَ كل من كالا وتسيفل بشكل فرح، ولكنهما كبتا فرحتهما بداخلهما. بعد ذلك افترقا، وذهب كلٌ إلى جهته).







12
السويد أو الصدَقة والإحسان/
أزمة ربو






تسيفل: يقول النازيون أن »مصلحة المجموع قبل مصلحة الفرد«. تلك هي الشيوعية، هذا ما كنت أقوله لوالدتي.
كالا: إنك تحاول مناكدتي من جديد. إن هذه الجملة تعني أن الدولة قبل الرعية، والدولة تعني النازيين القوادين. فالدولة تمثل المجموع لأنها تجبي الضرائب منهم وتأمرهم وتوجههم وتعرقل السير في الطرق وتشعل الحرب.
تسيفل: هذه مبالغة تعجبني حقاً. إذ بدونها تبدو الجملة منطوية على تناقض مستعصٍ بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموع. ولا بد أن هذه المبالغة ناتجة عن احتقارك الأصيل لهم، ويمكنني القول بأن هناك عفن حيثما يجري تشويه الأنانية في أي يلد.
كالا: في ديمقراطية كالتي نعرفها..
تسيفل: لا أعتقد أنك تحتاج إلى عبارة »كالتي نعرفها«.
كالا: أي أنه في أية ديمقراطية يقال دوماً، يجب أن يكون هناك توازن بين أنانية المالكين والذين لا يملكون. إنه الهراء بعينه. أَنْ ترمي رأسمالياً بالأنانية، يكفي أن تسميه رأسمالياً. فالفائدة التي يجنيها، إنما يحققها من خلال الاستغلال. العمال لا يمكنهم استغلال الرأسمالين. وعليه فالجملة القائلة أن »مصلحة المجموع قبل مصلحة الفرد« يجب أن تكون »إذا كان الأمر يتعلق بالاستغلال، فلا يجوز لفرد أن يستغل آخر أو المجموع، بل يجب على الجميع..« والآن قل لي ماذا يعني الاستغلال؟
تسيفل: يوجد في شخصك عالم منطق وعالم بدلالات الكلمات وتطورها، وعليك أن تأخذ حذرك جيداً. فيكفي أن تقول أن المجموع يجب تنظيمه بشكل تعم فيه فائدة الفرد على الجميع. عندها لا تعود حاجة لشتم الأنانية، بل يجري امتداحها وتشجيعها علناً.
كالا: لا يمكن تحقيق ذلك إلا حيث لا تتحقق فائدة الفرد ومصلحته بوجود عَوَزٍ وفاقة أو ما يولدهما.
تسيفل: غادرت الدنيمارك إلى السويد. إنها بلد تجد فيه أن حب الناس متطور جداً، وكذلك حب المهنة بمعناها الراقي. لقد حدثت أغرب حالة في حب المهنة هناك لشخص لم يكن سويدياً. ولكن هذا لا يغير شيئاً من القاعدة النظرية لهذا الحب. فقد تطور حبه لمهنته بشكل خاص في السويد ووضع أمام امتحان صعب. جرت الحادثة لبيولوجي رجوته أن يكتب لي ذلك بمنتهى الصدق والموضوعية. فإن شئت سأقرأ عليك ما كتبه.
(ويبدأ تسيفل بالقراءة):
»حصلت على تصريح للإقامة في هذا البلد الشمالي بمساعدة من بعض العلماء الشماليين، الذين زاروني في المعهد الذي كنت أعمل فيه ببلادي، أو ممن نشروا بعض أعمالي وأبحاثي في مجلاتهم. كان الشرط الوحيد الذي طلبوه مني، كي أحصل على الإقامة، هو أن لا أمارس ولا أقوم بأي عملٍ علمي أو أي عملٍ آخر وتحت أي ظرف كان. بحسرةٍ كبيرة وبألمٍ ممض وقعت على هذا الشرط. كان ذلك بمثابة خيبة أمل بالنسبة لي أن لا أستطيع مساعدة أصدقائي الشماليين كما كنت في السابق. وأدركت حينها أنني لن أستطيع الحفاظ على صداقتي مع هؤلاء العلماء إلا من خلال نشاطي العلمي الذي حرمت منه. ذلك أني ما كسبت صداقتهم وودهم إلا من خلال البحث العلمي.
كان مصدر الإزعاج بالنسبة لي، هو أني لن أستطيع الاشتغال كي أكسب قوتي. وهكذا بقيت معتمداً على حسنات زملائي وما يتصدقون به عليّ. إذ كانوا يبذلون قصارى جهودهم ليحصلوا لي على مساعدات لقاء ما لم أقم به. لقد فعلوا، حقاً، كل ما يستطيعون كي لا أموت جوعاً.
ولكن للأسف، أصبت بعد فترة قصيرة من وصولي إلى هذا البلد الشمالي، بمرض عضال. إذ أصبت بربو حاد أنهكني وأخذ كل قواي. كنتُ أجرجر نفسي، بعد أن أصبحت مجرد هيكل عظمي يمشي، من طبيب لآخر، ولكن لم يستطع أحد منهم تخفيف آلامي.
وبعد أن أضناني التعب من التجوال، سمعت أن ثمة طبيباً في المدينة، كان في السابق مشهوراً وجد للتو علاجاً جديداً لمرض الربو، ويقال أنه اكتشف علاجاً ناجعاً وشرع بتدريسه في المستشفى. وفوق ذلك، كان الطبيب المذكور من مواطني بلادي. لملمت بقايا قوتي وتوجهت إليه، شكوت له آلامي وأنا أختضُّ من نوبات السعال.
كان يسكن في غرفة صغيرة في بيت منزوٍ في الخلف، والكرسي، الذي جلست عليه، كان الوحيد في الغرفة مما اضطره أن يظل واقفاً متكئاً على أريكة بالية، كانت عليها بقايا وجبة عشاء فقيرة –ذلك أني قطعت عليه وجبته بزيارتي المفاجئة-، راح الطبيب يسألني.
استغربت لأسئلته، التي لم أتوقعها، لأنها لم تتمحور حول المرض، وإنما عن أشياء أخرى.. علاقاتي، معارفي، مواقفي ونظراتي، وخيول السباق.. وما إلى ذلك، وبعد أن أمضينا قرابة ربع ساعة في هذا الحديث، انفجر الطبيب واعترف لي، باسماً، بهمّه الفريد. وحكى لي كيف اضطر، تماماً مثلي، إلى التوقيع على عدم ممارسة مهنته كي يضمن الحصول على الإقامة في هذا البلد الشمالي. وقال لي أنه لو عالجني فإنه يجازف باحتمال طرده من هذه البلاد، لذلك أراد، وقبل الشروع بفحصي، التأكد فيما إذا كنتُ إنساناً متزناً أو ثرثاراً قد يتسبب في خلق متاعب هو في غنىً عنها.
أكدت له بصدق، وأنا أواصل السعال، أن الخدمة التي تقدم لي، لها قيمة خاصة عندي، ووعدته أني سأنسى الأمر ولن أتحدث به أمام أي كان حالما ينتهي من معالجتي. شعر الطبيب بالراحة وأرسلني إلى مستشفى سُمِحَ له أن يعمل فيه ويؤدي خدمات مساعدة بلا أجور.
طبيب القسم كان شخصاً محترماً وطيباً، ترك لصاحبنا المختص (س) الحرية في التصرف ببعض الحالات. لكن للأسف لم نوفق في مسعانا لأنه كان سيغادر في صباح اليوم التالي لقضاء إجازته السنوية. لذلك فقد أحالني (س) إلى نائب طبيب القسم، الذي ما كان يعرفه، ونادى هذا الأخير عليَّ بالدخول.
وقبل أن أدخل إليه، كنت قد أمضيت وقت الانتظار أتحدث مع (س) في غرفته الصغيرة بالمستشفى. فقال لي: »لم يسمحوا لي حتى بفتح عيادة لأن نقابة الأطباء تريد حماية منتسبيها من التنافس، وتستند في ذلك إلى قانون صدر ذات مرة لمنع الغش. ومن الطبيعي أن ذلك في مصلحة المرضى، كي لا يأتي أناس لا يفقهون شيئاً ويتولوا معالجتهم«.
عندما دخلنا صالة العمليات، كان نائب طبيب القسم موجوداً يهيء نفسه للعملية. كان شخصاً مضحكاً يتحدث بصوت مرتفع، فقال لي، وهو يغسل يديه بالفرشاة واستدار برأسه الصغير ناحيتي: »هكذا إذن! سنجرب الطريقة الجديدة، التي ابتدعها صديقك، فإن لم تنفع، فليس فيها ضرر، أنا أدعو دوماً إلى فحص جديد بشكل جذري لغرض التأكد منه«.
»كنت أتمنى لو أجريتُ لك هذه العملية الصغيرة بنفسي، فقد أجريت مثلها مئة مرة«، قال (س) ذلك محاولاً إخفاء قلقه.
