عبدالوهاب حميد رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 2895 - 2010 / 1 / 21 - 15:04
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
ترجمة: عبدالوهاب حميد رشيد*
في عصر الإمبريالية Age of Imperialism، عندما كانت القوى الغربية تقتطع مستعمرات في أفريقيا، آسيا، وأمريكا اللاتينية، صار من المألوف جداً تقديم مشاهد كولونيالية، عُرِفَتْ بـ المعارض الدولية. انكلترا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بلجيكا، والولايات المتحدة الأمريكية، قدّمت بفخر واعتزاز ما تحرزه من تقدم بعرض أحدث أشكال التقنيات والأسلحة "المتقدمة" إلى جانب الفنون الجميلة والإبتكارات، علاوة على السلع المصنَّعة.
بادرت انكلترا بتقديم أول معرض من هذه المعارض أو التمويهات exhibitions, or fairs- المعرض الكبير Great Exhibition- تضمن منتجات صناعية لشعوب متعددة في هايد بارك Hyde Park- لندن. شمل المعرض أكثر من مائة ألف من المعروضات الوطنية والأجنبية في بقعة زجاجية، شكّلت أعجوبة التكنولوجيا الصناعية المعروضة في داخلها1. الهيكل الأساس structure للبقعة الزجاجية، سُمّي بـ القصر البلوري Crystal Palace، وأوحى بالمنافسة من قبل دول أخرى "معاصرة". وخلال الفترة 1851-1940 تواجدت أكثر من مائة معرض مماثل لذاك المعرض في لندن.
في مدن وولايات أمريكية، على سبيل المثال، فيلادلفيا، شيكاغو، سانت لويس، مدينة نيويورك، وسان فرانسيسكو، فقد استضافت معارض تٌفاخر بها الولايات المتحدة على مدى تفوقها وصواب النظام الاستعماري، بما في ذلك الموارد الخارجية والعمالة الرخيصة، وذلك من خلال عروض مرئية مثل التصوير الفوتوغرافي، المنشورات، والإنتاج الكبير للهدايا التذكارية، الايديولوجيات الإمبريالية الأمريكية، التقدم التكنولوجي، وتبرير الحروب التوسعية التي صارت محل ترحيب جماهير غفيرة.
الجانب الأكثر أهمية وإثارة لهذه المعارض تمثّلت في في عرض الآثار الثقافية العائدة إلى مجتمعات الشعوب المستعمَرة: أقنعة، فخاريات، منحوتات، والمنسوجات، تركت لدى الزائرن لهذه المعارض إنطباعات وأفكار انتقائية selective view إيجابية تجاه الاستعمار. بينما النموذج الأكثر إثارة للصدمة في هذه المعارض الاستعمارية هو عرض نماذج من الحياة البشرية2، فعلى مدى سنوات من الكرنفالات وعروض السيرك المتنقلة، قدّمت "نزوات freak" وتشوهات الطبيعة، في سياق عرض الاستعمار الغربي مصدراً جديداً لأشخاص دخلاء وغرباء، كمثل عينات حيوانية..
تم عرض عناصر من الاسكيمو، الأمريكان الأصليين (الهنود الحمر)، أفارقة وآسيويين، جنباً إلى جنب، مع جوانب من ثقافاتهم.. و.. "شذوذهم oddities". وكانت المقارنة تتم في غالب الأحيان بينهم وبين العالم "المتحضر" بما فيها من إساءة للشعوب المستعمَرة.. بل أن بعض المالكين ومدربي الحيوانات، قدّموا باناروما شاملة تتضمن تشبيه هؤلاء البشر الغرباء بالحيوانات، بعد تعليمهم كيف يتصرفون ويمثلون، فكان المتفرجون بين مَنْ شعر بالرعب منهم أو التسلية والضحك عليهم من خلال هذه العروض الدرامية (المثيرة).
لم يكن الغرض من هذه العروض الدرامية مجرد كسب المال، بل على النقيض، استهدفت مقارنة الثقافات "البدائية" مع الثقافات "المتقدمة" للحضارات الغربية. وكانت هذه العروض القائمة على المقارنة تُستخدم للتشديد على التفوق العرقي racial supremacy والإرث الثقافي للحضارة الغربية، ولإثبات صحة الهيمنة الإمبريالية المتقدمة. والأهم من ذلك كله، فقد كان هدف هذه التمويهات التأكيد على الاختلافات بين القوى الغربية وبين ما كان يُعتقد بتخلف بقية الشعوب والمجتمعات باعتبارهم شعوباً ومجتمعات بدائية primitive، وتبرير إذلال dehumanizing شعوب المستعمرات، والحط dehumanizing من ثقافاتهم، ودفع مواطني الدول الاستعمارية بناء أفكار جديدة عن هذه الشعوب، باتجاه دعم الإمبريالية المتوحشة وحملات القتل العسكرية.
