أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحاب حسين الصائغ - الجزء الاخير من رواية ( اعدت منحرفة)















المزيد.....



الجزء الاخير من رواية ( اعدت منحرفة)


رحاب حسين الصائغ

الحوار المتمدن-العدد: 2818 - 2009 / 11 / 2 - 22:54
المحور: الادب والفن
    


(5)

السيارة تشق الأرض متجه نحو جسر الحرية الذي يربط الفيصلية من الجانب الشرقي بالميدان من الجانب الغربي. ركن "رضوان" السيارة في كراج بشارع الكورنيش، ثم سرنا باتجاه محلة الميدان متجهين إلى قليعات؛ أزقة ضيقة، يفصل جهتيها ساقية تجري جارفة معها كل ما لا يخطر على بال، في مدينة تعتبر ذات تراث وإرث ثقافي، قشور خضراوات، وعلاقات نايلون، وأعقاب سجائر، وبين كل مسافة يوجد بيت مهدّم هو بمثابة مزبلة، يرمى فيها ما تلفظه البيوت من أوساخ، أو أشياء يراد التخلص منها، براز خارج من البيوت هارب الى الساقية خجلاً، شيء يقزز النفس تمنيت لو لم أوافق "رضوان" على المجيء معه إلى هذا المكان، البيوت جدرانها قاحلة، أكثرها آيلة للسقوط، أما أبوابها فتركت هموم أهل الدار، واتكأت إلى ناحية ترغبها، أو قد فضلت عدم السقوط، نظراً إلى ما سبق غيرها، ولم يكن من أهل الدار أي تعاون، بل تُركتْ الحجارة الساقطة على جنب، ووضع بدلاً منه قطعة قماش قديمة لا يُعرف لها شكل أو لون، أو بطانية عسكرية، لتقوم مقام الباب.
نظرت إلى "رضوان"، وفي رأسي ألف سؤال أريد إجابات عليها في لحظة واحدة. أثناء التفاتي ناحيته، انتبهت قبل أن أتفوّه بكلمة واحدة، بدا لي شخصية غريبة عني، يمد خطواته بقدر يفوق تصوري، رجل قادر على التعبير عن غضبه في تحرير الأسطورة من قيود بطل فاسق حول مجتمع بكامله، لضحايا، خليط من المشردين، يتنفسون الفقر، يعيشون التشاؤم، بين هذه الأبنية، منصبين داخلها كجثث في قبور تريد لفظ أنفاسها الأخيرة عليهم، طردت من حياتهم أي ميزة لرقة أو حياة عذبة، تخيلت أنهم من ذلك الخراب نفسه صنعوا، من قدم هذه البيوت خلقوا، حتى أنني أصابني الخوف من خبايا هذه الأزقة المتهالكة في الدعاء، تجاذبني صراع يصعب نيله، انعكس إلى داخلي في تهكّم، معتمدة الغوص في مسألة التراث، أهو هذا الخراب المحيط بهذه الأماكن؟! جدتي حدثتني عن جمال بيوت الموصل؛ أعمدة من الحلان (الفغش)، جدران مزخرفة. لم أر غير بيوت أصابها تقشف الحصار، أو ما يشبه دعاء الأولياء، حين تصب جام غضبها على قوم، فغلفهم سؤ العذاب، لكن لأي ذنب اقترفوه؟! قد تكون ذنوبهم طاعتهم العمياء لأولي الأمر منهم، لا أعلم، سيطرَ علي شيء من بؤسهم، تم إطلاقه إلى أوسع مسافة من نفسي، لم أعد قادرة على غلق فمي أكثر. قبل أن أوجه أي سؤال لـ"رضوان"، وقف أمام باب وطرقه، بلمح البصر ظهر ثلاث أطفال ما أن رأيتهم حتى داخلني الظن أنهم كانوا قرب أحد التقاطعات في شوارع المدينة، هم كثر، منهم من يتسول، ومنهم من يبيع السجائر، ومنهم من يبيع المناديل الورقية، يلتصقون على زجاج السيارات كالذباب، بينما تنتظر دورها في للانطلاق، بعد أن تعلن إشارة المرور، ثم ظهرت امرأة متوسطة العمر، بخجل يصاحبه الاستغراب، لتقول: من تريدون؟ ردّ "رضوان": "أبو محمد". قالت: تفضلوا.
ثم أخذت تدفع بالأولاد عن طريقنا، محاولة إفساح الطريق لنا، بينما هي تنادي: "أبو محمد".. "أبو محمد".
دخلت غرفة رافعة عن إطار بابها (الملبن) قطة قماش مسدولة عليه، دفعت بها إلى حافة النافذة التي تواسي باب الغرفة بعناد شديد، الغرفة مظلمة، حتى أنني لم أشاهد غير عتمة عكست ظل قامتينا. قال "أبو محمد" بصوت يؤكد أن الرجل مريض: تفضلوا.. تفضلوا.. "رضوان" أهلاًً وسهلاً بك، والله فرحت عندما علمت أنك ستزورني.
رد "رضوان" على "أبو محمد": كيف لا أزورك، أنت رجل بطل، عندما سمعت أنك مريض، تذكرت كم كنت قوياً وصاحب مبدأ، لم تتوانَ يوماً عن مساعدة الجميع.
"أبو محمد": اجلس.. اجلس يا رجل.
استقبلنا ببهجة لم تمنع ظهور ملامح حزنه العميق لفقد ساقيه في الحرب، محتضناً أطفاله، إنه حالياً يعاني من مرض الكلى، ويحتاج إلى عملية، أظهرت الفحوص وجود حصى في إحدى كليتيهِ، الدواء لا يقدر على دفع ثمنه، فكيف سيتمكن من دفع أجور العملية، بعد انتشار المستشفيات الأهلية، وانعدام توفر العلاج في المستشفيات الحكومية.
قال "رضوان": يا أخي لا تحمل همّاً، كلنا معك، سنعمل ما نقدر عليهِ.
"أبو محمد" يرد على "رضوان" بصوت مضمحل تحت نصف جسمه الباقي بخجل، وشكله يبدو كنواة زرعت في غير مكانها: قد أتعبك معي، حملي كبير، ثلاث أطفال وأمهم، الآن لا معيل لنا، "أم محمد" والأولاد يعملون أكياس ورقية، منذ أن وقعت بسبب المرض، قبلها كنت أجلس في عربتي، وأخرج لبيع السجائر في الشارع العام، لا باس بالمبلغ الذي يعود علي من بيع السجائر، يكفي لسد ثمن إيجار البيت، ومصروفنا. يوم علم صاحب الدار بمرضي، لم يطالبني بالإيجار، كثّر الله أمثاله.
شرد ذهني بما أسمع من "أبو محمد"، هل صحيح يوجد ناس بمثل هذا الحال من البؤس يفتك بهم، ولم يجدوا ما يسد رمق العيش؟ إذاً أين تذهب خيرات العراق والناس موتى على قيد الحياة من الفقر والمرض؟!
بعد أن خرجنا، لم أستطع منع دموعي من التدفق، شعرت بحرارتها وهي تسيل على وجنتي (خدي)، لم يلحظ "رضوان" هذا، لأنه منهمك بالأوراق التي أخذها من "أبو محمد"، كي يؤمّن له سريراً في إحدى المستشفيات الأهلية. في البيت، بعد أن شرح لجدهِ وضع "أبو محمد"، طلب منه مبلغاً، ما أن دخلنا غرفتنا حتى قال لي "رضوان": أريدك أن تكوني جاهزة بعد يوم الخميس للسفر إلى سنجار، إذا لم يحدث طارئ، يجعلنا نؤجله لفترة أخرى.
في اليوم التالي، أثناء الغداء قال جد "رضوان": أمس ذهبت إلى مكتب المحامي "هشام" لمراجعة بعض الأمور المالية. بعد نقاش معه، حددت معه يوم غد الساعة الخامسة مساءً للقائه، يجب تواجدنا عنده كي يتفاهم معك، كما تعلم يا ولدي أنك الآن مكان والدك، وعليك معرفة كل ما يتعلق بالأمور المالية لوالدك، الله يرحمه، فأرجو أن لا تنس الموعد غداً، الأمر لا يتحمل بعد أكثر، لأنني لم أعد قادراً على متابعة ما يتعلق بمثل هذه المسؤوليات، عن قريب إن شاء الله ترزق بأولاد، لذا عليك ضمان مستقبلك، أنت الآن رجلنا يا "رضوان"، تقع عليك مهمات صعبة، لا بد من تحملك عبء الأسرة، لن ننسى أبداً يوم عودتك من الخارج، بشهادتك الجامعية في التجارة، عدم عودتك للخارج له أسباب، مرض والدك ووفاته، الحرب أيضاً كانت سبباً إذ وضعتك في مأزق حرج، لم نحسب لها حساب، والدتك لم يبق لها أحد غيرك بعد وفاة والدك، عندما أُسرت لم نرحم نفسينا أنا وأمك من الندم على إصرارنا في منعك من السفر، والعودة إلى الخارج تخلصاً من نار الحرب، بعد أَسرك بعامين مات عمك، بعده تحمّلت أنا الكثير من الأعباء فوق طاقتي، نقدّر وضعك الآن، فحرمانك من أجمل سنين عمرك، جعلني أأخر الحديث في المشاكل المادية، ها قد عدت، وتزوجت، جلَّ ما أسعدني زواجك، نحمد الله على وجودك بيننا، لتعوضنا وتخفف عنا، "رضوان".. ابني.. صحتي لم تعد تسعفني مثل السابق، لا أخفي عليك عدم قدرتي في متابعة أموال أبيك وتجارته، صحيح أن المحامي يعمل بإخلاص، لكن أنت أولى بإدارة أموالك، وتسلمها، لتتصرف بها حسب ما تتطلبه مصالحك.