وصاح نائب طبيب القسم، موجهاً الكلام إلى (س): »بأي شيء تفكر؟ سنجري العملية، لقد فهمتك جيداً، بإمكانك أن تدلني على الموضع وكفى، لأني أراك مرتبكاً وعصبياً«. بعد ذلك استدار نحوي قائلاً: »لا تخف، لن أكتب لك قائمة بحساب التكاليف، فأنا أعرف أنك مهاجر!«.
لم يتدخل (س) ولم يعطِ أية ملاحظة، رغم أنها كانت ضرورية جداً. كانت نظراتي خائفة متوسلة ترجوه أن يفعل خير ما يستطيع.
لم يكن نائب الطبيب ماهراً جداً، لأنه لم يهتد إلى الموضع المطلوب داخل أنفي. وهكذا بقيت أعاني من حالات الربو. بل أكثر من ذلك زاد الطين بَلّةً، إذ التهب الغشاء المخاطي بسبب العملية الفاشلة. ولم يستطع (س) فعل شيء حتى عودة طبيب القسم من الإجازة، ومرّ أسبوع حتى اصبح بإمكانه استئناف المعالجة.
بعد ذلك تحسنت حالتي بشكل رائع. كان (س) يعالجني كل يومين، ولم ترجع إليّ النوبة بعد. وأخذت أجلس عند شباك الغرفة وأعزف الهارمونيكا، التي كان مجرد التفكير بها، قبل أسبوعين، يسبب لي نوبة سعال رهيبة. ذات يوم ذهبت إلى المستشفى ولم أجد (س). قالت لي الممرضة ببرود وجفوة: »الدكتور لم يعد يعمل هنا«، ثم دخلت غرفة طبيب القسم وصفَقَت الباب بوجهي.
خرجت أبحث عنه، كان الوقت ظهراً، فلما دخلت غرفته وجدته مستلقياً في سريره، اندهشتُ لذلك لأنه إنسان حيوي ومنظّم ولم يكن مريضاً.
قال معتذراً: »إني أضطجع في السرير كي أقتصد في الفحم، كما أني لست أدري ما أنا فاعله إذا ما نهضت«. وأكد لي أن طبيب الأسنان في المستشفى رآه يعالج بعض المرضى، فكتب عنه إلى السلطات أنه يمارس مهنة محظورة عليه، وهكذا لم يبق أمام المستشفى إلا تسريحه من العمل، ومنعه من دخولها.
وقال بصوت خفيض مرتجف: »لن أستطيع تقديم شيء لك بعد الآن. فقد أكون تحت المراقبة. وإذا ما ساعدتك، فقد يطردوني من هذه البلاد«. كان يتحاشى النظر إليّ عندما يتحدث، وهكذا بقيت معه في الغرفة جالساً بضع دقائق نتبادل حواراً مصطنعاً حتى غادرته.
وبعد مرور يومين من ذلك فقط، عاودتني نوبة الربو والسعال، فقد هاجمتني النوبة ليلاً. وكنت قلقاً من أن ذلك قد يزعج المرأة، التي استأجرت الغرفة عندها، ذلك أني كنتُ أدفع لها إيجاراً أقل من المعتاد. لذلك كنت خائفاً أن أتسبب في إزعاجها فتطردني.
وفي صباح اليوم التالي داهمتني نوبتان، بقيت بسببها جالساً طوال الوقت عند الشباك أسعل بشدة، فجأة سمعت طرقاً على باب الغرفة، بعدها دخل (س).
»لا تقل شيئاً« قالها بسرعة وأضاف: »إني أعرف أية فضيحة وعارٍ هذا الذي يجري، لقد أحضرتُ معي أداةً تستلزم منك الصبر وأن تطبق على أسنانك بشدة لأني لا أستطيع تخديرك، وعندها سأحاول معك«.
أخرج من جيبه عدة السيكار، فتحها وأخرج منها شيئاً ملفوفاً بالقطن.. كان ملقطاً عُكَِفَ، بطريقة خاصة ليجري به العملية. جلست على السرير وحملت له مصباح الطاولة لمساعدته في الرؤية خلال عمله، وشرع يكوي العصب.
وعندما غادرني، أمسكت به مضيفتي في الممر ورجته أن يلقي نظرة على رقبة ابنتها الصغيرة، وهذا يعني أنهم عرفوا به طبيباً. لم يستطع إجراء الفحوص والعلاج في غرفتي بعد.
كان الوضع سيئاً، ذلك أنه ما من أحد منا كان يعرف مكاناً مأموناً، ومن حسن الحظ أني شعرتُ بالتحسن في اليومين التاليين. أجرينا خلالها، (س) وأنا، حوارات لعدة مرات. وفي مساء اليوم الثاني قال لي (س) أنه وجد مكاناً، كان يتحدث بحيوية وبلهفة ولهجة واحد من كبار الأطباء (وهو كذلك فعلاً) ولم يأتِ بكلمة واحدة على ذكر الخطر الذي يتعرض له.
المكان الأمين، الذي اهتدى إليه صاحبي، كان التواليت في فندق كبير عند محطة القطارات. وفي الطريق إلى هناك رميتُ (س) بنظرة جانبية لأتبين ما تأثير ذلك عليه. كان طويلاً نسبياً بهيئة محترمة جداً، يرتدي معطفاً من الفرو، أنقذه من البحر عندما تحطمت بهم السفينة. ومن مظهره الخارجي، ما كان أحد ليشك في أنه متوجه إلى مستشفاه أو إلى قاعة المحاضرات، وليس إلى تواليت الفندق الذي سيتحول إلى صالة عمليات له.
كان المكان في تلك الساعة خالياً من أي بشر فعلاً، ولم يكن هناك من يقوم على خدمة المرافق، التي كان موقعها في السرداب تحت الفندق، مما كان يوفر فرصة لسماع وقع أقدام القادمين من مسافة بعيدة. إلا أن الإنارة هناك كانت ضعيفة.
وقف (س) بشكل يمكنه من رؤية مدخل المرافق، وتغلب بمهارته الساحرة العجيبة على الإنارة الضعيفة في المكان، وكذلك على بدائية الأداة التي كان يستخدمها. وفيما كان الألم يمزقني ويملأ عيوني بالدمع، كنت أفكر بالنصر الكبير الذي أحرزه العلم في قرننا الحالي.
وفجأة جاء من خلف ظهر (س) صوت غليظ تكلم باللغة المحلية: »ماذا تفعل هنا؟«
كان شخصاً سميناً بظهر عادي، تعتلي رأسه قبعة فرو رمادية، فقد دخل من باب التواليت الصغيرة البيضاء وراح ينظر إلينا بارتياب، وهو يصلح حاله ويشد حزامه. كنت أشعر كيف أن جسم (س) يختض من الخوف والقلق، إلا أن يده لم ترتجف أبداً، سحب الملقط بحركة رشيقة وواثقة من أنفي المتألم، بعدها استدار ناحية الشخص الغريب.
لكن الشخص لم يتحرك من مكانه ولم يكرر السؤال. (س) هو الآخر لم يتكلم، لكنه تمتم بشيء غير مفهوم وهو يرجع الملقط إلى جيب صدريته كما لو كان خنجراً أراد به قتلي، وبدا كأن ضميره العلمي يؤنبه لأنه استخدم أداة بدائية لإجراء العملية. بحركة غير واثقة، وبيد مرتجفةـ تناول معطفه –الفرو من الأرض ورماه على يده متحسراً ثم دفعني صوب الباب وسرنا.
لم ألتفت إلى الخلف، ولم أسمع شيئاً يصدر من ناحية الشخص السمين، ربما كان يحملق فينا من الخلف وظن أنه قطع علينا عملاً غير قانوني، وربما يكون قد ارتاح لأننا لم نهاجمه، وأخيراً ابتعدنا عنه. لقد مشينا دون أن يوقفنا أحد، وعبرنا صالة الفندق وقد نكّس كل منا رأسه وسط ياقة معطفه، وصرنا في الشارع، ودون أن نتبادل كلمات كثيرة افترقنا بسرعة عند أول منعطف.
لم يكن (س) قد ابتعد عني أكثر من خمس خطوات حتى داهمتني زوبعة هوجاء من السعال الشديد، ألقت بي على جدار المبنى. كنت ألاحظ كيف أن (س) كان يمشي ويستدير برأسه بين آونة وأخرى، لينظر إليّ بوجه حائر. أعتقد أني في تلك الليلة أصبت بالبرد، مما طرحني في الفراش ثلاثة أسابيع، كانت على وشك أن تكلفني حياتي، ولكن شفيتُ بعدها من الربو«.
كالا: أستطيع أن أتصور كيف أن (س) لم يكن مستغرباً عندما لاحظ في الخارج أن المرضى هم زبائن في واقع الحال، إن الأمر يتعلق هناك بالخدمة التي تقدم للزبائن. من البشاعة أن تعيش في بلد تظل فيه معتمداً على صدقة إذا ما قدمها لك شخص، فإنه يضحي بمصالحه الخاصة، ومن الأحسن لك أن تكون في بلدٍ لا تحتاج فيه إلى صدقةٍ أو إحسان كي تشفى.
تسيفل: لو استطعت الدفع، لما احتجت إلى صَدَقَةٍ من أحد.
كالا: نعم، لو.

