أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل















المزيد.....

الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3145 - 2010 / 10 / 5 - 23:44
المحور: الادب والفن
    


النبات، كأيّ كائن آخر في عالمِنا، مَحكومٌ بالبقاء والفناء.
أحياناً، تكونُ الزهرَة في المنزل أنيساً لصاحبها؛ مثلما هيَ الهرّة، مثلاً. أن يتغرّبَ الإنسانُ عن بني جنسه، ليَجدَ في الحيوان ملاذاً لروحه، فهذا لا جديد فيه. وليسَ أكثر جدّة، في الواقع، أن يكونَ النباتُ أيضاً على الصّفة نفسها. إنّ الكلبَ، المؤلّفَ مَنزلياً، مَعروفٌ بخصلة الوَفاء لصاحبه. ولكنّ الزهرَة كذلك، عندها شعورٌ باليَد التي ترعاها: ألا يُقال، عادة ً، أنّ فلاناً من الناس " يَدُهُ خضراء "..؟
والدُنا، كانَ لديه هذه اليَد. إنّ حديقة الدار، التي طواها على قلبه زهرَة ً زهرَة، ما تفتأ مُعرّفة في الحارَة باسمه؛ " جنينة جميل ". أغراسُ النرجس، الزاهيَة بلونيْها الأبيض والأصفر، ما زالت أيضاً تنبثقُ كلّ ربيع من تربَة أبينا؛ ثمّة، في مَقبرة المسلمين في مدينة " أوبسالا "، السويديّة. وربّما كانَ الوالدُ، قبيلَ وفاته، يُكرّر قولَ جدّ أجداده، المَدفون في الشام: " لِمَ عليّ، أنا وَحدي من جميع الأهل، أن أدفنَ في أرض ٍ غريبَة؟ ".
دزينة من الأجيال، كاملة العدَد، فتحَتْ عيونها في منزل " الحاج حسين "؛ مُذ فترَة إشادَته في مُنتصف القرن التاسع عشر. والآنَ، في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فإنّ بقاءَ بيتنا وَحيداً، وَسط العمارات الإسمنتيّة، لهوَ من علامات القيوميّة في نظر أصحابه، على الأقل. خلودُ الأثر، يُحال غالباً لأسطورةٍ ما. ولكنّ هذا، حَديثٌ آخر.
" بيتنا "، مُفردَة عريضة، في الحقيقة. لأنّ منزل الجدّ الأول، المَوْسوم، كانَ قد قسّمَ بينَ والدي واثنين من أشقائه. مُبتدأ الأمر، هوَ حلول عروس، فتيّة، في منزل كانَ مَحكوماً، نسائياً، بقبضة من حديد: إنها أمّنا، ذات الستة عشر عاماً، مَن وَجَدَتْ نفسها أمامَ " آموجنيْ "؛ زوجة عمّنا، الكبير. عدا عن تنكيد " مزيّن "، زوجة العمّ الآخر، الذي يَكبر والدنا مباشرَة . الأمّ، العروس، كانت عندئذ مثل حَمَل وَديع بمُواجهَة ضبع ضاريَة وثعلب خبيثة.

