أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 18















المزيد.....

أسير العبارة (رواية)- 18


عبدالحميد البرنس

الحوار المتمدن-العدد: 2882 - 2010 / 1 / 8 - 01:19
المحور: الادب والفن
    


عدت إلى حجرتي بهدوء أشد. فجأة، أسفل النور الشاحب، تراءت أمام عيني سلسلة من عناوين على كعوب الكتب المتراكمة كحيوات يفصل بين بعضها آلاف السنوات، أوالحواجز اللامرئية: "سيدتي، كيف تنجبين أول أطفالك؟"، "شبح العولمة"، "رسائل الإمام الشهيد حسن البنا"، "اليسار إلى أين؟"، "دليل الأكلات الشامية اللذيذة"، "أربع وعشرون ساعة في إسرائيل"، "نقد الفكر اليومي"، "علامات يوم القيامة"، "الآثار الاجتماعية لعولمة الاقتصاد"، "مذكرات رجل قتلته المخابرات"، "شرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773- 852 ه)"، "الجينالوجيا- الأركيولوجيا منهجا للحداثة البعدية".
أغلقت عينيَّ للحظات قصار. هذه طقوس وثنية خاصة لا يدخلها المرء إلا من باب المغامرة، أواليأس. لا أمتلك سجادة واحدة داخل هذه الشقة الأرضية الضيقة كقبر. سجادتي العمارة بأكملها. أدرت وجهي بخشوع صوب حائط الممثلات وعارضات الأزياء. حائط مبكى المنفي الغريب لحظة أن يكافح سعير الوحدة بدعاء الخطر وهو لا محالة هالك. في كل عيد ميلاد، سأتخذ منهن خليلة، تؤجج محراب الرغبة لعام. أخلع حذائي البيتي القديم برعشة عابد أضناه القيام والسهر. أخيرا أفتح عينيَّ على جسد "كلوديا شيفر". ذلك "خصر أضيق من أفق برجوازي صغير".
ولم أتردد.
قطعة قطعة، خلعت ثيابي الصيفية البائسة.
كان موضوعي الخاص يتمدد رويدا رويدا، ينتشر واحدة واحدة، يغادر منابته القصية عند ملتقى الساقين تماما. لا شيء يتبادر إلى ذهني من تاريخي القديم. المستقبل لا وجود له. الحاضر بيت الداء والدواء. ها هو، يتأرجح أسفل ضوء اللمبة الشاحب كنور شمعة في معبد فرعوني، يعلو ويهبط برأسه المُثقلة، ينتفض من حين لحين كشعب أرهقه نير الطغاة وعسف الحكام. أحسست بوهج أنفاسها المتصاعد. شعر أشقر. قوام لدن. شفتان مكتنزتان. نهداها يذوبان عميقا داخل صدري. كدت أمزق الصورة، لو لا أن أصابتني بغتة عينا ذلك الرجل، كان يطل من داخل مرآة جانبية في وجوم لا نهائي، "عيد ميلاد سعيد، يا صديقي"، خاطبته على عجل بنبرة خافتة خرجت من داخل حلقي بالكاد، "عيد ميلاد سعيد، يا صديقي". حشرجة أشبه بصوت ورقة نيم صفراء تتكسر أسفل قدم لا مبالية. ولم أتردد.
كان موضوعي الخاص يتقدمني، يقودني صوب حيِّز ملحق صغير يدعى "المطبخ"، حيث توقف هناك، مشدود القامة كجندي يلقي بتحية عسكرية، ثائر الأعصاب مثل كلب يتطلع إلى سيده لحظة جوع. هكذا هكذا، مد إليَّ رأسه المثقلة، عنقة المشدود، وبطنه الغليظة المستديرة الممتدة صوب منابت الساقين. غمرته بزيت طعام رخيص. ولم أتردد.
حملت كرسي الخيزران بيدي اليسرى الناشفة تماما. كنت أهديء من ورعه بيدي الأخرى. فعلت ذلك قاب قوسين أوأدنى من بدء الاحتفال. لم يكن ثمة بصيص داخل الشقة وخارجها. الظلام يغمر تفاصيل العالم. كنت قد أطفأت اللمبات القليلة الواحدة تلو الأخرى. كان قلبي يخفق بشدة بينما أتحسس الطريق إلى خارج الشقة عاريا تماما. ولم أتردد.
توقفت هناك. أستجمع أنفاسي قليلا. أخيرا وضعت أذني اليمنى وراء شُرَّاعة الباب. أصغي لما يدور خارج الشقة من أصوات. لا نأمة هناك. فتحت الباب على مصراعيه بهدوء شديد. وضعت أمامه كرسي الخيزران تحوطا من هبوب ريح صيفية مباغتة. كان مدخل البناية الصغير لا يزال غارقا في بحر من العتمة والسكون الكثيف.
هكذا، كنت أقف هناك، داخل فراغ باب الشقة الأرضية الضيقة كقبر، مترددا بين عالمين متناقضين، لا يجمع بينهما سوى هالك، ولا جسر يصل بينهما سوى الجنون، أوالمغامرة واليأس أحيانا.