(بعد ذلك افترقا، وذهب كل إلى جهته).







13
ضبط النفس والشجاعة






(تسيفل وكالا طافا في البلاد واستطلعاها، كالا بصفة تاجر متنقل يبحث عن مواد قرطاسية. كان يدس أنفه مرة هنا وأخرى هناك. أما تسيفل فكان بصفة كيماوي يبحث عن فرصة عمل في مطعم المحطة بالعاصمة، الذي أحباه لأنه لم يكن نظيفاً ولا مريحاً. وشرعا يتبادلان خبرتهما فطلبا قدحين من البيرة، التي ما كانت بيرة حقيقية، ثم كوبين من القهوة، التي ما كانت قهوة حقيقية):

تسيفل: عندما يصف القيصر بلاد الغال فإنه يعرفها بأنها البلد الذي هزم هو فيه أهلها الغاليين. أما تسيفل فيقول عنها أنها انهزمت فيه! وعليه لن أحصل على عمل هنا.
كالا: هذا استهلال كبير، كنت أتوقعه منك. يمكنك أن تطمئن فقد فهمت كل شيء: إنك لم ترَ شيئاً.
تسيفل: لقد شاهدت ما فيه الكفاية، إنه بلد يربي كبار »أصحاب الفضيلة«. أي أن من يريد السيطرة على الآخرين، عليه أن يتعلم كيف يسيطر على نفسه، ولكن من الأفضل القول: أن من يريد السيطرة على الآخرين، عليه أن يعلمهم كيف يسيطرون على أنفسهم. ذلكم هو ضبط النفس، وعليه فإن هذه البلاد لا يسيطر عليها كبار الملاكين وأصحاب المصانع فقط، إنما تسيطر هي على نفسها، وهو ما يسمى بالديمقراطية. فالمستلزم الأول للسيطرة على النفس وضبطها: هو أن تنكتم وتسد فمك. وهذا ما يسمونه في الديمقراطية بحرية الكلام. ومن خلال ذلك يقولون لك: ممنوع عليك أن تسيء استخدام هذه الحرية بالكلام. هل فهمت؟
كالا: كلا.
تسيفل: لا عليك. إن صعوبتها في النظرية فقط، أما في التطبيق فإنها بسيطة سهلة الفهم. إذ من المسموح به الحديث عن أي شيء لا يعتبر من الشؤون العسكرية. ولكن العسكر هم الذين يحددون ما هو عسكري وما هو ليس كذلك، لأنهم يمتلكون معرفة متخصصة. فالعسكر يتحملون أكبر المسؤوليات، وتأسيساً على ذلك فإن لديهم أكبر شعور بالمسؤولية. لذلك تراهم يجهدون أنفسهم في الاهتمام بكل الأمور. وهكذا ترى أن كل الشؤون أصبحت شؤوناً عسكرية لا يجوز الحديث عنها.
كالا: لديهم رايخستاغ. ففي الشارع الفلاني تسكن امرأة لها خمسة أطفال. إنها أرملة وتعيش على غسل الملابس للآخرين. عندما سَمِعتْ بوجود انتخابات للرايخستاغ، ذهبت إلى دار البلدية، حيث توجد قوائم بأسماء المرشحين، لكنها لم تجد اسمها. لذلك أقامت ضجةً لأنها اعتقدت أنهم خدعوها. لكنهم أطلعوها على قانون صادر عن الرايخستاغ نفسه يحرم فيه حق الانتخاب على الناس الذين يعيشون على المساعدات، التي يتلقونها من الدولة. لقد أرادت المرأة بشكل أساسي أن تُنتَخب لأن المساعدة التي تتلقاها من الدولة ضئيلة جداً، ولأنها لا تريدها بعد الآن، إنما تريد أجراً مجزياً لعملها، لأنها تشتغل طوال النهار. ويُقال أنها ذهبت أبعد من ذلك فقالت: »إلى الجحيم، أنتم والرايخستاغ!« لكن البوليس غضّ النظر عنها كما لو أن شيئاً لم يحدث.
تسيفل: أستغرب أنها لم تستطع ضبط نفسها.
كالا: إنه لأمر خطير أن يستطيع الجميع ضبط أنفسهم إلا واحداً. لكن إذا لم يكن الجميع، فإنه أمر آخر، وعندها لا تعود حاجة لأن يضبط نفسه فرد واحد، تماماً مثل الأعراف والتقاليد. فإذا كان هناك، في بلد ما، تقليد أن يلبس الناس قبعات قش حمراء في الشتاء، فبإمكانك أن تلبس وبكل بساطة قبعة قش حمراء في الشتاء. إنه من غير اللائق أن لا يستطيع أحد في بلد ما ضبط نفسه.
تسيفل: ثمة قصة تذكرتها قبل أيام فقط. تقول القصة أن رجلاً جاء إلى النهر مسرعاً، حيث كانت العبّارة قد تحركت للتو محملة بالناس، كان في عجلة من أمره، فقفز إلى العبّارة. أفسح الناس له في المجال، رغم أن المكان اكتظ بهم وهم وقوف. لم يتكلم أحد منهم حتى وصلت العبّارة إلى الضفة الأخرى، حيث كانت مجموعة من الجنود بانتظارهم. استقبلوا الركاب وصفوهم في طابور إلى الحائط، أوقفوهم هناك، وشرع الجنود يجهزون بنادقهم وأخذوا مواضع بانتظار صدور أمر لهم: »أطلقوا النار«. وما أن صدر الأمر حتى رموا الأول، وهكذا البقية على التوالي، حتى وصل الدور إلى آخر شخص، ذلك الذي قفز إلى العبّارة. وعندما همَّ الضابط بإعطاء الأمر بالرمي، وصلت القائمة. ولما قارن الأسماء فيها، بمن تم فيهم تنفيذ حكم الإعدام، وجد أن هناك شخصاً أكثر مما يجب. فأخذوا يحققون مع الرجل لماذا جاء في العبّارة ولم يقل شيئاً عندما شرعوا بإعدام الآخرين. هل تدري ماذا تبين؟ لقد ظهر أن لهذا الرجل ثلاثة أخوة وأختاً واحدة. فقد تم إعدام الأول لأنه قال أنه يرفض الخدمة في الجيش. وشنقوا الثاني لأنه قال بأنه رأى موظفاً يسرق، وشنقوا الثالث لأنه كذب وقال أنه شاهدهم عندما رموا أخاه الثاني بالرصاص في حين أنه شنق. أما أختهم فقد أعدموها لأنها قالت شيئاً خطيراً لم يكن معروفاً. وهكذا أخبر الرجل الضابط أنه توصل إلى استنتاج مفاده أن الكلام خطير. كان الرجل يقص كل ذلك على الضابط بهدوء تام، ولكن في النهاية أصيب بشرودٍ ذهني ففلتت منه بعض الكلمات أدّت إلى إعدامه. يقال أن ذلك حدث في (جي)(*).
كالا: سمعتُ أن الشعب صامت هناك، وأن ذلك يعتبر من الخصائص القومية. وبما أنه شعب يتكلم لغتين، فيمكن القول أنه صامت بلغتين.
تسيفل: في الواقع يمكن قول ذلك، ولكن بصوت غير مسموع.

(وقبل أن ينهيا جلستهما قدّم كالا اقتراحاً تجارياً. فقد اكتشف من خلال تجواله أن المدينة تعاني كثيراً من حشرة –التختة كالوس-. والغريب في الأمر أنه لا توجد دائرة خاصة لمكافحة هذه الحشرات. وقال كالا أن رأسمالاً صغيراً يكفي لإقامة مشروع كهذا لمكافحة الحشرات. فوعد تسيفل أن يفكر بالاقتراح، إلا أنه عبّر عن شكه في إمكانية إقناع الناس باتخاذ موقف من هذه الحشرات، ذلك أن الناس كانت تتمتع بقدرة على ضبط النفس. وهكذا قاما دون أن يتخذا قراراً بشأن ذلك. افترقا وذهب كل إلى جهته).






14
حول الديمقراطية/
معنى كلمة »شعب«/
حول غياب الحرية في ظل الشيوعية/
الخوف من الفوضى والتفكير






(عندما التقيا، اقترح كالا أن يذهبا إلى مطعم آخر للخدمة الذاتية، لا يبعد أكثر من عشر دقائق عن هذا، لأنه يقدم قهوة أفضل، إلا أن البدين –تسيفل- لم يشعر بالارتياح لفكرة تغيير المطعم وهكذا بقيا).

