أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - كتاب - أَيها القناع الصغير، أَعرِفُكَ جيداً -















المزيد.....



كتاب - أَيها القناع الصغير، أَعرِفُكَ جيداً -


يحيى علوان

الحوار المتمدن-العدد: 3105 - 2010 / 8 / 25 - 22:29
المحور: الادب والفن
    




أوغستو مونتيروسو

نقلها إلى العربية يحيى علوان






أيها القناع الصغير،
أعرفك جيداً
وحكايات أخرى





أيها القناع الصغير، أعرفك جيداً
وحكايات أخرى
تأليف: أوغستو مونتيروسو
نقلها إلى العربية: يحيى علوان

الناشر: دار كنعان
للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية
جميع الحقوق محفوظة
دمشق – ص.ب 443 هاتف: 2134433 (11 - 963 +)
فاكس: 3314455 – 2134433 (11 - 963 +)
E-mail: [email protected]
الطبعة الأولى: 2005 / عدد النسخ 1000

إخراج: لبنى حمد

يمكن الاطلاع على كتب الدار ومنشوراتها
على صفحة الشبكة التالية:
http://www.furat.com


أوغستو مونتيروسو


أيها القناع الصغير،
أعرفك جيداً

وحكايات أخرى


نقلها إلى العربية
يحيـــى علـــوان




عوضاً عن المقدمة

أنصحكم أن تستسلموا وترفعوا أيديكم عند قراءة هذا الكتاب. فخطورته تكمن في الحكمة المتلصصة خلف كلماته، وروعته القاتلة في الجد المتلبّس لبوس الفكاهة والهزل.
غابريل غارسيا ماركيز

أصبح المنفى بالنسبة للكاتب والروائي الغواتيمالي أوغستو مونتيروسو، كما بالنسبة لعدد من أدباء وكتّاب غواتيمالا كالروائي الحائز على جائزة نوبل – أستورياس- أو الشاعر – راول غونزاليس، أصبح المنفى قدره، المنفى خارج، بلد العسف والظلم الدائم – وهي التسمية التي تطلق على غواتيمالا.
لقد قضى مونتيروسو معظم سني حياته في بلدان أخرى من أمريكا اللاتينية. ونشر خمسة كتب، طبعت كلها في المكسيك، حيث مقر إقامته الدائم. كان آخرها عام 1978 روايته الشهيرة »النضج كل شيء، وما عداه الصمت«.
إن أعماله المنشورة حتى اليوم ليست كثيرة، إذ أنه ليس غزير الإنتاج. فهذا الكتاب، على صغر حجمه، يحتل موقعاً خاصاً في أدب أمريكا اللاتينية الحديث، على ما يقول النقاد، نظراً لما يحتويه من سخرية وأسطورة، وما يتميز به من اقتضاب وفكاهة حلوة. لقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنكليزية والإيطالية والبولونية والألمانية وفاز بعدة جوائز عالمية. وفي عام 1972 عندما دُعي مونتيروسو لإلقاء محاضرات في جامعة مشيغان، وقبل أن يطأ أرض الجامعة، تم اعتقاله وطُرِدَ من الولايات المتحدة بسبب مواقفه المعادية للإمبريالية.
ومما يميز كتابه هذا، العناية الفائقة بالصياغة والتروّي حدّ النحت في اختيار المفردة، ويزخر بثروة غزيرة من الاستعارة الرائعة، التي تبدو وكأنها القاعدة. عن هذا الموضوع وعن نفسه ونتاجه الأدبي، يتحدث مونتيروسو في مقابلة قصيرة، لا نجد أفضل من ترك المجال له ليعبر بكلماته عن هذا الموضوع.
»س: لماذا أنت حذر إلى هذا الحد؟
ج: لأني خائف.
س: وما مردُّ هذا الخوف في تقديرك؟
ج: ربما لأنني معلم سياقة سيارات، ولم أحسب نفسي ذات يوم كاتباً. فحتى اليوم، عندما أشرع بالكتابة، أشعر بأني أعزل من سلاح الكتابة تماماً كما كنت أشعر عندما كان عمري 19 أو 20 سنة. ببساطة لم أستطع التغلب على هذا الخوف، الذي تسميه أنت بالحذر.
س: الملفت للنظر هو أن روح الفكاهة وسلاسة أسلوبك يخفيان هذا الخوف بشكل جيد.
ج: الحيوانات الحذرة تُموِّه وتخفي نفسها بشكل جيد، بل أنها تتخذ مظهراً خادعاً. وعلى ما يبدو إني حيوان حذر ومُموِّه، وأَدأبُ على ذلك دأب النمل -بدافع من الخوف طبعاً- كي لا أعطي القراء وأصدقائي فرصة للهجوم عليّ.
س: حدثني مزيداً عن نفسك.
ج: في الواقع أني لم أدرس في المدرسة، أو على الأقل لم أُنهِ الدراسة الابتدائية. وعندما بدأت أتحسس هذا النقص، كنت قد بلغتُ السادسة أو السابعة عشر من العمر.. عندها أصابتني هزة عنيفة، حاولت جرائها التعويض بزيارتي المنتظمة للمكتبة العامة في غواتيمالا، ولكن هيهات. ما تزال عندي حتى اليوم –في مكان ما من اللاوعي- رغبة في إكمال الدراسة الابتدائية. ربما لأن الكتب المدرسية تعجبني جداً، وبشكل خاص الآن. إذ أجد في بعضها نصوصاً كتبتها أنا. إنه شعور غريب لا أقوى على وصفه: إنك تضع يدكَ، بطريق الصدفة، على شيء سبق أن كتبته بنفسك، فتعيد قراءة نفسك فيه وفي النهاية يُطلبُ منك أن تحدد ماضيك البعيد..
س: هل تركتَ المدرسة لأنه توجّب عليك أن تشتغل؟
ج: تركتها بسبب من الضجر والكسل مرة.. وبسبب الخوف مرة أخرى. بدأت أشتغل عندما أصبحت في الخامسة عشر من العمر، كي أتدبّر أمور معيشتي بنفسي.
س: أي أنه لم يكن بسبب مَيْلِكَ؟
ج: لم يكن لديّ أي ميل، وإذا كان لدي مَيْلٌ معين، فإنني لم أشعر به. اشتغلت عند قصاب منذ كان عمري 16 وحتى الثانية والعشرين. وكنت أشتغل كل يوم ما عدا أيام الخميس الأخضر(*) حيث لا يباع لحم في الجمعة التي تليه. وعلى مدى سنتين، كنت أبدأ عملي من الساعة الرابعة صباحاً ما عدا ذلك الخميس الخرافي.
كان عليّ أن أمشي أربعة كيلومترات حتى أصل السوق. وعندما أفكر اليوم بتلك الأيام أقول لنفسي أنها كانت لصالحي: إذ كنت أتأمل وأقرأ منذ ساعات الصباح الأولى. حتى خلال ساعات النهار كنت أسترق بعض الوقت للقراءة أيضاً. وما أزال حتى الآن أستيقظ من نومي في بعض الأحيان مفزوعاً، لأني أرى في منامي القصاب يداهمني أثناء القراءة. لقد شغلت نفسي كثيراً بدراسة القواعد واللغة اللاتينية، التي تعلمتها بشكل بسيط، ومع ذلك حاولت ترجمة هوراس وفيدروس..
س: ما هي علاقتكَ –كقارئ- ببروست وتوماس مان وموسيل، الذين كتبوا أعمالاً غنية كثيرة؟
ج: كالعادة بدأت قراءة توماس مان وبروست بدافع من الشعور بالحاجة، ولكني وجدتُ فيهما متعة، خاصة توماس مان، الذي كنا نقرأه بأمريكا اللاتينية في الأربعينات بإمعان وشوق أكبر من الآن. عندما كنت أتسلّق »الجبل السحري«(**) معه، كانت العجول تمر أمامي. كان شيئاً رائعاً. أما بروست فقد قرأته لاحقاً . كنتُ بحاجة إلى محيط وجو آخر، إلى يوم من نمط وإيقاع آخر، بل وزمن آخر كي أتعوّد على إيقاعه«.
* * *
من الملاحظ أن مونتيروسو، ومنذ القصص الأولى، التي يبدأ بها عمله هذا، يتخذ إلى جانب السخرية، من العودة إلى شكل الأسطورة اتجاهاً له. إذ تنتصب النهاية قبل أن يأخذ الحدث مجراه. ذلك أن القاص (الراوية) مونتيروسو لا يُعنى بإعطاء موديل بلاستيكي منحوت، فما يعنيه أكثر هو أن يصب الاستعارة بكل الثقل والشد الذهنيين في مشهد قصير. على أن هذه القصص لا تشكل نموذجاً ومثلاً، لأن عنصر المقارنة الشفافة المميز لكل نوع غير متوفر هنا. وفي الجزء الثاني من الكتاب، يستخدم الأسطورة، وهي لون يكاد يكون مستهلكاً، إلا أنه يبعث الحياة فيه من جديد.
ومن أبرز ما برع به مونتيروسو هو أنه استطاع أن يقبر نهائياً شكل الأسطورة الموجهة، التي ما عادت مستساغة اليوم، شأنها شأن الأنماط التعليمية، في الوقت الذي حافظ فيه على قناعي العرض. بحيث يمكن للقارئ أن يستقي الحكمة والتعاليم في مجرى الأحداث، التي تأخذ شكل الأحداث اليومية. وبهذه الطريقة يَدسُّ عنصر التوجيه إلى جانب البناء المحكم والواعي للقصة، التي يسبغ عليها طابع السخرية. وبذلك تفقد الأخيرة دورها الرئيس فيترك المجال للأسطورة لتأخذ دورها المهيمن على صياغته الشعرية.
ولا ينجرُّ الكاتب وراء سحر السخرية التي قد تؤدي إلى العدوانية والبذاءة، فيقع في تناقض مع الأسلوب، بل أنه يحكم السيطرة على هذه العناصر بشكل رائع ويُخضِعُها لإرادته وللنص والأسلوب. وهو ما يشكل عنصر قوة لديه في هذا النمط من الكتابة الأدبية.
إن هذا الكتاب لا يشتمل على لون واحد موحد من الكتابة الأدبية، إنما يضم قصصاً وقصائد نثر وEssay تشكل بكليتها كتاباً.. يقدم أحداثاً يومية مرّ بها الكاتب وخبرات شخصية معاشة، قد يكون كثرة من القراء مروا بها أو بما يشبهها. ومن هنا تكتسب طابع التعميم وخصوصيته., ومن ناحية أخرى تشكل انعكاسات وومضات أدبية عن عمله نفسه.
فـ»الخروف الأسود« أو »الضمير المرتاح« أو »السيد تايلر«، هذه القصص والحكايات المصاغة بتكثيف في الاستعارة والرمز، ما هي إلا محاولات لصياغة العمليات الاجتماعية الجارية في ظل التغلغل الإمبريالي بأمريكا اللاتينية، صياغة أدبية أخاذة. أفلا يكفي أن نأخذ بنصيحة صاحب »مائة عام من العزلة« عند قراءة هذا الكتاب؟