عدّادُ الكهرباء، كانَ في حِرْز " آموجني "، الشّحيحَة المُقترَة.
كانت تطلقُ التيارَ متى شاءَ مَزاجُها الرَخيّ، أو تمنعه لو تعكّرَ. عمّنا الكبير، في تبريره أفعال امرأته، اللئيمة، كانَ يلقي باللوم على شقيقته الصغرى، الأرملة: " إنها تفتح جهاز المذياع على أعلى صوت، حتى تحمرّ سِحْنتهُ "، يقولها لأخيه الأصغر بغضب. وحينما أشدّدُ على مَقام أبي بين أخوَيْه، المَذكورَيْن، فعليّ التنويه أيضاً بكون شقيقهم، الأكبر، بعيداً عن تلكَ الوقائع؛ بما أنه يَملكُ بيتاً خاصاً فيه، سبقَ ومَنحه إياه والده.
" مزيّن "، العاقر، كانت هناكَ إذاً. إنّ مَرأى بطن أمنا، المُتكوّر بحَمْلها الأول، كانَ كفيلاً بإشعال جَذوَة داخلها المُحتقن. في ذلك الوَقت، كانَ لبئر البيت ضرورة وبالرغم من وُجود أنبوب ماء عين " الفيجة "، الحكوميّ. غلاء تسعيرَة المتر المُكعّب من الماء، العذب، جعلَ الناس يَعتمدونَ على مياه الآبار في التنظيف والجَلي وسَقي الأحواض.
بئرُ بيتنا، كانَ إذاك قائماً في الطرَف القصيّ، المُحاذي للباب الخارجيّ. في طفولتنا، كانَ ثمّة فتحة في جدار الدهليز، تفضي إلى ذلك البئر. وقد سُدّتْ الفتحَة، نهائياً، بعدما امتلأ البئر بالأتربَة المُتخلّفة عن عمارَة المنزل، المُستحدَثة. ولكننا ما نفتأ في زمن الأمّ، العروس.إنها هناك، بالقرب من مُعين الماء، مُجدّة في سَحب الدّلو. فما أن تنتهي من إفراغ الماء في طشت الغسيل، حتى تكونُ سلفتها " مزيّن " فوقَ رأسها. عندئذ، تتناولُ هذه الثعلبُ الطشتَ بهدوء ثمّ تمضي به إلى جهة حجرَتها، حتى بدون أن تشكرَ الأمّ، المسكينة.
عند ذلك، تدخلَ الجَدّ الوَجيه، المُعتبَرُ المَقام. إنه والدُ أمّنا، مَن اصطحبَها ذات يوم إلى منزله، بُعيدَ ولادة بكرها، المؤنث. ثمّة، في دار الجدّ، الكبيرَة، وُلدَتْ بعدَ عام آخر شقيقتنا، الشقراء. الدار، كانت تقع في الزقاق المُجاور، " آلرشي "ـ كمَوْقع الجَوْهَرَة داخل حقّ مخمليّ. ليسَ المَجازُ حَسْب، من كانَ يُبيح الغلوّ في تثمين تلك الدار. فإنّ والدتي، في وَقت مُتأخر من زمننا، أشارَتْ إلى منزل حميها باعتباره " بيت الشحاذين ". وبالرغم من أنها كانت إذاك تعقدُ مُقارنة ً مع دار أبيها؛ إلا أنّ رجلها، الحاضر، ردّ باستياء: " هلاّ، هلاّ. أكانَ والدُكِ هوَ زعيم الحيّ، أم والدي؟ ". هذا الأخير، على كلّ حال، ما زالَ بيته شامخاً بأحجاره، الأولى، يَتحدى العَوارضَ والمِحَن. أما بيت الآخر، فإنّ بناءً إسمنتياً حديثاً، من عدّة أدوار، قد نهضَ ثمّة في مكانه.
منزل جدّي لأمّي، كانَ قد آلَ إلى شقيقته، الوَحيدَة، المُستأثرَة به بأساليب الإخبات والمَكر والقرصنة. هذه المَرأة، المُعاكسَة تماماً لخصال أخيها الكريمَة، قامتْ من فورها بمَحي اثرَ الحديقة تماماً؛ أحواضاً وأزهاراً وأشجاراً وعرائشَ. فعلتْ ذلك، لكي تشيد حجرات صغيرَة، ضيّقة، سيشغلها لاحقاً المُستأجرون، الغرباء، القادمون من أرياف الساحل والداخل.