أفكر في الأصدقاء القدامى. مَن تبقى منهم، على الدرب، ولم يمت، أويخن، أويهاجر، ما عادت عيناه تعكسان ذلك البريق. إنه تعب المنفى.
كنت قد ألقيت رحالي عصر ذلك اليوم على مقهى "الباقيات الصالحات" في شارع أحمد عصمت بعين شمس الشرقية. سألت الجرسون عن السيدة "بطاطس". قال "زمانها في السكة". طلبت "شاي كشري سكر زيادة" وشيشة. وضعهما أمامي وانصرف. بدأت أتطلع إلى حركة الشارع الموارة، في قلبي حزن غامض، وعقلي لا يزال يقاوم فكرة أن العيش على درجة عالية من النقاء لم يعد له من وجود هذه الأيام. "ما أعاننا على البقاء (أنت يا من هناك) أننا كنا أكثر قسوة منك، وأقل طيبة". يا للعبارات. سمعت أن عادل سحلب غادر إلى كندا. ما إن يذكر اسمه في مجتمع المنفيين الغرباء حتى يتبادر إلى الأذهان اسم مها الخاتم. قابلتها صدفة قبل أيام في مكتب "المنظمة العامة لضحايا النظام". لم تكن مها الخاتم نفسها. تلك الفتاة التي رأيتها قبل سنوات لأول مرة وهي تعبر بوابة مكتب الأمم المتحدة في الزمالك. بدت مرهقة متعبة تماما برغم المساحيق التي تصبغ وجهها وأحمر الشفاه الفاقع. كانت لها ضحكة مومس خارجة من سياق أحد الأفلام المصرية القديمة التي جرى تصويرها في شارع محمد علي. ظلت تطلقها بين المكاتب من آن لآن. في صوتها قسوة. شعرها الحليق يضفي عليها مسحة غلامية. ذكرتها بنفسي. قالت "وجهك ليس غريبا". بدت في عجالة من أمرها. قلت في نفسي لعلي لم أترك أثرا في داخلها. الوغد، عادل سحلب، ظل يعيش بالحيلة حتى النهاية، يعرف كيف يكسب ود القادة، لا يتورع حتى عن قضاء حوائجهم اليومية، أوالشخصية. داخل شقته المؤجرة في ميدان المحكمة بمصر الجديدة. نوعية الأثاث، الطعام، المفارش، الشراب، الأجهزة الكهربائية، الكتب ذات الأغلفة المصقولة، هيئته نفسها المطهمة بأثر النعمة. كل ذلك يعطيك الشعور أن الحياة من الممكن أن تكون على درجة كبيرة من اليسر بلا جهد يذكر. أفكر الآن وبجدية تامة في وراثة عادل سحلب. تلك وظائف لا تحتاج مهارات استثنائية. "المعلمة بطاطس". أشار الجرسون إلى سيدة قصيرة تقبل ناحية المقهى. أحسست وأنا أراها على ذلك القصر وكأن أحدهم ركل كرة قدم في اتجاهنا برفق شديد. كانت مالكة المقهى وسمسارة في مجال العقارات والشقق المفروشة. وأنا أتطلع إليها أثناء الحديث من عل، وهي تبذل مجهودا واضحا لترى خلال تلك الوقفة أثر حديثها على وجهي، لم أتوصل أبدا إلى تخيل وضع جنسي محدد يمكنني أن أراها من خلاله، هذا أمر ظل يشغلني لفترة طويلة من الوقت.
توقفنا، أنا وبطاطس، أمام بناية صغيرة من أربعة طوابق، بناية رقيقة الحال. طلبت مني أن أنتظر إلى اليسار قليلا من البوابة الحديدية القديمة المشرعة، ريثما تخبر مالك العقار في أحد الطوابق العليا. رأيتها وهي تصعد السلالم الأولى بخفة كرة مطاطية. "لا شك أنها سمسارة موهوبة"، قلت في نفسي، مستغربا من كل تلك الحيوية التي هبطت عليها فجأة. شأن المواهب الأخرى. لا ترى ما يميزها في حياتها العادية. ما إن تتوغل داخل مجالها الخاص حتى ترى عجبا. "مايكل جاكسون"، في حواراته رقيق كعذراء، ساذج كطفل، يتحدث برقة تجعلك تظن أنه لا يصلح لشيء، ما إن يعتلي خشبة مسرح حتى تظن وكأن عواصف رعدية تقصف بهدوء العالم، زلازل تتفجر بعنف بدائي، قنابل تهوي من شاهق، أقدام حالم تسير على سطح القمر، نسائم تغسل هجير صحارى عند المساء، ومعارك غامضة تدور رحاها على بعد أميال من رعاية الإله.
كنت أضع كلتا يديّ داخل جيبي بنطلون الجينز الأزرق. أحدق في تفاصيل الحارة هنا وهناك. "هذا عالم يوسف إدريس". أمامي، عبر الشارع الضيق القصير المترب، بدا سروجي سيارات ومحل نجارة و"بقالة نور التقوى والايمان" عند الناصية الشمالية الشرقية". إلى اليسار مني، بدا "جزار الأمانة" منهمكا في سلب ساق كثيرة الدهن، بينما أخذ يبتسم في وجهي الحلاق المجاور له، ناظرا إلى هيئتي العامة، متوقفا عند شعري الغريب على وجه الخصوص. كانت بطاطس، قبيل صعودها، قد أشارت إلى شقة في الطابق الأرضي، لا تقابلها شقة أخرى، على بابها الحائل قفل رمادي، قائلة "هذه". أخيرا، أقبلت بطاطس هابطة السلالم الأخيرة مثل كرة تم ركلها من ضربة حرة. كانت تلهث وفي أعقابها أقبل مالك العقار، رجل خمسيني، بدين، ربعة، على جبهته آثار سجود طويل.