يحيى علوان




السيد تايلر

قال الآخر، لم يحدث أن صادفتنا مثل قصة السيد بيرسي تايلر، صياد الرؤوس في غابات الأمزون.
من المعروف أنه غادر بوسطن بولاية مساتشوستس عام 1937، إذ كان يستميت من أجل كل قرش. وظهر عام 1944 لأول مرة في أمريكا الجنوبية –في منطقة الأمزون- حيث عاش بين قبيلة من السكان الطبيعيين، التي ما عادت هناك حاجة لذكر إسمها.
وبسبب من مظهره المزري، إذ كان يبدو كمن أخذ الجوع منه مأخذاً، عُرِفَ هناك باسم »غرينغو الفقير«. حتى أن أطفال المدارس كانوا يشيرون إليه بأصابعهم الصغيرة، وفي بعض الأحيان يرمونه بالحجارة عندما يمر في تلك الشمس الاستوائية فتلمع لحيته من العرق. ولم يكن ذلك يضير السيد تايلر البسيط، ذلك أنه قرأ في الجزء الأول من الأعمال الكاملة لـ –وليم ج نايت- أن الفقر ليس عاراً ما دام المرء لا يحسد الأغنياء.
خلال بضعة أسابيع تعوّد السكان الطبيعيون عليه بملابسه الغريبة. وبما أن عيناه كانت زرقاوين ويتكلم بلكنةٍ أجنبية غير معروفة، فقد حاول الرئيس ووزير خارجيته معاملته باحترام كبير، ذلك أنهما ما كانا يريدان التورط في مشاكل دولية.
كان فقيراً ومحتاجاً إلى حد أنه ذهب ذات يوم إلى الغابة بحثاً عن نباتات يأكلها. وحيثما كان يتجوّل في الغابة، كان يلتقي أفراداً من السكان الطبيعيين، فيحاول تجنب رؤيتهم، خاصة عيونهم اللمّاعة من خلف الأغصان. في تلك اللحظة انهمر مطر غزير فابتل ظهر السيد تايلر الحساس والرقيق. بيد أنه لم يأبه بذلك، إذ قرّر مواصلة السير، رافعاً رأسه مُصَفِّراً وكأن شيئاً لم يكن، أو على الأقل أنه لم ير شيئاً.
فجأة، قفز أحد أفراد القبيلة المذكورة أمامه وقال: »هل تشتري هذا الرأس؟ قروش، قروش«.
ورغم الإنكليزية السيئة التي تحدث بها الرجل، فهِمَ تايلر أن الرجل يعرض عليه رأس إنسان للبيع.
لا حاجة للتكرار أن وضع تايلر لم يكن يؤهله لشراء الرأس، لذلك تظاهر بأنه لم يفهم شيئاً، فشعر الرجل بالخجل بسبب إنكليزيته السيئة فقرر أن يهديه الرأس وسط اعتذارات.
رجع تايلر فرحاً إلى كوخه، وعندما حلّ الظلام استلقى في شبكته المصنوعة من ليف الأشجار، إذ كانت بمثابة السرير الذي ينام فيه. تأمّل نفسه واستشعر فرحاً بداخله للإنجاز الذي حققّه. عندها سَرَتْ به لذة وسعادة خاصة عندما بدأ يَعدُّ شعر لحية وشارب الرأس المهدى إليه، وراح يتطلع إلى عيونه اللماعة فيبتسم بين آونة وأخرى.
كان تايلر هذا مثقفاً بشكل عام، وفي تأمله شعر بالسأم من أفكاره وتأملاته الفلسفية، فقرر إهداء الرأس إلى خاله السيد رولستون –في نيويورك- الذي كان، ومنذ نعومة أظفاره شغوفاً بالتجليات الثقافية لشعوب أمريكا اللاتينية.
بعد بضعة أيام كتب الخال للسيد تايلر شيئاً عن حالته الصحية وطلب من ابن أخته أن يدبّر له خمسة رؤوس أخرى. فما كان من تايلر إلا أن لبّى رغبة خاله بفرح غامر. فعبّر الخال عن شكره لابن أخته وطلب منه عشرة رؤوس أخرى وشعر تايلر أنه يستطيع –عن هذا الطريق- التملّق لخاله وتقديم خدمة له . وبعد شهر، عندما كتب الخال يرجوه إرسال رزمة من عشرين رأساً، شعر تايلر أن خاله راح يتاجر بتلك الرؤوس.
وإذا شئتم الحقيقة، فإن شعور تايلر كان مصيباً. إذ أن السيد رولستون لم يخف نيته هذه فكتب بصراحة لابن أخته رسالة بهيجة داعب فيها عواطف تايلر بالإشارة للقيمة التجارية لعمله فدغدغ عواطفه.
بعد ذلك قررا تشكيل شركة وقّع السيد تايلر عقداً تعهّد فيه بتجهيز رؤوس بشرية بكميات تجارية. يرسلها إلى خاله، في حين تعهّد الأخير ببيعها بأسعار عالية في بلاده.
في الأيام الأولى حصلت بعض المشاكل مع مجموعة من المستوطنين. بيد أن السيد تايلر، وهو الذي حصل في بوسطن على أعلى جائزة لقاء القصيدة التي كتبها عن هنري سيلي مان، قدّم نفسه سياسياً وبذلك حصل من سلطة القبيلة ليس على إجازة تصدير البضاعة فحسب، إنما حصل كذلك على امتياز لمدة 99 عاماً. ولم يُكلفّه سوى جهد بسيط لإقناع »اللجنة التنفيذية للمحاربين« و»اللجنة التشريعية للسحَرَة«. إذ أقنعهم بأن هذه الخطوة الوطنية ستجعل من القبيلة وخلال فترة قصيرة من الزمن ثرية جداً وأن الحناجر المتيبسة عطشاً لأفراد العشيرة الذين يشتغلون بجمع الرؤوس، ستجد الفرصة كي تُبَلَّ بشراب مثلج خلال فترة الاستراحة.
عَصَرَ أعضاءُ البرلمان أدمغتهم فأدركوا فوائد هذه الخطوة، وإخلاصاً للوطن، اجتمعوا بعد أيام وأصدروا مرسوماً يدعو الشعب إلى زيادة إنتاج الرؤوس.
وما هي إلا فترة وجيزة حتى ذاعت شهرتهم في بلاد تايلر. ففي البداية كان امتلاك هذه الرؤوس حكراً على العوائل المرفهة فقط، أما الآن فقد وفرت ديمقراطية الديمقراطية الفرص حتى لمعلمي المدارس أن يمتلكوا بعض هذه الرؤوس. فإذا لم يكن في أحد البيوت الهادئة رأساً معلقاً خاصاً به، كان يعتبر من البيوت المفلسة. وما أن انتشرت هذه الهواية حتى أفسدها هواة جمع المقتنيات، الذين ادعوا أن مقياس الهواية هو أن يجمع الفرد 17 رأساً. بيد أن الناس سرعان ما اعتبرت الرقم (11) أنيقاً جداً وأحسن من (17). خلال ذلك كان ثمن الرأس يرتفع إلى أسعار خيالية إذا ما ثبت وجود خصوصية معينة لديه، كأَنْ يكون مثلاً يحمل شارباً بروسياً مفتولاً مدبب النهايات، كان يعود –عندما كان صاحبه على قيد الحياة- لجنرال أنيق مزركش بالنياشين. كان مثل هذا الرأس – المصاب برصاصة واحدة من مسدس – يُقدّم هدية فاخرة إلى معهد دانفلر أو يباع بما لا يقل عن (3.5) مليون دولار. وهذا المبلغ ما هو إلا دليل على الاعتراف والتقدير للتجليات الثقافية لشعوب أمريكا – الإسبانية.
خلال ذلك مرّت القبيلة بفترة إزدهار فريدة في حياتها، إذ أقامت متنزهاً كبيراً حول البرلمان تقديراً للإنجازات التي حققها. وفي ممرات المتنزه كانت تجري مسيرات أيام الآحاد وفي يوم الاستقلال، تضم أعضاء مجلس الشيوخ، الذين كانوا يتنحنحون وقد نشروا ريشهم كالطواويس مبتسمين وهم يركبون دراجاتهم الهوائية التي أهدتهم إياها الشركة.
وكما هو معروف أن الرياح لا تجري دوماً بما تشتهي السفن، إذ سرعان ما حصل نقص في الرؤوس المُنْتَجَةْ. فقد بينت الإحصاءات أن عدد حالات الوفيات الاعتيادية لم يعد كافياً لسد حاجة الشركة. وأصيب وزير الصحة العامة بقلق كبير، إذ أن أسرّ لزوجته ذات ليلة قائظة وتحت نور خافت، عندما كان يستعد لأداء »الواجب« إذ مرّ بيده على صدرها العاري، قال لها مهموماً أنه لم يعد قادراً على زيادة حالات الوفيات خدمة لمطالب الشركة. فأجابته أن لا حاجة به للقلق وأن الأمور ستتصلح، وما عليهما الآن إلا أن يخلدا للنوم..
بهدف تطمين حاجة إدارة الشركة ورغبتها، تقرر اتخاذ إجراءات بطولية، منها قرار بإدخال عقوبة الإعدام بشكل صارم وفي مختلف الحالات وحتى أبسط الأخطاء كان يُعتبر جرماً. فلو أن شخصاً ما قال، على سبيل المثال وخلال نقاش معين »أن الجو حار جداً« وأمكن بعد قليل التأكد من أن المحرار لا يشير في حقيقة الأمر إلى أن حرارة الجو مرتفعة جداً، كان يتوجب عليه أن يدفع غرامة كبيرة، وإذا ما تعذر عليه ذلك، يتم إعدامه فوراً ويذهب رأسه إلى الشركة، في حين يبقى جذعه وأطرافه لذويه. أي أن العدل كان يأخذ مجراه بصورة قانونية.
بعد ذلك صدر قانون يتعلق بحالات المرض الشديد، أُعطي بموجبه المصابون بمرض عضال فرصة أمدها (24) ساعة كي يرتبوا أوراقهم ووثائقهم بصورة نظامية، ثم يموتوا. وإذا حالفهم الحظ فأصابوا أقاربهم وذويهم بعدوى خلال (24) ساعة فإن موتهم سيتأجل إلى بضعة أشهر، وهذا ما كان يجري في حالة مرضٍ أفراد العائلة. أما الذين يصابون بأمراض بسيطة عارضة، فكانت تُعلن براءتهم ولا يعطون فرصة لخدمة الوطن. ولأول مرة في التاريخ جرى الاعتراف بقيمة الأطباء – كان من بينهم حَمَلَة جائزة نوبل- إذ تمكنوا وبصورة جيدة من الحيلولة دون شفاء المرضى.
وما أن تطورت فروع الصناعة الأخرى –كصناعة التوابيت مثلاً- حتى دخلت البلاد مرحلة ازدهار اقتصادي كبير، على ما يقولون. وكان هذا التطور حافزاً لتوسيع ممرات المتنزه، الذي تجري فيه المسيرات عادة. حيث أخذت نساء أعضاء البرلمان تتمشى هناك في عصريات الخريف الذهبية، يحركن رؤوسهن الجميلة الصغيرة مشيرات إلى أن الأوضاع ما زالت على أحسن ما يرام، إذا ما رفع أحد الصحفيين الواقفين على جانب الممر قبعته يحييهن مبتسماً.
لقد لوحظ أن أحد رجال الصحافة الواقفين على جانب الطريق، وفي مناسبة معينة، عطس فتطاير رذاذ من لعابه مع العطسة، لذلك حُكِمَ عليه بأنه متطرف فأرسلوه إلى ساحة الإعدام. وبعد أن فارق الحياة اكتشف أكاديميو اللغة أنه كان واحداً من أكبر الرؤوس في البلاد، أما بمقياس التجاعيد في الرأس والوجه فكان كباقي الرؤوس.
وماذا عن السيد تايلر؟ خلال هذه الفترة أصبح مستشاراً شخصياً للرئيس الشرعي، فأصبح مثلاً يحتذى به للرجل الطموح إذ كان يتقاضى آلاف الآلاف، وما كان ذلك ليقضّ مضجعه لأنه قرأ في الجزء الأخير من الأعمال الكاملة لـ-ويليم ج نايت- أن الغِنى ليس عاراً ما دام المرء لا يحتقر الفقراء.
أعتقد أن هذه هي المرة الثانية، التي أقول فيها بهذا الصدد، أن ليس كل الأوقات مواتية أو أن الرياح لا تجري دوماً بما تشتهي السفن.
ورغم ازدهار هذه التجارة فقد جاء وقت لم يبق فيه من المحيط البشري سوى الحكومة ونساؤها ورجال الصحافة ونساؤهم. وبدون عناء كبير توصّل دماغ السيد تايلر إلى مخرج وحيد ممكن من الوضع القائم، أي الحرب مع القبائل المجاورة. ولِمَ لا؟ إنه التقدم!
فباستخدام بعض المدافع الصغيرة جرت إبادة القبيلة الأولى. وهكذا حظيَ السيد تايلر بشهرة عظيمة، لأنه استطاع توسيع نفوذه وسيطرته. بعد ذلك تبعتها القبيلة الثانية ثم الثالثة والرابعة فالخامسة. فقد اتسع التقدم بسرعة الريح، ورغم كل الجهود التي بُذِلت، لم تعد هناك قبيلة مجاورة يمكن شن الحرب ضدها.
وكان ذلك بداية النهاية.
أخذت الشوارع والممرات تقفر من الناس، إلا بعض الأحيان من سيدة تمشي الهوينى وشاعر، حاز على الجائزة، يتأبط كتابه. وقد أدى ذلك إلى أن تغدو خطوات السيدات وئيدة وحذرة.
أما صاحب مصنع التوابيت فلم يكن يوماً ما مكفهراً أكثر مما هو عليه الآن، كمن حلم أنه وضع يده على كنز من الذهب خبأه تحت وسادته في الحلم، وحينما أفاق ومدّ يده إليه، اصطدمت بفراغ.
وهكذا استمرت هذه التجارة بصعوبة بالغة. وأصيب الناس بقلق مخافة أن يستيقظوا في اليوم التالي فيجدوا أنفسهم وقد حان وقت تصديرهم. في حين كان الطلب يزداد بصورة مستمرة في موطن السيد تايلر.
وأدى هذا الأمر إلى آخر أزمة. ذلك أن السيد رولستون طلب المزيد من الرؤوس، لأن أسهم الشركة وصلت إلى الحضيض، إلا أنه لم يفقد الأمل في أن يسارع ابن أخته لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بإنقاذه والشركة.
لقد تقلّصت حمولات السفن من تلك البضاعة، التي كانت يومية، فأصبحت مرة كل شهر، ولم يكن فيها مجال كبير للاختيار، رؤوس أطفال وسيدات وأعضاء برلمان.
ذات جمعة غائمة وعندما كان عائداً من البورصة، مأخوذاً من صراخ اللعبة، التي انجر إليها أصدقاؤه، قرّر السيد رولستون أن يقفز من الشباك منتحراً (بدلاً من استخدام مسدسه مخافة أن يحدث ضجة) بعد أن فتح طرداً بريدياً فسقط في يده الرأس الصغير للسيد تايلر مبتسماً من البعد، من الأمزون المزمجر، ابتسامة طفل كأنه يقول لن أكرر هذا العمل مرة أخرى.



السمفونية الكاملة

قال البدين، يمكنني أن أحدثكم عما قصّه عليّ عازف أورغن عجوز في كنيسة بإحدى القرى في غواتيمالا قبل ثلاث سنوات، إذ قال لي أنه كان مكلفاً في نهاية عام 1929 بتصنيف المخطوطات الموسيقية لـ –لا ميرسيد- عندما وقعت عيناه فجأة على صفحات غريبة أثارت فضوله ليتقصّى أمرها، إذ راح يتفحصها ويدرسها. لاحظ أن هناك ملاحظات هامشية مكتوبة باللغة الألمانية. لقد استغرق الأمر منه بعض الوقت حتى اكتشف أنهما الجملتان الختاميتان للسمفونية الناقصة. ولم يكن صعباً عليّ أن أتصور انفعاله عندما شاهد توقيع شوبرت على تلك الصفحات، فخرج عامراً بالفرحة يبث بشراه واكتشافه للناس في الشارع، في حين صدَّ الآخرون عنه وسخروا منه. وقال بعضهم إنه أصيب بمسٍ من الجنون أو أنه يضحك عليهم –في أقل تقدير- علماً أنه كان ضليعاً بمهنته ويعرف عين اليقين أن هاتين الجملتين الختاميتين أكثر ملاءمة من الجملتين الأولين. لذلك لم يستسلم واقسم أن يكرّس بقية حياته لإثبات أصالة لُقيته هذه. فاتصل بكل من له علاقة أو صلة بالموسيقى في غواتيمالا، فقدموا له نصيحةً بالسفر إلى النمسا لعرض الموضوع هناك، فاقتنع بالأمر وكتمه عن بقية الناس، حتى أنه لم يخبر زوجته بهذا الشأن ولم يودعها عندما باع بيته وركب الباخرة متوجهاً إلى أوربا، ، فقالوا له في فينا، ما كان ينقصنا سوى أن يأتينا عازف أورغن مغمور من غواتيمالا فيعطينا درساً في كيفية التحري عن الأعمال المفقودة، وبالذات أعمال شوبرت، الذي يوجد في فينا من المتخصصين به مثل الرمل في ساحل البحر. وهكذا ثبطوا عزيمته في وقت لم يعد معه من النقود ما يكفي للعودة إلى بلاده. بيد أنه أُنقذ من حالة اليأس، التي أصيب بها عندما تعرّف على عائلة يهودية سبق أن عاشت في بوينس أيرس وتتحدث الإسبانية بطلاقة، فأخذته إلى منزلها الصغير، حيث عزفوا سوية على البيانو والتشلو والكمان الجملتين الختاميتين. وبعد أن قلَّبوا المخطوطة من كل الجهات، وشمّوها، بل أنهم وقفوا عند الشباك ورفعوها قبالة الضوء ليتأكدوا من حقيقتها وأصالتها، حتى أكدوا في البداية وبصوت خافت، ثم صاحوا بعد ذلك بصوتٍ عال »إنها مخطوطة شوبرت، إنها مخطوطة شوبرت«. وراحوا يبكون بكاءً شديداً وكأنه لم يتم العثور على مخطوطات مفقودة، بل أن مخطوطات ثمينة قد فُقِدَت. وبعد أن تداولت العائلة اليهودية، فيما بينها همساً بطرف الفم، أمسكوا يده بلطف، في محاولة منهم لإقناعه أن هاتيك الجملتين جيدتان حقاً، ولكن لا يمكن إضافتهما إلى الأولين، لأن من شأن عمل كهذا أن يؤدي إلى نتائج عكسية، ذلك أن الناس اعتادت على أسطورة مفادها أن شوبرت مزّق هذه المخطوطات، أو أن الناس لا تعتقد أن هاتين الجملتين الختاميتين ستتناسبان مع الأولين. وبذلك فإن الروعة الكبرى تكمن في التأمل فيما إذا يمكن أن يتبع الـ (أليغرو) (أندانت) أو يمكن أن تكون البداية بـ(شيرتسو) ثم يتبعه (أليغرومانون تروبو)، وأنه إذا ما كان يعتز بذكرى شوبرت فإن عليه –من الأفضل- أن يترك موسيقاه وشأنها تحتفظ بطابعها الذي تعرفه الناس عنها. إذ بغض النظر عن الجدل، الذي سينشأ حول شوبرت، الذي ما فكّر يوماً أن يكون من الفلستر، فإن المعجبين به لن يرتضوا ذلك أبداً، بل أنهم سيشتمونه، لذلك قرّر صاحبنا أن يعود إلى غواتيمالا. في طريق العودة، وذات ليلة كان فيها القمر بدراً والبحر هائجاً مائجاً، شعر بكآبة وضيق في صدره، تناول المخطوطات ومزقها، صفحة، صفحة، ورمى القصاصات في البحر الهائج، حتى تأكد أنه لم يعد بمقدور أحد العثور عليها. وغاص في كآبته وحزنه حتى سالت دموعه على خديه وفكر بمرارة أنه لم يعد بإمكانه شخصياً أو لبلاده الحق في الادعاء أنهم قدّموا للعالم بضع صفحات كان يمكن له (العالم) أن يستقبلها بفرح غامر، إلا أنه أعرض عنها بسبب أحكامه الكثيرة الجاهزة والمسبقة.