وعلى الأرجح، فإنّ وَلعَ والدنا بالأزهار، إنما جدّ هناك في منزل حميه.
إذ كانَ الجدّ مُتولهاً بحديقته، مانحاً إياها جلّ أوقات الراحَة، المُتاحَة. في المنظرَة، المُحَوّطة بمُختلف أصناف الأزاهير، والمُظللة بالأشجار المُثمرة والتعريشات النادرَة، كانَ الجَدّ الجَوادُ، السخيّ حدّ التهوّر، يَجمع خلانه حولَ أقداح الرّاح وبصُحبَة ضافيَة من صوت كوكب الشرق، الساحر. سهرَة الخميس، من كلّ أول شهر، كانت مَنذورَة لحفل " أمّ كلثوم "، المَبثوث مُباشرَة ً عبْرَ أثير الإذاعة المصريّة. أما مَطبخ الدار، العامر، فكانَ مَشغولاً آنذاك بنساء الجدّ، الثلاث، المُنهمكات في تحضير الوليمة؛ من مُقبلات وشواء وطبيخ وفاكهة وحلوى ونقل.
عندما يُقرّر المَرءُ تحقيق غايَةٍ ما، ساميَة، فإنّ الحَظ يكونُ أحياناً وَليّاً، مُبارَكاً. كذلكَ كانَ حالُ والدنا، حينما فاتحَ أخوَيْه بفكرَة تقسيم البيت، الكبير. إذ كانَ نصيبُهُ، بَحَسَب القرْعَة، صَدْرَ الدار الأوسَع مَساحة ً. ولا بدّ أنّ زوجَ " آموجني "، ذا العينيْن الزرق المُتألقتيْن بالخبث، قد سَخرَ من حظ شقيقه، الأصغر؛ طالما أنّ نصيب هذا من حجرات المنزل كانَ قليلاً. الأبّ سيُبادرُ من ساعته لكي يجعلها حديقة ً، مُتناسقة، تلكَ المَساحَة المُقتطعة له من الدار، الكبيرَة: خطط المكانَ، المُستطيلَ الشكل، ليكونَ مَدخراً لأصص أزهاره المُستزرعة في الأحواض أو في الجرار الفخاريّة وغيرها من الأوعيَة المُناسبة. عند ذلك، دبّ شعورٌ آخر في عروق العمّ، فما كانَ منه إلا أن قدِمَ مُتباكياً.
" يا أخي، أحتاجُ لبضعة أمتار من أرضكَ "، قالها لأبينا وهوَ يُشير بعينيْه، المَغلولتيْن بالحَسَد والغلّ، إلى الحديقة المُزدهرَة. إذاك، مُنِحَ العمّ، الجَشِعُ، الحوضَ المُستطيل، المُستزرع بأشجار اللوز، فأشادَ على أنقاضه حجرَتيْن للنوم، إضافيتيْن، فضلاً عن إيوان لراحَة مزاج ستّ الحُسْن. من جهته، كانَ والدي يُردّدُ بأسف في كلّ مرّة يَستعيدُ فيها الواقعة: " أشجار اللوز؛ كانت أشجاراً رائعة بحقّ ".

بيْدَ أنّ أشجاراً أخرى، مُثمرَة، ستبقى ثمّة راسخة، مُتجذرَة.
أحواضٌ أربعة، كبيرَة ومُربّعة، كانت تشكل مُعظم مساحة الحديقة. الممشى الرئيس، المُصالب، عليه كانَ أن يفضي إلى المماشي الثانويّة، المُطوقة المكان المُستطيل الشكل. الأشجار، كانت موزعة بشكل هندسيّ، مُنتظم: إلى يمين الدّرج العريض، المؤدي من أرض الديار إلى الجنينة، كان ثمة حوضٌ ضيّق مُحتفٍ بشجرَة كرز قصيرَة القامة، مُتجاورَة مع شجيْرَة دفلى. في الطرَف الآخر، الأيسَر، تنهضُ من حوضها المُستدير شجرَةُ زيتون، خالدة الخضرَة، تهمي بفروعها على شجيرَة تاج النار، ذات الأزهار الدقيقة والحرّيفة المَشام.
في الحوض الأول، من الأحواض الأربعة الكبيرة، تقومُ شجرتا دراق، مَركونتان خلف بعضهما البعض، فيما شجيرَة كرمنتينا تكمّل معهما شكلَ المثلث المتساوي الأضلاع. الحوض المُقابل، يشغله مثلث آخر، من شجيرتا نخيل أفرنجي وليمون حلو إلى شجرَة أكيدنيا. في مَحلّ النخلة تلك، ذات الزهرَة العجيبة، الأحديّة والبيضاء اللون، كانَ هناك شجرَة توت عملاقة، مُطعّمَة بنوعَيْن؛ أبيض وشامي.
الحَوضيْن، التالييْن، كانا مبذوليْن لأشجار ثلاثة من الرّمان، المُختلفة المذاق، علاوة على شجيرات حمضيات وتفاح وتين. الأخيرتان، أجتثهما والدنا المَلول على أزهاره، الأثيرَة، كما فعل قبلا بشجرة التوت. سعياً لتوفير مَزيدٍ من الضوء والشمس لأزهاره، كانَ الأبّ يهمّ باقتلاع شجرة الأكيْ دنيا، لولا أنّ امرأته كادَتْ أن تقيمَ الدنيا.
أمواجٌ من الزهور والورود والرياحين، كانت تتقلّب بفعل نسيم الربيع في يمّ الحديقة، المُشتعل بألوان مُقيمَة ومُستحيلة. لكلّ آونة مَوجتها، المُتوَحّدة: إذاك، كنتُ أراني مَشدوهاً بأغراس " فم السمكة "، الطويلة الأعناق، والمُختلفة التلاوين. إنها زهرتي، المُفضلة. مَوجة أخرى، على الأثر، تحملُ أريجَ الورد الجوري والدمشقي والبلدي. إلى شقيقة لهما، تطيّش لبّ الأبّ، الملول، مُحمّلة بأغراس الزهرة ذات النعت المحلّي، الطريف؛ " شمّر سيقانه ". أمّا الأمّ، فإنّ " البوكسيا "، ذات الرّسم الشبيه بنجمَة البحر، كانت هيَ زهرتها الأثيرَة.