سبق وأن حدثني "رضوان" عن رغبته في مفاتحة جدهِ بهذه القضية، لكنه أجّل الخوض بالموضوع، حرصاً على مشاعر جدّه. بكل تواضع أعلن "رضوان" لجدّه استعداده لما هو مطلوب، يعلم جيداً أن جده وأمه لم يقحماه في كل مشاكل الحياة منذ عودته من الأسر، غمراه بحبهما وعطفهما، لم يبخلا عليه بشيء، متذكراً أنه كلما سأل عن شيء من ناحية الأمور المادية يعتذران، ولم يفصحا عن شيء بقولهم: لا تحمل أي همّ، الخير موجود، كل ما عليك طلب ما ترغب به.
أتأمل "رضوان"؛ إنه كالنهر يطرز أكمام ثغري بأفكاره السابحة فوق عنقود حياتنا المستقرة في مساعدة الآخرين. حياتي من قبل عرفت الحشوب، اليوم ممتلئة بالحنان، مهما أعطيت فاض الكثير منه. تنبهت لنفسي. الغرفة لم يبق فيها غيري. خرجت متجهة إلى غرفتنا كأني أبحث عن "رضوان" بما شعر قلبي من وحشة. حين صحوت من لحظات تأملي، عثرتُ عليه في مكتبة غرفنتا يتابع قراءة كتاب. تنهدت بعمق عندما شاهدته. اقتربت منه لأنه لم يلاحظ وجودي. تبدو ملامحه أنه غارق في تفكير عميق، أو كمن وضع على المحكّ. قلت في نفسي: ما الذي يدور في خلده؟ سألته:
- لماذا تركتني في الغرفة وصعدت لوحدك؟ ماذا يشغل بالك؟
- حان وقت العمل بجد، مشاريعي، خططي، أصدقائي، نحن وجدي وأمي.
- أعتقد أن سبق وفكرت في مفاتحة جدك في مثل هذا الأمر، وها قد بدر الكلام منه، هذا أفضل.
- "منال".. سوف يقع على عاتقك كثير من الأمور، هل لديك رغبة في مساعدتي؟
- كيف تقول مثل هذا؟
- جربني، ستجدني نعمَ الشخص الذي ترغب، نحن النساء صحيح ليس تحت النظر، لكن عندما تُوكل إلينا مهمة، نعمل على إنجازها بأدق صورة، أُأمرْ، ستجدني ملبية لك كل ما تطلب.
- إذاً عزيزتي سوف أوكل لك مهمة متابعة صحة "أبو محمد" والعملية التي ستجرى له بعد يومين، لقد تدبرت أمر الغرفة في المستشفى، ما عليك سوى المتابعة، لأنه سيكون عندي عمل أكثر أهمية.
- اعتمد على الله، سأكون عند حسن ظنك في ما طلبت مني.
سلمني مبلغاً من المال وطلب مني أن أسلمه لـ"أم محمد" كي يساعدها على تسيير أمورها لحين خروج "أبو محمد" من المستشفى.
أخذت على عاتقي متابعة دخول "أبو محمد" المستشفى، وتسليم المبلغ لزوجته، كل يوم بعد الظهر أذهب لزيارته، أبقى معها، لقائي مستمر مع الطبيب المشرف على صحته لمعرفة مجريات الأمور بدقة كي أبلغ "رضوان" أولاً بأول. أثناء جلوسي مع "أم محمد" لخمسة أيام متواصلة، ما يدور من حديث بيننا غَيَّرَ مشاهداتي لمجريات الحياة وفروعها، كأنني دخلت مرحلة جديدة ومختلفة، تقلني بحكاياها إلى حقيقة وليس إلى وهم، أتوج بها مفردات حياتي المقبلة. كم راودتني سابقاً فكرة وجود رجل في حياتي، وأطفال أسعد بهم، أشقى من أجلهم، أبحث عن وقت أقضيه في كيفية تجنب مشاكلهم، هم يكبرون أمامي، أعبّر من خلالهم عن أنوثتي بما يواكب تجاربهم الشقية، جعلتني "أم محمد" أفكر في إنجاب طفلين أو ثلاثة، فقط كي أتمكن من تربيتهم تربية جيدة.
في اليوم الأول، بعد خروج "أبو محمد" من العملية، جلسنا سوية نراقبه بدقة وحذر، كنت أخفف عن "أم محمد" شعورها وقلقها، هي بصبر تجاوبني، شاكرة لي لجهدي، ومساندتها في محنتها، إنسانة رقيقة، ما أصاب حياتها يجعلها تبدو لمن يراها، أول مرة، أنها قد تجاوزت الخمسين من العمر، يوم بدأت الكلام، صوتها هاجر إلى أعمق نقطة من نفسها وهي تقول: بعد زواجنا، كبر أملنا في الانجاب، حياتنا أصبحت مثل سجل زمن مدينتنا التي تتخبط بين فصول الحرب والحصار، أيامنا أمواج لا ينفع معها التجذيف للسير نحو خطوة أفضل، شتاؤنا يبيع شقاءه للصيف، نهضم نفايات ليالينا الداكنة، وتأتي أحزان نهارنا محملة بحكايات الدامي والسعلوة، شكلها متجسد مثل قروح على وجه ساعاتنا الأليمة، بقينا أربع سنوات نطوف فوق جدران النحس، في بحثنا عن طفل، لم نأبه للغيوم الرمادية، بل زادت قوة الرغبة في الإنجاب، كم عانينا حتى رزقنا بـ"محمد"، قبل أن يرى النور، فقد والده "ياسين" ما بعد النصف من جسده (الأطراف السفلى)، عاد سهم القلق وضجر الشحوب المصاحب للألم ينسج ظلاله الشاخصة بألوان مختلفة عن حكايات عتيقة، عاكسة وشائج معلقة سقفها وملاصق لرؤوسنا، غزلتها نفوس قائمة على خلق صنوف العذاب، تحملنا نتوءاتها المعقدة، لا يمكن محوها من أدمغتنا، تقرِضُنا شفاه العجز، لا نجد مسافة نحطم بها تلك المطاردة، قانونها الموت، تجفل بين أيدينا لحظات السعادة الملساء عندما نريد ربطها على أجسادنا، حتى وصل الأمر إلى أدق تفاصيل الحياة، مع الأيام أصبحنا مقهورين، نعلق الأمل على أطراف الأماني، عسى أن تنعشها ساعات الانتظار، بدل أن نفقد صوابنا، أصبحنا والظلام الحالك حين تنام المصابيح، نتلمس الحائط، لا ضياء حتى على إسفلت الشارع الذي بدا يبحث عن أسباب العتمة، يبكي لعدم تمايز سواده من سواد الليل، أخذنا الظن، لماذا هذا الهوس بالظلام المندرج في كل شيء؟ نحن الحالمون تعذبنا العتمة، بعض الليالي يساند القمر أحلامنا، تتجسد رعشاتنا الخائفة صباحنا ومساؤنا، يترصدنا الخوف من وراء شباك الغرفة، شأننا شأن عالمنا الممنوح أوسمة حافلة بالضياع، لم يكن في حسباننا أن لابسي الأقنعة سيوقفون حتى سريان الدم من الرعب والجوع!
صحب كلامها بكاء مخنوق، خدرتنا سياط الذل بكل قوتها، عشنا ضمن سؤال متعدد الفروع، جنت علينا تلك الحرب! مبررها باهظ، تركت الغصات في قلوب أبنائنا، وجدنا أنفسنا جالسين على شواطئ الذكريات، عصفور قلبينا يردد ما غطس في بحر الهموم من جمر الحاجة.
كفكفت دموعها، أدارت برأسها نحو زوجها "ياسين"، اقتربت منه، طبعت قبلة على وجنته الشاحبة، رافعة يديها للسماء متضرعة إلى الله. تململ قليلاً. هرعت إلى غرفة الممرضات، نظرتُ إلى "ياسين"، وإلى "أم محمد" (سالمة). ابتلعها باب الغرفة. بعد هنية حضرت ومعها الطبيب. أخذ يساعد "ياسين"، إنهُ بدأ يصحو من المخدر، ثم قال الطبيب لـ"سالمة": أم محمد.. إنه بحالة جيدة، بعد دقائق معدودة سوف ينتهي فعل المخدر(البنج)، اطمئني، لا داعي للقلق.
بالفعل لم تمر عشرة دقائق حتى فتح عينيه محاولاً الكلام. لا يملك السيطرة على استيعاب حالته الصحية. "أم محمد" تتابع وجه زوجها، وجدته كمن يبحث عن شيء، سألته: ماذا تريد "أبو محمد"؟
لم يستطع الكلام. بقي يبحث. حركة عينيه تدل على أنه يبحث عن شيء. خطر في بالها أنه ربما يبحث عن الأولاد، قالت له: الأولاد سيأتون حالاً، مع عمهم حامد، هم عنده منذ الصباح، كلمني بالهاتف بعد خروجك من العملية.
بينما هي تحدثه، دفع الأولاد الباب ودخلوا مع عمهم، ما أن سمع "أبو محمد" صوتهم حتى ابتسم لـ"سالمة". أشارت إليهم بيدها أن عليهم بالهدوء. اقتربوا من والدهم محاولين الصعود إلى سريره. أوقفتهم. أفهمتهم أن والدهم يحتاج إلى الراحة والهدوء. سمع الأولاد كلامها وتصرفوا كأنهم كبار. وقفوا إلى جانب السرير ينظرون إلى والدهم ويتحدثون معه. حضر الطبيب. أمر بإخلاء الغرفة. بعد أن أعطى أمراً للمرضة بمتابعة الدواء بدقة، سمح لـ"أم محمد" فقط بالبقاء. خرجنا جميعاً. صحب "حامد" الأولاد إلى بيته.