تسيفل: ممارسة الديمقراطية بين اثنين، أمر صعب للغاية. فقد توجب علينا وقف عملية التصويت كي أحصل أنا على الأغلبية. فالأمر ليس بغريب ذلك أن عجيزتي غير مستقلة عني، وعليه يمكن القول أني أقنعتها أن تصوّت معي!
كالا: بشكل عام يبدو عليك مظهر الديمقراطي. وأعتقد أن ذلك ناتج عن كونك معافى، مليء القوام، وهذا ما يعطي انطباعاً مريحاً. فكلمة ديمقراطي، يفهم الناس الميسورون منها شيئاً حميماً وودياً، أما عند الجياع، فإنهم يرون فيها شيئاً وقحاً. حدثني أحد معارفي، وهو خادم مطعم، وشكا لي من أحد تجار الذُرَة، الذي ما كان يعطيه بقشيشاً مناسباً، لأنه (أي التاجر) قال لشخص آخر بما أنه إنسان ديمقراطي فإنه لا يريد أن يُشْعِرَ الخادم بالضِعَة. وقال التاجر »لن أسمح لأحد أن يعطيني بقشيشاً، فهل هذا نقص فِيّ؟«
تسيفل: أعتقد أنه في هذه الحال يمكن الحديث عن خاصية الشخص أكثر مما يصح الحديث عن الديمقراطية.
كالا: ولِمَ لا؟ إذ أني أجد أنه حتى الكلاب إذا ما أكلت كفايتها فإنها تبدو ديمقراطية، والعكس صحيح. إذن فللمظهر معنى.. وأعتقد أنه الشيء الأساسي. خذ فنلندا مثلاً، إنها ديمقراطية. ولكن إذا أزحت المظهر وبصقت عليه، فماذا سيبقى؟ لا ديمقراطية، بكل تأكيد.
تسيفل: أعتقد أن من الأفضل لنا أن نذهب إلى المطعم الذي اقترحته.
(ينهض تسيفل ويهم بالخروج ولكن كالا يجره ويُُجلِسَهُ).
كالا: لا تخف! اجلس! إنه نَقصُ كل الديمقراطيات. لا أعتقد أنك تجادل في أن ألمانيا كانت تبدو ديمقراطية جداً حتى صارت فاشية. فقد سمح الجنرالات المهزومون لصاحب المطعم إيبرت(*) أن يكون له خط تلفوني خاص بمكتبه الكبير، كي يستطيع أن يتلفن عندما يقوم الشعب باضطرابات. فقد تباحث معه مسؤولو دواوين الوزارات وكبار القضاة، وطلبوا منه المشورة كما لو أنه نبي. وإذا ما تدخل أحد في شؤونهم فكان ذلك بمثابة دليل مُفحِم على أنهم يجب أن يحتجوا إلى صاحب المطعم إيبرت، وإلا فإن مراكزهم ورواتبهم التقاعدية ستفوت عليهم. وسمعت أن أحد الصناعيين من الرور – وكان معروفاً بأنه من مؤيدي ألمانيا الكبرى – تجرأ مرة فعمل ما لم يرضِ الناس. عندها رجاه صاحب المطعم إيبرت وبمنتهى الأدب، أن يجلس على الكرسي، وطلب من اثنين من الاشتراكيين الديمقراطيين أن يعيناه على الوقوف ويضرب قدميه استعداداً وتحيةً للصناعي. عندها أدرك السادة أنهم بحاجة إلى حركة شعبية تقف وراءهم، وإلا فإنهم لن يفلحوا في مسعاهم. فقاموا ببعض العمليات البارعة التي أدت بهم إلى الهدف المنشود. ففي البداية حطموا المتوسطين عن طريق التضخم. ومن ثم جرى تحطيم الفلاحين عن طريق سياسة الضريبة والكمارك، وجرى ذلك لصالح ملاكي غرب الأَلبه(*). واقترض السادة المليارات من البنوك الأجنبية، كي يجددوا مصانعهم لتغدو تشتغل بأقل عدد ممكن من العمال. وهكذا تحوّل الجزء الأكبر من العمال إلى جيش من المتسولين. عند ذاك بنوا حركة شعبية اشتراكية قومية –نازية- قوامها المحطمون من المتوسطين والفلاحين والعمال، وأمكنهم عندها إشعال فتيل حرب عالمية. لقد جرى كل ذلك دون أن يختل النظام في الداخل. إذ جرى ضمانه عن طريق الجيش الجديد من الجنود مدفوعي الأجر، الذين سمح الحلفاء بوجودهم منذ البداية للتصدي للعدو الداخلي.
تسيفل: ورغم ذلك فقد كانت ديمقراطية رغم أن الديمقراطيين كانوا مغفلين جداً. فلم يفهموا ماذا تعني الديمقراطية بمعناها الحرفي.. إنها تعني حكم الشعب.
كالا: إن كلمة »شعب« هي كلمة متداولة كثيراً، فهل انتبهت إلى ذلك؟ فمعناها نحو الخارج يختلف تماماً عما تعنيه نحو الداخل. فمعناها نحو الخارج، إلى الشعوب الأخرى، يدخل فيه كبار الصناعيين والملاكين وكبار الموظفين والجنرالات والأساقفة.. إلخ ويعتبرون من ضمن الشعب الألماني وليس غيره. أما نحو الداخل، أي عندما يتعلق الأمر بالسلطة. فسترى أن هؤلاء السادة عندما يريدون الحديث عن الشعب، يتحدثون عن »الجماهير« و»الناس الفقراء«.. وما إلى ذلك، أي أنهم يفصلون أنفسهم عنه. ومن المفضل للشعب أن لا يحسبهم على قوامه. عندها ستكتسب عبارة »حكم الشعب« معنىً أجود وأكثر طيبة.
تسيفل: عندها لن يكون حكم الشعب ديمقراطياً، بل دكتاتورياً.
كالا: هذا صحيح، ستكون دكتاتورية الـ999 على الفرد الألف.
تسيفل: سيكون جميلاً حقاً لو أنه لا يعني الشيوعية. ولا بد أنك ستتفق معي في أن الشيوعية تنهي حرية الفرد.
كالا: هل تشعر الآن بالحرية؟
تسيفل: ليس تماماً، خاصة عندما تطرح عليّ مثل هذا السؤال. ولكن لماذا أستبدل غياب الحرية في الرأسمالية بمصادرة الحرية في الشيوعية! يبدو أنك تؤيد الأخيرة.
كالا: بدون أدنى شك. لن أعدك بشيء، فلا يوجد من هو حر بشكل مطلق، لا الحكام ولا الشعب. فالرأسماليون هم الآخرون ليسوا أحراراً، ألا ترى ذلك؟ إنهم ليسوا أحرارً –على سبيل المثال- في تنصيب رئيس دولة شيوعي. كما أنهم ليسوا أحراراً في إنتاج أعدادٍ غير محدودة من البدلات، أكثر من الحاجة، أي أكثر مما يجري شراؤه. وفي الشيوعية فإنه محرم على الفرد أن يترك نفسه يستغل من قبل آخر.. إن مثل هذه الحرية ممنوعة.
تسيفل: سأقول لك شيئاً صريحاً: أن الشعب لن يأخذ الحكم إلا في أقصى درجات الضرورة. ذلك أن المرء لا يفكر إلا في أقصى حالات الضرورة، أي عندما يضيق صبراً. ذلك أن الناس تخاف الفوضى.
كالا: وإنطلاقاً من خوفهم من الفوضى، فإنهم سيقبلون في النهاية بالنزول إلى سراديب المنازل المسطحة المقصوفة، ورجال الأس أس يوجهون البنادق إلى ظهورهم.
تسيفل: عندها ستكون بطونهم خاوية، ولن يستطيعوا الخروج ليدفنوا أطفالهم، ولكن سيظل النظام باقياً، وعندها لن يحتاجوا إلى التفكير.
(وعندما لاحظ أن الحديث لم يرق تماماً لكالا، قال):
تسيفل: أرجو أن لا يتولد لديك انطباع خاطئ أني أنتقد الناس، على العكس من ذلك تماماً. إن التفكير الحاد، مؤلم. فالعاقلون من الناس يتحاشونه قدر الإمكان. وفي البلدان التي أعرفها والتي تحتاج إلى هذا القدر منه، لا يمكن للمرء أن يعيش ببساطة هناك، أي ما لا أستطيع تسميته حياة.

(أفرغ كأس البيرة في جوفه مهموماً، ثم افترقا، وذهب كل إلى جهته).