الكسوف

عندما أدرك الأخ اليسوعي بارتولومه آراذولا أنه ضلّ الطريق وظّن نفسه أن ما من شيء سينقذه. استسلم للواقع. ذلك أن غابة غواتيمالا أمسكت به دون رحمة وإلى الأبد. وبما أنه لم يعد يعرف المكان والاتجاهات، فقد قرر أن ينتظر الموت. أراد أن يموت على هذه البقعة، وركّز كل أفكاره، وبدون أمل، على إسبانبا –ذلك البلد البعيد- وبشكل خاص على دير لوس أبروخوس، الذي نزل كارل الخامس من برجه ذات مرة ليقول إنه يؤمن بصلوات رجال الدين ودعائهم ومفعولها في الخلاص.
وعندما أفاق الأخ من رقدته، وجد نفسه محاطاً بمجموعة من السكان الطبيعيين، لم تكن وجوههم مشققة، وقد قرّروا أن ينحروه في محراب، بدا له وكأنه سرير، سيخلصه من خوفه ومن نفسه مرة وإلى الأبد.
كان الأخ اليسوعي قد تعلّم بعضاً من لغة السكان الطبيعيين، خلال السنوات الثلاث التي عاشها في هذه البلاد. جرّبَ فقال بعض الكلمات، فلاحظ أنها كانت مفهومة.
راودته فكرة استخدام مهارته وثقافته العامة ومعرفته بما كتب أرسطو.؟ وتذكر أن في هذا اليوم بالذات ستنكسف الشمس، فقرر أن يستغلّ هذه الحقيقة بهدوء أعصاب ليخدع مَنْ حوله وينقذ حياته.
قال لهم: »إذا قتلتموني، فسآمر الشمس في عليائها أن تنكسف«.
حدّقوا نظراتهم فيه، وشاهد بارتو لومه في عيونهم عدم تصديقه، بل بدا وكأنهم يسفّهون ما قاله. تراجعوا قليلاً وتداولوا فيما بينهم، وظل هو ينتظر بقلق.
بعد ساعتين سال دم الأخ اليسوعي على صخرة الفداء (فَلَمَعَ في ضوء الشمس المكسوفة الخافت) حين راح أحد السكان الطبيعيين يَعدُّ بصوت هادئ، ودون عجالة، سلسلة من التواريخ التي يصادف فيها كسوف الشمس وخسوف القمر. إذ كان فلكيو شعوب المايا قد اكتشفوها قبل آلاف السنين ودونوها في مخطوطاتهم دون مساعدة من أرسطو.



الديناصور

عندما أفاق من نومه، كان الديناصور لا يزال موجوداً.



الكونسرت

بعد دقائق ستظهر على المسرح بكل رشاقة وتتخذ مكانها هناك. وبحركة رشيقة من رأسها ستردُّ على تحية الجمهور واستقباله لها حيث ستضجّ القاعة بالتصفيق. وسيلتمع الصَدَف المطرز في بدلتها وكأنه يعكس التصفيق الحاد والحماسي لـ(107) أشخاص، ملأوا هذه القاعة الصغيرة الأنيقة. كلهم أصدقائي. وقد حضروا إلى هنا شوقاً أو مجاملة –لا أعرف بالضبط- للاستمتاع بأجمل موسيقى عالمية.
قد تكون حقاً أجمل موسيقى في العالم، ولكن لست أدري. باخ، موزارت، بيتهوفن، سمعت كثيراً عنهم، كونهم لا يُبارون، وأُوهمُ نفسي الآن بذلك. فقد قيل أن اللغة تعجز عن تصوير روعة موسيقاهم. إذا ما أردتم الحقيقة فإني أفضل عدم الحديث حول هذا الموضوع، لأني أعرف في سري أنهم لا يعجبونني، وأخشى أن يكتشف الآخرون تظاهري بالإعجاب واستمتاعي الكاذب بهذه الموسيقى.
لم أكن في حياتي مرة من محبي الفن. فلو لم تكن ابنتي عازفة بيانو، لما وقعتُ في هذه الورطة الآن. إني والدها وأعرف واجبي إزاءها. إذ يتحتم عليَّ أن أستمع لها وأشجعها. إني تاجر وأشعر بسعادة غامرة عندما أحقق نجاحاً في صفقة تجارية معينة. أقولها مرة أخرى: إني لست فناناً، ولكن إذا كان الفن يزيد الثروة والمال ويسيطر على السوق العالمية ويلغي المنافسة، عندها سأسعى إلى تصدر الموقع الأمامي في الفن.
صحيح أن الموسيقى شيء جميل. ولكني لست متأكداً ما إذا كانت ابنتي قادرة على عكس جمال الموسيقى هذا. إنها، شخصياً، تشك بذلك. فقد شاهدتها تبكي دوماً بعد انتهاء العروض، رغم التصفيق والاستحسان. من جهة أخرى، تمتلك ابنتي حاسة غريبة تستطيع بواسطتها اصطياد الشخص الذي قد يصفق بدون حماس، من بين كل الحاضرين، عندها يكون ذلك كافياً ليجعلها تتألم وتحقد عليه إلى الابد. ولكن يندر أن يحصل مثل هذا، أي أن يصفق أحد الحاضرين ببرود، ويدرك أصدقائي المقربون أن التصفيق ببرود أمر خطير، فإذا لم تصدر بادرة مني على الاكتفاء بالتصفيق، فإنهم يظلون يصفقون طول الليل، ولا يجرؤ أحد منهم أن يكون البادئ بالكف. فغالباً ما يعلقون الأمل على تعبي من التصفيق، فيظلون يراقبون يديَّ خوفاً من أن يكفوا عن التصفيق قبلي. في البداية خدعوني عندما كانوا يتظاهرون بالحماس بشكل أصيل. غير أن الوقت لم يذهب عبثاً، إذ استطعت التعرف على حقيقة دواخلهم. فنما بداخلي حقد كبير على هذا التملّق. إلا أنني الآخر كنت كاذباً ومخادعاً في ما أظهره من مشاعر. فكنت أصفق وأنسى أني لم أكن فناناً أو من محبي الفن. صحيح أن الموسيقى جميلة، ولكنها لا تعني شيئاً بالنسبة لي، لأنها تثير مللي وضجري. حتى أصدقائي أيضاً لا يفهمون شيئاً في الفن، لذلك أشعر بلذة عندما أهينهم وأذلهم، إلا أنهم لا يعنون شيئاً بالنسبة لي.
إن ما يغيظني هم الآخرون. أولئك، الذين يجلسون دوماً في الصفوف الأمامية ويتظاهرون وكأنهم يسجلون ملاحظات. إنهم يحصلون على بطاقات مجانية تحرص ابنتي على إرسالها لهم شخصياً. إني أكرههم، هؤلاء رجال الصحافة. طبيعي أنهم يخافون مني، لأني أستطيع شراءهم. غير أن وقاحة اثنين أو ثلاثة منهم لا تعرف الحدود. إذ تجاسروا بضع مرات على الادعاء بأن ابنتي عازفة بيانو سيئة، في حين أنها ليست كذلك. وهذا ما أكده لي أساتذتها. فقد اعتادت ومنذ طفولتها على تمرين أصابعها وتحريكها بخفة ورشاقة، أفضل من أحسن سكرتيراتي، اللاتي يضربن على الآلة الكاتبة بسرعة فائقة. صحيح أني نادراً ما أفهم وأتذوق عروضها، وسبب ذلك أني لست فناناً أو من هواة الفن، وهي تعرف هذه الحقيقة.
إن الحسد خطيئة مقيتة. وقد يكون أعدائي ينوءون تحت هذا العبء فيؤدي بهم إلى أحكام مسبقة سلبية. وعليّ ألاّ أستعبد ولا أستغرب أن أحداً من هؤلاء الذين يبتسمون الآن وفي اللحظة القادمة سيصفقون بحماس، أنه سيكتب واحداً من أقذع الكتابات النقدية. إنه لأمر مفيد وسيء، في الوقت عينه، أن يكون لها أب ٌ متُنفِّذ مثلي. بعض الأحيان أُسائل نفسي ما إذا كانت الصحافة ستكتب عنها لو لم تكن ابنتي. وغالباً ما أفكر واشعر بالندم، أنه ما كان عليها أن تتجه نحو الفن، ذلك أنه لم يجلب لنا سوى القلق والصداع. ومَنْ كان سيظن قبل عشرين عاماً أني سآتي إلى هذا المكان. فما كان باستطاعة أحد -لا هي ولا حتى أنا- أن يجزم وبكل تأكيد كيف ستؤدي العزف بالصورة التي تقوم بها الآن فعلاً. في الواقع إنه لأمر مضحك بالنسبة لرجل مثلي أن يفكر بهذا الموضوع إلى هذا الحد ويقلق بشأنه.
فلو لم تكن ابنتي لتجرأتُ على القول بأني أكرهها. أشعر بالحنق والحقد، ما أن تظهر على منصة الكونسرت، حنقٌ وحقد على نفسي لأني وافقت لها أن تسلك هذا الطريق المجنون. إنها ابنتي ولهذا السبب بالذات، ما كان عليها أن تكون مصدر إزعاج وصداع لي.
غداً سيملأ اسمها الصحف وسيتردد التصفيق الحار على أحرف مطبوعة، وستقرأ، هي بنفسها، عليّ بفخر واعتداد ما كتبه النقاد من مديح وإطراء. ولكن إذا ما ظهر نوع آخر من النقد، سأراها تغرق من كآبتها وستسيل دموعها.. عندها لن ينفع معها شيء، حتى كل توسلاتي. وسأكون بكل ما أمتلكه من سطوة ونفوذ عاجزاً عن إقناعها بأنها عازفة بيانو وحيدة، حتى لكأن باخ وموزارت وبيتهوفن كانوا سيفرحون فرحاً عظيماً لدى سماعهم وهي تواصل رسالتهم الخالدة، وتبعث فيها الحياة.
الآن خَيَّمَ صمت مفاجئ يعلن ظهورها على المسرح عما قريب. وبعد قليل ستنساب أصابعها الطويلة الرشيقة على مفاتيح البيانو، وستمتلئ القاعة بالموسيقى، وسأظل جالساً أتألم.



العيد المئوي

تذكرت قصة السويدي أورست هانسون، أكبر وأضخم رجل في العالم (طبعاً في زمانه، ذلك أن رقمه القياسي انكسر عدة مرات هذه الأيام).
ففي عام 1892 قام بأكثر السفرات ربحاً في أوروبا، إذ كان يعرض فيها قامته التي بلغت 247 سم. واستخدم الصحفيون خيالهم فأطلقوا عليه اسم »الرجل الزرافة«.
ولكم أن تتصوروا بأن مفاصله لم تكن مرنة، بل قابلة للكسر بسهولة. لذلك كان يتوجب على أحد أفراد عائلته أن يتسلق شجرة كي يطعمه أقراص اللحم المثروم، بعد ذلك يدس في فمه قطعاً صغيرة من البنجر للتحلية. وكان شخص آخر من العائلة مكلفاً بشد رباط حذائه وآخر يقف مستعداً لمناولته ما يسقط من يده من حاجيات سهواً. كان أورست يملك طولاً غريباً عن عالمنا، بيد أنك كنت تقرأ في عيونه الحزينة شوقاً دائماً إلى المخلوقات الأرضية. وفي أعماق نفسه كان يحسد الأقزام كثيراً. وكان أحب شيء له أن يحلم بأمسيات طفولته عندما كان يحاول عبثاً أن يصل إلى سقاطة الباب.
لقد وصل من الوهن حداً، بدا وقع خطواته في الشارع يثير، حتى لدى المارة السكندنافيين، شعوراً بالخوف أنه قد يتهاوى وينهار في الخطوة التالية. وبمرور الوقت أخذ والداه يستغلانه بدافع من البراغماتية مما أثار انتقاداً واسعاً من الناس ضدهما، قررا إثره السماح لأورست بالخروج أيام الآحاد فقط، يقوده عمه الطيب إيريك، ويتبعه الخادم أولاف، يجمع بقبعة، قطع النقود، التي يدفعها الناس له شعوراً منهم أنهم يدرأون بتلك الصدقة خطراً أعظم. وهكذا ذاعت شهرته.
إلا أنه لا توجد فرحة وسعادة تامة. تدريجياً نمت بروح أورست الطفولية نزعة قوية نحو الفلوس. وفي النهاية، كما هو معروف، كان من شأن هذا التعلق بالقطع المعدنية أن يؤدي إلى تحطيمه بطريقة فريدة، وهذا ما سنأتي عليه قريباً.
حاول بارنوم أن يجعل منه محترفاً. بيد أن أورست لم يكن يشعر أنه مؤهل ليكون فناناً محترفاً، لكن السيرك أعجبه لأنه مصدر يدرّ عليه الكثير من المال. إلا أن طبيعته الأرستقراطية لم تتحمل لا رائحة الأسود ولا عطف الناس عليه. فترك السيرك وقال لبارنوم »وداعاً«!
عندما كان في التاسعة عشر من العمر، كان طوله قد بلغ 244 سم. بعد ذلك توقف عن النمو فترة. وفي سن الخامسة والعشرين اكتسب طوله استقراراً ظل يرافقه حتى ساعة مماته، أي أصبح طوله 247سم. لقد ذاع صيته على النحو التالي: راودت صاحبة الجلالة البريطانية فكرة شجاعة ذات مرة، فقررت دعوته لزيارة لندن. وعندما راجع القنصلية البريطانية في ستوكهولم لاستلام الفيزة، استقبله القنصل البريطاني بنفسه، دون أن يبدي أي استغراب، حتى تجرأ أن يسأل أورست عن العلامة الفارقة لديه، وكأنه (أي القنصل) كان يشك بصحة أن يكون طول أورست 245 سم. ولكن عندما أشار المقياس إلى أن طول أورست كان 247سم، هزّ القنصل يده بتراخٍ وكأنه يريد القول: »ألم أقل لكم أني كنت مصيباً في شكي بصحة الرقم؟« غير أن أورست لم يقل شيئاً. تقدم من الشباك بصمت وظل يتطلع بهدوء إلى البحر المائج وزرقة السماء.
بعد ذلك اشتد الفضول بملوك أوربا، فراحت الدعوات تترى عليه. وخلال فترة قصيرة أصبح من أغنى الأثرياء في القارة على الإطلاق. وذاعت شهرته حتى وصلت إلى الأثيوبيين. وفي كل عدد من المجلة التي كان يصدرها روبن داريو بباريس، كانت تنشر صورتان أو ثلاثاً لأورست مبتسماً أو واقفاً إلى جانب واحد من أشهر الشخصيات.
فجأة اختفى اسمه من الصحف والمجلات. ورغم كل المحاولات، التي بذلت للتستر على الأسباب التي أدت إلى أفوله غير المتوقع، بات اليوم معروفاً أنه مات في المكسيك بطريقة تراجيدية خلال الاحتفالات بالذكرى المئوية لاستقلال البلاد، إذ كان قد دُعي بصورة رسمية. وكان سبب الوفاة كسر في عظامه، حصل عليها عندما انحنى ليلتقط بعض القطع الذهبية التي نُثِرت على المارة من المحتفلين.