عدت إلى البيت. دخلت غرفتي. جلست أمام المرآة أمشط خصلات شعري. أتطلع إلى وجه "رضوان" السابح في قلبي. أتابع صوراً تطارد طيف حلم الإنجاب. مرت ثلاثة شهور على زواجنا. رحمي لم يتلقّف بذرة زرعت في أرضه، وقوارب الشوق في نمو جنين بين أحشائي تقودني للسؤال:
- هل أحتاج إلى طبيب، سأنتظر للأيام القادمة إن لم... حسبت الأيام، دورتي غير منتظمة منذ الشهر الماضي. سألتني أم رضوان:
- هل دورتك الشهرية منتظمة؟
- لا مختلفة عن موعدها.
- خير إن شاء الله.
هذا الشهر غابت أكثر من أسبوع. هل أقول: خير إن شاء الله؟ نعم.. سأتريث قليلاً. لو خايلني السراب أذهب إلى الطبيب. سمعت صوت "رضوان". أتى من عمله ويتحدث مع جده. نزلت إلى الطابق الأول. ساعدت "أم رضوان" (عمّتي) في تهيئة العشاء. يبدو "رضوان" سعيداً، منهمكاً بالحديث مع جده.
دام انشغال "رضوان" لفصل كامل من السنة، بينما الشتاء على الأبواب، يتحرك في أحشائي جنين وافق على مشاركتنا الحياة. أوضاع "رضوان" من عدة نواحي استقرت، أفضلها في نظره المكان الذي أصبح نقطة لقاء وتفاعل يومي مع أصدقائه، أما مشروع الكتاب الذي يريد تأليفه، فطلب مني أن أساعده في إنجازه. ليل الشتاء قادر على مساعدتنا وكفيل بخلق أجواء المتابعة، واضعاً خطة للعمل سوية. علاقته بأصدقائه ليس لها حدود. حكاياتها كثيرة. شغله الشاغل هو العمل على تأسيس مقومات ثابتة تحافظ على معالم المدينة، حتى لا يصيبها الهلاك على أيدٍ تجهل قيمتها المعنوية لدى عشاقها مِنْ مَنْ أنجبتهم.
بعد وفاة جدّه، حرص أن تبقى غرفة جده على هيئتها، فحين يشعر بالحنين لوالدهِ يدخلها وحده، بعدها يخرج كمن حضر جلسات عند طبيب نفس. منذ أن أفهمته أنه لا بد من تنظيفها، سمح لي بالدخول. ذات يوم طلبت منهُ أن أكون معه. رفض. من يدخل الغرفة يحس أن جدهُ ما زال حياً؛ سجادة الصلاة في مكانها نفسه، مصحفه على الرحلة الخشبية (القاعدة) مصنوعة من خشب الصاج، دولاب الملابس ذو البابين يحتوي أشياء تخص زوجته المتوفاة قبله من سنين مُبقياً على ذكراها وتعلقه بها لآخر أيامه، ذاكراً إياها بالحنونة، ملابسه كما هي في الدولاب، زبون غطره عقالهِ فروتهِ، ملابس الحج البيضاء، المناشف (خاوليات)، أما السجادة الأرضية (محفورة) من الكاشان الفارسي، وبعض الأغطية مصنوعة من الصوف الخالص تسمى (الجاجيم موصلي) يمتاز بدقة صناعته، فهو من شعر الماعز، يستعمل في أيام البرد القارص، حتى اللكن والإبريق الفضي والقبقاب الخشبي الذي يلبسه عندما يتوضأ، غطاء الرأس (العقجين)، دشداشته المطرزة بخيط الساتان (الخَرج) آخر ما كان يلبس، مازالت معلقة في مكانها خلف الباب.
قبل ذهابنا لتلبية دعوة صديقه "يوسف"، وفي لحظة خروجنا من البيت دخل غرفة جده. بقيتُ أنا واقفة عند الباب. خلع حذاءه. وقف أمام صورة جده يحدثها. أول مرة أسمعه يفكر بصوت عالٍ: جدي.. أستأذنك في الذهاب لمشاركة صديقي العيد. طلب مني ذلك مستشعراً بتوحد وجودنا الإنساني. أرجو أن لا يغضبك موقفي هذا. سيأخذني إلى الكنيسة لأحضر بعض طقوسهم. كم هو معجب بما يحدث في هذه الليلة المباركة عندهم، إنهم يعيشونه كما عرفوا ووعوا، الدين يا جدي لون الجلد لا يمكن تبديله، لكن أفكارنا وعواطفنا يمكن أن نصححها بالمحبة متمسكين بالآية الكريمة: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ }. نحن إخوة نعيش تحت السماء نفسها منذ قرون، هو يريد أن نكون سوية، مثلما زارني يوم عيد الأضحى المبارك، ويوم فراقك شاركني أيام العزاء كأخ لم تلده أمي. اطمئن يا جدي لن أنسى كلامك. يحرقنا الجمر حين لا نعي الفرق بين الأمور، وكلنا ظال حين ننسى أننا لن نموت.
ثم قرأ سورة الفاتحة على روح جدهِ وخرج من الغرفة، ثم عرج على غرفة والدته، يعلمها بتأخرنا كي لا تقلق. أثناء صعودنا السيارة، سألته:
- أين بيت صديقك "يوسف"؟
- إنه في حوش الخان.
- أين هذا حوش الخان؟!
- عندما نصل ستعرفين، كأنك ليس من أهل الموصل! أيعقل أنك لا تعرفين حوش الخان أين هو؟! إنه في وسط المدينة، قريب من شارع سوق الشعارين، لقد وعدت "عماد"؛ هو أيضاً من أصدقائي القدامى من أيام الطفولة، لم يسبق أن تعرفت إليه، لم تفرقنا الأيام رغم قسوتها. إنه رجل متعلق بالرياضة ومهووساً بها لدرجة أنها أصبحت كل طموحاته، في فترة شبابه حصل على بطولة آسيا في إحدى السنوات، مَثَّلَ العراق كربّاع في رفع الأثقال، ضاعت كل جهوده بسبب إهمال الدولة له، بعد هروب أخيه الذي يعمل في جهة أمنية، تعرضت عائلته لكثير من مصادرة الحقوق كمواطنين، يقع بيته في محلة الجامع الكبير، وعدته أن أمر عليه، لأنه مدعوٌ معنا من قبل "يوسف"، هو ينتظرني الآن، قد تأخرنا عليه بعض الشيء، لم نصدق أنه قبل الدعوة، أنا و"يوسف"، إنه منذ زمن مبتعد عن الجميع، يعاني الكآبة، لا أعرف اليوم كيف وافق، ها قد وصلنا.
نزل وتركني في السيارة، بعد أن أوقفها أمام باب الجامع الكبير، فيما أنا أنظر حولي كمن يستطلع المكان، وقع نظري على كتابة محفورة على حجر المرمر، مثبت على إطار الباب الحديدي المصبوغ باللون الأخضر؛ جامع النوري. دهشت لماذا كتب جامع النوري وليس الجامع الكبير! وماذا يعني اسم النوري؟
عاد بعد لحظات يرافقه صديقه. سلّمَ ثم صعد السيارة، ما أن صعد "رضوان" السيارة حتى قلت له: قرأت اللوحة المنقوشة على جبين الباب اسم النوري، من هو؟ ولماذا لم يكتب اسم الجامع الكبير؟!
ابتسم قائلاً: سوف اشرح لك فيما بعد.
يبدو أن صديقه "عماد" أخذه الشوق للحديث عن الجامع. "عماد" رجل طويل القامة ضخم وسمين، وزنه قد يصل إلى مائة وخكسين كيلوغرام. سحب نفساً من أعماق خاطره بألم شيديد، حتى أني شعرت بحرارة نَفسِه ملء السيارة. صوته مشحون بنبرة الأسى. قال: إن عمر هذا الجامع أكثر من ثمانمائة سنة، شيده نور الدين الزنكي، أمير دولة الأتابكة، في القرن السادس الهجري، كلف بناؤه في ذلك العهد ستين ألف دينار من الذهب.
أكمل "رضوان": يصل ارتفاع المنارة (65 م)، أما العرض فهو (17 م)، الانحناء الموجود يُعتقد أنه سبّب خللاً فيها، على العكس، هو عائد لأمور هندسية، وفق حسابات جيولوجية، إذ لو صادف، لا سامح الله، وأن وقعت لأيّ من الأاسباب، تنهار عمودياً، كي لا تؤذي ما يحيطها من بنيان.
أكمل "عماد": هي أعلى مئذنة في العراق، متميزة بما تحمل من زخارف، سبعة أقسام يفصل كل قسمين شريط من الآجر، لها طريق يؤدي إلى أعلى المنارة، حالياً لا يسمح لأحد بالصعود إليها.
يضيف "رضوان": لها محراب صيفي يحمل كتابات وزخارف غاية في الجمال، ما يثبت مهارة فن الزخرفة واهتمام الموصليين به في ذلك الزمان، إذا لم يهتم بها كما يجب من قبل الدولة، أو الآثاريون، قد تسقط.