15
متعة التفكير/
حول المتعة/
البرجوازية لا تفهم التاريخ






كالا: يسعدني أني اكتشفت فيك، باعتبارك مثقفاً، موقفاً مناهضاً من »وجوب التفكير«. وهذا لا يعني أبداً أنك ضد مهنتك، بل على العكس.
تسيفل: باستثناء أنها مهنة.
كالا: هذا هو التطور الحديث، الذي أدى إلى نشوء جماعة يهتمون بالتفكير ويتدربون عليه، إنهم المثقفون. إذ يتوجب عليهم أن يؤجروا رؤوسهم، أدمغتهم، إلى أصحاب العمل، كما نؤجر، نحن، أيدينا.
ومن الطبيعي أن يتولد لديهم انطباع أنهم يفكرون من أجل عامة الناس. ولكن ذلك يشبه ما قد ينشأ من وهم أننا ننتج السيارات للعامة، وهو ما لا نقصده، لأننا نعرف جيداً أننا ننتجها للرأسماليين، ولتذهب العامة إلى الجحيم!
تسيفل: هل تقصد أني أفكر بنفسي فقط عندما أفكر كيف أبيع ما أفكر به، وعليه فإن عملية تفكيري ليست لي وليست للعامة؟
كالا: نعم.
تسيفل: لقد قرأت أن الأمريكان، حيث التقدم متطور عندهم، يعترفون بالأفكار بشكل عام، باعتبارها بضاعة. فقد نشرت إحدى الصحف الكبيرة هناك: »إن الواجب الأساسي للرئيس هو أن يبيع الحرب للكونغرس وللبلاد«. والمقصود هنا فكرة الحرب، فكرة الدخول في الحرب. وفي النقاشات العلمية والفنية، إذا ما أراد إنسان التعبير عن موافقته على فكرة ما فإنه يقول لك: اشتريت. وهكذا تمّت الاستعاضة عن كلمة »الإقناع« بكلمة أكثر ملاءمة وهي »البيع«.
كالا: وفي ظل هذه الظروف يمكنك أن تحصل على بديل مرادف للتفكير، وهذا ما لا يوفر المتعة.
تسيفل: على أية حال، نحن متفقون على أن التعطش للمتعة يعتبر من أكثر الأشياء فضيلة. فإذا كان هناك ثمة صعوبة أو استحالة في الاستمتاع، فلا بد أن يكون هناك شيء عفن.
كالا: كما يقال، فإن متعة التفكير تحطمت تماماً. وليس متعة التفكير وحدها، بل كل المتع بشكل عام. أولاً لأنها غالية ، إذ يتوجب عليك أن تدفع من أجل الاستمتاع بمنظر طبيعي. فالمنظر الطبيعي يمكن أن يَدُرَّ ذهباً. كما يتحتم عليك أن تدفع حتى عندما تذهب إلى التواليت. كنت أعرف شخصاً في ستوكهولم، كان يزورني بشكل منتظم، وظننت أنه يزورني من أجل التحدث معي، ولكن ظهر بعد ذلك من أجل الاستمتاع بالتواليت الذي عندي، لأن التواليت الذي في مسكنه كان مقززاً ومرعباً.
تسيفل: كتب الشاعر الفرنسي فيلون شكوى من أنه لا يتمكن من تغذية نفسه بشكل جيد، لأنه إذا ما أكل جيداً فإنه يصاب بعجز جنسي. لكنه لم يكتب أي شيء عن المتعة أثناء الأكل الجيد.
كالا: خذ عملية تقديم الهدايا، وكرم الضيافة.. وانتهاءً حتى بالبحث عن سكين صغيرة يلعب بها الصغار، أو خذ مثلاً عندما تذهب إلى السينما. لا بد أنك ستستمتع بما لم يستمتع به الناس الذين صنعوا الفلم. لكن الأمر الحاسم هو أن حياة المتعة منفصلة تماماً عن الحياة الاعتيادية الأخرى. إنها مجرد استراحة كي تتمكن من أداء ما لا يوفر المتعة. إنك تتقاضى أجورك لقاء ما لا يوفر المتعة. ذات مرة شَكَتْ إحدى بائعات الهوى أمامي، أن أحد زبائنها لم يشأ أن يدفع لها لأنها –ودون أن تدري أو تريد- أطلقت حسرة مصحوبة بزفير حاد وهي معه في الفراش. بعد ذلك سألتني كيف الحال في ظل الشيوعية. يبدو أننا ابتعدنا عن موضوعنا.
تسيفل: أني أؤيد ذلك، لأننا لسنا هنا من أجل أن نكتشف شيئاً. إذ يمكننا أن تفكر بما نقدر على التفكير به. فأفكارنا مثل البيرة المجانية(*). ولكن أرجو أن لا يُساء فهمي، لأني لست حكومة تستطيع تحقيق فائدة من وراء ذلك. إنني لم أتحدث ضد التفكير أو الفكر، مثلما قد يحلو للبعض فهمه. إنني مثلما يسميه الدكتور غوبلز مجرد وحش مثقف! أنا فقط ضد مجتمع لا يستطيع أحد الحياة فيه بدون عمليات فكرية كبيرة جداً. أي ضد مجتمع كالذي يريده الدكتور غوبلز ويحل فيه المعضلة بتحريم التفكير.
كالا: لا أتفق مع الفكرة القائلة أن هتلر إنسان غبي. لأن ذلك قد يبدو كما لو أن هتلر غائب في اللحظة التي يتأمل فيها أو يفكر.
تسيفل: صحيح. إن فكرة متنزهات حماية الطبيعة، التي يجري فيها تحريم صيد الأفكار، موجودة في ألمانيا، ليس في ظل هتلر فقط. إن هذه المتنزهات محاطة بأسلاك شائكة مكهربة. إنه لمن الخطأ اعتبار الخطبة، التي ألقاها هتلر قبل عام 1932 أمام صناعيي الراين، على أنها غبية. ذلك أن مقالات وخطب الليبراليين تبدو أمامها طفولية. فهلتر يعرف على الأقل أنه لا يمكن أن يحصل على رأسمالية بدون حرب. وهذا ما لا يعرفه الليبراليون ولا يفقهونه. لقد توارى الأدب الألماني بعد كارل كراوس(**)، حتى أدب مان وميرنغ(***).
كالا: إنهم يفكرون أن بإمكانهم أن يكون لديهم قصاب، ولكن في نفس الوقت يحرمون عليه الذبح قانويناً.
تسيفل: إنه حقل رائع لإنسان فَكِه يحب الطرافة. هل تعرف أن أفضل جواب على السؤال الغث: »كيف يمكن أن تقيم منافسة حرة ولكن بدون فوضى«، هو الكارتيلات؟ إن محاولات الكارتيلات لإقامة نظام عالمي تؤدي إلى حروب عالمية. ذلك أن الحروب ما هي إلا محاولات للحفاظ على السلم.
كالا: لقد اندلعت الحرب العالمية الثانية قبل أن تتسنى الفرصة لظهور عملٍ واحد يؤرخ الأولى.
تسيفل: إن عبارة »اندلعت« تحوي كل شيء. إذ أنها تستخدم للخلط بين من قام بأشعال الحرب وبين من لم يستطع الحيلولة دون قيامها. وإذا ما استخدمت هذه العبارة، »اندلعت«، لموجات الجوع التي تجتاح الهند الآن، فإنها ستعم على المُضاربين الذين هم سبب تلك المجاعات.
كالا: قد يحتاج المرء هذه العبارة في مجال الحب أيضاً. فقد جرت حادثة لزوجة صديق على النحو التالي: سافرت بالقطار مع رجل، وذهبت معه إلى الفندق. وبسبب الرغبة في الإدخار فقط، استأجرت معه سوية غرفة واحدة. وخلال ذلك اندلع الحب بينهما، فلم تستطع مقاومته. فأغلب الأزواج ينامون مع زوجاتهم دون أن يندلع الحب بينهم. وقد سمعت أن الحروب تندلع عندما تكون دولة، أو ربما حليفاتها حربية، أي ميّالة للحرب واستخدام القوة. ولكنني كنت أعتقد أنها تشبه حالة الفيضان. إذ عادة ما يوصف النهر بأنه »أخّاذ وساحر« بمناظره الرائعة. ولكن عندما يفيض ويهدم كل شيء فإنه يعتبر المذنب، مهما ظل يصيح ويصرخ عالياً من أن هناك أمطاراً غزيرة على الجبال، دفعت بكل المياه إليه، وأن مجراه لم يعد يحتمل أكثر فضاق به.
تسيفل: إن كلمة »يحتمل« هي الأخرى معبرة. فإذا ما قلت »أنني لا أحتمل الحصة المخصصة لي من الخبز« فإن ذلك لا يعني أن حالة من الحرب نشأت بيني وبين الخبز. ولكن عندما أقول »لن أحتملك بعد الآن«، فذلك يعني أن حالة من الحرب نشأت بيني وبينك.
لنعد الآن إلى كتابة التاريخ: إننا لا نملك تاريخاً. في السويد قرأت مذكرات بارا. كان من اليعاقبة وعضواً في هيئتهم العليا، بعد أن ساعد على تنحية روبسبير. لقد كتب بارا مذكراته بأسلوب تاريخي مدهش. فعندما تكتب البرجوازية عن ثوراتها، تكتب بأسلوب تاريخي حقيقي، لكنها لا تفعل ذلك عندما تكتب عن سياساتها وبضمن ذلك حروبها. ذلك أن سياساتها مواصلة لصفقاتها التجارية، ولكن بأدوات أخرى، وأنها لا تحب الحديث علناً عن صفقاتها. لذلك فإنها تصاب بالحرج والارتباك عندما تؤدي سياساتها إلى الحروب. فالبرجوازية قامت بأوسع الحروب في التاريخ وهي في نفس الوقت »سلبية«(*). فكل حكومة عندما تدخل الحرب تقول مثلما يردد مُدْمِنٌ على الكحول عندما يرفع كأسه: إنه آخر كأس، ولن أعود له بعد الآن.
كالا: حقاً عندما أفكر، أجد أن الدول الحديثة هي أكثر الدول نبلاً، فقد شنت أكبر الحروب وأوسعها. في الماضي كانت تندلع حرب هنا، وأخرى هناك بدافع من الربح، غير أن مثل هذه الحروب قد توقفت الآن. فعندما تريد دولة ما اليوم بَيْدَرَ الذُرَةِ ذاك، فإنها تقول على استحياء: يجب أن يأتينا بيدر الذرة هذا لأن مالكه أو الوزير الفلاني لا يمكن التفاهم معه. باختصار شديد لا تجد اليوم دولة تدافع عن دوافعها الحقيقية من وراء الحرب. لذلك تراها تبحث عن حجة أخرى أحسن. فالأمة السيئة الوحيدة هم السوفييت، لأنهم لم يقدموا حجة لاحتلالهم بولونيا عندما كانت تحت الاحتلال النازي، لأنه لم تكن لديهم أية حجة. لذلك ظن العالم وببساطة أنهم احتلوها لأسباب عسكرية، لضمان أمنهم العسكري. وهذه حجة أنانية رذيلة.
تسيفل: لا أعتقد أنك تقتنع بالفكرة السوقية القائلة أن الإنكليز كانوا على وشك الاشتراك في الحرب الفنلندية الأولى بسبب من مناجم النيكل التي يمتلكونها هناك، أو بالأحرى التي يمتلكها بعضهم هناك، وليس بدافع من حبهم للأمم الصغيرة؟
كالا: أعبر عن سروري لأنك حذرتني، ذلك أني كنت على وشك التصريح برأي كهذا. ولكن ما دام هذا الرأي سوقياً، فلن أقوله. الدافع القذر هو الأحسن عندما يريد المرء اقتراف جريمة ما، لأنه سيكتشف بواسطته أنبل الدوافع. فالدوافع القذرة غير ممكنة التصديق والقبول. ففي مدينة هانوفر جرت تبرئة مجرم سارق، لأنه اعترف أنه قتل معلمة مدرسة، وقطعها إلى قطع صغيرة كي يحصل على 150 فلساً يشتري بها ما يسكره. وبناءً على نصيحة محامي الدفاع لم يصدق المحلفون كلامه، لأن العمل المقترف كان وحشياً جداً. وعليه فإن الدوافع النبيلة للحروب الحديثة يجري تصديقها بسهولة، لأن الدوافع الفعلية والآنية التي يمكن للمرء تصورها، قذرة جداً.
تسيفل: يا صديقي العزيز، إنك تسيء إلى ما يُسمى بالنظرة المادية للتاريخ عن طريق تسطيح التاريخ على هذا النحو. فالرأسماليون ليسوا لصوصاً، لأن اللصوص ليسوا رأسماليين.
كالا: صحيح. ذلك أن الشيء الوحيد الذي قد يبرر مثل هذا التسطيح، هو أن تعثر على الجرم المشهود عندهم.
تسيفل: عبارة »الجرم المشهود« خاطئة، ذلك أنك لن تعثر في أحسن الأحوال إلا على »الاستغلال« وهو أمر مختلف كما تعرف ذلك.
كالا: السيء في الأمر أنك لا تجد ل »الاستغلال« ذكراً في قواعد تعاليم الديانة المسيحية، إذ لا تعتبر الفاقة والحاجة شيئاً »لا أخلاقياً« أو »وحشياً«.
تسيفل: لقد أدركنا الوقت وتأخرنا.