مُنِحَ والدنا تعويضاً ماليّاً، جيّداً، بُعيدَ إنهائه فترَة الاحتراف العسكريّ.
عندئذ، ألحّتْ عليه الأمّ، الحامل بابنتها الثالثة، للمُبادرَة بتبليط أرض الديار. ثمّة، كانت يَقوم دقرانُ الكرمَة، الكريمَة، المُحمّلة عادة ً بالعنب الأحمر. تحتها، إلى اليمين كانت تعريشة ياسمين، تتألق بنجيماتها ذات العبق الأخاذ. وإلى اليسار، كانت تقوم تلك التعريشة، المَنعوتة أيضاً باسم شاميّ، طريف؛ " مَجنونة ". وحينما سألتُ والدتي طفلاً عن مَغزى النعت، فإنها أجابتني بمَرَح: " ألا ترى أوراقها كيف تجنّ، مُتحوّلة من الأخضر إلى الأحمر أو الأصفر أو الأبيض أو النهدي..؟ ".
الفاعل، الذي قدِمَ لإنجاز تلك المُهمّة، كانَ من آل " لحّو "؛ أقربائنا، البعيدين، الطلقاء من دينهم الأوّل، النصرانيّ. عَرَضَ الرّجلُ على الوالديْن نوعَيْن من البلاط، أحدهما أبيض مُعرّق بالسواد، فيما الآخر أحمر مُعشق بالأبيض. الأمّ، فضلتْ الأول. بينما رجلها ، الشيوعيّ العقيدَة، عليه كانَ ولا غرو أن يَختارَ لونَ الثورَة والدّم. بدَورها، بَقيتْ والدتنا تعاتب الأبّ بسبب إصراره على ذلكَ اللون، الذي أبلط فيه أرض الديار.
وعلى أيّ حال، فإنّ وفرَة قطع البلاط، المُتبقيَة، حفزتْ والدنا لكي يُباشر ببناء مَنظرَة الحديقة. ابتدأ أولاً بتبليط المَمشى ذاك، الواسع نوعاً، والموصل الدرَجَ بصَدر الحديقة؛ أين مَوقع المَنظرة، المُفترَض. بعد ذلك، رفعَ عدّة أعمدة، خشبيّة، على جانب الممشى، المُحاذي للأحواض. ثمّ ثبّتَ بالعرض أعمدَة أخرى، أقصر، لكي تكون بمثابة القاعدَة لألواح الزنك، العازلة. ثمّة، في مكان المنظرة، المُبلط الأرضيّة، وُضِعَتْ أريكتان خشبيتان بمُحاذاة الحائطيْن المُكوّنيْن زاويَة الجانب الأيسر من الحديقة. أعواد القصب، الرفيعة والبراقة، تمّ إلصاقها بالأعمدة الخشبية تلك. وفضلاً عن كون الأعواد سوراً رقيقاً يُضافرَ من جمال المَنظرة، فإنها كانت تتيح أيضاً للجالسين هناك التمتع برؤيَة مناظر الحديقة، الدانيَة.

