أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - روية جفاف الحلق -7 -















المزيد.....

روية جفاف الحلق -7 -


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2928 - 2010 / 2 / 26 - 03:29
المحور: الادب والفن
    



- 7 -

الجمل الحيوان العالي، تنقصع رقابنا لتحط أبصارنا على رأسه الصغير المعلق في الهواء، يلوك دوماً، شفته العليا مشقوقة تنفرج عن قواطعه وأنيابه الطويلة الصفراء، يأكل ضلوع "الصبر" وأوراق أشجار الغيلانا بأشواكها الإبرية، لا يحس بالبدوي الجالس على سنامه يبهرنا بأرجله الرفيعة الطويلة.. هذا الجمل تسمر بين قضبان السكة الحديد، لا يستجيب لصاحبه الذي قفزعن ظهره، طار في الهواء وسقط على الأرض فوق الدبش والحجارة حول سكة القطار.. يشد الرسن هلعاً.. يستغيث مبهوظاً من عناد الحيوان، غاضب يهوي بعصا المذراه على قوائم الحيوان وفخذيه وأسفل بطنه، صفير قطار الشحن يعوي، وعشرات الرجال يسحبون حبل الرسن مع البدوي دون جدوى.. يقذفون الجمل بالطوب وحجارة الزلط المسنونة وما وقع في أيديهم من قطع حديد وكتل خشب.. يهجم القطار، غول حديدي يجرف الحيوان ،يطويه، ويحبس الأنفاس في الحلوق.. وتمضغ العربات المقطورة اللحم الذي كان حياً..
كيف حدث ذلك، ولماذا أخذ الجمل قراره بالإنتحار ونفذه ؟ ومضى الى حتفه لم تصدر عنه صرخة، ولا حتى زومة متأفف.. هل صام على غله وأفطر على راحة أبدية وحسرة في قلب صاحبه؟ يقولون أن الجمل يصوم على حقده، يتناسى ولا ينسى، يكره الأسى والخديعة ولسان حاله يقول (عمر الأسى ما انتسى وانتو أساكوا زاد..) كما تردد خالتي أم بشير عندما تأتي على سيرة الظالمين والمظلومين، ويقولون إن الجمل عندما يقرر يهبش خصمه بأنيابه يرفعه ويلوح به في الهواء ثم يطرحه بعيداً ويقف بجانبه، وإذا نهض من سقطته أو صرخ فإنه يعضه في أحشائه أو يضغط بخفة على لوح صدره، والبدوي يخشى عضة الجمل (إذا جار عليه أو خايلته رعونة الآدمي) مهما امتدت العشرة وطال مشوار الرحلة.. فالجمل يصوم ويؤول الأسى إلى حقد مخزون يفيض في يوم معلوم، والبدوي هَبر جسم الجمل ضرباً ونخزاً ولم يزحزحه من بين القضبان، قدم له كل أسباب الهياج والانتقام.. هل هو الخوف من غول الحديد الذي ينفث سواداً نارياً, أم هو اهتزاز الأرض من تحته أفقده توازنه، وقتل فيه فعل الغرائز فاستسلم وانتحر ؟..فالجمال تصوم وتموت غيظاً…
على عادتنا بكرنا إلى المدرسة قبل موعد القطار، وتجولنا بين البسطات حول بوابة المدرسة، قلمنا أظافرنا عند الحلاقين المنتشرين على سور المقبرة، وتفرجنا على سحناتنا في مراياهم، وتابعنا تجليخ أمواس الحلاقة على السيور الجلدية.. فنحن زبائنهم نقايض على شعرنا بنصف رغيف إذا حلقنا رؤوسنا على الصفر, أو برغيف كامل أو ببيضتين إذا حلقنا على نمرة 4 تصليح وتنعيم وغرة على الجبهة، نتحلق حول الحلاق إذا كان زبونه أحد العتالين أو العربجية أو الباعة الجائلين، ويأخذنا الفضول أكثر إذا كان الزبون عنطوزاً من عناطيز الشجاعية يساوم على كشط ذقنه وتشذيب شاربيه (المتجاوزين حدود صدغيه ليقف عليهما الصقر) بقرش كامل.. أما اذا اقتصر الأمر على كشط الذقن وحف الخذين والوجه بالخيط فالأجرة لا تزيد عن تعريفة بيضاء مخزوقة .
من البسطات قايضنا خبزنا بالمخيط والتمور، ملأنا جيوبنا بقطين الجميز البوطي المتفل بدقيق الوكالة (دوده من عوده) نفتح القطينة اللدنة، وننفض الدود من حشوتها، ونمضغها مستحلباً بنياً لزجاً يسيل من أشداقنا، نمسحه بأكفنا أو أطراف أكمام قمصاننا، نتقافز، ونتسابق إلى خط السكة، نضع مساميرنا وأسلاكنا وقطعنا المعدنية وأغطية زجاجات الكازوز على القضبان...
في ذلك اليوم فردنا عدتنا على القضبان، وانتظرنا القطار، لكن الجمل تسمر..وإعتقدنا أن أحد خفيه قد علق بين فلنكات السكة، ولم يتوقف القطار رغم صراخ الناس وانطلق أبو عرب الجزار الذي حدس الأمر يصرخ بأعلى صوته يسمع الناس ويشهدهم:
- " حلل عليك الذبح ...الله أكــبر"
مر القطار "وقامت القيامة " دلقت الشجاعية ناسها وسكانها، رجالاً ونساءً وصبايا، الجمل رأيناه نتفاً، بعض رقبته ورأسه الصغير مطروح على جانب السكة، عيناه لامعتان مشدوهتان حزينتان.. وأبو عرب يعيد ذبحه أسفل صدغيه.. رجل ينبه الجزار:
- سلامة عقلك يا "أبو عرب" الجمل يذبح من آخر الرقبة مش من عند رأسه ..
- وين هي آخر الرقبة يا فالح، المهم نحلل الذبح...
وفصل الرأس بأذنيه الصغيرتين عن بعض الرقبة.. الناس بالسكاكين والقفف والطناجر، يعيثون تقطيعاً وذبحاً في كتل اللحم المبعثرة، يتعرفون على بقايا الرقبة والكتفين والبطن يبحثون عن قطعة من فخذ أو يد، يتقاتلون على دهن السنام، يتناوشون ويشخرون، يؤجلون المهابشة والمنازلة والإشتباك، ينافسون على اللحم بدون سلخ..
ونحن بين الأرجل نجوس أدواتنا مناخيزنا وشفرات نبري بها أقدامنا، نقطع بها بعض لحم وجلد.. صار الجمل مشاعاً.. نقل إلى البيوت، لم يتبق منه غير آثار لحم وشعر وخبث أمعاء وحشوة بطن، وبدوي يبكي ، يقبض على حبل رسن الجمل، ورأس الجمل الذي احتفظ به أبو عرب حتى تخف الهوجة "وفجعة" الناس.
أستاذنا الشيخ الصوالحي يعلن فتواه ويريح ضميره:
- يا ناس يا مجانين ،الجمل فطيس، ولحمه حرام عليكم..
أصــوات الناس ترد عليه بفتوى مضادة:
- أبو عرب حلل عليه الذبح قبل ما يقع
- ولو، فطيس ولحمــه حرام عليكم
جرس المدرسة يعلن بدء اليوم الدراسي، يرفع الشيخ ردني قمبازه ويهشنا أمامه، يتمتم بصوته الرفيع، ويعصمنا من خطايا الكبار:
- اللي أخذ حاجة من لحم الجمل يرميه.. هذا فطيس حرام على المسلمين، الناس ضيعوا الدنيا والدين والناموس...
والناموس حشرة صغيرة بغيضة تتربع في رؤوسنا الصغيرة تهبر جلودنا، وتتعاون مع البق على امتصاص دمنا ليل نهار.. ســـأل أحــدنا:
- وايش علاقة الناموس بالجمل يا شيخ؟
قهقه الشيخ حتى دمع، بين ناموسنا وناموسه وأعجزه عدم إدراكنا الفرق بين الناموس المهاجم المسبب للبثور الحمراء على جلودنا، وناموس الناس الذي توارى، فأكلوا الجمل المدهوس..
دفعـــنا أمامـــه:
- ايش بيفرق الناموس عن الناموس يا جامــوس
وذهبت مقولة الشيخ بيننا نكتة وأحجية نتذكرها كلما مر على الخاطر شيخنا الذي احتفظ بالإجابــة لنفســه..
يســأل الواحد منا أترابه:
- ايش بيفرق الناموس عن الناموس يا جاموس
تستغلق الإجابة على السائل والمسؤول، ونكابر على قلة الحيلة هروباً من قصور الفهم:
- خلي الجاموس يرد عليك
وننتصر بتحويل الأحجية إلى نكتة ونغرق في الضحك...