يبدو أن "رضوان" وأصدقاءه على علم بكثير من الأشياء. شعرت بخجل من جهلي وأنا أصارع أزمنة لا تشفع لأحد غير الثوابت الملموسة، مع زوالها تصبح مجرد شواهد ضمن تاريخ. تأكدت حينها أن ثقافة المعرفة لا تأتي عن طريق التعليم فقط، أو المدارس، بما أننا مجتمع منغلق حد الخرافة. الثقافة العامة تحتاج إلى الاختلاط والسفر والاطلاع. طرح الآراء المختلفة. مناقشة الأمور اليومية. إعطاء فرصة لمشاركة المرأة برأيها، ليس صدها ومنعها وإبعادها بكل الصور، والحجة في ذلك أنها غير مضطرة لخوض مثل هذه (السوالف) أو معرفة ما يعنيها، لأن مكانها البيت، الرجل فقط من يسمح له بالمشاركة حتى لو لم يكن ذا بينَّه أو شأن، وإلاّ كيف يعرف "رضوان" وأصدقاؤه كل شيء، أكيد بحكم الاختلاط والسفر أصبحوا أكثر وعياً، أما "رضوان" يفهم الوضع دائماً. يحاول زجّي في التفاعل اليومي. منذ أول ارتباطنا يحثني للخوض في الحديث واكتساب المعرفة من خلال تتبع المعلومة التي أسمعها، لأنه وجد أنني متدربة على الصمت تطبيقاً للمثل القائل في الموصل (اشتري ولا تبيع). نعم منذ وعيت لم أجد من يوضح لي بعض المفاهيم. إنَّ ما أجده عند "رضوان" يختلف عن ما عرفته، حتى أنني في فترة حملي، أحسست نفسي جاهلة بما يتعلق بأنوثتي، وفهم تكويني البيولوجي. غريزتي فقط هي ما يتحرك، ليس وعيي. أكثر من مرة شعرت بأنني أحتاج لبحر أغسل فيهِ أفكاري من قهر الجهل وهشاشتي، لا بد أن ما يرتطم بشواطئ أوثاني يجب تحطيمه. الحياء الذي ألبسه كثوب يحمي ما خفي تحته من وقار مزيف يحولني إلى كتلة من الغباء.
توقف "رضوان". نزل من السيارة هو وعماد. نزلت متعثرة بخجل يلف خطواتي. استقبلنا زقاق له ثلاث درجات متكسرة الحوافي، قال رضوان: "منال".. لاتجهدي نفسك بالتفكير، أنا معك.
امتص شيئاً من غضبي، بينما أسير في أمكنة لم أضع فيها قدميّ من قبل، متذكرة كلمات "رضوان"" أيعقل أنني ابنة هذه المدينة، ولا أعرف عنها شيئاً؟! لكن ما الذي يدعوني إلى المجيء إلى هذه الأماكن؟ منذ طفولتي إلى أن أكملت الجامعة، لم يسمح لي بالخروج وحدي من البيت، إلاّ ويصطحبني أحد من اسرتي إلى بيت جدتي، والمدرسة، والسوق، أما فترة عملي، سعى والدي لحصولي على اشتراك في سيارة، تأتي صباحاً لأخذي إلى المحكمة، وبعد انتهاء الدوام تأتي لأخذي إلى البيت. كل المسافة تُقضى بالسيارة، وإذا صادف وأن سألت عن بعض الأماكن، يكون الجواب جاهزاً: ما لك وهذه الأسئلة؟! إلى أن تعودت الصمت. رأسي منكب تدور وتدور فيه الأفكار كأنني في غيبوبة. لم أنتبه كيف اجتزنا هذه الأزقة! أثار انتباهي المكان الفسيح والنظيف، أطفال مثل فراشات، فتيات أنيقات يبهر جمالهن، الكنائس الثلاث ملتفة كحلقة متماسكة جدرانها أفسحت مجالاً في كبد بعض الجهات فيها لمرور الناس، حيطانها مدهونة باللون الأبيض، أبوابها مزخرفة مع كثير من العناية، أصوات تنبعث من داخل هذه الأبنية الساحرة رقيقة كأنها خارجة من الفردوس، نساء متشحات بالبياض، إنهن (الماسيرات). "يوسف" واقف في نهاية الساحة، عليه ملابس الرهبنة، استقبلنا بابتسامة وادعة، وقادنا إلى بيته الملاصق جداره حائط الكنيسة، باب البيت مفتوح، أشار إلينا بالدخول. نظرت إلى "رضوان"، هزّ رأسه مشيراً إلي بالدخول. استقبلتنا امرأة في فناء الدار مرحبة، ثم قادتنا إلى غرفة نصف بابها السفلي من الخشب مصبوغ باللون الأزرق الفاتح، والنصف الأعلى من الزجاج، الغرفة كبيرة تبهج القلب دافئة، شجرة الميلاد في صدر الغرفة بكامل زينتها، متلألئة أنوارها، دعتنا للجلوس، تفوح روائح عطرة شذية، تطغى لمسات ناعمة على أجوائها، الغرفة تشعرك بالبهجة. بعد جلوسنا بلحظات دخلت امرأة متوسطة العمر، قال "يوسف": إنها أختي "زكية". ثم أكمل: هذا اسمها في الجنسية، أما في التعميد فاسمها "أنجيل"، توفي زوجها في معركة الشلامجة.
قدمت لنا القهوة. جلست بقربي. فزعت لإحساسي أنني سوف أحرج من عدم قدرتي على مواجهة أي حوار، خصوصاً جهلي التام في أمور دينهم. لم تطل الجلوس، أما "رضوان" و"عماد" و"يوسف" فغرقوا بحوارات عدة، حاولت جاهدة الإصغاء إلى حديثهم، سمعت "يوسف" يقول:
- ان محلة حوش الخان تحوي ثلاث كنائس، واحدة للأرمن، واثنتان للأرثوذوكس، الطاهرة العتيقة والجديدة، إنما يوجد في عموم الموصل كثير من الكنائس، دائماً تحيطها الجوامع، كما أنه لا يوجد مشكلة في التعايش مع المسلمين، هم إخواننا، علاقاتنا جيدة.
قال عماد: هل صحيح أنه قد عثر على عظام الرسول مارتوما، في كنيسة مارتوما، التي يرجع تارخها إلى (1168م)؟
يوسف: نعم.. سنة (1965م) أثناء الترميم، وعرضت على الطائفة المسيحية.
رضوان: الموصل مدينة عريقة، مشاكلها حالياً ليس ما تحتوي من كنائس أوجوامع أو مراقد الأنبياء والأولياء. إن ما يحدث حالياً يدوس كل مفهوم من مفاهيم مدينتنا ومعالمها، خذ مثلاً الشيخ "فتحي"، كيف كان وكيف أصبح؟ بحجة الترميم ضاعت كل معالمه الجمالية التي كانت تحطيه. أين باحة البئر؟ تنهد تنهيدة كمن طعن في الظهر. النبي شيت منارته غير موقعها، النبي يونس بعد الترميم يبدو شكلة أبهى، لكنه فقد شيئاً من روحه القديمة، لا يتم الترميم بهذه الصورة، كما حدث في بابل، أعيد صياغة الشكل، وفقد المضمون التاريخي قيمته التاريخية.
يوسف: الموصل بدأت تفقد أشياء كثيرة، كأنَّ يداً خفية تعبثُ بها، شمل ذلك الأسواق، والحمامات، والمدارس، والمكتبات، وأسوارها، وأبوابها القديمة، تراثها كله مهمل، شمل حتى عاداتها وتقاليدها، حيث الموصلي يعتمد في عيشه عادات عرفها من أزمان طويلة، دون فرق بين مسلم أو مسيحي، أو أياً كان، مادام يعيش فيها، لو حقاً كان همّه الاعتناء بتراث الموصل وحفظ تاريخها، لكان الاهتمام بأبوابها وأسوارها وقلعة باش طابيا وعين كبريت تلك التي تحوي مياهاً معدنية، ولها أثر كبير في اعتقاد الناس أن مياهها شفاء، وأهل الموصل يعتزون بزيارتها أيام الحر الشديد لكون مياهها تخفف من أعراض الأمراض الصيفية خصوصاً التي تخص الجلد.
عماد: أذكر أيام الخريف (الأصفاري) عندما تستعد جداتنا وأمهاتنا لعمل (المونة) سلق البرغل، وتخزين حنطة الخبز. من كان يأكل خبز من السوق؟ لخبز تنور الطين نكهة وطعم، منذ ظهور (الخبز) الصمون الأوتوماتيكي، وأذكر عروق التنور التي لم يعد لها وجود هذه الأيام، اختلف طعم ونكهة الخبز وتلك القرصة الشهية؟ أين (مكائن الجرش) المونة التي تخزن لموسم الشتاء، مع دخولهِ يكون البيت مجهزاً من كل المواد الغذائية، لا يحرج أهل البيت استقبالَ ضيف أو زائراً مفاجئاً. الحصة قضت على بركة البيت، حتى اللحم تغير طعمه، دهن الحر لم يعد له أثر، الطرشي، الباسطرمة، من يصنعها في البيت الآن؟ كل شيء من السوق. الحرب لعبت دوراً كبيراً في تغيير مجرى المجتمع وحياتنا.
يوسف: ذكرتني بالجراش وماكينته، الطحان الذي يدور في المحلة، الحطاب يبيع الحطب والبعر لسجر التنور في البيوت، أبو الحليب.. يأتي باكراً ليبيع الحليب الدسم الطازج، لا أريد أن أتذكر، كل شيء تغير، القيمر أبو (شعرايا) حالياً صار (القشطة)، جبن الغنم المكبوس صار جبناً معلباً لا تعرف له مصدر، أرز الجبل، الحصة تقدم بدلاً عنه نوعاً من الأرز لا يصلح حتى علفاً للحيوانات، لو كان هذا التغير على مستوى حضاري وصحي، فلا بأس، لكن كلّه تجاري بمعنى الكلمة، أي دون أي رقابة، حكم القوي على الضعيف، وضعنا أعمارنا أمانة في رقبتهم، فأصبح هذا حالنا، نسأل الله الصبر، والله يا أخي حتى الملبس مفروض علينا، لا يوجد ذوق خاص، أو تنوع في التجارة، فقط ما يفرضه القطاع العام متوفر، وحدهم جلاوزة السلطة من يتحكم في كل شيء.