(عندها نهضا وافترقا، وذهب كل إلى جهته).







16
حول عِرق الأسياد/
والسيطرة على العالم






(كانت إقامة مشروع لصناعة مواد لمكافحة الحشرات تستلزم وقتاً طويلاً، لأنه يتوجب استيراد الغاز من الخارج وكانت هناك صعوبة في الحصول على العملة الصعبة اللازمة للاستيراد. خلال ذلك واصل تسيفل وكالا لقاءاتهما المكثفة في مطعم المحطة. وكانت ألمانيا موضوع الحديث بينهما، لأنها طالبت خلال تلك الأسابيع بفرض سيطرتها على العالم).

تسيفل: إن فكرة العِرق (أو الجنس البشري) ما هي إلا محاولة من جانب البرجوازي الصغير في سعيه ليكون نبيلاً. فسرعان ما ينتشي أو ينكفئ. ومن خلال ذلك يصبح لنا –نحن الألمان- تاريخ. فحتى لو لم نكن أمة، فلا بد أننا كنا عِرقاً على الأقل. وفي الواقع أن البرجوازي الصغير ليس أكثر إمبريالية من البرجوازي الكبير، ولِمَ يتوجب عليه أن يكون؟ وما حاجته بذلك؟ غير أن لديه شعوراً بالذنب، لذلك نراه يحتاج إلى عذر كي يتوسع. فلا يعجبه أن يلكز بكوعه أحداً في الخاصرة بدون سبب أو حق. ولكن يعجبه تماماً ممارسة حقه في رفس شخص و»الرقص« على جثته. إن الصناعة تستلزم وجود أسواق حتى لو كلّف الأمر سيلاً من الدماء. فالنفط أكثر كثافة من الدم. ولكن لا يجوز أن تشن الحرب من أجل الأسواق. فلو جرى ذلك فإنه سيكون أمراً سطحياً وساذجاً. ولكن يتوجب على المرء أن يشعل الحرب عندما يكون من عرق الأسياد. فها نحن الألمان قد شرعنا بذلك، بضم الآخرين إلى الرايخ الألماني، ولن نكف عنها إلا عندما نلحق بولونيا والدنيمارك وهولندة إلى الرايخ. وبذلك نوفر لهم الحماية. فالأسياد الجيدون سيتكفلون برعايتهم.
كالا: المعضلة الأساسية بالنسبة لهم هي أنه كيف يمكنهم صُنعَ كفاية من الناس الأسياد. ففي معسكر الاعتقال كان الآمر هناك يأمرنا أن نهرول ثلاث ساعات، بعدها يتوجب علينا أن نقوم بمئتي مرة ننحني فيها إلى الأسفل، وعندما ننتهي من ذلك نصطف في طابورين ويشرع آمر المعسكر يلقي علينا خطبة يقول فيها بصوت حاد: »نحن الألمان شعب الأسياد. وسأظل أشوي البصل على آذانكم، أيها الخنازير، حتى أجعل منكم ممثلين لعِرق الأسياد، بحيث يمكن للمرء أن يقدمكم للعالم دون أن يحمر وجهه خجلاً. كيف تريدون الفوز بالسيطرة على العالم وأنتم على هذه الميوعة و-السلبية-؟ علينا أن نترك الميوعة والسلبية إلى الأجناس غير النقية، التي اختلطت في الغرب بجنس العبيد السود. إن كل ألماني متفوق بطبيعته على أيٍّ من هذه الأجناس الخرقاء، كما يفوق المعدن في صلابته الاسفنج، وعليه سأظل أنقر خصيانكم حتى تفقهوا الأمر وتخرّوا راكعين تشكرونني لأنني وبناءً على توجيه من الفوهرر جعلت منكم أناساً يتحلّون بطباع الأسياد«.
تسيفل: وكيف كان رد فعلكم على تلك الأعمال اللاأخلاقية؟
كالا: لم أبُدِ أي رد فعل. وفضلاً عن ذلك لم أجرأ على المجاهرة بأن لا يكون لديّ طموح فيما يتعلق بالسيطرة على العالم. فقد عنفوني وضربوني، وبعد ذلك استدعاني آمر المعسكر ليجري معي حواراً منفرداً. كان منزعجاً لأنه شاهد قبل أن يتناول فطوره عملية جلد اثنين. لذلك وجدته مستلقياً على أريكته يعبث بشعره. فقال لي متأملاً: »عليك أن تمتلكها.. أعني بذلك السيطرة على العالم. لم يعد أمامك من خيار آخر. إنها قضية تتعلق بالسياسة الخارجية تماماً كتعلقها بالسياسة الداخلية. خذني مثلاً! كنت أعمل في فرع لشركة التأمين. كان المدير يهودياً، فطردني تحت حجة أني لم أجلب كفاية من بوليصات التأمين. وعليه لم يبق أمامي سوى الانتماء إلى حزب يضع في مقدمة أهدافه وطموحاته استلام السلطة وفرض هيمنته. وإذا لم يكن ذلك كافياً، خذ الفوهرر نفسه! فقبل استلامه السلطة كان مفلساً تماماً. إذ لم يكن يدري أين يذهب وأين يقيم. فالمهنة الوحيدة، التي ظلت أمامه مفتوحة، هي أن يصبح دكتاتوراً. والآن خذ ألمانيا! إنها مفلسة تماماً، صناعة كبيرة وواسعة، ولكن بلا أسواق أو مواد خام! فرصتها الوحيدة والأخيرة: السيطرة على العالم! انظر للأمر من هذه الزاوية!«
تسيفل: يمكن معالجة هذه المهمة، ولكن شريطة التعامل معها بأقصى درجات الشدة. فعن طريق الشدة والتزمت يمكن تحويل الإنسان الوديع إلى وحش. من الناحية المبدأية يمكنك أن تحيل أكبر مدينة في العالم إلى ركام بقصفها بواسطة صغار الموظفين، الذين يدخلونها بمجرد قلوب نابضة، ولكن شريطة أن يقودهم عريف. إنها قضية تقنية حسب. فما عليك إلا أن تضع الجنود في عربات توجهها صوب العدو، ولكن بسرعة يتعذر عليهم معها القفز أو الهرب. أما الآخرون فيمكنك أن تخيطهم بالمظلات وتُلقي بهم وسط الجيوش المعادية.. حيث ستجدهم – من فرط المفاجأة واليأس – يقاومون ويقاتلون كي ينجوا بحياتهم. وبإمكانك أن تلقي بأعدادٍ أكبر منهم بمثابة قنابل حية. فقد استطاعوا إخفاء جيش بكامله في بواخر نقل تجارية وأرسلوها إلى سواحل بعيدة جداً. أفرغوا الحمولة هناك وتركوها في مواجهة هجمات السكان المحليين، التي تم إخمادها. وعملاً بذلك تمت السيطرة على قارتين بفضل رباطة جأش هؤلاء الجنود وتماسكهم، حتى لو لم يكونوا رابطي الجأش ومتماسكين، فقد كان لديهم سبب كاف لإطفاء القارتين. إضافة إلى ذلك يأتي ما يسمى علمياً بالنزوع. فالإنسان، وحتى الأكثر تعقلاً، يمكن تربيته وتدريبه، حتى لا يعود هناك ما هو أبسط بالنسبة له من القيام بالأعمال البطولية. إذ تتكفل بذلك الدعاية والتهديد وضرب قوة المثل بشكل تجعل منه، تقريباً كل شخص، بطلاً من حيث لا يريد. ومع بداية العصر الكبير(*) شاهدت خادمي بمظهر حاكم في بلدٍ معادٍ محتل.. ومراسل فاشل لإحدى الصحف الرياضية بمقام مبدع مثقف، وبائع سكائر بمثابة خبير في الصناعة. حتى أن بعض المجرمين العاديين، الذين كانوا قبل ذلك خجولين ومتعاطفين جداً إلى الحد الذي كانوا غالباً ما يرتبون عمليات سطوهم على البيوت تحت جنح الظلام، راحوا يقومون بها الآن في وضح النهار. بل ويحرصون على نشر أفعالهم تلك في الصحف. فأصبح بإمكانهم إضافة قليل من التوابل إلى كمية كبيرة من نفس الطبخة لتصبح ذات مذاق جديد. وهكذا اكتسى كل ما كنا قد رأيناه سابقاً، مظهراً جديداً ومفزعاً. ففي البداية كان البعض يهدد البعض، ومن ثم أصبح البعض يهدد الجميع، وأخيراً غدا الكل يهدد الكل، وأصبح الناس ينامون ليلاً تحت كوابيس التهديدات التي مروا بها خلال النهار، ويحلمون بتلك، التي تنتظرهم في اليوم التالي.
كالا: وهكذا تَسنّى، خلال فترة وجيزة، أن يزرع كل منهم الخوف في قلب الآخر حتى بات الناس يتداولون الحكاية التالية. ذات مرة سأل أجنبي زميله التاجر الألماني.. كيف حالكم في ظل النظام الجديد؟ غير أن صاحبه التاجر اصفر وجهه وتمتم بشيء غير مفهوم، ومد يده نحو قبعته ثم جر الأجنبي ناحية الباب. توقع الأجنبي أن يسمع شيئاً في الشارع، لكن صديقه جال ببصره خجولاً، وانعطف به صوب مطعم، حيث انتحى به إلى مائدة في زاوية بعيداً عن كل الزبائن، وبعد أن طلب كأساً من الكونياك، أعاد التاجر الأجنبي سؤاله. غير أن التاجر الألماني جال ببصره فيما حوله ثم ألقى نظرة على مصباح المنضدة، الذي كان قائماً بينهما على قاعدة برونزية سميكة. دفعوا الحساب فوراً، وجر الألماني صاحبه التاجر وأخذه إلى الشقة التي يسكنها بمفرده، ودخل به إلى الحمّام مباشرة، فتح صنبور الماء كيما يصدر ضوضاء، وقال له بصوت مسموع بالكاد عن مسافة قصيرة: أمورنا ماشية.
تسيفل: بدون شرطة قوية وكبيرة، ومراقبة دائمة، لا يمكنهم أن يخلقوا من شعبٍ ما عِرقاً من الأسياد، وهذا ما ينقصهم دوماً. ولكن من حسن الحظ أن بإمكان الدولة ممارسة بعض الضغط. إنها لا تحتاج أن تعطي الناس ما يملأ أفواههم، بل تعطيهم لطمة على أفواههم. فالسيطرة على العالم تبدأ بروح التضحية، وعلى هذه الأخيرة تقوم أو تنهار. فالكائنات الوحيدة التي لا تعرف روح التضحية، هي الدبابات والمدرعات، وكل المركبات عموماً. فهي الوحيدة التي لا تتحمل الجوع أو العطش، وتصم آذانها عن كل المحاججات المقنعة والمُتعقلة. فلا تستطيع أية دعاية، مهما كانت، أن تحركها وتجعلها تشتغل دون أن تغذيها. فلا تنفع معها كل الوعود بمستقبل فردوسي، ببحار من البنزين.. كل ذلك لا يستطيع حملها على مواصلة القتال دون أن تجلب لها بنزيناً، وتظل صماء إزاء كل الصرخات من أن الوطن سيروح بشربةِ ماء إذا هي لم تصمد. فما نفع أن تذكرها بماضٍ مجيد؟ إنها لا تؤمن بالفوهرر ولا تخاف الشرطة. ولا يمكن لـ(أس. أس) أن يكسر إضرابها. إنها تُعلن الإضراب فوراً، عندما ينقطع الغذاء عنها، ولا تتنشط أو تكتسب قوة من الفرحة لوحدها. إذ تجب إدامتها وتشحيمها دوماً. وعلى الشعب أن يبذل قصارى جهده، كي لا يُكسَر منها شي، وإلا توقفت. وإذا ما أُهملَت فإنها لا تبالي، ولا تبدي غضباً أو تفهماً، إنما تصدأ، هكذا وبكل بساطة. فهذه الكائنات هي الوحيدة، التي بمقدورها الحفاظ على كرامتها بسهولة في هذه البلاد.
كالا: كان تاريخ الألمان تعيساً، لذلك تكونت لديهم روح الطاعة، والألماني يطيع حتى عندما يراد أن يخلق منه سيد، وبإمكانك أن تصيح به »اثني ركبتك!«، »إلى اليمين در!«، »سيطر على العالم!« سترى أنه يحاول دوماً تنفيذ الأمر الصادر له. وقبل كل شيء يتوجب على المرء أو يوضح له ما هو ألماني وما هو غير ألماني. وعليك أن تبدأ معه من الدم والأرض. فالألماني فقط مسموح له أن يسفك دمه من أجل الفوهرر، والألماني فقط هو من يستطيع مصادرة أرض ألماني آخر. فالسجين في معسكر الاعتقال وجلاده من دم واحد وينتمون إلى أرض واحدة، لذلك فهما من جنس واحد. وعليه فأنا ضد فصيلة الدم، تماماً كما أني ضد أي شيء يقيدني. إني أحب الحرية. صحيح أنك لا تستطيع أن تختار أباك، وهيهات أن يتم لك ذلك، وإلا لما كان بمقدورك أن تتمطق أثناء الأكل.
تسيفل: سيكون من المعيب جداً أن يمزق المرء كل الروابط، ولا سيما المقدسة منها.
كالا: أنا أُمزقها؟! الرأسماليون هم الذين مزّقوا العائلة. والفاشية، هي التي مزّقت العلاقة بيني وبين بلدي. إني لست أكثر أنانية من أي شخص آخر. ولكني لن أستجيب للدعوة إلى السيطرة على العالم. هذا هو موقفي، الذي لن أحيد عنه. ولا يوجد لديّ أدنى شعور بالتضحية من أجل الهيمنة على العالم.