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية جفاف الحلق – 6 –
- رواية جفاف الحلق – 5 –
- رواية جفاف الحلق -4 –
- رواية جفاف الحلق – 3 –
- رواية جفاف الحلق – 2 –
- رواية جفاف الحلق – 1 -
- .. في سر العسل
- - قراءة في رواية أوجاع الذاكرة للكاتبة الجزائرية جميلة طلباو ...
- طقوس امرأة بريئة – 5 –
- طقوس امرأة بريئة – 4 –
- طقوس امرأة بريئة – 3 –
- طقوس امرأة بريئة – 2 –
- طقوس امرأة بريئة – 1 -
- الجمر والحريق
- كلما حضر.. حضر الوطن - شهادة
- رواية نجمة النواني - 21 - والأخير
- رواية نجمة النواتي 19,20
- نجمة النواتي - 19 -
- رواية نجمة النواتي 17 ,18
- رواية نجمة النواتي 15,16


المزيد.....




- الحكم بالسجن على المخرج الإيراني محمد رسولوف
- نقيب صحفيي مصر: حرية الصحافة هي المخرج من الأزمة التي نعيشها ...
- “مش هتقدر تغمض عينيك” .. تردد قناة روتانا سينما الجديد 1445 ...
- قناة أطفال مضمونة.. تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 202 ...
- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...
- فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك ...
- “استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام ...
- مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت ...
- المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا ...
- آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - روية جفاف الحلق -7 -