مبايعة دايلن توم

أليخاندرو باريخا من الأكوادور، يوليو ألبرتو ريستريبو من كولومبيا، يوليو ألبرتو مورينا من الأرجنتين، كارلوس رود ريغيز من فنزويلا، كانوا جميعاً ولأسباب سياسية موجودين خارج أوطانهم. أما فيدريكو لاراين من شيلي فقد كان يحب السفر فحسب. التقى هؤلاء جميعاً في الثاني والعشرين من كانون الثاني (يناير) 1964 بمدينة بنما في حانة للبيرة، واكتشفوا بطريق الصدفة أنهم جميعاً شعراء ومعجبين بدايلن توماس. إذ كانوا يحفظونه عن ظهر قلب من ألفه إلى يائه. وبعد أن عبّوا في بطونهم بضعة أقداح من البيرة –ومن أسوءها- وارتفعت حرارتهم، خطرت على بالهم أشياء أخرى، منها أن معرض نيويورك العالمي سيفتتح في نيسان (إبريل)، وأن عليهم (وقتها كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل) أن يجمعوا ما لديهم من نقود ليشتروا سيارة مستعملة ويتوجهوا بها (عند الفجر) إلى نيويورك كي لا يفوتهم –وبأي ثمن- يوم افتتاح المعرض المذكور.
وعندما أثقلت البيرة رؤوسهم خلدوا الى النوم.
بعد أسبوع -ودون معرفة هويتهم السياسية ومهنتهم كونهم شعراء- حصلوا على تأشيرات المرور اللازمة، واشتروا سيارة فغادروا المدينة متوجهين إلى نيكاراغوا، حيث استوقفهم جندي الحدود وختم جوازاتهم بسرعة، قبل أن يصلوا الحدود.
في كوستاريكا لم يتأخروا سوى فترة قصيرة بسبب الرماد الذي تقيأه بركان إيرازو في تلك الأيام.
وحصل في نيكاراغوا ما كانوا يتوقعونه فعلاً، إذ استُقبِلوا بعربدة مزمجرة من قبل بعض أصدقاء الشاعر أرنستو كاردينال، في حين وقف آمر مجموعة كبيرة من الشرطة – جنرال شامورو لوغو- في منتهى التحفظ والتردد. وبعد أن تحاور معهم لمدة أربع ساعات ونصف، حدثهم فيها عن ابن وطنه الذي لا يُبارى – ويمكن للمرء القول – ربيب والده روبن داريو، الذي كان يحفظه عن ظهر قلب. لقد استخدم معهم بعض القسوة وأرسلهم إلى حدود هندوراس مخفورين. ولم يفته أن يؤكد لهم بأنه وإن كان مواطناً من نفس موطن الشاعر الكبير ويعتبر نفسه من محبي أفلاطون والشعر، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال أن يهمل مهمته الشاقة.
في هندوراس حصل شيء مقارب، لكن ريستريبو أنقذ الوضع برشاقة وخفة، إذ ادعى أنه قريب ومعجب بـ – باربا ياكوبس- وامتدح شجر الشربين كثيراً، فأثار هذان الأمران دهشة رئيس الشرطة وإعجابه فعاملهم بلطف واحترام.
والمثير للعجب في السلفادور أن الشرطة لم تضايقهم، وعوضاً عن ذلك فوجئوا بزيارة بوم غريب تبعته أعداد غفيرة متحمسة من رجال السلطة وغالبية الكتاب ذوي التفكير الحر، خاصة وأنه فاز بأفخر جائزة من السلطة والكتّاب معاً، على مجموعة قصصية نشرها. وهذا ما حتّم على أصحابنا أن يتعاملوا معه بمودة، غير أنهم لم يتبينوا فيما إذا كان زائرهم مجنوناً أم لا، لأنه لم يفعل شيئاً سوى أنه كان يضحك ويسخر ممن تبعه.
وفي غواتيمالا، لم يكن مخالفاً للتوقع أن تستوقفهم الشرطة، ولكن الحق يقال، ليس بسبب آخر سوى أن بعض رجال العصابات أطلقوا النار على أحد العملاء في ذات الشارع، الذي كان يسير به الجماعة، وبعد أن انتهى رئيس الشرطة من مهمته في التحقيق الشديد معهم، قال لهم بشكل منافق، وقبل أن يخلي سبيلهم، إنه من أكبر أنصار الشعر وأفلاطون، وإنه يكره في قرارة نفسه هذه الوظيفة، التي أُرسلت عليه عقاباً من السماء والحكومة، على ما يبدو.
وفي المكسيك حضروا ملتقى لشعراء القارة، كان قد افتُتِحَ للتو، حيث ادعى كل منهم بأنه من أصدقاء أفلاطون والشعر، وشاركوا في النقاشات التي دارت بنادي الصحافة الفاخر. وقضوا الوقت بقراءات شعرية متبادلة لنتاجاتهم في أجمل متنزهات المدينة وبمنتهى الارتياح.
وعندما حالفهم الحظ فوصلوا نيويورك في الحادي والعشرين من نيسان –وهو يوم افتتاح المعرض- توجهوا دون أن يضيعوا دقيقة واحدة، إلى قرية غرين ووج وعلى وجه الدقة إلى شارع هدسن رقم 557 حيث حانة الوايت هورس، التي اعتاد دايلن توماس أن يسكر فيها كل يوم (يرجى عدم خلط هذه الحانة ببار وودي حيث شرب دايلن توماس آخر 18 كأساً من الويسكي الصافي، نُقِلَ على إثرها إلى المستشفى ثم إلى القبر).



الخروف الأسود

فيما مضى من الزمن، وفي بلدٍ ناءٍ، كان هناك خروف أسود.
قتل رمياً بالرصاص.
وبعد مضي قرن من الزمان، أقام له قطيع شجاع من الخراف، تمثالاً جميلاً، اتخذ مكاناً لائقاً في أحد المتنزهات. وهكذا جرت الحال فيما بعد. فكل ما ظهرت خراف سود، كان الناس يُجْرون لها محاكمة سريعة قصيرة يتم إعدامها فوراً، كي يتاح المجال للأنواع الأخرى من الخراف أن تجد لها فرصة تُخلّد فيها بالنحت.



الإيمان والجبال

في البداية كانت الجبال ومن ثم جاء الإيمان. الدليل على ذلك أن الطبيعة بقيت دون تبدل آلافاً من السنين.
وعندما بدأ الإيمان ينتشر بين الناس، ووجدت فكرة إحلال الإيمان محل الجبال، قبولاً لدى الناس، لم يفعل الأخيرون شيئاً سوى أنهم أخذوا يدفعون الجبال في محاولة لزحزحتها. كانوا يراوحون في أماكنهم. غير أن تلك المساعي عقّدت المشكلة بدل أن تجد لها حلاً، إذ كان الناس يعودون في اليوم التالي ليرو الجبال في موضعها.
لذلك قرر العقلاء من الناس آنذاك الكف عن ذلك الإيمان، وهكذا بقيت الجبال منتصبة في مكانها حتى اليوم.
ولكن إذا ما حدثت اليوم هزّة أرضية في أحد الشوارع ومات بسببها بعض السواح، فإن السبب في ذلك يعود إلى أن هناك شخصاً ما، قريباً أو بعيداً، ما تزال لديه بقايا من ذلك الإيمان.



الصرصار معلماً

قبل زمن غير قريب، وفي أحد أَحرِّ أيام السنة، دخل مدير المدرسة فجأة صفاً كان فيه الصرصار يلقي على الصراصير الصغار محاضرة في درس الغناء والموسيقى. لقد دخل المدير في اللحظة، التي قال فيها المعلم أن صوت الصرصار أحسن وأجمل الأصوات، لأنه يصدر عن احتكاك جوانب جناحيه، في حين أن الطيور تغرد بشكل رديء لأنها تستخدم الحنجرة، وهي أحد أعضاء الجسم البشري، التي تعجز عن إصدار أصوات جميلة ومحببة.
عندما سمع المدير ذلك، وكان هو نفسه صرصاراً حكيماً، هزّ رأسه عدة مرات معبراً عن ارتياحه وخرج مطمئن البال أن أمور المدرسة تسير بشكل حسن كما كانت في زمانه.



حلمُ جُعَل

كان ثمة جُعَل اسمه غريغور سامزا، رأى في منامه ذات مرة أنه جُعَلٌ اسمه فرانز كافكا وكان يحلم أنه أصبح كاتباً يكتب عن موظف اسمه غريغور سامزا، الذي رأى في منامه بدوره أنه جُعَلٌ.



مونولوج الشر

في يوم من الأيام وقف الشر قبالة الخير وجهاً لوجه، وأراد أن يلتهمه لينهي النزاع المضحك بينهما مرة وإلى الأبد. ولكن عندما رأى الشر الخيرَ صغيراً ضئيل الحجم أمامه، فكّر: »من المؤكد أنه فخ، فإذا التهمت الخير، الذي يبدو هكذا ضعيفاً، سيقول الناس أني قمت بعملٍ شرير، وعندها سيظل العار يلاحقني حتى أغدو صغيراً ضئيلاً جداً وتتاح الفرصة للخير في التهامي، مع فارق بسيط، هو أن الناس ستفكر أنه قام بعمل محق وجيد. ذلك أن من العسير جداً أن تبدل قناعات الناس من أن ما يقوم به الشر، شرير، وأن ما يقوم به الخير، جيد«.
وهكذا نجا الخير بجلده مرة أخرى.



الستة الآخرون

يحدثنا التراث القديم، أنه منذ زمن بعيد وفي بلدٍ ناءٍ جداً عاش بوم مثابر في الدراسة والبحث والتقصي والنقاش، وفي التحرير الصحفي وكتابة التعليقات والشعر والقصص وسَيرِ الحياة ونقد الأفلام والترجمة والنثر وأشياء كثيرة أخرى. فأصبح من الناحية العملية يدلي بدلوه في كل حقل من حقول المعرفة الإنسانية ويعطي تصريحات وأحكاماً حول كل شيء، وبطريقة غريبة، حتى سمّاه معاصروه من المعجبين به أنه أحد الحكماء السبعة في البلاد، دون أن يعرف المرء حتى يومنا هذا من كان الستة الآخرون.



حكاية الضفدع
الذي أراد أن يكون حقيقياً

ذات زمان كان هناك ضفدع أراد أن يكون ضفدعاً حقيقياً، لذلك كرّس كل جهوده نحو تحقيق ذلك.
في البداية اشترى له مرآة، راح يتطلع فيها إلى نفسه بحثاً عن خصائصه الأساسية. فتارة كان يعتقد أنه وجدها، وأخرى لم يجدها. وكان ذلك يتوقف على مزاجه والوقت الذي يتطلع فيه إلى نفسه.
بعد ذلك حاول أن يبحث عن قيمته في عيون الآخرين. نظّف نفسه وسرّح شعره وحاول أن يبدو لهم ضفدعاً محبباً للنفوس. لكنه سرعان ما تأكد أن الناس تقيّم جسمه قبل أي شيء آخر، وبشكل أساسي فخذاه. وهكذا راح يقفز وينط، وسط الإعجاب والتهليل، كي يقوّي فخذيه.
في النهاية، وبهدف الوصول إلى غايته، أي أن يصبح ضفدعاً حقيقياً في نظرهم، وافق أن يقطعوا فخذيه، فسمعهم بألم ومرارة، عندما جلسوا إلى مائدة الطعام يقولون: »يا له من ضفدع لذيذ، كالدجاج«.



الكاثوليكي النادم

يُحكى أنه كان هناك كاثوليكي –على ما يقول البعض- أو بروتستانتي –على ما يدعي البعض الآخر- ساوره الشك، فراح يفكر جدياً في أن يصبح مسيحاً، إلا أنه خاف أن يشك به جيرانه ويعتبرون عمله هذا مجرد نزوة يريد بها جلب انتباه الآخرين نحوه، وهكذا تجاوز ضعفه وأقلع عن مشروعه المتهور.



الضمير المرتاح

فيما مضى، كانت في الغابة فصيلة غريبة من النباتات تفترس اللحوم. بمرور الوقت، وبشكل أساسي عبر الأقاويل التي ترددت عنها في كل زوايا المدينة، تلك الأقاويل التي حملتها الريح إلى الغابة، انتبهت الفصيلة إلى طريقة حياتها.
وبما أنها كانت حساسة جداً إزاء النقد، فقد طوّرت وبشكل تدريجي لديها شعوراً مضاداً للحم، ليس بالمعنى المجازي -أي بمعنى الجنس فحسب- إنما أصبحت في النهاية غير قادرة على أكل اللحم. ذلك أن مجرد منظره أصبح يولّد لديها شعوراً بالغثيان.
لذلك قرّرت الفصيلة أن تصبح من النباتيين.
ومنذ ذلك الحين راح أفرادها يلتهم بعضهم بعضاً، وعاشوا بضمير مرتاح دون أن يفكروا بماضيهم المخزي.



الصاعقة التي ضربت مكاناً مرتين

ذات مرة، ضربت صاعقة مكاناً واحداً مرتين، لكنها اكتشفت في المرة الثانية أنها سببت في المرة الأولى ما يكفي من الأضرار. لذلك صكّت أسنانها مزمجرة أسفاً.



الكلب الذي أراد أن يكون إنساناً

قبل زمن غير بعيد، وفي بيت أحد التجار المكسيكيين الأغنياء، عاش كلب قرر مع نفسه أن يصبح إنساناً، لذلك عمل بكل جهد في سبيل الوصول إلى هدفه.
مضت عليه عدة سنوات من العمل المتواصل والمضني، تجاوز فيها بعضاً من ذاته، استطاع أن يمشي على رجليه، وفي بعض الأحيان كان يظن أنه أوشك أن يصير إنساناً باستثناء حقيقة أنه لا يعض، وأنه يهز بذيله عندما يلتقي شخصاً يعرفه، ويدور حول نفسه ثلاث مرات قبل أن يجلس، وأن لعابه يسيل عندما يسمع أجراس الكنيسة، وأنه عندما يراقب القمر طويلاً في الليل، يصعد فوق مكان مرتفع ويظل ينوح.