عند أعتاب سنّ المُراهقة، كانت جنينة المنزل هيَ جنة توحّدي وعزلتي.
آنذاك، وكنتُ أعيدُ امتحان شهادة الإعداديّة للمرّة الثانيَة، اعتدّتُ على صُحْبَة الزهور والورود والخمائل. قبلاً، في طفولتي، كانَ شغفي مَحصوراً بالطيور والزيزان والنحل والنمل. هؤلاء الأخيرين، كانوا عندئذ مَحط اهتمامي؛ همُ المُجتهدون صيفا في لمّ رزقهم من هنا وهناك. طوابيرهم، كانت تعترضها أحياناً العصا الشقيّة، المُعابثة، مما كانَ يُجبرهم على اتخاذ الطريق المُحدّد من قبلي. أما الطيور، فمُجرّد تساقط أحدها من بين ذراعيْ الأمّ الشجرَة، الثكلى، كانَ كافياً لتشييعه بجلال إلى حفرَة في تلّ المَجد، المُعتلي جبّ المرحاض القديم، المَطمور بالتراب والأحجار. هذا التلّ، كانَ يَقوم ثمّة عند الزاويَة اليسرى من صَدْر الحديقة، والمُحتفي بشجيرَة " الملّيسَة "؛ التي كانت بالمُقابل الأمّ الرّءوم للمَرضى في داخل المنزل وخارجه. أوراق شجيرة الليمون الحلو كانَ لها، أيضاً، صفة العلاج نفسها.
أما علاج سَقمي، فما كانَ سوى صوتُ " أمّ كلثوم ". ظهراً، كانت إحدى الإذاعات العربيّة تبث أغنيّة لكوكب الشرق. إنه وقتُ القيلولة، بطبيعة الحال. الأبّ، المُستعدّ للتوجّه لعمله عند العصر، كانَ يغفو سويعَتيْن في تلك الفترَة. عندئذ، وكنتُ المُهيمن على شؤون الحديقة، ما ألبث أن أجلب جهاز المذياع لكي أتمتع بصوت مَعبودة الطرَب، الأصيل. مساءً، وكانت إذاعة " تل أبيب "، العربية، تتحفُ مستمعيها بشدو مُطربتنا؛ فإنني نادراً ما أكونُ وَحيداً: صديقي " آدم "، هوَ مَن كانَ له الفضل في تقرّبي من صوت كوكب الشرق. هناك، في عليّة منزله، وفي ساعة " أمّ كلثوم "، اليوميّة، غالباً ما كنا نجتمع معاً حولَ جهاز المذياع. قريبته، " نجلاء "، كانت أنيسي ليلا عندما يَتصاعد الصوتُ المُعجز من إذاعة " بغداد ". جدارٌ ترابيّ، عتيق القِدَم، يَفصلُ حجرَتيْنا. وكنتُ أشعرُ توهّماً بأنفاس حسناء الحارَة، العَطِرَة؛ هيَ المُفترَض أنها تشاركني في التلاشي بغيبوبَة عَذبَة، مُتأثرَة سريانَ الصوت المُخدّر في العروق الظمأى، المُتعطشة.