(صمتا قليلاً، ثم افترقا بعد ذلك، وذهب كل إلى جهته).







17
تسيفل يصرح بكرهه
لكل الفضائل وأصحابها






(جاء الخريف بالمطر والبرد. وكانت فرنسا الجميلة قد انهارت. وانحشرت الشعوب تحت الأرض. جلس تسيفل في مطعم المحطة بهلسنكي يأكل قطعة خبز حصل عليها ببطاقة الخبز الموجودة لديه كلاجىء).

تسيفل: كالا، يا كالا! ماذا يمكننا أن نفعل نحن الفقراء؟ ففي كل مكان يريدون أناساً خارقين، أين نذهب نحن إذن؟ »العصر الكبير«(*) لم يقتصر على شعب واحد أو شعبين، إنما يزحف على كل الشعوب بلا توقف.
أريد أن أقول للبعض، الذي يرى أن لا موجب له أن يمر »بالعصر الكبير«، بل أن على الآخرين أن يجربوه، أقول لهم: إن هذا الموقف لن ينفع أحداً وعليهم أن يطردوا مثل هذه الأفكار من رؤوسهم. فبطولات الرجل النذل(**) تَعِمُّ كل القادة وتتسع على نحو سريع. ففي كل يوم يجري اكتشاف فضيلة جديدة. فلكي تحصل على كيس طحين تحتاج إلى طاقة كانت تكفي في السابق لبناء مدينة، ولكي يعرف المرء ما إذا كان عليه أن يهرب اليوم أو سيُسمح له غداً، يحتاج إلى ذكاء كان يكفي قبل عقود من السنين لكتابة عمل خالد. وتزداد الحاجة إلى شجاعة كشجاعة هوميروس كي يستطيع المرء السير في الشارع، وإلى نكران ذات كالذي عند بوذا كي يجري احتماله، ولكي ينجو المرء من القتل والاغتيال فإنه يحتاج إلى إنسانية فرانس فون أسيسس. إن العالم يتحول إلى موطن للأبطال، فأين نذهب نحن؟
لفترة من الزمن بدا العالم قابلاً للسكن، فتنفس الناس الصعداء، وأصبحت الحياة اسهل. ظهر النول الآلي، والماكنة البخارية، والسيارة، والطائرة، والجراحة الحديثة، والكهرباء، والراديو، فغدا الإنسان أكثر كسلاً وجبناً لا يطيق الألم، متعطشاً للمتعة والملذات وأقل سعادة، وقد أدى كل الميكانيك إلى أن يقوم كل إنسان بما يجب أن يتمكن منه. فماذا نتج عن كل هذا التطور الواعد؟ لقد امتلأ العالم بطلبات ووقاحات مجنونة. إننا نحتاج إلى عالم يمكن أن نعيش فيه بأقل قدر من الذكاء والشجاعة والوطنية والشرف والعدل.. وما إلى ذلك، فماذا حصلنا؟ أقولها لك لأن ما من شيء أجنيه من صبري، ولا أستطيع الاصطبار أكثر لأن الفاقة عامة، ولا أستطيع أن أكون جهادياً ونشيطاً دوماً بسبب غياب التنظيم. كما لا أستطيع أن أكون شجاعاً لأن نظام بلادي أشعل الحرب.
كالا، يا صديقي، يا ابن آدم، لقد سئمت الفضيلة وكل أصحاب الفضيلة، وأرفض أن أكون بطلاً!