خنزير من قطيع أبيقور

قبل ألفي سنة، وفي بيت ريفي بضواحي روما، عاش خنزير من أشهر ما ضمّه قطيع أبيقور.
كان كسولاً بكل معنى الكلمة، واعتاد أن يقضي أيامه ولياليه لا يفعل شيئاً سوى التمرّغ بأوحال الحياة، التي وُهِبَتْ له، وبفضلات أقرانه، الذين كانوا يتأملونه مبتسمين دوماً.
كانت الحمير والبغال والثيران والجمال وغيرها من دواب الحمل تمرُّ به وتتطلع إليه تحسده على الرعاية الجيدة، التي يحظى بها من صاحبه، غير أنها كانت تستهجن جداً الطريقة التي يحيا بها. وكانت الحيوانات تتبادل نظرات معبرة، وتنتظر على أَحّرٍ من الجمر ساعة ذبحه. إلا أن الخنزير كتب قصيدة هجاهم فيها وظل يسخر منهم.
وقد مرّ ردح من الدهر حتى أخذ الخنزير يكتب أشعاراً وقصائد هجاء، وأكثر من ذلك سمح لنفسه بتغيير أصول كتابة الشعر.
وما كان يستله من راحته وخَدَرِه سوى شيئين: الخوف من فقدان راحته (هذا الخوف، الذي ربما اختلط لديه بالخوف من الموت)، ونزوات ثلاث أو أربع خنزيرات، كُنَّ كسولات وشهوانيات مثله.
لقد مات الخنزير في السنة الثامنة قبل الميلاد.
وسيظل العالم مديناً له باثنين أو ثلاث من أجمل الأشعار. لكن الحمار وأصدقاءه لا يزالون حتى اليوم ينتظرون يوم الثأر.



مونولوج الخير

فكّر الخير ذات ظهيرة: »إن الأشياء ليست بالسهولة، التي يتصورها بعض الأطفال وأغلب الكبار.
الكل يعرف أني أخفي نفسي وراء الشر، مثل من يصاب بمرض يمنعه من السفر بطائرة، ثم تسقط الطائرة ولا ينجو أحد من ركابها. وفي أحيان أخرى يحدث العكس، أي أن الشر يختفي ورائي مثلما حصل في ذلك اليوم عندما قتل قابيل أخاه المقدس هابيل، فَطُبِعَ الأول بلعنة من الناس لا تقبل الصفح أو إعادة الاعتبار.
فالأشياء إذن ليست بتلك السهولة التي يتصورها الناس«.



كيف يتصور الحصان الله

فكر حصان: »رغم كل ما سيقال، هناك تعارضٌ وتناقضٌ بين صورة سماء مأهولة بالخيل، وصورة سماء يحكمها إله بهيئة حصان. إن هاتين الصورتين تناقضان الذوق السليم وأبسط مقومات المنطق«.
واستمر الحصان في تأمله هذا: »الكل يعرف جيداً، أننا معشر الخيل إذا ما كنا قادرين على تصوّر الله، فسنتصوره فارساً يركبنا«.



شمشون والفلستر

ذات مرة تحدّى حيوان شمشون للنزال. ويمكنكم أن تتصوروا ما آل إليه من مصير. ولكنكم تعرفون بكل تأكيد، ماذا حصل فيما بعهد لشمشون مع دليلة، التي كانت في حلفٍ مع الفلستر.
فإذا أردت الخلاص من شمشون، تحالف مع الفلستر. وإذا أردتَ الخلاص من دليلة، تحالف معهم أيضاً.
إذن تحالف مع الفلستر دوماً.



الجنة الناقصة

ذات مساء شتوي بارد، فكر رجل مع نفسه، دون أن يحيد ببصره عن نار الحطب التي يتدفأ عليها: »من المؤكد أن في الجنة أصدقاء وموسيقى وبعض الكتب، وموسيقى وبعض الكتب، إلا أن السيء فيها هو أن المرء عندما يصعد إليها، لن يرى بعد ذلك سماءً يتطلع إليها«.



غَزْلْ بنلوبه
أو
مَنْ يتحايل على مَنْ

في قديم الزمان عاش باليونان رجل اسمه أوديسيوس. لم يكن ذلك الرجل حكيماً فقط، بل ماكراً أيضاً. وكانت له زوجة اسمها بنلوبه. كانت امرأة جميلة وموهوبة بشكل غير عادي. لكن علّتها الوحيدة هي أنها كانت تًغزل ألمها اللانهائي. وبفضل تلك العادة استطاعت أن تبقى وحيدة لفترة طويلة من الزمن.
وتقول الأسطورة أن أدويسيوس الماكر، كان يترك البيت ويجهّز سفينة للإبحار، في كل مرة يراها تشتغل بالغَزْل، الذي حرّمه عليها، لأنه بدا لا نهاية له. وفي إحدى المرات غادر البيت دون أن يقول لها شيئاً فركب سفينته سعياً لاكتشاف العالم وبحثاً عن نفسه.
وبهذه الطريقة تسنى لها أن تبعده عنها فيخلو لها الجو للغَزَلِ مع عشاقها الذين أقنعتهم بأنها كانت تغزل في الوقت الذي سافر فيه أوديسيوس، وليس أن أوديسيوس سافر في الوقت الذي كانت فيه تغزل، وهذا ما كان على هوميروس أن ينتبه له. فكما نعرف أن النعاس قد يغلب أحياناً على المرء فلا يعود يلاحظ الأشياء بدقة.



الغربان

قبل فترة من الزمن عاش رجل قريباً من متنزه شهير. كان الرجل ثرياً واشتهر بتربية الغربان، التي كان يبيعها لأحسن حدائق الحيوانات في البلاد والعالم. وقد غدت هذه الغربان رائعة، بعد عدة أجيال، بذل معها جهداً وصبراً كبيرين، إذ أنها لم تحاول مرة أخرى اقتلاع عيون صاحبها، بل تخصصت في اقتلاع عيون المشاهدين، الذين ما كان لديهم ما يفعلونه سوى ترديد عبارة حقيرة: »إذا ربيت لك غراباً فإنه سيقلع عينيك«.



الأعمال الكاملة
أو
الثعلب هو الأكثر مكراً

ذات مرة شعر الثعلب بالضجر والملل وكان حزيناً بعض الشيء لأنه لم تكن لديه فلوس. لذلك قرّر أن يصبح كاتباً، وشرع ينفذ قراره فوراً لأنه كان يكره ذلك الصنف من الناس، الذي يقول دوماً، أريد أن أعمل كذا وكذا، ولكنه لا يفعل في النهاية شيئاً.
لقد حقّق كتابه الأول نجاحاً باهراً لأنه كان جيداً فعلاً، وسرعان ما أطرى عليه الناس مديحاً بمختلف الأشكال، حتى تمّت ترجمته إلى عدة لغات.
أما كتابه الثاني فكان أفضل من الأول بكثير. إذ علّق عليه بعض الأساتذة الجامعيين من أمريكا الشمالية بإعجاب شديد، حتى أنهم ألّفوا كتباً عن الكتب التي كُتِبت عن تلك التي كُتبت عن كتب الثعلب.
ومنذ تلك اللحظة شعر الثعلب، بحق، بالرضى عن نفسه، ومرت سنوات دون أن ينشر شيئاً.
بيد أن الآخرين راحوا يتهامسون: »ماذا جرى للثعلب؟« وعندما كانوا يلتقونه في حفلات الكوكتيل، كانوا يتقاطرون عليه ويقولون له: »عليك أن تنشر المزيد. لماذا توقفت عن النشر؟« فكان يرد عليهم بتثاقل: »لقد نشرت كتابين«، فيجيبونه على الفور: »لقد نشرت كتابين جيدين، ولهذا عليك أن تنشر واحداً آخر«.
فكّر الثعلب: »في الحقيقة يريدونني أن أتعجل فأنشر كتاباً سيئاً. ولكن بما أنني الثعلب، فلن أقوم بذلك«.
وهكذا لم يكتب بعد.



الذباب

هناك ثلاث موضوعات.. الحب والموت والذباب. فمنذ أن وُجِدَ الإنسان، عاش وهو يشعر بالحب، والخوف من الموت، وبوجود الذباب. قد يشغل الموضوعان الأولان بقية الناس، لكني أصرُّ على الاهتمام بالذباب، الذي هو أفضل من الرجال، ولكن ليس أفضل من النساء طبعاً. منذ سنوات وحتى الآن تراودني فكرة جمع أنطولوجيا عالمية عن الذباب. غير أنني سرعان ما اكتشفت أنه مشروع لا نهاية له. فالذبابة تفرض نفسها على كل الآداب، وحيثما يتطلع المرء يجد ذبابة. ولا يوجد كاتب حقيقي إلا وانتهز فرصة فكتب قصيدة، صفحة، عموداً، فقرة، سطراً عن الذبابة. فإذا كنت كاتباً ولم تفعل ذلك بعد، فإني أنصحك بأن تحذو حذوي وتسرع بذلك. فالذباب هو مثل –منكر ونكير- يقوم بالحساب. أو أنه منتقم، لا أدري لمن، لكنك تعرف جيداً أنه طاردك ذات مرة وسيظل يلاحقك. إنه ساهر، ونائب عن شيء لا يسمى، قد يكون جيداً إلى أبعد الحدود أو شريراً. فالذباب يتحداك ويظل يطاردك ويراقبك. فإذا مُتَّ، فقد تكون ذبابة واحدة كافية لحمل روحك المبعثرة ، ومَنْ يعلم إلى أين؟ وعن طريق هذا الحمل الأبدي وتوارثه جيلاً بعد جيل، يحمل الذباب أرواح موتانا، وأسلافنا، الذين يواصلون التحويم قربنا ويحرصون على أن يكونوا قريبين منا، مدفوعين برغبة حمايتنا، وهكذا فإن أرواحنا الصغيرة تظل تجول في أجسام الذباب تخزن الحكمة. إنها تعرف كل شيء، تعرف حتى ما لا تجرؤ على معرفته. وما أدراكَ، قد يكون الناقل الأخير لثقافتنا الغربية الضخمة (الثقيلة) جسم ذبابة تكاثرت على مدى القرون دون أن تغتني منها. وأعتقد أن (ميلا) قال عن حق –من المؤكد أنك لم تسمع باسمه من قبل ولكن بفضل اهتمامه وانشغاله بالذباب ستسمع به لأول مرة- قال أن الذبابة ليست بالقبح الذي تبدو فيه للوهلة الأولى. على أنها لا تبدو قبيحة للوهلة الأولى، لأن ما من أحد شاهدها في اللحظة الأولى. فكل ذبابة هي دائماً مرئية. في حالة الدجاجة والبيضة يراود المرء شك، مَنْ كان الأول.. الدجاجة أم البيضة، إلا أنه لم يخطر على بال أحد أن يتساءل هل كانت الذبابة في البدء أم لاحقاً. في البدء كانت الذبابة. (سيكون من المستحيل تقريباً ألا نذكر بأن الذبابة كانت في البدء، أو شيئاً من هذا القبيل. إننا نعيش على مثل هذه الجمل والعبارات. جملٌ وعبارات تظل تلاحقنا وتغص بها كتبنا). والآن إِنسَ الموضوع. من السهل جداً أن تحط ذبابة على انف البابا، في حين يصعب أو يستحيل عليه أن يحط على انف ذبابة. ويستحيل على البابا أو الملك أو الرئيس (طبعاً رئيس الجمهورية أو رئيس احتكار مالي أو شركة تجارية ضخمة شهيرة) أن يغتاظ فينادي الحرس الجمهوري أو الملكي أو حرسه الخاص لقتل ذبابة. إنهم متسامحون وقد يكتفون بمسح أنوفهم. إنه »الذباب« يعرف، وهم يعرفون أنه يعرف. لذلك يقوم بحراستهم. إنهم يعرفون أن ما يحيط بنا ما هو في الحقيقة إلا مجموعة من ملائكة الرحمة، التي تقينا من اقتراف الخطايا، وإذا ما أغمضت طرفها لحظة تحدث مؤامرات، تماماً كما حدث مع ملائكة هتلر وجونسون. ومع ذلك، على المرء ألا يُكثر من الإطرء عليها. إنها تعود دائماً وتحطّ على الأنف. فالذبابة التي تحط على أنفك اليوم هي سليلة تلك، التي حطت على أنف كليوباترا آنذاك. عندها تكون أمام رموز بليغة يمكنك أن تتصور معها ما حصل لِمَنْ قبلك. حينها ستكتب أدباً، حتى على الضد من إرادتك. إذ أنها تتطلب منك أن تسبغ عليها لبوس الملوك والبابوات والقياصرة. فإذا تسنّى لها ما تريد ستسيطر عليك. فلا تعود تقوى على الحديث عنها دون أن تشعر برفعة المقام. آه يا ملفل(*) كم توجّب عليك أن تجوب البحار حتى تعثر على سمكة القرش البيضاء الكبيرة هذه وأنت جالس خلف طاولة الكتابة في بيتسفلد بولاية مستشوستس دون أن تلاحظ بأن الشر انتشر بوقت بعيد قبل أن تأكل بوضة الشليك في عصريات طفولتك، وحتى سنوات حياتك عندما كنت تسلّي أصابعك، خلال التأمل، بنتف شعر لحيتك الذهبية، شعرة فشعرة، وأنه (الشر) تعمّق في مطالعات السير سرفانتس فاستقر في أسلوبك. أما ادغار آلان بو وغرابه، فأمرهما مضحك للغاية، ما عليك إلا أن تراقب الذبابة وتفكر.



أيها القناع الصغير، أعرفك جيداً

الفكاهة والحياء يسيران سوية بصورة عامة، ولن تكون أنت استثناءً. فالفكاهة قناع والحياء قناع آخر. فلا تدع أحداً ينتزعهما منك دفعة واحدة.



سيناريو منفرد

أن تتعرّف على كاتب ما شخصياً، لا يمكن إلا أن يكون مضرّاً. فقد قال الشاعر الإنكليزي جون كيتس: »الشاعر هو أكثر الكائنات لا شعرية يمكن للمرء تصوره«. فما أن تتعرّف على كاتبٍ ما شخصياً، كنت تعجب بكتاباته عن بعد، سرعان ما تتوقف عن قراءة كتبه. ويحدث ذلك بصورة أوتوماتيكية. أما ما يتعلق بالأعمال الكتابية، فإنها لفكرة جميلة، تلك التي تم البدء بوضعها موضع التطبيق في العديد من بلدان أمريكا، وهي طباعة أحسن الكتب، أو على الأقل أنجحها، أي تلك التي يمكن أن تكون جيدة. أما الكتب السيئة والرديئة جداً فيجب أن تُطبع على نفقة الدولة بطبعات أنيقة مرفهة، بأغلفة من الجلد الناعم، موشاة بالرسوم والتخطيطات، كي تبقى بعيداً عن أيدي القراء من ناحية، وترضي غرور غالبية الشعراء والكتّاب من ناحية أخرى.