رضوان: أذكر والدي، الله يرحمه، يأخذني معه إلى السوق في باب السراي، دكانه في خان المفتي، تحتوي كل ما يتعلق بجهاز العرائس، أختلس وقت أنشغاله، أنزلق في السوق، أجوب قيصرية أم السبعة أبواب، وسوق العتمي، أرجع إلى حمام الفحيمين، الخندفروشي، وسوق الصفارين، القزازين، البزازين، العطارين، الحبالين الصوافة، لا أعود إلاّ عندما أشعر بالتعب أو الجوع، أجدُ والدي قد أجهده البحث عني، ما أن أصل حتى يضمني ويقبلني قائلاً: ابني لا تبتعد كثيراً.. تقلقني عليك، لكنك (سبع) تعرف كيف تعود، إلى أن تعوّد غيابي وعودتي.
عماد: تعلمون حتى المدارس اختلف أمرها، سابقاً كنا نحظى بالنشاطات اللاصفية، مثل الرسم الرياضة السفرات الترفيهية، الدوام كان فترتين، كنا نحترم المعلم، اليوم الدوام لا يزيد عن الثلاث ساعات، لا يوجد احترام للمعلم، لا بل زاد الأمر سوءاً، إن المعلم يطالب تلامذته بالصرف عليه، كأنه يستجدي، وبهذه الحالة فقد كل احترام له، الفرق شاسع بين مدارس أمس واليوم، عجلة غادرة حججها واهية، اجتاحتنا خلال فترة الحرب، والحبل على الجرار، مدارس اليوم أجهزت على البقية الباقية من الفكر والأخلاق، إلاّ من ألزمهم ذووهم بحرص شديد، وأين هؤلاء؟ إمّا غادروا العراق، أو سحقت طموحاتهم الظروف وما تبعها من فاقة، نسأل الله اللطف فيما نمر به.
إذاً أنا لم أكن بالفعل من أهل هذه المدينة لما أسمعه، لم أعرف العوز أو الحاجة، كل شيء متوفر لي، لم أشعر بالخوف من الغد، قلقي يدور حول أشياء بالقياس تعتبر تافهة، في خضم المعاناة التي يمر بها الوضع العام، في عملي انشغلت بهموم المرأة، لكن ليس لدرجة الانغماس بها، أتألم، أتمنى أن أفعل شيئاً، أجد حيلتي ضعيفة، كوني باحثة اجتماعية في محكمة عملها متعلق فقط بالقانون، التعامل من خلال القانون، لهذا كنت أجد نفسي تعيسة، لما عايشته من عملي حول معاناة النساء في مجتمع لا يرحم رقتها وضعفها، أقولها بكل أسى، للجهل دوره كبير، اليوم بعد ما سمعت، وما أسمع، إن النساء مغبونات بحجبهن عن المشاركة في الحياة بصورة كاملة، هنَّ محصورات بين البيت والمطبخ، وحديث نصفه همس، من سمح لها بالتعليم، الغاية من ذلك كسب وضع اجتماعي، لأن الفتيات اللواتي يملكن شيئاً من الجمال يزوجوهن صغيرات، صحيح في فترةٍ ما كان هناك ما يسمى بالتعليم الإلزامي، أو حملة محو الأمية، لكن أيضاً من أجل غايات سياسية، وليس النهوض بالمرأة، كتثقيفها وتوعيتها، الحرب قلبت كيان شعب كامل، سحقت الإنسان، وإعلامياً هي المنتصرة، والحقيقة الخسارة مائة بالمائة، إذاً ما فائدتها؟



(6)

فيما أطوف فوق مقلمات الماضي، دخلت "زكية" تدعونا لتناول العشاء، توجهنا إلى غرفة أخرى أعدت فيها مائدة فاخرة تحتوي أنواع من السلطات والمشويات والمشهيات، لفت انتباهي نوع من الطعام، سألت "زكية" عن اسمه ومحتوياته، قالت:
- هذه كبة الميلاد، من الأرز واللحم، أول نوع من الطعام نأكله بعد الصوم، نعدها يوم الفطر فقط، هي والزبيبي.
قلت لها: الزبيبي أعرفها، أما هذه لم أشاهدها على موائدنا.
أخذت تشرح لي كيفية صنعها، بعد تذوقي لها فعلاً هي لذيذة، بعد العشاء شربنا الشاي، ثم قدمت لنا الفاكهة، تجاوز الوقت الثامنة مساءً، أشرت إلى "رضوان" أن الوقت تأخر ولا بد من عودتنا، وافقني الرأي، هنأناهم بالعيد، شكرهم "رضوان" على دعوتهم لمشاركتنا خصوصياتهم، أما "عماد" فبقي مع يوسف.
وصلنا البيت. وجدنا "أم رضوان" لم تنم بعد. بينما أصعد الدرج متوجه إلى غرفتنا، شعرت بحركة الجنين في أحشائي بقوة، كأنه يشكرني على وجبة العشاء اللذيذة، أما "رضوان" فصعد إلى الغرفة بعدي بربع ساعة، حيث بقيَ مع والدتهِ. لم يفكر في النوم. عندما صعد إلى الغرفة جلس في المكتبة ينظم بعض أوراقه، سألني:
- متى نبدأ بعملية أعداد الكتاب، مشروعنا المشترك؟
- إذا أحببت اليوم، أما إذا كنت مشغولاً أفضل غداً.
- ليكن يوم غد، أجدك مجهدة.
هيأت نفسي للنوم، ما أن لفتني أغطية السرير، حتى رحلت داخل أفكاري المشرنقة، أقاسي ضعف شخصيتي في عدم امتلاكي أي معرفة، كأنني فانوس بلا زيت، تلفني ظلال الجهل، ما عشته سابقاً كزخرفة على الرمل، أحسست نني عارية من كل شيء، الجميع يعرف الأشياء البدهية، مثل معرفتي بالأشياء المحيطة بي، هذا لا يجعلني في مستوى أحسن، في سير حياتي، أين أنا من "رضوان"؟! بالكاد أتواصل مع من ألتقي بهم من أصدقائه، لا يتعدى حدود السلام، بعدها أجد نفسي أعدو حول هواجس المرأة العادية، بل أقل في بعض الأحيان، أفهم في القانون لأنَّني درسته، لكن هذا لا يجعلني مثقفة لبقة قادرة على إدارة أي حوار في مجتمع متحضر، كل ما أدركه عبارات المجاملة، التي فحواها الاعتذار والتهرب من المواجهة، عندما أجد نفسي محرجة في بعض المواقف، أما الآن عليّ مواجهة مجتمع، وغير ما قرعت من أيامي السابقة، الحياء والخجل لا يعنيان الهروب والانزواء، كيف أتخلص من فقري الشديد؟! (ماذا؟ فقر؟) هذه الكلمة شاهدتها في بعض الأماكن، لكني لم أعشها! هل يقع أمر فطنتي المهجورة في حيز التربية؟ شيء متجذر في داخلي يريد الارتداد بفتور، هل ما عشته في كنف والدي وأسرتي له وقع على قطار ذاكرتي الخاوية؟ سحبت نفساً مشحوناً بعراقيل التخلف، كأني أحث عجزي، هدير بطيء خيم على ذهني، آخذةً بقع غضبي تعاونه دموعي لغسل الباقي من فواصل التّزمت المقيت، جرجرت يدي من تحت خدي، مسحت دموعي المتقاطرة على السالف من عمري، بشجاعة متشددة انسلَلْت من الفراش، وقفت حائرة مما أحسست،، هدوء طري يختمر في جسدي، وأفكار عابقة اجتاحتني، شعلت قسماً من الماضي وحماقاته، في لحظة إدراكي الغائب في خلايا دماغي المشمع بالصمت الذي يشبه تدميره تدمير الحرب وفعلها. لماذا أضع هشيم افتقاري على أكتاف والدي؟ رغم أن دورهم مأخوذ من شظفٍ عقلوه. لماذا أبقَى متدثرة بحسن نواياهم المعلقة بعادات أهدابها تنوء في وادٍ برمته مجدب؟!
ألاّ يكفي أنهم دفعوا بي وسط أوزان المستقبل؟ دوافع حرصهم غير ناقصة في ظنهم. لماذا لم أعالج سجن جسدي وعقلي وروحي وأنضم بكل قوايَّ إلى العالم الذي يشرع طريقه زوجي الحبيب، وأصبح نداً له في كسب المعرفة كي لا أشعر بأي نقص داخلي؟! هو لا يعرف الخداع وأنا لا أعرفه، يعالج كل الأمور التي تعترضه بقدسية الحكيم، وأنا أخاف من كل شيء خرج من حدود معرفتي البسيطة، لا يعرف التسرع أو التغاضي، أنا أفضل عدم التدخل بدافع الخجل وأتغاضى عن كثير من الأمور بحجة الحياء، كأن دمه ممزوج بشراب الصبر، وعقله بحزم الإيمان، أنا أملك الصبر لدرجة الجبن، "رضوان" دائماً ذكر لي أنه منذ الصغر عودَ نفسه على التروي في حل المعضلات، أما أنا فمنذ صغري أحجب عن مشكلة تقع أو تحدث في البيت لأنه لا يوجد داع لتدخلي، مجتمعنا تشكيلة محدودة تحمل التناقضات، بتحمس أحاور نفسي، أدفعها لأخذ بصيص من التناسب مع حثها على إرساء مقاصدي لجني ثمرة النور.
تقدمت من "رضوان"، طلبت منه أن يمنحني ورقة وقلماً، تصورت أنه سينبهر لطلبي، لكنه لم يفعل. قدم لي الورق والقلم، قائلاً لي: حين تستفيق الأفكار من نومها سوف تحتضن التناظر والانعتاق لقيمة الجهود، بمختلف جوها المنعش، يمجد كفاح الأبطال، لذا أقول لك: التمرد ليس بطولة، والهجموم لا يثمن شجاعة، غَرز الاهتمام يعود على صاحبه بعلامة النجاح.