ومع دخول معسكر الاعتقال في غونتنامو عامه التاسع، حيث يضم عشرات المشتبه بهم من "الإرهابيين".. (أُلقي القبض عليهم من خلال حرب الولايات المتحدة الأمريكية على "الإرهاب")، فقد صار نزلاء المعسكر محل عرض، تعذيب، والحط من شأنهم، مقابل فترة اعتقالات مفتوحة، بل وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية الأساسية.. أليس هذا.. معرضاً إمبريالياً معاصراً؟.. أليس معرضاً كرنفاليا ًيُحاول إظهار مدى تقدم "الحضارة" الأمريكية وإبتكاراتها التكنولوجية؟.. أليس قصراً فولاذياً، يُحاول عرض الحضارة "المتقدمة" بالمقارنة مع المجتمعات "البدائية" و "الأدنى" ثقافة حضارية؟
ومع ذلك، يبدو أن معرض غونتانمو قد جاء بنتائج عكسية تُجسّد بدائية ووحشية الإمبريالية: الإكراه/ الإجبار على الانتحار، والقمع العنيف للمضربين عن الطعام. وهذه الممارسات تسببت بدورها في المزيد من الغضب والكراهية والانتقام.
وكمثل هؤلاء مهندسي هذا المعتقل/ المعرض ممن يتصورون على أساس أنهم فوق القانون الدولي، محكمة العدل الدولية، محمكة العدل للأمم المتحدة، وأيضاً فوق معاهدات جنيف، فإن معرض غونتانمو يتصرف كذلك بسلوكية وكأنه فوق قواعد القانون. وهذا سلوك يتناقض حتى مع الحقوق الطبيعية للحياة البشرية natural rights of life: التحرر liberty والسعي لتحقيق حياة مؤاتية. المفارقة هنا تتمثل في أن الولايات المتحدة الأمريكية صارت هي بذاتها محل عرض لمثل هذا المعرض الوطني!
رغم إطلاق سراح أكثر من 500 معتقلاً من غونتانمو- العديد منهم أتهموا زوراًمن قبل آخرين من أجل الحصول على المكافأة/ المال، أو اعتقلوا عن طريق الخطأ/ الاشتباه، فلا يزال هناك ما يقرب من 200 معتقلاً. وهم من: العراق، السعودية، اليمن، باكستان، الصومال، أفغانستان، السودان، وأجزاء أخرى من العالم. ليس معرض غونتانمو مجالاً لعرض البطولات والفتوحات (الحضارية للإمبريالية الأمريكية) بقدر ما يكشف حقاً عن الطبيعة البدائية الغارقة في أعلى قدر من الوحشية للهيمنة الأمريكية، على الأقل في أذهان جانب من السياسيين والمواطنين لسكان الكرة الأرضية.
الواقع الحقيقي للبدائية المتوحشة والشذوذ oddity عن الطبيعة البشرية يتجسّد في معرض غونتانمو نفسه.. واقع غير متحضر.. بدائي ومتوحش.. يقوم على أرض تم احتلالها لدولة ذات سيادة- كوبا- في سياق فعل همجي آخر خارج نطاق الشرعية الدولية. وهؤلاء ممن اضطربوا تجاه إغلاقه يشكلون نماذج بشرية عكسية متخلفة يعودون إلى زمن الإمبريالية والكولونيالية. إنهم مسجونون داخل مستنقعات إثنية حاقدة وايديولوجيات عنيفة بالية، كمثل المعارض القديمة لنماذج الحيوانات التي تآلفت العيش مع البشر..
إن معرض غونتانمو واقع ينعدم فيه الأخلاق.. خارج سياق القانون.. يعاكس الطبيعة البشرية.. وسيبقى آفة بشرية أبدية..
ممممممممممممممممممممممـ
Is Guantanamo a modern colonial exhibition?, By Dallas Darling,Aljazeera.com, 18/01/2010.
(1) Page, Melvin E. Colonialism, An International Social, Cultural, and Political Encyclopedia, Volume One A-M. Denver, Colorado: ABC-CLIO Press, 2003. p. 199.
(2) Ibid., p. 199.
(3) Ibid., p. 200.
Source: Middle East Online.
-- Dallas Darling is the author of Politics 501: An A-Z Reading on Conscientious Political Thought and Action, Some Nations Above God: 52 Weekly Reflections On Modern-Day Imperialism, Militarism, And Consumerism in the Context of John‘s Apocalyptic Vision, and The Other Side Of Christianity: Reflections on Faith, Politics, Spirituality, History, and Peace. He is a correspondent for http://www.worldnews.com. You can read more of Dallas’ writings at http://www.beverlydarling.com and wn.com//dallasdarling.
#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