شك

لننظر لهذا الرجل، الذي يبدو مرتبكاً يقطع المسافة أمام الفندق بشارع باريس في سانتياغو دي شيلي ذهاباً وإياباً، وكأنه مكلف بمهمة حراسة. إنه يشك. يبدو أنه لم يفعل شيئاً خلال الأيام الماضية سوى تغذية الشك بداخله. فقد يكون نظر إلى عيونها وساوره الشك في أمرها. قد يكون لاحظ أن زوجته تبتسم له بشكل طبيعي وكأن الأمور على ما يرام بالنسبة لها، أو ربما غير اعتيادية، وأنها لا تتناقش معه كثيراً كما كانت تفعل في السابق، لذلك ازداد شكه. فمثل هذه الحالات ليست نادرة. قد تلاحظ شيئاً غريباً في الجو فتبدأ بالشك. المناديل، التي أهديتها إياها ذات مرة، تصبح فجأة ذات قيمة وأهمية، فتبدأ تعدّها وتجد دوماً أن أحدها مفقود، وما من أحد يعرف أين اختفى المنديل (ولكن لا يخطر ببالك أبداً أن المنديل المفقود، موجود في حقيبة زوجتك، التي خرجت).
على أي حال يبدو أن الرجل استجمع كل قواه وشجاعته وتوجه نحو الفندق. يبدو أنه قرّر أن يقطع الشك باليقين، وأن يتسلح من الرجولة ما فيه الكفاية فينظر ليراها خارجة من الفندق ويكبسها. ومخافة أن يراهما أحد ويشك في أمرهما، قد يحاولان التصرف بهدوء وتراخٍ متناهيين. وفيما هو ينتظر، مَنْ يدري كم مرة دارت باب الفندق الداورة على نفسها، وكم من الناس دخلوا الفندق أو خرجوا منه. انتبه إلى هذه الحقيقة بحنق وضيق. قد تكونوا أنتم مررتم بنفس الحال أو ما يشبهها، وأقوم الآن بفضح هذا السر، عندما أُذكِركم وأُحفزُّ ذاكرتكم للبحث بين أنقاض الآخرين وأوهامهم، وفي مشاهد الأفلام، التي طواها النسيان، في الوقت الذي بدت لكم أنها نهاية العالم، في حين أصبحتم تواجهون أمثالها اليوم، أو لنقل تتذكرونها اليوم فتبتسمون فقط.
أسند الرجل قامته إلى الحائط الأزرق المقابل. كان هذا المخلوق ناضجاً، طرّز الشيب رأسه، ذا مظهر أنيق. آه، إنه ليس بأمر هام معرفة تفاصيل عمره وهيأته. كان الفصل صيفاً وقد ارتدى بدلة من الكتان وظل يتصبب عرقاً. كنا نراقبه من شباك شقة في الطابق الثاني من البيت المقابل. كنا نتسلى ونحن نراقب من مكاننا هنا أزواج الرجال والنساء يمرون أمامنا. شيوخ مع شابات. شباب مع عجائز. شباب مع شابات. ولكن لم يكن هناك شيوخ مع عجائز، ولماذا يجب أن يحصل ذلك؟ رجال ناضجون مع نساء ناضجات يسيرون الهوينى. على العموم، رجال متحررون مع نساء متحررات يدخلون الفندق بمرح وضحكٍ عال يثير الحسد والغيرة. كنا أنريكو وروبرتو وأنطونيو وأنا، نقضي بعض الأحيان عصريات الآحاد في الشباك، نراقب الناس يأتون من الشوارع الفرعية فيدخلون الفندق أو يمرون أمامه. كنا نتراهن فيما بيننا، هذان سيدخلان، وهذان لن يدخلا الفندق. كان بعضنا يربح والآخر يخسر. وتحصل مفارقات لطيفة في لحظة يبدو أن هذا الزوج متوجه نحو الفندق فنتراهن أنه سيدخل، ويتوجه نحو الفندق فعلاً، لكنه يمر أمام الباب فقط، فتصابَ بالإحباط لأنك خسرت الرهان، ولكن بعد أن يقطع عشر خطوات، يرجع ويدخل الفندق.. عندها تستعيد نشوتك ويصاب الطرف الآخر في الرهان بالإحباط ويخسر.
لِنَعُد لهذا الرجل الذي أثار عطفنا. يبدو أنه يتألم ويكابد. بأعصاب متوترة، كان يترصد كل زوج يخرج من الفندق بهدوء مُفتَعَل. وكان يحسب بترقب شديد أن كل زوج يمر قد يكونا هما، ذلك أن الظلام بدأ يهبط قليلاً، قليلاً. لاحِظوه الآن كيف إشرأبَّ عنقه، ووقف على رؤوس أصابعه، وكيف يجول ببصره متوتراً عندما يخرج إثنان من الفندق، وكيف يضجر عندما يمر أمامه شخص، في اللحظة التي يخرج فيها اثنان. إنه يركض من هذه الزاوية من الشارع إلى تلك، ثم يعود بسرعة إلى مكانه بقلق كبير. ربما يخشى أنها مرّت في هذه اللحظة دون أن يراها. فظيع. لقد بدأ الرجل يثير الشفقة. فلو لم تكن هذه لعبتنا وتسليتنا المفضلة، لما اصطبرنا نراقبه طوال ساعتين، ولبادرنا للتقصي عن حقيقة ما يجري هناك داخل الفندق. في المقابل يواصل هو تصوراته ويزخرفها فيزداد حقداً ومرارة ويقسم أغلظ الأيمان مع نفسه بالانتقام منها بصورة دموية، وقد يكون الآن يموج غضباً، ولا يدري إِنْ كان ذلك من فرط الخوف أو الشجاعة.
قد تقف أنت عند الشباك أو تستلقي في موقع الراصد المرتاح، ولكنك، في الوقت نفسه، تعاني وتتألم أيضاً لأنك لست متأكداً مما تقوم به زوجتك في هذه اللحظة بالذات. ولهذا السبب، قد يثير هذا الرجل ارتباككَ وضيقكَ. فقد تكون أنتَ محله الآن وزوجتكَ محلَّ زوجته، في وقت هبط فيه الظلام وأخذ الناس يعودون إلى بيوتهم مسرعين –مَنْ يدري لماذا؟- بقلق أم بشوق؟ ويتدافعون متزاحمين في الباصات والترامات، التي تمر مزدحمة أمامنا.
أخيراً لاحظنا ارتباكاً وتوتراً مفاجئين حلاّ بالرجل. قد يكون شعوراً بالخوف. أدركنا أن اللحظة الحاسمة اقتربت، فنظرنا ناحية باب الفندق ورأينا عشيقين يخرجان، سرعان ما اكتشفت أنه موجود أمامهما، تظاهرا بالهدوء وأسرعا خطواتهما، يتلفتان إلى الوراء بين آونة وأخرى، وقد تشابكت أيديهما، فدخلا شارع سان فرانسيسكو. حينها أسرعنا فغادرنا الشباك ونزلنا إلى الشارع كي لا يفوتنا ما سيجري الآن. لكننا رأينا الرجل ما زال واقفاً في الشارع مرتبكاً يجول بنظراته ناحية اليمين والشمال، ويدفع الناس من حوله بكوعيه ثم يستدير على نفسه ويرجع مكانه، ثم إلى هناك، خائفاً، فاغر الفاه، منهكاً، الآن فقط، تأكدَ أنه سيراقب –غداً أو بعد غد، أو يوم الاثنين، أو عندما تسنح له الفرصة- بتركيز أكبر مما فعل اليوم، كي لا تفلت منه في المرة القادمة. ومَنْ يدري أنها كانت في الفندق عصر هذا اليوم؟!



كيف تحرّرتُ من خمسمائة كتاب

أيها الشاعر، لا تهدي كتابك. حَطّمهُ بنفسك
ادواردو توريس

قرأت قبل بضع سنين مقطعاً لكاتب إنكليزي، لا أتذكر اسمه الآن، تحدّث فيه عن الصعوبات التي جابهته أثناء محاولته التخلص من الكتب، التي لم يعد يرغب الاحتفاظ بها في مكتبته. لقد مرت عليّ عدة حالات كان يشكو فيها مثقفون من أن الكتب اضطرتهم من جديد إلى ترك البيت، ذلك أنه لم يعد هناك مجال للحركة بسبب كثرة الكتب. لم أصل أنا بعد إلى مثل هذه الحالة المحرجة، ولن أصل إليها، إذ لا يمكنني تصور نفسي أن أصل إلى ما وصله ذلك الكاتب الإنكليزي، إذ تعيّن عليه النضال للخلاص من خمسمائة كتاب.
سأحاول أن أقصّ عليكم شيئاً من تجربتي، وفي الوقت نفسه لا بد لي أن أنبّه إلى أن قصتي قد تثير الاستغراب لدى الكثيرين. وليس في ذلك ما يضير. واقع الحال أن المرء قد يصل في مرحلة معينة من حياته إما إلى أن يتعرف على الكثير من الناس (الكتّاب) أو أن الكثير من الناس (الكتّاب) يتعرفون عليه أو يلاحظ أنه يعيش في زمن تصدر فيه كتب كثيرة. وقد تأتي لحظة يقوم بها أصدقاؤك من الكتّاب بإهدائك كتبهم الكثيرة (هذا ناهيك عن الكتب التي يعطونك إياها للقراءة قبل النشر)، إذ يتعين عليك في كل يوم من أيام السنة أن تقرأ ملاحظاتهم وانطباعاتهم عن الحياة والعالم بصورة مستمرة. بيد أن ذلك لم يعد كافياً, لأني فقدت ما تعودت عليه منذ عشرين عاماً –القراءة- فاستعضتُ عنها بعادة أخرى –شراء الكتب-. هذه العادة، التي قد تنتهي في كثير من الأحيان نهاية محزنة. تلك الأيام ارتكبت حماقة التردد على محلات بيع الكتب المستعملة. ففي الصفحة الأولى من »موبي ديك« يصف إسماعيل أنه عندما ضاقت الحياة في عيون كاتو قرر الانتحار فألقى بنفسه على سيفه، في حين أنه (أي إسماعيل) يركب سفينة ليبحر فيها عندما تضيق به الدنيا. أما أنا فكنت، وعلى مدى سنين، أذهب إلى محل بيع الكتب المستعملة. وعندما يتحسس المرء قوة جذب هذه المحلات المليئة بالغبار والفقر الفكري، عندها تتحوّل الفرحة في اقتناء الكتب إلى هَوَسٍ في شرائها، ولا يلبث هذا الهوس أن يتحوّل بدوره إلى نزعة في اقتناء الكتب النادرة، لأثارة استغراب وعجب الأصدقاء والمعارف.
كيف تجري هذه العملية؟ قد تكون جالساً في يوم من الأيام في بيتك تقرأ كتاباً ما بهدوء، فيأتيك أحد الأصدقاء ويقول بإعجاب: كم هي كثيرة كتبك. فيكون وقع ما قاله في أذنك وكأنه يقول: كم أنت مثقف. وهكذا تحصل النكبة. أما الباقي فهو أمر معروف. بعد ذلك يبدأ المرء بمراكمة الكتب بالمئات، ثم بالآلاف. وكلما ازداد عددها شعر أنه ازداد ثقافة. وبمرور السنين (إذا لم يكن مثالياً قُحّاً لا ينفع معه النصح) تتراكم لديه ثروة اقتصادية غير قليلة، ذلك أنه يواصل شراء المزيد من الكتب، وقد يصبح كاتباً. فإذا أصبح كاتباً يمتلك هذا العدد الهائل من الكتب، لا يكتفي بمجرد الاعتقاد أنه أصبح مثقفاً حسب، بل قد يتصوّر نفسه أصبح عبقرياً. هذا هو هَوَس اقتناء كتب كثيرة.
في ضوء هذا الوضع لملمتُ –قبل أيام- شتات شجاعتي وقررت الاحتفاظ فقط بالكتب الممتعة فعلاً، لا سيما تلك التي قرأتها أو التي سأقرأها حتماً. كم من الحقائق يتهرب منها المرء في مجرى حياته؟ أليس الجُبن شيء ثابت؟ كم مرة في اليوم تفكر بنفسك فتجد أنك جبان ولكنك تكابر مع نفسك وتخدعها بأنك لست جباناً؟ أنا شخصياً جبان. فمن بين آلاف الكتب، التي ما أزال أحتفظ بها بسبب كسلي، لم أستطع التخلص إلا من خمسمائة كتاب، وبألمٍ ممضٍ، ليس لأن البقية الباقية منها مهمة فكرياً بالنسبة لي، بل كي يبدو المُعامِلْ (الرياضي أو الفيزياوي) أقل من السابق. ذلك أن منظر عشرة أمتار من رفوف الكتب الفارغة، يدمرني. كنت أحدّق ليل نهار في رفوف الكتب الكثيرة، وأعيد الكرّة حتى لكأن نظراتي تلتصق بها (على ما يقول الكلاسيكيون) وأفرز منها ما أستطع حد الإعياء (على ما نقول نحن المعاصرين والمحدثين). ماذا يتعين عليّ أن أفرز؟ أعداد غير معقولة من دواوين الشعر، وروايات كثيرة وعدد غير قليل من النصائح السوسيولوجية للخلاص من الشرور والآثام في العالم. بصورة عامة تعتبر كتابة الشعر إغناءً للذهن والروح والروايات للمتعة –على أقل تقدير- أما الأبحاث والكتابات السوسيولوجية فإنها –طبعاً إذا أراد المرء أن يكون متفائلاً- توفر المقدمات، أو لنقل المستهل، لحل المشاكل. وبهدوء تام كان عليّ أن أدرك بأن الأول (أي الشعر) يكتب بشكل يمكن أن يثير المَلَلْ في أكثر النفوس فكاهة، وأن الروايات تكدّر أكثر الأمزجة مرحاً، وأن الأخيرة (السوسيولوجية) تثير الحيرة والارتباك لدى أكثر العقول وضوحاً وصفاءً. كنت أعلّل نفسي بالكثير من الأعذار عندما أريد فرز كتاب للتخلص منه. أني متأكد جداً لو أن راهباً وحلاقاً ساعداني في مهمتي هذه لما بقي على الرفوف أكثر من مائة كتاب. عام 1955 زرت بابلو نيرودا في بيته بسانتياغو، عجبتُ لأنه لم يملك سوى 30 – 40 كتاباً، من بينها العديد من الروايات البوليسية وترجمات لأعماله بمختلف اللغات، كان قد فرغ على التو من إهداء كتبٍ قيّمةٍ فعلاً لمكتبة الجامعة. لقد استمتع الشاعر بهذه الفرحة خلال حياته، حقاً إنها فرحة أحسده عليها.
والآن لن أعد كل الكتب التي فرزتها، ولكن يمكنني القول أنه لم يسلم أي صنف منها من عملية الفرز. وكانت على النحو التالي: سياسة (بالمعنى السيء للكلمة إذا ما كان هناك معنى آخر لها) حوالي 50، الاجتماع والاقتصاد 49، الجغرافيا العامة وتاريخ العالم 2، جغرافيا وتاريخ الوطن 48، الأدب العالمي 14، أدب أمريكا اللاتينية 86، دراسات أمريكية شمالية عن أدب أمريكا اللاتينية 37، الفلك 1، كتب جنسية (لا سيما التي تساعد على منع الحمل) 6، طرق اكتشاف الينابيع 1، سير حياة مغني أوبرا 1، أصناف غير محددة (مثل »اخترتُ الحرية«) 14، كتب جنسية مصورة (الكتاب الوحيد الذي أمتلكه من هذا النوع، قررت الاحتفاظ به)، كيف تصبح رشيقاً 1، كتب للإقلاع عن الكحوليات 19، كتب علم النفس والتحليل النفسي 27، قواعد اللغة 5، كيف تتعلّم الإنكليزية في عشرة أيام 1، الفرنسية في عشرة أيام 1، الإيطالية في عشرة أيام 1 (وهذه الثلاثة الأخيرة كلها بدون معلم طبعاً)، كتب حول الأفلام 8.. وما إلى ذلك.
وما كانت تلك العملية إلا البداية. إذ سرعان ما لاحظت أن عدداً قليلاً من الناس فقط أبدى رغبة بهذه الكتب، التي أنفقت عليها، خلال السنوات الماضية، كثيراً من المال والوقت. على أن روح التكديس والمراكمة لم تكن بعد قد انتشرت بين الناس. لذلك واجهت صعوبات كبيرة في تنفيذ قراري الحازم بالتخلص من هذه الكتب. وراح هذا القرار يضغط على أعصابي. فخطر ببالي أن الحريق –كما حصل في تلك السنة عندما احترقت مكتبة الاسكندرية- هو أفضل حل للمشكلة. ولكن سرعان ما تبيّن لي أنه أمر مضحك وصعب أن تحرق (500) كتاب في باحة الدار (هذا إذا كان في الدار باحة). يُحكى أن محاكم التفتيش كانت تحرق الناس، إلا أن الغالبية العظمى من الناس تثور ثائرتها إذا تم إحراق الكتب. ونصحني العارفون بهذه الأمور أن أقدم المجلدات هدية للمكتبة العامة، وهو الحل الأسهل (طبعاً من وجهة نظرهم). غير أن هذه الفكرة أزعجتني بعض الشيء، لأني اعتقدت أن هذه الكتب لا تصلح للمكتبة العامة مثل عدم صلاحيتها وجدواها في مكتبتي الخاصة أو أي مكان آخر. ولم يكن من اللائق بالنسبة لي وللكتب أن أرمي بها تباعاً في برميل الأزبال. فكان الحل الأمثل والوحيد أن أتوجه بها إلى أصدقائي. سرعان ما أخذ المهتمون منهم بالسياسة وعلم الاجتماع، أو من المعارضين لهما، الكتب التي لها علاقة باختصاصاتهم، أما الشعراء فقد رفضوا بصورة قطعية أن تلامس أيديهم مؤلفات أبناء جيلهم والمعاصرين من الأشخاص الذين يعرفونهم شخصياً. أما كتاب الشهوة واللذّة فكان عبئاً عليهم، ما عدا صوره ورسومه الإيضاحية من الأصل الفرنسي.
على أني لا أريد أن أخلق من ذكرياتي قصة أو مغامرة مفتعلة. حقاً استطعت، تدريجياً، أن أجد بعض النفوس الكريمة، التي حملت تلك الكتب معها إلى البيت واحتلت فيه مكاناً ضيّقت فيه على الأطفال مجال اللعب والحركة، وقلّصت حجم الأوكسجين في الدار، لكنها أعطت الآباء شعوراً بازدياد ثقافتهم ومعلوماتهم، وهي أكثر المشاعر خدعة. إذ ظنوا أنفسهم أصبحوا سَدَنَة للمعرفة، وما كان هذا الشعور أكثر من شهادة على سذاجتهم وجهلهم.
لقد أدّى بي تفاؤلي إلى الاعتقاد، بعد أن أنهيت كتابة هذه السطور قبل أسبوعين، بأن العنوان مناسب ومحق، إلا أنني إذا قسّمت الرقم (500) على عشرين (ذلك أن بعض الكتب التي أرسلتها بالبريد قد عادت إليّ من جديد) يكون العنوان والرقم الجديد أقرب إلى الحقيقة.