- "حامد عثمان، أعرفه يا حاج من زمان (كانت بطاطس تكذب)، هو بتاع ربنا (لم ألتقيها من قبل)، هو لحال سبيله وما يحبش المشاكل، أنا بقول لك زبون عندي من بدري (ستكتب عند الله كذابة ولا ريب)، من السودان الشقيق طبعا".
ظل الحاج صامتا لا يعلق على حديث بطاطس. أخيرا، قال:
- "اعتبر نفسك المستأجر الجديد لكن بشرط"
- "ما هو"؟.
- "أولا، حضرتك منين، الخرطوم، ولا أم درمان"؟.
- "من الجزيرة"
- "ما علينا، المهم، في سنة 67، جرى إيه في الخرطوم"؟.
- "لا أذكر".
- "أقول لك، مؤتمر اللاءات الثلاث بين الزعماء العرب".
- "طبعا".
- "أنا عندي كمان لاءات ثلاث، شروطي لكل ساكن جديد".
- "ما هي"؟.
- "لا نسوان، لا خمر، لا ازعاج للجيران".

هذا الرجل ماذا أبقى لي من متع الحياة؟.
"من يملك العُملةَ يمسك بالوجهين، والفقراء بين بين".
يا للعبارات.



#عبدالحميد_البرنس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسير العبارة (رواية)- 19
- أسير العبارة (رواية)- 20
- أسير العبارة (رواية)- 21
- أسير العبارة (رواية)- 22
- أسير العبارة (رواية)-23
- أسير العبارة (رواية)- 24
- أسير العبارة (رواية)- 17
- أسير العبارة (رواية)- 15
- أسير العبارة (رواية)- 16
- أسير العبارة (رواية)- 14
- أسير العبارة (رواية)- 2
- أسير العبارة (رواية)- 3
- أسير العبارة (رواية)-4
- أسير العبارة (رواية)- 5
- أسير العبارة (رواية)- 6
- أسير العبارة (رواية)- 7
- أسير العبارة (رواية)- 8
- أسير العبارة (رواية)- 9
- أسير العبارة (رواية)- 10
- أسير العبارة (رواية)- 11


المزيد.....




- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 18