أمسكت بالقلم والدفتر الذي أعطاني إياهما "رضوان"، جلست غاطسة في بحر كلماته المشجعة، والتي انبثقت منه هذه اللحظة. أول مرة أحاول أن أكون مساهمة بكسر رغباتي المتلاحقة ضد تمثيلية التعفف بمفهومها الخاطئ، أما طريقة تربيتي التي أثرت عليّ، وعلى شعوري بالحرية، وحولت حياتي التي كنت فيها كدمية على رقعة الشطرنج، انتقدتُ أعمدة الخوف، هاجمتها.. توقفت، تحسست مفردات "رضوان" حين ذكر لي عم تحويل شهوة العنف إلى واقع يفتت قوة الإرادة، وهذا لا يخدم في صنع قرار جيد. رغم وجود القلم وتحفزي كموجات البحر الهائجة في البوح على صفحات الدفتر البيضاء، لكن بالقوة نفسها قاومت التدفق الهائل من الغضب الذي سورني للحظات، ضممت القلم والدفتر إلى صدري موحية لهما بصلابتي. لم أعرف من أين أتعلق بقلائد الاستيقاظ! تعمدت أن أعرج على ما حدث اليوم، لأستقي منه دقيق إشراقي الثاقب. الآن بدأتُ أكتب:
هي الموصل، حكاياتها المنقوشة على جسد حدبائها، تشع ساكنة في قلب المدينة، حيثما أقف في أطرافها أجدها تبعث سلاماً لدجلة، يا زهرة القلب، نور صباحك من عبق روابيك، عبير مسائك ضفائر الصبايا الجميلات، خيال شروقك كناسك يسبح بهدي الرحمن، في ذاكرةِ الكتب تمسدين مكعبات الأحلام، لتهليل مناراتك ومآذنك وتسابيح ملائكة الرحمن فوق عطر طيبتك، كم أنعشتني أيام جدتي حين تجلسني قربها وهي تصلي صلاة الجمعة وتتركني غارقة في التأمل بهذا الاطمئنان الذي يدخل القلب في تلك الصوامع، ليتها تعود بالروح الطاهرة نفسها في قلوب العباد في هذا الزمن الذي شلَّ الأفئدة عن سر وجودها الناعم والبسيط في فهم التعامل الصادق، أين الصدور التي ملأها الإيمان بحق، وحفظ التعاطف مع الآخر أياً كان دون البحث عن مَنْ يكون، ومن أي طائفة أو جنس؟ المهم أنه إنسان قادر على فعل الخير، يفهمك وتفهمه بلا حواجز أو تكلفة، ولكلٍ عمله وأمرهُ يعود لخالقه.
الموصل الفيحاء كان عبير ربيعها يسكن النفوس ويرطب الأجساد بالنعم والخير والصحة، تذكر جدتي التوافق بين الناس لدرجة أنه حتى عندما كان اليهود قبل أن يهجروا، يتعاملون معهم بطيب، وهناك كثير منهم من كانوا يسمون أولادهم بأسماء المسلمين أو المسيحيين، ويتزاورون ويتهادون، وكان أكثر بيوتات الموصل لها علاقة مع اليزيدية، وعندهم شخص مقرب منهم يسمى (الكريف) أي الرجل الصديق والثقة، يدخل بيوتهم حينما يشاء ويزروهم في أماكنهم وبيوتهم التي عادةً تكون في أطراف الموصل مثل بعشيقة وبحزاني وسنجار وتوابعها. لا يوجد خوف من أحد تجاه أحد، وفي فصل الربيع يخرج أهالي الموصل للنزهة في أماكن أكثرها للمسيحيين، مثل مار دير كوركيس، ودير متى بن يونس، ودير مار بهنام، وكنيسة الحاوي، ومن له أقارب أو معارف في أطراف ربيعة وتلعفر يذهب عند أقاربه، والحضر والنمرود تلك المدينة الأثرية والتاريخية، يجتمع فيها من كل أهالي الموصل وأطرافها، للتمتع بما تحوي من آثار ومعالم.
لا أعلم بالضبط كم من الصفحات كتبت. النعاس يداعب عيني. تركت الأرواق والقلم واتجهتُ على السرير لأنام، لأنني هذه الأيام أفتقد للراحة، ففي الساعات الأولى من النهار أكون في المحكمة، أما بعد الظهر، عليَّ متابعة أمور البيت، وما يتبعهُ من أعمال تكاد لا تنتهي. عند المساء، يكون "رضوان: في البيت، أثناء وجودهِ أكون منشغلة به، كجندي، ألبي طلبات القيادة، ما أن يدخل حتىيبدأ:
- "منال".. خذي هذه الأوراق، ضعيها في مكانها.
- "منال".. هل الحمام جاهز؟
- "منال".. أين العشاء؟
- "منال".. ألا تعلمين أني لا أحب الباذنجان المقلي.
- "منال".. الشاي طعمه غير جيد.
ما أن أغيب لحظة عنه، إلا يناديني ويعاتبني:
- "منال".. لماذا لا تكملين عملك قبل أن آتي ولا تنشغلين عند وجودي في البيت بشيء آخر؟
ما أن أجلس قربه، حتى ينهمك في حديث بالهاتف، لو حدث وانسلت للحظة من أجل عملٍ ما، يغضب، ثم يعلق على تصرفي بعبارات تؤذي، يطلقها بشكل مزاح. هكذا يمر كل مساء. بعد العشاء أكون منهكة، أستأذنه في الصعود إلى الغرفة بعد الساعة الحادية عشر كي أستريحَ قليلاً. لا يجيبني بأي كلام، لكنه في الوقت نفسه لا يرفض. ما أن أضع رأسي على الوسادة، حتى يلم ألم التعب جوانب جسدي، وتنغرس الأسئلة كالشوك على الوسادة: لماذا لا يحسُّ بي؟! يجهدني بطلباتهِ، كأنَّ ما أقوم به من أعمال في البيت غير محسوبَ! أيعقل أنه لا يفكر بي ناسياً أنني حامل، وأحتاج للراحة. أحياناً كثيرة أتمنى أن أصرخ بوجههِ، رافضة أوامرهُ التي لا تنتهي. من بعد اليوم سأطلب منه أن يتعاون معي، لا.. لا.. لن أفعل، لأنه عانى الكثير في الأسر، والآن يجهد نفسه من أجلنا، وتبدو صحته لا تتحمل أي إزعاج أو ألم، ربما أنا أتعب قليلاً أو بعض الشيء ولكن لم أعش الأسر مثله تسع سنوات، لا يعلم غير الله كيف قضى تلك الايام.
الليل أكثر من بقية ساعات اليوم تنتفض الدماء في الأوردة، وتشب حرارة الجسد في بث رائحة الرغبة تجاه الغريزة، صوت شخير "رضوان" يثير شرايين جسدي، يدخلني إلى عالم الحب، كثيراً ما يثيرني جهازه التنـ.. ـفسي، للالتفاف نحو "رضوان" لف ذراعيّ حول رقبته وضمني بعنف، ربما عليّ إغداق شيء من الحنان علية، والذي سيكون في الأيام القادمة لولي العهد، مع كل نبضي المتيقظ نحوه لا أستطيع الالتفاف ناحيته، شعوري بالخجل، أو شيء من هذا القبيل، ثمة إحساس يرغمني على الانصياع لهاتف شهوتي المتفتحة في سرج انفعالاتي المتدفقة التي تريد مطارحته الغرام بعمق عشق أزهار عباد الشمس لأشعة الشمس الذهبية تحت هذا الغطاء الناعم بلونه الزهري. رغم محاولتي الكبيرة للتخلص من الخجل الذي ما زلت أعيش ضمن قيوده، سرت رعشة في عظامي من الوجل حين لامست ساقه ساقي، هو أيضاً تنهشه الرغبة وترسل عبيرها، كأننا في درس ديني تهاجمنا هواجس التشابك والعناق يوقفها اعتصام الأفكار التي تعلمت في غير منحنى تسير، عندما كانت تهشها طرق التربية، الآن هي لاهثة للبقاء معنا طوال الوقت. لهدير الليل لغة نقية تشجعها المشاعر الدافئة على تأجيج فورانها، في اللحظة نفسها حدث التجاوب الحريري وتعانقنا، ما أروع الوصول للنشوى الكاملة! باتت الملائكة تدون شهادة سر بقائها بين العالمين الإلهي والأرضي بمقدرة الخالق على بث سره في عباده، هذا يعني دوام الحياة، واستمرار مسيرتها بيسر كبير.
خفتت لحظات الانتعاش مع انقطاع التيار الكهربائي، عندما توقف جهاز التبريد عن إرسال نسماته اللذيذة. حرارة الجو لا ترحم كبيراً او صغيراً أو حاملاً أو مريضاً. تتقدم نحونا راميةً بثقلها حولنا. لم يكن أماننا غير المراوح اليدوية المبتكرة من بقايا علب الكارتون الفارغة. بيدأ القلق مع الشعور بارتفاع درجة الحرارة. الهواء ساكن. مناخ يدخلك في تفاصيل شتى، منها اللجوء إلى أخذ دش ماء ظناً أنه يفي بالغرض، لكن لا يفي بالغرض. تعود لأخذ سطل ماء تسكبه على نفسك مع وجود الملابس، أيضاً لا تجد الفائدة المرجوة في التخلص من الحرارة وهجومات البعوض التي لا تنتهي. يهرب النوم وتحوم الأفكار السلبية في غرس الامتعاض والمعاناة. جلست متكئة والمروحة بيدي. عملية الدوران يسرى ويمنى أتعبت رسغي. تركتها جانباً. شرد فكري تخلصاً من الشعور بالتعب والملل. دخلتُ ذاكرتي لأعيش مع ما ينعكس من إرهاصات تجوب ملامح الزوابع المنبعثة مما نعيشه قمة التعاسة! ما مصير هذه النبة التي في احشائي؟ ستطلق أغصانها رغم الظروف. هموم تزورني أطرّزها على جدار الليل مع فترة انقطاع الكهرباء. هي فيض من غيض. توحّد الأسود مع المجهول والتفاؤل بالأفضل. كثرت الخرافات حول أزمة الكهرباء. نعم أعتبرها خرافات، لأنه في أول مراحلها عللت الأسباب بعدم وجود قطع غيار لمحطات توليد الطاقة الكهربائية بسبب الحصار المفروض على العراق من قبل أمريكا. الناس آمنت بهذه التعليلات. مع الأيام أخذت في الازدياد ساعات الانقطاع. المحزن لأنه لم يشمل كل الامكنة، والاسباب باتت معروفة. معلوم من يجرؤ أن يتكلم ويقول للأسد أن رائحة فمه كريهة!.