الأبّ، كانت له حكايَة طريفة مع " أمّ كلثوم ".
في فترَة الخمسينات، ما كانت الصينُ " دولة مارقة " بعدُ، في نظر الشيوعيين. وإذاً، دَبّرَ والدنا وظيفة مُراقب في الجناح الصيني بمعرض دمشق الدولي. ثمّة، في أمسيَةٍ صيفيّة، حَلّ كوكبُ الشرق في ضيافة نجوم بيرق العرق الأصفر، الحمراء. أقبَلتْ المُطربَة المصريّة عندئذ، مُحاطة بجمهرَة كبيرَة من المسئولين والمُعجبين. أثناءَ مرورها بالقسم ذاته، المُتواجد فيه والدنا، لفتَ نظرَ " أمّ كلثوم " مَرْوَحَة ُ يَد، كلاسيكيّة، عليها نقوش مُذهّبة رائعة. فما كانَ من الضيفة سوى انتشال ذاك الغرَض، والتلويح به في حرَكة تعبّر عن الشعور بالقيظ. حرَكتها، لاقتْ بهجَة الحاضرين ومَرَحهم. أما وقد مَضتْ المُطربة في طريقها إلى خارج القسم، فإنّ رئيسه امتقع وجهه بشدّة.
" أرجوك، رفيق، تلك المروحة أثرٌ أنتيكي لا يُقدّر بثمَن. والله سيعدمونني، لو لم يُعاد إلى الصين "، خاطبَ الرّجلُ والدنا بعربيّته العسرَة وبنبرَة توسّل. عند ذلك، بادرَ " الرفيق " إلى الهروع بأثر المُطربَة، المصريّة. هذه، استغربَتْ ولا غرو من اعتراض الأبّ لها، فيما كانَ يُشير للمروحَة التي في يَدها. وعندما أفهمَ المُطربَة بكلمة، مُقتضبَة، حقيقة َ الوَضع، فإنها تنازلتْ عن التحفة مُتبسّمة، في آن، بتسامُح وحَرَج.
" صورة أمّ كلثوم، عن قرب، مُنفرة جداً "، كانَ الأبّ قد أكّد لامرأته ذات يوم. ولا أدري، أهيَ كذلكَ حقا، أم أنّ الرّجلَ كانَ يُقارن دونما شعور بينها وبين زوجته، الجميلة؟
بأيّ حال، فإنني بنفسي، ودونما شعور أيضاً، كنتُ مُتآلفا مع استدعاء صورَة " مديحة يسري " بمحلّ صورة كوكب الشرق، عندما أنصتُ لأغانيها.
عادَة الإعجاب بصوت " أمّ كلثوم "، كانت غريبة عن أوساط الشباب الشيوعي. إنّ " فيروز "، صاحبَة الصوت الملائكي، هيَ من كانت آنذاك تستأثر على وَله شبابنا. والدي، من جهته، كانَ يَمحضُ كوكب الشرق مُقتاً مُستطيراً. ليسَ بداعي الواقعة تلك، المَوْصوفة، أو لأنه كانَ مُلتزماً عقائدياً: إنّ مُجرّد كون " أم كلثوم " مصريّة، كان كفيلاً بنفوره منها: عبد الناصر، وفترَة الوَحدة، كانا سبباً أساساً في توجّه سهم كراهيَة والدنا إلى الكوكب المُعتلي صَدْر السماء.
أما شغف الأبّ بصوت " فيروز "، فله حكايَة جذور لا علاقة لها بجذور أشجار جنينته، الجميلة. لقد كانَ يَجزم، مُحيلاً لمعلومات شخصيّة، أنّ المُطربة اللبنانيّة، الأشهر، من أصل كرديّ. مَصدر معلوماته، كانَ أحد المُتنوّرين الآشوريين، من أصدقاء الأمير " جلادت بدرخان ". والدتي، كانت مُعتادَة على مُقاطعة رجلها بالجُملة عينها، المُفحِمَة: " ياو، مالكْ غاوره " ( أيْ: إنّ المرأة مسيحيّة ). تمرّ السنوات، وإذا بالصديق الشاعر، الأب " يوسف سعيد "، يتكلّم معي ذات مرّة هاتفياً. فما أن علٍمَ أنّ أصل أسلافي من منطقة جبال " مازيداغ "، حتى قال لي ببساطة: " هل تعرف، إنّ أصل المطربة فيروز من تلك النواحي. لقد كنتُ في منزلها في فترة الستينات، وأكّدتْ هيَ أنّ والدَيْها كانا يُجيدان الكرديّة ". ولا بدّ أنني فكّرتُ عندئذ، مُتفكهًاً، بأنّ " فيروز " ربما تكون من فرع " لحو "؛ أقاربنا في العشيرَة ذاتها، والمعتنقين الإسلام في فترَة متأخرَة من العهد العثماني.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأوانس والجَواري 5
- الأوانس والجَواري 4
- الأوانس والجَواري 3
- الأوانس والجَواري 2
- ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
- المُتسكعون والمَجانين 4
- المُتسكعون والمَجانين 3
- المُتسكعون والمَجانين 2
- ثمرَة الشرّ: المُتسكعون والمَجانين
- القبلة ، القلب 5
- القبلة ، القلب 4
- القبلة ، القلب 3
- القبلة ، القلب 2
- الأولى والآخرة : الخاتمة
- الأولى والآخرة : مَزهر 13
- الأولى والآخرة : مَزهر 12
- الأولى والآخرة : مَزهر 11
- الأولى والآخرة : مَزهر 10
- الأولى والآخرة : مَزهر 9
- الأولى والآخرة : مَزهر 8


المزيد.....




- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل