حسين عجيب
الحوار المتمدن-العدد: 865 - 2004 / 6 / 15 - 06:09
المحور:
الادب والفن
ضرورة المصالحة(أزمة منتصف العمر)
شجن
لا تختلف أسرتي عن اغلب الأسر السورية,حرمان,أمية,خوف,عدوانية هائلة مضمرة,تنعكس في الصوت العالي والحركات المتشنجة والسريعة لليدين.يقتصر الكلام على الأوامر والنواهي,وفي حالات الاسترخاء النادرة,يرقى الكلام إلى المؤانسة,والتعويض بكل أشكاله ومستوياته,كلام,كلام,صدى معلوك في الهواء. في قرى جبلة وجبالها الموحشة,المقدس والمدنس معا في العبارة والمفردة,الخبرات والمعارف تنحصر في الإطار الشخصي الضيق,ويتعذر نقلها أو تداولها.عالم الداخل مغلق بحرص شديد, وكل الطاقة والأدوات موجهة للخارج الفقير والمفزع.
كنت أنا أبي وأمي,سأكتب بعد عشرات السنين من التشرد بين النظريات والكتب وأصدقاء بمختلف الروائح والأنواع والحجوم.تعبت من هذا البلد,تعبت من النفاق والغباء والجمود العقلي والعاطفي.تعبت من جروحي الرمزية والفعلية.
أدركت
بعدما أنهكني السير
طريقي الخطأ
في الصمت الذي أحتاجه
الصمت الذي يدمر كل شئ
في جوهره المتجدد أبدا
تتشابه الشجرة والحصان
والغيم الأسود
يغطي بروق غاباتنا البدائية
تاركا أسيجة الرومان
طائر الفينيق
ينشد صمت المقبرة
كما يفعل أي مفلس,لم يفقد عقله بالكامل,أعود إلى دفاتري القديمة,إلى خبراتي السابقة وحطامي أيضا.
حد أدنى من المصالحة هو شرط ضروري لأي عمل, وأعتقد أن الإبداع هو سقف النشاط الإنساني بمختلف المجالات.في النصف الثاني من العمر تبدأ رحلة انحطاط القوى الجسدية,بالتلازم مع الوهن النفسي. أثر الجروح النفسية والتفكك البسيط في الشخصية لا تعيق حياة الفرد إلا بشكل جزئي في مراحل الطفولة والشباب,على خلاف النصف الثاني للعمر, نقاط الضعف في الشخصية تتعرض لقوى الواقع المباشرة وفي مقدمتها الحاجة إلى الإنجاز وربما دافع الإنجاز,فتبرز المشكلات المؤجلة بشكل صارخ. تحقيق الذات والتكيف مع المحيط أمر متعذر دوما في بلاد العرب والمسلمين.التكيف يتطلب الانمحاء الذاتي(والعبارة المدللة في العربية نكران الذات)هل في هذا القول قدر من المبالغة! لا يمكن الاستغناء عن الواقع الخارجي,ولا يمكن إنكار الواقع النفسي فعليا,ويتعذر التوفيق بينهما في بلاد تحكمها ثقافة الموت,الأغلبية تحت وطأة القلق الداخلي والرعب الخارجي,والنتيجة المباشرة عدوانية تفوق طاقة الوعي وخارج الاستيعاب.
مات الشاهد والمدعي والضحية
المسهم ولا تتردد
صف طويل من تماثيل الشمع
هي بلادي
أزهار في كأس
أوراق وخرائط
تحت أرجل متخاصمين أبدا
كيف ازعم أنني وصلت على المصالحة!؟
تجاوزت منتصف العمر وما زالت أغنية فيروز(القمر بيضوي عالناس ..) تأسرني. الحرية والاتساع والسمو كيف نستبدلها بالغيظ والصراعات المريرة,كيف نفضل التجهم والعبوس على المرح والضحك المفتوح ,ونظن الفطنة والذكاء فيما اخترنا!
أجدها مناسبة لتحية وجيه أسعد,الإنسان الذي ترفع طيلة القرن العشرين على المكتسبات المباشرة للواقع السوري الخفيض وجواره,واختار الموقف المعرفي,بشجاعة وتواضع العالم ,النادرتين في العربية. ليس لدي ما أقدمه سوى تحيتي المتواضعة وامتناني العميق ,وليغفر لي حماقتي لقراءتي الخاصة وعرض بعض ما اكتسبته بفضل ترجماته وصبره,له أرفع قبعتي واسميه المعلم بحق.
الموت قادم وهو اليقين الأول, ولكل منا حصته الكاملة منه,لا شئ أكثر بؤسا من تمجيد الموت. المساعدة على تحمل المصائر القاسية يتعارض مع تمجيد الموت بشكل كامل ودائم. وبنفس الوقت تمجيد الموت لا يتعدى كونه وسيلة دفاعية لتغطية وحجب النواقص الذاتية,من قصور وجداني وعاطفي والذي يتطور إلى قصور عقلي خطير, بحيث يعجز ممجدو الموت عن إدراك وتصور آلام الآخر الواقعية,ثمة نكوص إلى المستوى البيولوجي,الإرهاب هو التجسيد الأشمل لتمجيد الموت. بعدما تحدث تلك الانعطافة الكاملة في وجدان الفرد,من نزعة البقاء إلى الرغبة في التدمير الذاتي تتحول كل الحوادث والوقائع والأفكار إلى وقود إضافي لتسريع إنجاز التدمير.
تبخيس الحاضر : التحقير الذاتي ومعاداة الآخر هو وجه العملة الثاني للعلاقة بين العالم الداخلي والخارجي للفرد,ذلك يفسر رواج عبارة شكسبير الأصولي:نكون أولا نكون في العربية,وإهمال عبارة شكسبير الشاعر الكوني:
أنت التقيت بما يموت
وأنا التقيت بما يولد
أعيش في مدينة اللاذقية من العام 984 وأغلب الظن سأموت فيها. تغيرت معتقداتي وأفكاري وحتى قيمي الأخلاقية أكثر من مرة,تغير كذلك فهمي وتصوراتي عن أهل مدينتي,لكن الثابت الذي يبدو وكأنه خارج الزمن والتأثيرات هو التبخيس الذاتي.يشمل ذلك أصدقائي ومعارفي ومن اختلف معهم بالرأي(لم يعد لي أعداء) وبالطبع التبخيس الذاتي الذي أعانيه,وينعكس في احتقار العيش والحاضر(اليوم والمنزل والعمل).السلفية ووجهها الآخر المستقبلية أبرز توجهات تبخيس الذات بأفعالها وسلوكياتها المختلفة,عبادة الطقوس والأعراف والتقاليد ميزة السلفية اللاذقانية , ونقيضها انتظار ما الذي سيحكم به المستقبل والأجيال القادمة,وتحويله إلى رهان دائم وبديل للعيش وتفصيلاته, وعبر ذلك غياب المبادرة والنقص العاطفي المخيف. البلادة والتكرار في كل ما هو خارج الأفعال الغريزية الأساسية الجنس والتملك.لم نتجاوز الموقف الأوديبي النمطي:قتل الأب أو التمسح بأقدامه. السلطة تعبير أبوي ورمز لغوي بنفس الوقت ثنائية النعم واللا أجهزت على الحاضر والمختلف.كيف نختلف دون إلغاء الهوية الفردية أو التقوقع داخل الجرح النرجسي!؟ ذلك سؤالي ورهاني في الشعر والكتابة والعيش.
الجرح
الطريق يمر بالمرأة التي بكت عليه
الطريق يمر بالمرأة التي ضحكت له
يكره الطرق التي يعرف نهايتها
هي تأخذه ولا تعيده
يخاف الطرق التي يجهل نهايتها
هي تبدأ به ولا ينتهي إليها
وجد نفسه دائما بين طريقين
لا يرفض الأولى بما يكفي
ليعرض عنها ويرتاح
ولا يرغب بالأخرى بما يكفي
ليسميها وجهته ويرتاح
ولد بين طريقين
أحدهما يقوده إلى القبر
والآخر يعيده أيضا إلى القبر
فكره هو الطريق الذي لم يسلكه
وعقله هو الطريق الذي تعود عليه
كان جسده طريقه
وكانت الطرق توزعه بضراوة
لم يبقى منه إلا الاسم
مثل شاهدة فوق قبر
المرأة التي أحبته
وضعت وردة ورحلت
والمرأة التي لم تحبه
تركت كل شئ على حاله ورحلت
قبر معلق بين طريقين
اللاذقية_حسين عجيب
#حسين_عجيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