الفردوس

متأخراً وصل إلى المكتب، وعلى ما يبدو أكثر مما تحتمله الشركة، التي أعطته هذا المنصب كي لا يشتغل، ويأتي إلى الدوام متأخراً على مهله. فكّر أن المهم ألا يتغّيب اليوم، ومن الأفضل له أن يكون هنا.
قدّموا له القهوة فأخذها شاكراً. أحس بأنه شعور جميل أن يجلس إلى طاولته ينتظر في الدقائق الثلاث القادمة أن يُقدم له شيء ما، حتى وإن كانت قهوة خفيفة ذات مذاق ورائحة سيئة. وشعر بالارتياح بعد أن أخبرته السكرتيرات أنْ لم يسأل عنه أي شخص (هذه الـ»أي شخص« تعني المدير العام أو المسؤول الأعلى في التسلسل الوظيفي البيروقراطي). فقد بدأ صباح هذا اليوم بداية حسنة، ويمكن أن يستمر هكذا دون مخاوف كبيرة. لكن القضية الأساسية هي أن ينتظر وبصبر حلول الظهر ثم الساعة الواحدة فالثانية والنصف، وإن كان ذلك مجرد وهم، لأن الوقت مثل قطعة خبز يابس. فمن الأحسن له أن يمضغها بكل هدوء وتراخٍ، تماماً كما تفعل أفعى البواء مع فريستها، ويبلع الساعات دقيقة بعد أخرى، بغض النظر عن الفارق في الوقت، الذي يمضي في الدوائر وئيداً. فما أن تنتهي ساعة حتى تأتي أخرى، فأخرى وأخرى.. حتى يتبقى نصف الساعة الأخيرة بمثابة الحلوى بعد وجبة الطعام. إلا أنك في هذه الحالة تَودُّ لو تتحول النصف ساعة إلى ثانية فتعتقك من أسارها. ومن الطبيعي أن تكون الصحف والمجلات في متناول يدك كل وقت. ولكن لا يمكن للمرء أن يقضي طوال الفترة قبل الظهر بمطالعة الصحف. فلديك احتياط. إذ أنك متأكد من »شخص ما«، هذا »الشخص« الكبير يمكن أن تتحدث معه، لأنه يستمع دوماً لشكاواك ومشاكلك باهتمام بالغ، أو على الأقل هذا ما يظهره لك. فليس بالأمر القليل أن يقول لك نعم في المكان المناسب، أو كلا حيثما يستوجب الأمر. مثلاً عندما يتعلّق الأمر بموقف زوجتك من النقود والأطفال أو عندما تعبث بكتبك وأوراقك المتناثرة في كل مكان، وهي من صفاتك المميزة، لأنك معروف باللانظام وعدم الترتيب، وتفضل بقاء الأوراق على حالها فتعرف، رغم ذلك، موقع كل منها. وهذا ما يحول دون ترتيب طاولتك المبعثرة، اللعينة التي لا تحوي شيئاً عن السينما ولا عن الرياضة. أما عن الأدب، فليس هناك ما هو جوهري. قد تكون سمعت شيئاً عن أغلب الروايات، التي صدرت مؤخراً، وبشكل خاص في أمريكا اللاتينية، هذه الروايات التي أصبحت تقليعة. إلا أنك لم تقرأها ولم تقرأ على الاطلاق منذ زمن بعيد، رغم أنك تعرف –أو هكذا تعتقد- أنه جزء من واجبك باعتبارك كاتباً. ولكن لديك إمكانية الحديث عنها بشكل يوحي بأنك قرأتها. إذ لديك حاسة غريبة يكفيك معها أن تلقي نظرة سريعة على الكتب فتغدو على معرفة تامة بكورتزار وغارسيا ماركيز وفارغارس، دون أي عناء. واليوم لا يمر يوم دون أن يصدر فيه كتاب جديد. وإذ لا يوجد لديك متسع من الوقت لقراءة هذه الكتب جميعاً، أو على الأقل تلك الروايات الضخمة، التي يكتبها أصحابها بعض الأحيان عن عمد بتلك الضخامة، كي يبرهنوا على امتلاكهم ناصية الأسلوب والتكنيك. ألستُ محقاً؟ هل قرأت »الفردوس المفقود«؟ أنا لم أقرأه بعد. فقبل أن ينهي المرء قراءة ما بيده، حتى يصدر كتاب آخر جديد. هل قرأت الكتاب الفلاني؟ فتجيب كلا. وتقول مازحاً أنك ما تزال تقرأ »دون كيشوت«، رغم أنك لم ولن تقرأه، لأنك ستصاب بالضجر والملل حد الموت، على ما قاله لوبه دي فيغا، وهو على فراش الموت، بحق دانتي. دع المزاح جانباً. ببساطة لم يكن لديك الوقت الكافي للقراءة. لذلك فقد تقرر مع نفسك عندما تخرج من هنا أن تكرّس نصف ساعة من الوقت للتعرف وبشكل سريع على حال الرواية الأمريكية اللاتينية. عندها ترى نفسك أمام عالم متكامل، فتعود إلى البيت. سيكون كل شيء جاهزاً أمامك: زوجتك بصدريتها الوردية الجميلة، وابتسامة حلوة تعلو وجهها ولا تفارقه إلا عند حدوث مشاكل.. حالاً ستصب لك الطعام. أطفالك نظيفين يجلسون إلى المائدة بكل أدب، وبإشارة صغيرة يسرعون إلى النوم. وبسرعة كبيرة تلتهم الطعام والحلوى، وتسرع إلى غرفتك تبحث عن »الفردوس المفقود«. ومثل الغطاسين، الذين يسبحون بأقدام بلاستيكية مثل الضفادع، مزودين بقناني أوكسجين –ومَنْ يدري إلى أي عمق يغطسون تحت الماء فيشاهدون عوالم وألوان لم يرها أحد قبلهم- تغط أنت في مطالعة عميقة رائعة لا يقطع هدوءها إلا صوت نبضك وانفعالاتك، مثلاً كأن تذهب إلى التواليت أو تحك ظهرك، أو تشرب قدحاً من الماء أو تضع أسطوانة موسيقية أو تقص أظافرك أو تشعل سيجارة، أو تنتقي لك قميصاً لحفلة الاستقبال هذا المساء أو أن تتلفن أو تشرب القهوة أو تنظر من الشباك أو تسرّح شعرك أو تتطلع إلى حذائك. باختصار كلها أشياء تجعل من المطالعة الحقيقية حياة مريحة.



شيء ممكن الحدوث

ما أَنْ تحسّنَ وضعي الاقتصادي بشكل جيد، حتى فقدتُ القليل، القليل الذي كنت أتمتعُ به من صفات الكاتب. إذ اتخذت علاقاتي الاجتماعية شكلاً لم أعد فيه قادراً على الكتابة دون أن أهجو واحداً من صحبي ومعارفي، أو أن أتزلّفَ المدافعين عني ومشجعيّ وهم كثيرون.



الحياة مع الآخرين

الشخص الذي لا يكف يولول كل ساعة ويندب حظه بمرارة لأنه يتوجب عليه أن يحمل صليب الآخرين (زوجاً، زوجةً، أباً، أماً، جدّاً، جدّة، عمّاً، عمة، خالاً، خالة، أخاً، أختاًـ ابناً، ابنةً، والد الزوج، والدة الزوج، والد الزوجة، والدة الزوجة، زوج البنت، زوجة الابن، أخ الزوجة، أخت الزوج) هو في الوقت نفسه صليب لآخرين عليهم أن يحملوه ويشكون منه بمرارة أيضاً سواء كان (أخ الزوجة، أخت الزوج، زوجة الابن، زوج البنت، والدة الزوجة، والد الزوجة، والدة الزوج، والد الزوج، ابنةً، ابناً، أختاً، أخاً، خالةً، خالاً، عمة، عماً، جدّة، جدّاً، أماً، أباً، زوجة أو زوجاً) وأنه نفسه يشكل عبئاً ثقيلاً عليهم أيضاً، لذلك من كلٍ حسب قدرته ولكل حسب حاجته.



القامة والشعر

للأقزام حاسة سادسة تمكنهم من التعرف على الأشياء من النظرة الأولى.
إدوارد توريس

دون أن أبذل أي عناء أو أقف على رؤوس أصابعي، يبلغ طولي 160سم. كنت قصير القامة منذ طفولتي. فلم يكن أي من والديّ طويل القامة، وعندما بلغت الخامسة عشر من العمر لاحظت أن قامتي تميل إلى القِصَر، لذلك رحت أقوم بتمارين رياضية، عملاً بنصيحة قدّمها لي البعض. لكن تلك التمارين لم تطوّل قامتي، انما حفّزت شهيتي للطعام. وكان ذلك مشكلة حقيقية لأننا كنا آنذاك عائلة فقيرة. وعلى الرغم من أنني لا أتذكر يوماً عانيت فيه من الجوع، بيد أني عانيت من نقص التغذية حتى أيام شبابي، ولديّ صور تشهد على ذلك. أقول كل هذا الآن لأنه كان يمكن لقامتي أن تكون أكثر قبولاً لو أنني لم آكل آنذاك أكثر، بل أحسن. وعندما بلغت تمام الحادية والعشرين (ليس قبل ذلك حتى بيوم واحد) تركت تلك التمارين الرياضية وذهبت للانتخابات.
من المعروف أن سكان أمريكا الوسطى لا يتمتعون بقامات فارهة طويلة، سوى بعض الاستثناءات ثقيلة الدم. ويمكن للمرء أن يقول ما يقول إلا اعتبارها مشكلة عنصرية. ففي أمريكا يوجد هنود حمر يفوقون الأوربيين بهذا المقياس. ومن دون أدنى شك، فإن الفقر وما ينجم عنه من نقص في التغذية سوية مع عوامل أخرى لا تشكل الأساس الذي يجعل من أبناء بلادي، ولا سيما أنا، أن نسوق دوماً أسماءً مثل نابليون ولينين وشابلن، عندما نضطر للبرهنة على أن قصر القامة لا يتعارض أبداً مع شجاعة المرء أو عبقريته.
وغالباً ما أكون ضحية لنكات عن قصر قامتي، تكون بمثابة تسلية لي لأنها تولد لدي شعوراً –دون أدنى شعور بالنقص- بالسعادة والفرح المؤقت، ذلك أن قِصَر قامتي يساعد على تسلية أصحابي. في بعض الأحيان أقوم أنا بتأليف بعض النكات عن قصري. وبعد فترة يحكيها الآخرون لي على أنها من تأليف غيري –أي يبيعونني ما اشتروه مني- على ما يقول المثل. ما العمل؟ لقد تعوّد الآخرون، الذين هم في الواقع أقصر مني ولكنهم يشعرون أو يعتقدون أنهم أطول. تعوّدوا على تأليف نكات على حسابي. وغالباً ما أسكت عندما يحكونها وأكتفي بالنظر إلى عيونهم، فيظنون أني أسمعها لأول مرة، وعندما يُفرغون ما بجعبتهم منها، يعودون إلى بيوتهم لمواجهة المشكلات المالية والعائلية بشجاعة.
حسن. إن نقص التغذية، الذي يؤدي إلى قصر القامة، يعطي الشخص موهبة في كتابة الشعر، ولا يدري أحد كيف، ولماذا. فعندما أكون في الشارع في اجتماع معين وأرى توريس أو بوب أو الفونسو رايس، الذي يقل طوله عن 160 سم، أشعر، أو أكون شبه متأكد أني أواجه شاعراً. فكما أن الأقزام الحقيقيين يكونون ذيولاً للآخرين، فإن الناس ذوي القامات المتوسطة يكونون رقيقين وحزينين متصوفين. وكما يبدو أن الإلهة موزه (إحدى آلهات الفن – المترجم) لا تستريح إلا عندما تسكن جسماً صغيراً أو مشوهاً، كما في حالة بوب وليوباردي. وما يمتلكه بوليفار من خواص شعرية، يبدو أنها نابعة من هذه الحقيقة. وربما يكون صحيحاً أن حجم أنف كليوباترة لعب دوراً في التأثير على تاريخ البشرية. ولكن هذه الحقيقة لا تنطبق تماماً على الشعر المكتوب بالإسبانية، بحيث يقال إن الشعر الإسباني كان يقف عند نوتز دي آركه لو أن طول روبن داريو كان 190 سم. وما عدا كورتزار هل يمكن للمرء أن يتصور شاعراً طوله متران؟ فبايرون كان أعرجاً وكويفيدو كانت ساقاه مثل الرقم خمسة. إذاً فالشعرية لا تتحقق بالقفزات.
والآن لنعد إلى ما أردت الوصول إليه.
قبل أيام وقعت يداي على شروط الاشتراك في مسابقة الربيع لأمريكا الوسطى، التي تجري سنوياً في غواتيمالا منذ عام 1916. فإضافة إلى الأسعار والشكليات المعروفة في مثل هذه المسابقات الفنية، ضمت الشروط – على ما أعتقد لأول مرة وآمل أن تكون آخر مرة في العالم- مادة دفعتني إلى كتابة هذه السطور، على الرغم من أني لا أعرف كيف أضعها (المادة).
ففي النقطة (د) جاء في الفقرة المتعلقة بالنتاجات ما يلي: »يرجى ترتيب وإحكام تغليف كل عمل مع وضع اسم مستعار لصاحبه واسم العمل، ويكتب على ورقة منفصلة اسم المؤلف وعنوانه وتوقيعه وشيء موجز عن حياته مع صورة فوتوغرافية، أما بالنسبة للمشتركين في المسابقة الشعرية فيرجى منهم إضافة إلى ما تقدم أن يدونوا نصف طولهم بالضبط وبالسنتيمترات، كي يجري ترتيب ملكة مسابقات الربيع ومن يليها من الأتباع الفخريين حسب التسلسل«. لاحظوا يريدون الطول بالسنتيمترات!.
وأعود أفكر من جديد ببوب وليوباردي، اللذان يشتركان في شيء واحد، هو أنهما في ساعات الفجر الأولى من مهرجان الربيع يظلان يتقلبان أرقاً، لأن الناس بعد عودتهم من المهرجان –وهم يمرون تحت غرفتيهما- يملأون الفضاء ضحكاً وصخباً، مما يجعلهما يلعنان مهرجان الربيع.