(جاءت عاملة المطعم فأخذت بطاقة الخبز، غزا الفاشيون اليونان، روزفلت يخوض الانتخابات، تشرتشل والسمك ينتظرون الغزو، هتلر أرسل جيوشاً إلى رومانيا، وواصل الاتحاد السوفيتي صمته).







18
كالا يقول كلمة الختام/
حركة غير دقيقة






كالا: لقد غفوت أثناء إلقاء ندائِكَ الحار والموجوع ورفضك للبطولة. أعتقد أن بإمكاني تشغيلك عندي. فقد وجدت مُموّلاً لتأسيس شركة مبيدات حشرة الـ-تختة كالوس- ذات المسؤولية المحدودة.
تسيفل: قبلت العرض بتحفظ.
كالا: فيما يتعلق بالأمر الذي تطمح إليه، وعلى ما أذكر أنك تبحث عن بلد تحتاج فيه إلى قدر قليل من الفضيلة والوطنية والعطش للحرية، والصَدَقَة ونكران الذات، وألف لعنةٍ على العبودية والفظاظة والأنانية. إن مثل هذه الأمور لا توجد إلا في الاشتراكية.
تسيفل: أرجوك! ما هذا التحول المفاجئ!
(ينهض كالا ويرفع كوب القهوة).
كالا: أدعوك أن تنهض معي لنقرع أكوابنا بصحة الاشتراكية، -ولكن حاذر أن تنهض وتُبدي حركة احتفالية تُلفِتُ الانتباه في المطعم. وفي نفس الوقت ألُفِتُ انتباهك إلى أن الوصول إلى هذا الهدف يستلزم الكثير الكثير.. أقصى درجات الشجاعة والعطش للحرية، وأكبر قدر من نكران الذات.
تسيفل: فهمت ما تقصد.

(عندها نهض تسيفل بحركة غير دقيقة لا يُستشف منها أنه يريد أن يشرب نخباً ويقرع كأساً).



صدر عن دار كنعان 2000 – 2001 – 2002 – 2003 - 2004
المؤلف / المترجم عنوان الكتاب
مجموعة باحثين قضايا وشهادات / سعد الله ونوس (بحث) 1
آلان سيلتو الجنرال (رواية) 2
بيير بورديو العقلانية العملية (فلسفة) 3
جان بوتيرو بابل والكتاب المقدس (تراث) 4
نك يانغ الرقص مع الذئاب (سينما) 5
محمد سيف البحث عن السيد جلجامش (مسرح) 6
خالد آغة القلعة السيرة المفتوحة للنصوص المغلقة ج1 (فلسفة) 7
خالد آغة القلعة السيرة المفتوحة للنصوص المغلقة ج2 (فلسفة) 8
خالد آغة القلعة السيرة المفتوحة للنصوص المغلقة ج3 (فلسفة) 9
ممدوح عدوان وعليك تتكئ الحياة (شعر) 10
لقمان ديركي وحوش العاطفة (شعر) 11
د.محمد حافظ يعقوب بيان ضد الأبارتايد (سياسة) 12
يوسف سامي اليوسف القيمة والمعيار (نقد) 13
عماد شعيبي من دولة الإكراه إلى الديمقراطية (سياسة) 14
إدوارد سعيد القلم والسيف (سياسة) 15
فجر يعقوب عباس كياروستامي/فاكهة السينما الممنوعة »سينما« 16
د. علي نجيب إبراهيم جماليات اللفظة »نقد« 17
مكسيم رودنسون بين الإسلام والغرب (فلسفة) 18
كلود ليفي شتراوس من قريب من بعيد (فلسفة) 19
نورمان ج. فنكلستين صعود وأفول فلسطين (سياسة) 20
يورام كانيوك اعترافات عربي طيب (رواية) 21
ت.د.علي نجيب إبراهيم ومض الأعماق »مقالات في علم الجمال والنقد« 22
أمين الزاوي رائحة الأنثى (رواية) 23
محمد صارم مواعيد (شعر) 24
علي الكردي موكب البط البري (قصص قصيرة) 25
عمار قدور ضباب البخور (قصص قصيرة) 26
بيير بورديو بؤس العالم (ثلاثة أجزاء) (علم اجتماع) 27
د. برهان زريق المرأة في الإسلام (قراءة معاصرة) 28
يوسف سامي اليوسف الخيال والحرية 29
مصطفى الولي شرك الدم 30
فيدريكو فيلليني جنجر وفريد (سينما) 31
إسماعيل الرفاعي ياءٌ.. وعد على شفة مغلقة (شعر) 32
أنطونيو سكارميتا ساعي البريد 33
محمود كفى اسقِ العطاش (شعر) 34
وفيق خنسة هيروشيما (شعر) 35
محمد القيسي الدعابة المرة (حوارات) 36
فواز حداد الضغينة والهوى (رواية) 37
هنادي زرقه على غفلةٍ من يديك (شعر) 38
إلياس شوفاني بوح في المتاح (حوارات) 39
ماهر منزلجي التباس (قصص) 40
سيرغي كوفالوف سيكلوجية الحب والعلاقات الأسرية (علم اجتماع) 41
عمانوئيل فاليرشتاين استمرارية التاريخ (رد على نظرية نهاية التاريخ) 42
تيري ميسان الخديعة المرعبة »سياسة« 43
يوسف سامي اليوسف مقال في الرواية »نقد« 44
نبيل السهلي اللاجئون الفلسطينيون في سورية ولبنان »إحصاء« 45
ماهر منزلجي متى يصبح الإنسان شجرة »قصص قصيرة« 46
أنيسة عبود باب الحيْرة »رواية« 47
رفيق عنيني صفر واحد »قصص قصيرة للغاية« 48
خيري الذهبي التدريب على الرعب »مقالات« 49
كلود ليفي شتراوس مداريات حزينة »علم اجتماع« 50
صبري هاشم جزيرة الهدهد »شعر« 51
صبري هاشم أطياف الندى »شعر« 52
مازن النقيب الحصار »سياسة« 53
جواد الأسدي نساء في الحرب »مسرح« 54
جواد الأسدي فلامنكو البحث عن كارمن »مسرح« 55
جواد الأسدي آلام ناهدة الرمّاح »مسرح« 56
علي الجلاوي دلمونيات »شعر« 57
سوسن دهنيم قبلة في مهب النسيان »شعر« 58
نجيب عوض طقوس حافية »شعر« 59
محمد توفيق محطات الانتظار »سينما« 60
تيسير قبعة عام مضى والانتفاضة تتجذر »سياسة« 61
كلود ليفي شتراوس الحضارة الأوروبية في عصر الأنوار 62
الفارس الذهبي الريح والملح »قصص قصيرة« 63
عائشة أرناؤوط حنين العناصر »شعر« 64
بهيجة إدلبي الغاوي »رواية« 65
أفلاطون هيبياس الأكبر / محاورة عن الجميل »حوارات« 66
جاك رنسيير الكلمة الخرساء »فلسفة« 67
عماد فوزي شعيبي السياسة الأمريكية وصياغة العالم الجديد »سياسة« 68
محمد خميس تراتيل القيثارة »شعر« 69
محمد سليمان امرأة مرآتها صياد أعزل »شعر« 70
وليد إخلاصي سمعت صوتاً هاتفاً »رواية« 71
ت. إسماعيل دبج حمار المسيح »سياسة« 72
محمد الدروبي عشاق الدير »رواية« 73
طه حسين حسن اليوم الأخير لبيت دمشقي »قصص قصيرة« 74
ماهر منزلجي عالم مختلف »قصص قصيرة« 75
فجر يعقوب الوجه السابع للنرد »سينما« 76
محمد منصور فيروز والفن الرحباني »دراسة« 77
محمد ملص الليل »سيناريو« 78
د.عبد السلام نور الدين الحقيقة والشريعة »تراث« 79
د. ماهر منزلجي تصفيق بيد واحدة »قصص قصيرة« 80
عدنان مدانات تحولات السينما »سينما« 81
قيس الزبيدي درامية التغيير »دراسة« 82
تيسير خلف عجوز البحيرة »رواية« 83
سمير طحان أرواح تائهة / القناع في الطباع »دراسة نفسية« 84
د. محمد الدروبي وعي السلوك »فلسفة« 85
بهيّة مارديني للحب رائحة الخبز »شعر« 86
كبير مصطفى عمّي اقتسام العالم »رواية« 87



#يحيى_علوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب - أَيها القناع الصغير، أَعرِفُكَ جيداً -
- كتاب - همس - الجثة لاتسبح ضد التيار
- مونولوج لابنِ الجبابرة *
- لِلعَتمَةِ ذُبالَتي !
- حَسَدْ
- شمعةُ أُمي ، دَمعةُ أَبي
- يوغا
- هاجِرْ
- مَنْ نحنُ ؟!
- نُثار (5)
- شبَّاك
- سلاماً أيُها الأَرَقُ
- نُثار ( 4 )
- أَسئلةٌ حَيْرى
- نُثار ( 3 )
- نُثار ( 2 )
- نُثار ( 1 )
- ...ومن العشقِ ما قَتَلْ
- شذراتٌ من دفاترَ ضاعت / عفريتٌ من جنِّ سُليمان !
- من دون عنوان


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - كتاب - حوارات المنفيين -