ذو الدخل المرتفع اعتمدوا مولدات خاصة. مع الأيام تحولت إلى أدوات قاتلة لعدم وجود معرفة في التعامل معها. سماسرة الحرب الباردة افترضوا وجود مولدات ضخمة تسد حاجة المواطن مقابل ملبغ معين؛ سعر الأمبير (2500) دينار. سمح بها في بعض المدن منها الموصل. المستفيد الأول ذوو الدخل الجيد والعالي. لايهم المبلغ في كثير أو قليل. ذوو الدخل المحدود اكتفوا بأمبيرين أو ثلاثة على حساب حرمانهم من أشياء أخرى في حياتهم، أما أصحاب الدخل المعدم ومنهم الكسبة، أو من يعيشون على قوت يومهم، عمَّتْ العتمة باقي فواصل حياتهم ما زاد الشعور عندهم بالذل والحاجة. عند انطفاء الكهرباء تموت الحياة. تجلل بالظلام وما يحدثه من إرباك. في تلك اللحظات أصبح كل بيت لا يخلو من الفوانيس واللمبات والشموع، كلها أشياء تزيد من أعباء الفرد ودخل الأسرة. تأثير انقطاع التيار الكهربائي أدخل ظواهر جديدة خصوصاً في الستشفيات، منها الرشوة، وبيع الدواء بأسعار السوق السوداء، فالمريض يكتب له الدواء، ولكن لا يصرف الدواء، بحجة أنه غير متوفر، إذا سأل أقارب المريض كيف الحصول عليه، يشار إليه بوجوده عند أحد الأفراد ويباع بسرية تامة، ولا بد من وساطة، أو عن طريق شخص موثوق به، وإلاّ عليك أن تخرج مريضك من المستشفى الحكومية إلى المستشفى الخصوصي. مع أيام الحصار في نهاية الثمانينيات، ومع بداية التسعينيات، صدر قرار من السلطات للعمل بالتمويل الذاتي في الدوائر الحكومية العامة ما زاد الطين بلة في تفشي الفساد، وسادت الدوائر الحكومية الرشوة بشكل سافر، أما الأ قسام الخاصة بالنسائية والتوليد في المستشفيات الحكومية، فحدّث ولا حرج، مع معاناة المرأة في حالة المخاض تلازمها معاناة إرضاء الممرضات في كف إهمالهم بدفع مبالغ متعبة، وإلاّ تهمل المريضة لتبقى تحت رحمة ملائكة الرحمة، فهي وحظها، ولأنني موشكة على الولادة وهذا شهري التاسع، تأخذني الأفكار في إبعاد هذه المأساة والمشاكل، لحظتها بادرني "رضوان" بالقول:
- إلى أين وصلت بالكتاب.
- مازلت في صفحاته الاولى.
كأنه أحس بتفكيري المتعب وأراد أن يشغلني، إذ قال لي:
- اقرئي لي آخر ما كتبته.
كنت أتمشى في الغرفة أخفف عني ثقل حملي. بعد سماعي كلام "رضوان" اتجهت إلى منضدة الكتابة التي عليها الأوراق، والتي دونت فيها آخر ما كتبت. جلست أقرأ له:
- يقول أفلاطون: "إن الجمال هو نوع من الإشراق". إنه يقصد أنه عندما نبحث عن حقيقة الشيء لا نجده إلاّ عندما نصل إلى معرفة الإحساس بالجمال، والمعروف أن الجمال لا يمثل الطبيعة تماماً وكلياً. من يقول إن الحقيقة هي عنصر أساس في الجمال؟ قد يكون التأثر المتولد عند التأمل في الأشياء الجميلة،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،.
- رائع.. اتركي كل شيء وتعالي نحاول أن ننام، فما زال لشروق الشمس ساعات.
اتجهت نحو السرير. أعلم أنني لا أستطيع النوم.
- معك حق يا زوجي الحبيب. الطموح يمثل اتجاهاً مهماً في شخصية الإنسان ما يقوي نظرته المستقبلية. إن عدم الانقياد هو نوع من الجمال.
شردت مع السكون. أصحبت غير قادرة على التركيز. تمنيت أن يحفني النوم أثناء سكوني وإحساسي بالنعاس. سمعت صوت أذان الفجر. "رضوان" يردد مع المؤذن كلمات التكبير. همّ بالنهوض ليتوضأ. أنا عالقة بين فكرة النهوض والنعاس يغالبني. أخذني النوم. لم أستيقظ إلاّ في ساعات الضحى حين عاكس جفوني شعاع الشمس. ارتخاء جسدي نشّطته حركة ولي العهد التي دفعني للنهوض. شعرت بألم خفيف في ظهري. لجأت إلى عمتي "أم رضوان". الألم يزداد وأنا أحدثها. أحس هذه المرة أن الألم غريب لم يسبق له أن صاحبني من قبل. لا أستطيع الاستقرار في مكان واحد. الألم تحول إلى شيء يشبه التمزق يسري في جميع جهات بطني. ازداد لدرجة أنني صرخت دون شعور مني. توقف لثواني حتى أنني أحسست بعدم وجوده، قلت لعمتي: ذهب الألم.
لم أكمل كلامي معها، حتى عاد وبقوة أكثر من قبل. تهلل وجه عمتي وقالت: إنه الطلق, أي إنكِ على وشك الولادة.
ثم أكملت كلامها. علينا إبلاغ "رضوان" ليصطحبنا إلى المستشفى.
ولادتي المتعسرة تركت بعض التغييرات على جسدي. كلما نظرت إلى ولي العهد الذي يشبه "رضوان"، تخف همومي، وأنسج آمالاً عريضة من السعادة على صباحات بسمته الغرّاء. أغرق في سعادة لا مثيل لها، وأحلق مع روحه الصغيرة وهو ينمو كبرعم ربيع شق الأرض الصلبة وخرج كالندى على وجه حياتنا.
الأيام تتوالى، وولي العهد يزداد تعلقاً بجدته يوماً بعد يوم، حتى في بعض اللحظات تصيبني الغيرة من تعلقه بها، لكن أعراض الحمل الثاني شغلتني عن كل ما حولي لما صاحبها من آلآم. ليالي الشتاء الباردة المملة ساعدتني على مواصلة إكمال بعض صفحات الكتاب:
أخطر أشكال الهدر في حياة الشعوب، هو إضاعة الوقت بنشاطات غير مجدية في بناء المجتمع. في الماضي عانينا الكثير من الميول غير الموضوعية في التعامل مع عناصر الواقع المعيش، في ظل صراع نتج عنه تبدلات ومتغيرات سلبية غلبت على الإيجابية في حياتنا عموماً، أما المجتمعات الأخرى من حولنا، فقد حققت قفزات عملاقة في مجالات عدة، هذا الانتقال الضخم والسريع أظهر الفارق الذي ساد مجتمعنا في ظل الحرب وما عقبه من انتكاسات ما زالت مستمرة في طمس معالمنا وقدرانتا. إذا أردنا النجاح في مجال التوجيه وتحقيق موازنة بين المواقف ودرجة التفكير حول حقائق الماضي والحاضر واحتمالات المستقبل، ستكون الحاجة لاستدعاء المهام التربوية المختلفة لتحقيق التكيف الاجتماعي والثقافي واسنادها بحالة الجانب النفسي. المطلوب هو غرس الحس العلمي لتضاعف الجهود الأسرية أولاً، لأن المجتمع قد أصابه بعض التحلل.
انقطع التيار الكهربائي. كأنّ صعقة برق تصيبني لحظة انطفاء الكهرباء. أصاب بالتوتر وتلازمني رغبة حادة في الصراخ.
تمر أيام وشهور. انشغال "رضوان" الدائم وكثرة اهتمامه بسحر المدينة وتعلقه بها خلق فواصل من عدم التوافق بيننا في بعض الأحيان، حتى حواراتنا يشقها خطان مختلفان، بينما أحدثه عن ولي العهد ومشاكساته التي زادت مع أخته "رحيق" وخوفي من أن يؤذيها في غفلة أو لحظة انشغالنا عنهم. هو يحدثني عن لوعته وعشقه المتغلغل في كل مفردات حياته، وحنينه يزداد لهذه المدينه، مؤكداً لي أنه وحده الذي عرف الفراق ولوعته، فأعود إلى الأوراق أزقّها همومنا، حين تكون "رحيق" نائمة، وأنكبّ فوق أوراقي أدوّن على صفحاتها بعض ما أجده مهماً لمضمون الكتاب ويجب إيضاحه. كنت مطمئنة أن "رحيق" تغط في نوم هادئ، لكنها فجأةً أخذت تصرخ، هرعت إليها كالمجنونة، ما الذي أصابها؟ حالتاها الصحية أفضل من قبل. ملابسها نظيفة. الدواء أعطيتها إياه بانتظام ودقة. ألف سؤال هاجمني، لكنها هدأت للحظات، هل تحلم؟ يا الله... حتى الطفل في مهده جزع، قال لي "رضوان": اتركيها إنها نائمة.