اختيار

كافكا وبورخس هما أكبر فكاهييّن على الإطلاق. فكتاباهما »يا نصيب في بابل« و»المحكمة« ممتعان جداً من البداية حتى النهاية. ومن المؤكد أنكَ تتذكّر ما قاله ماكس برود من أن كافكا غصَّ بالضحك عندما قرأ بعضاً من روايته عما حدث للسيد ك. على أن الكتاب يترك لديك شعوراً مأساوياً. وأجد من المناسب التذكير بما حصل لـ»دون كيشوت«.. فالقراء الأوائل ضحكوا، أما الرومانسيون فراحوا يبكون مع القراءات الأولى، باستثناء المثقفين مثل دييغو كليمنسين، الذي كان يفرح فرحاً عظيماً عندما يجد عبارة صحيحة في مكانها عند السير سرفانتس. أما المعاصرون فلا يضحكون ولا يبكون حوله، لأنهم يفضلّون الضحك أو البكاء في عتمة السينما، ومَنْ يدري فقد يكون اختيارهم هذا في محله..



الإيجاز

غالباً ما أسمع مديحاً موجزاً، وأشعر بالسعادة للحظة عندما أسمع أن الخير يكون مضاعفاً إذا ما كان موجزاً.
ويتساءل هوارس في سخريته المعهودة، لماذا لا يرتضي الناس بأحوالهم، فالتاجر يحسد الجندي، والجندي يحسد التاجر. ألا تتذكرون ذلك؟
يقيناً أن الكاتب لا يرغب في كتابة نصوص مختصرة موجزة، بل أنه يفضّل كتابة نصوص طويلة لا نهاية لها، إذ لا يحتاج فيها الى تشغيل مُخيّلته.. فيترك الأحداث والأشياء والحيوانات والناس تتراكم فوق بعض، تلتقي أو تنفر من بعضها، تعيش سوية تحب بعضها أو تسفك دم بعضها البعض، دون أن ينتبه إلى نقطة أو فاصلة أو علامة استفهام..
في ضوء هذه النقطة الهامة (الإيجاز) يتعيّن عليّ أن أحب وأكره وأحترم..


المحتوى

5 عوضاً عن المقدمة ….…………………………….
13 السيد تايلر ………...…………………………….
22 السمفونية الكاملة …….………………………….
25 الكسوف ……………...………………………….
27 الديناصور …….……...………………………….
28 الكونسرت ….………...………………………….
33 العيد المئوي …….……….……………………….
36 مبايعة دايلن توماس …………...………………….
40 الخروف الأسود …………...……….…………….
41 الإيمان والجبال …….…………………………….
42 الصرصار معلماً ………………………………….
43 حلمُ جُعَل ………..……………………………….
44 مونولوج الشر …………………………………….
45 الستة الآخرون ……………..…………………….
46 حكاية الضفدع الذي أراد أن يكون حقيقياً ……....…
47 الكاثوليكي النادم ……………………...………….
48 الضمير المرتاح ……..…………………………….
49 الصاعقة التي ضربت مكاناً مرتين ……………..….
50 الكلب الذي أراد أن يكون إنساناً …….…………….
51 خنزير من قطيع أبيقور ….…………….………….
53 مونولوج الخير …..…….………………………….
54 كيف يتصور الحصان الله ……….……………..….
55 شمشون والفلستر ……..………………………….
56 الجنة الناقصة …………..……………………….
57 غَزْلْ بنلوبه أو مَنْ يتحايل على مَنْ …………………
59 الغربان …………….…………………………….
60 الأعمال الكاملة أو الثعلب هو الأكثر مكراً ……...…..
62 الذباب ……………….………………………….
65 أيها القناع الصغير، أعرفك جيداً …………………
66 سيناريو منفرد ….….…………………………….
67 شك ………….………………………………….
71 كيف تحرّرت من خمسمائة كتاب ……….………….
77 الفردوس …………….……………………….….
81 شيء ممكن الحدوث …………….….…………….
82 الحياة مع الآخرين …………...…..……………….
83 القامة والشعر …………….…..………………….
87 اختيار …………….…….……………………….
88 الإيجاز ……………….………………………….


صدر عن دار كنعان 2000 – 2001 – 2002 – 2003 – 2004 – 2005
المؤلف / المترجم عنوان الكتاب م
جان جنيه شعرية التمرد 1
مجموعة باحثين قضايا وشهادات / سعد الله ونوس »نافذ« 2
خالد آغة القلعة السيرة المفتوحة للنصوص المغلقة ج1 + ج2 + ج3 3
إسماعيل الرفاعي ياءٌ.. وعد على شفة مغلقة »نافذ« 4
كلود ليفي شتراوس من قريب من بعيد 5
يورام كانيوك اعترافات عربي طيب 6
إعداد مصطفى الولي شرك الدم 7
وفيق خنسة قصيدة هيروشيما 8
محمد صارم مواعيد »نافذ« 9
علي الكردي موكب البط البري »نافذ« 10
ظافر بن خضراء إسرائيل وحرب المياه القادمة »نافذ« 11
هنادي زرقة على غفلةٍ من يديك »نافذ« 12
سيرغي كوفالوف سيكلوجية الحب والعلاقات الأسرية 13
علي الجلاوي دلمونيات 14
سوسن دهنيم قبلة في مهب النسيان 15
نجيب عوض طقوس حافية 16
نبيل السهلي اللاجئون الفلسطينيون في سورية ولبنان »نافذ« 17
تيري ميسان الخديعة المرعبة »نافذ« 18
آلان سيلتو الجنرال 19
بيير بورديو العقلانية العملية 20
جان بوتيرو بابل والكتاب المقدس 21
نك يانغ الرقص مع الذئاب 22
محمد سيف البحث عن السيد جلجامش 23
ممدوح عدوان وعليك تتكئ الحياة »نافذ« 24
د.محمد حافظ يعقوب بيان ضد الأبارتايد 25
يوسف سامي اليوسف القيمة والمعيار 26
عماد شعيبي من دولة الإكراه إلى الديمقراطية 27
إدوارد سعيد القلم والسيف 28
مكسيم رودنسون بين الإسلام والغرب 29
نورمان ج. فنكلستين صعود وأفول فلسطين 30
ت.د.علي نجيب إبراهيم ومض الأعماق 31
أمين الزاوي رائحة الأنثى 32
بيير بورديو بؤس العالم (ثلاثة أجزاء) 33
د. برهان زريق المرأة في الإسلام 34
يوسف سامي اليوسف الخيال والحرية 35
ممدوح عدوان ساعي البريد 36
فواز حداد الضغينة والهوى 37
فيدريكو فيلليني جنجر وفريد 38
ماهر منزلجي التباس »نافذ« 39
محمد القيسي الدُعابة المرة 40
محمد توفيق محطات الانتظار »نافذ« 41
برتولد بريشت حوارات المنفيين 42
إلياس شوفاني بوح في المتاح 43
عمانوئيل فاليرشتاين استمرارية التاريخ 44
أنيسة عبود باب الحَيْرة 45
يوسف سامي اليوسف مقال في الرواية 46
د. علي نجيب إبراهيم جماليات اللفظة 47
فجر يعقوب عباس كياروستامي / فاكهة السينما الممنوعة 48
د. ماهر منزلجي متى يصبح الإنسان شجرة 49
غزالة درويش شتاء البحر »نافذ« 50
غزالة درويش زمن يحترق »نافذ« 51
تيسير قبعة عام مضى والانتفاضة تتجذر »نافذ« 52
ظافر بن خضراء سورية واللاجئون الفلسطينيون 53
سربست نبي كارل ماركس »نافذ« 54
صبري هاشم جزيرة الهدهد 55
يحيى علوان همس / الجثة لا تسبح ضد التيار 56
صبري هاشم أطياف الندى 57
خيري الذهبي التدريب على الرعب »نافذ« 58
مازن النقيب الحصار 59
جواد الأسدي نساء في الحرب 60
جواد الأسدي فلامنكو البحث عن كارمن 61
جواد الأسدي آلام ناهدة الرمّاح 62
كلود ليفي شتراوس مداريات حزينة 63
جاك رنسيير الكلمة الخرساء 64
رفيق عنيني صفر واحد 65
الفارس الذهبي الريح والملح 66
فجر يعقوب الوجه السابع للنرد 67
د. ماهر منزلجي عالم مختلف 68
طه حسين حسن اليوم الأخير لبيت دمشقي 69
بيير شونو الحضارة الأوروبية في عصر الأنوار 70
عائشة أرناؤوط حنين العناصر »نافذ« 71
عمر كوش الاتجاهات النقدية الحديثة 72
د. عماد فوزي شعيبي السياسة الأمريكية وصياغة العالم الجديد 73
فراس سليمان امرأة.. مرآتها صياد أعزل »نافذ« 74
سهيل بدور مرايا الرماد »نافذ« 75
بهيجة مصري ادلبي الغاوي 76
د. محمد الدروبي عشاق الدير 77
ت. إسماعيل دبج حمار المسيح 78
محمد خميس تراتيل القيثارة »نافذ« 79
أفلاطون هيبياس الأكبر 80
وليد إخلاصي سمعت صوتاً هاتفاً 81
محمد منصور فيروز والفن الرحباني 82
محمد عبيدو السينما الصهيونية شاشة للتضليل 83
بروتولت بريشت درامية التغيير 84
محمد ملص الليل 85
د. عبد السلام نور الدين الحقيقة والشريعة في الفكر الصوفي 86
د. ماهر منزلجي تصفيق بيد واحدة 87
د. محمد الدروبي وعي السلوك 88
عدنان مدانات تحولات السينما البديلة 89
سمير طحان أرواح تائهة / القناع في الطباع 90
يوسف سامي اليوسف رعشة المأساة »مقالات في أدب غسان كنفاني« 91
بيير بورديو التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول 92
فخري صالح النقد والمجتمع 93
إيله شوحاط ذكريات ممنوعة 94
تيسير خلف عجوز البحيرة 95
ماهر اليوسفي الزهرة والحجر 96
فتحية القلا أشياء لا تُشترى 97
جبارة البرغوثي المرأة.. الحب والجنس 98
عصام حسن هيك وهيك 99
كبير مصطفى عمي اقتسام العالم 100
بهية مارديني للحب رائحة الخبز 101
ميادة لبابيدي عطش الرغبة 102
جبارة البرغوثي أتباع الشيطان 103
كونت هامسن بينوني 104
خالد آغة القلعة السيرة المفتوحة للنصوص المغلقة ج4 105
جاستون باشلار النار / التحليل النفسي لأحلام اليقظة 106
نهاد سيريس خان الحرير 107
آلان مينازغ جدار شارون 108
جاك دريدا+اليزابيث رودينيسكو ماذا عن غد؟.. »قيد الطباعة« 109
أديب ديمتري نفي العقل ج1-عصر الفاشيات وهزيمة العقل»قيد الطباعة« 110
أديب ديمتري نفي العقل ج2-جذور العرقية وأسطورة الجنس المتفوق »قيد الطباعة« 111
د. محمد الدروبي محنة البيت القديم »قيد الطباعة« 112
د. محمد الدروبي حكواتي، ليس إلا »قيد الطباعة« 113
مازن النقيب النازيون الجدد »قيد الطباعة« 114
صبري هاشم حديث الكمأة »قيد الطباعة« 115
تيسير خلف الجولان في مصادر التأريخ العربي »قيد الطباعة« 116



#يحيى_علوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب - همس - الجثة لاتسبح ضد التيار
- مونولوج لابنِ الجبابرة *
- لِلعَتمَةِ ذُبالَتي !
- حَسَدْ
- شمعةُ أُمي ، دَمعةُ أَبي
- يوغا
- هاجِرْ
- مَنْ نحنُ ؟!
- نُثار (5)
- شبَّاك
- سلاماً أيُها الأَرَقُ
- نُثار ( 4 )
- أَسئلةٌ حَيْرى
- نُثار ( 3 )
- نُثار ( 2 )
- نُثار ( 1 )
- ...ومن العشقِ ما قَتَلْ
- شذراتٌ من دفاترَ ضاعت / عفريتٌ من جنِّ سُليمان !
- من دون عنوان
- ما هو !


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - كتاب - أَيها القناع الصغير، أَعرِفُكَ جيداً -