اقتربت منه. جلست قربه. أخذ يخفف من جزعي بحديثه: تعلمين عندما كنت في الخارج، أيام الدراسة، رغم أنني شاب مهيأ لكل أنواع اللهو، لم يكن يشغلني غير موصلي، كل يوم تزداد ألقاً في فكري وقلبي، أحلم بها كفتاة أود معانقتها بقوة، أذوب شوقاً إليها، أجدها حديقة غناء تحتوي كل أنواع الخصب والجمال ونفوسها الطيبة، رقة نسيمها يغسلني كل صباح ويعمدني كل مساء مع بعد المسافات، تطرق أذنيّ أصوات مآذنها وأجراس كنائسها، وقوارير عبقها، تطوف في روحي اجوائها الندية التي لا تنضب، ترقد داخلي بكل وساوسها وخرافاتها وعتق معالمها، إن ما يصيب هذه المدينة، وعموم العراق في فترة الحصار وما سبقها من أيام الحرب، لن يدوم، علينا أن نفهم خدعة الثوابت وصيغها، اكتشفت ذلك منذ كنت في الأسر، إن للتاريخ وجهاً مجعداً خشناً، علينا البحث في المنطق، هو من يرشدنا إلى الملموس من الثوابت، التراث والآثار هي الشواد الباقية على حقيقة التاريخ، ولا ثابت غير المحفور على الحجر، أما الكتب تغمس دائماً بلعاب القردة من القادة المتزمتين، إذاً لا صورة لشيء ثابت غير المادة، وإدراكات العقل، من أين علمنا بوجود الله؟ أليس بإدراكنا له بالعقل! لا بد من خالق ومبدع لهذا الكون، علينا الإيمان بوجود قوة أكبر منا كلنا نخضع لها، هذا ما يقوله العقل ونؤمن به، لذا بالعقل أيضاً نفهم أننا كبشر لا فرق بيننا، نولد بالطريقة نفسها، لا خيار لنا في ذلك، إن ولدنا (شقراً بيضاً سمراً سوداً)، هذه مكونات لا يقدر على تغييرها أحد، أو إن كنا قصاراً أو أكثر طوالاً أو في أحسن تقويم أو نحمل بعض العاهات أو الأمراض، لكن ما يقع علينا في الظاهر، تأثير البيئة له دور كبير، الدين له دور وتأثير، الظرف الاجتماعي المادي العلمي الثقافي، ينعكس على الفرد في مستوى وعيّ الفرد وإدراكاته، إذاً التفاعل بين البشر يعكس وجهات نظر مختلفة، في كل الحالات البشر هم المستهلكون، يولدون ويعيشون ثم يموتون، دورهم في الحياة هو ما يُقيّم وجودهم بما تركوه من أثر فكري أو علمي أو ديني أو ثقافي، ما يخلدهم العمل، عندما يسأل أحدنا: لماذا الأنبياء والعلماء والمخترعون وبعض قادة الشعوب والحكماء والشعراء لم يمح ذكرهم بسهولة؟
- ما قدمته عقولهم، أما الأجساد فانية.
بكاء "رحيق" قطع كلام "رضوان". نهضت متجهة نحوها. حملتها. لم تسكت، بل زاد صراخها ما اضطرنا أن ننزل بها إلى والدته. أخذت تتفحص جسدها، قالت لي: قد تكون جائعة.
حملتها في حضني. أعطيتها ثديي. رفضته وهي ما زالت تبكي وتتألم من شيءٍ ما، ولم يكن أمامنا إلا الذهاب بها إلى المستشفى. بقيت في أحضان جدتها. بسرعة صعدنا إلى الغرفة. غيّرنا ملابسنا، واتجهنا بها إلى المستشفى. في الطريق تعبت من كثرة البكاء، خفت صوتها قليلاً، سألني رضوان: هل نامت؟ قلت: لا.. إنها قد خارت قواها.
حين فحصها الطبيب قال: لا بد من دخولها المستشفى. سأعطيها حقنة. ثم سأل "رضوان": هل أنت والدها؟
- نعم.
أعطى الطبيب لـ"رضوان" استمارة لدخولها المستشفى.
- هل يمكننا أن نأتي صباحاً؟
- لا.. حالتها الصحية لا تسمح. من الضروري أن تكون تحت الاشراف والمتابعة.
رافقنا إحدى الممرضات إلى ردهة تبدو نظيفة، مع أن الغرفة تحتوي ستة أسرّة، لم يكن فيها غير مريضة واحدة، وقتها فكرت أن عدم وجود مرضى هو عدم وجود دواء أو رعاية كافية، من خلال تصرف الممرضة علمت بالسبب، لأنها عملت بالمثل القائل: (انظر إلى الجهرة واضرب السطرة)، أي أنها عاملتنا على المظهر الخارجي لنا، وكما يبدو وجدتنا كفؤين من ناحية الدفع، ونحن تعاملنا معها بدافع الحرص على وضع ابنتنا، فلم نبخل عليها بإغداق المبالغ والهدايا. بعد أن أعطى "رضوان" مبلغاً للمرضة أشرق وجهها، وأكدت له أنها ستبقى معنا إلى الفجر صاحية، فلا يقلق.
ودّعني وعاد إلى البيت كي يطمئن والدته، ثم يعود في الصباح، ليتابع الفحوصات التي ستجرى لـ"رحيق". جو المستشفى كئيب. مرت ساعات النصف الأخير من الليل برتابة موحشة. "رحيق" تئن في نومها، والممرضة بين لحظة ولحظة تمر للاطمئنان. الساعة السابعة صباحاً جاء "رضوان" مع بعض الحاجيات الضرورية. مرت ثلاث أيام في المستشفى بين إجراء الفحوصات اللازمة، والبحث عن الدواء خارج المستشفى. أعلمتنا الممرضة أنه متوفر في الأردن ما اضطر "رضوان" أن يطلب الدواء من الأردن، لعدم توفره في العراق، عن طريق بعض أصدقائه، استطعنا الحصول عليه، ثمنه تجاوز ستة الآف دينار. قال "رضوان": ليس مهماً السعر، ما دام فيه الشفاء. في الحقيقة ثمنه وقتها يساوي ثمن بيت صغير في أحد الأحياء القديمة، أما "رضوان" فقال حينها: هذا حال الواقع، ما باليد حيلة، فعلاً تعافت "رحيق" بعد تناولها الدواء.





(7)

آلمني ما سمعته من قصص عن بعض الحالات المستعصية، خصوصاً تلك الطفلة التي كانت في الردهة نفسها، فقد كلف العلاج أهلها بيع بعض أثاث المنزل، هم عائلة تعيش على دخلها اليومي. وأثناء وجودي في المستشفى، التقيت امرأة تبكي بحرقة على طفلتها المريضة، لأنها ليست قادرة على توفير ثمن العلاج لابنتها، هي أرملة وبيتها بالأجرة، تعمل خبازة ومن ثمن تعبها تعتاش مع أطفالها الثلاثة، بما أنها مع طفلتها في المستشفى انقطع عنها مورد عيشها، تاركة طفليها عند الجيران، قالت لي وهي تبكي: من أين آتي بثمن الدواء؟ كل ما أجنيه من عملي بالكاد يسد حاجاتنا أنا وأطفالي، الرحمة غابت من قلوب الناس، لا ألوم أحداً هذه الأيام، كل من أعرفهم مثل حالي.
قلت لها: اطمئني.
حدثت "رضوان" عنها، في الحال قدم لها المبلغ. رفضت بشدة أخذهُ. أحزننا موقفها، لكن "رضوان" أفهمها أن الدنيا ما زالت بخير، وكلنا معرض لضيق في حياته، ولتعتبر المبلغ ديناً إلى حين تقدر على سداده حتى لو على شكل دفعات، وأشهد الله على أن أحداً لن يعلم، فالدنيا لن تدوم لأحد، وكلنا لا نملك شيئاً من حطامها، نذهب بالكفن فقط إلى مثوانا.
أبكتني وهي تنكبّ تقبّل طفلتي وتدعو لها بالشفاء، متعهدة أنها سوف تسد الدين. قال لها "رضوان": من ناحيتي أعتبره حلالاً عليكِ فلا تجهدي نفسك بالأمر.
أستطيع القول إن ما سمعته من قصص عن معاناة بعض الناس، ووضعهم المادي الخانق جداً، علمت أن أكثرهم يبيع أثاثه، خصوصاً الأشياء الثمينة لكي يوصل حلقات أيامه ببعضها دون أن ينكشف وضعه المادي المتازم.
بعد صراع دام بقاؤنا ستة أيام في المستشفى، لم ينته قلقنا حيال صحة "رحيق" بعد خروجنا من المستشفى. أصابني شيء من الوسوسة عليها، وخوفي من حدوث أية مضاعفات دعاني لمتابعة صحتها بدقة أكثر.
العمل في الكتاب أصبح كتساقط الكلمات فوق عشب في جنائن لم تعرف طعم الماء منذ سنين، أغصانها تعلمت الركوع الحزين، وبرقُ السماء حلمها، الكتاب فقط من ينتظر رحمتي بصمت دفين، فواصل حياتي وجوهر حرصي على بيتي تدفعني لضرورة الحفاظ عليه، لذا أهملت الكتاب، فصحة زوجي مجهدة وتحتاج رعاية خاصة، ومتابعة ولي العهد و"رحيق" همي الأول، وواقع عملي المتعب يرغمني على استمرار المواجة، ثم سقف الوضع العام للبلد، الذي تعبث بهِ عواصف مسننة، في الظاهر لا يعرف حجمها، أما الحقيقة.. لو شدَّت حزامها علينا لتركتنا هشيماً في براري خاوية، غضبها ينزف ببطء شديد آنياً ما يؤثر على كل فرد يصعد فيهِ نفس، وينزل في جسدهِ المنهك، من تضخم اقتصادي إلى انحلال في المجتمع، وهروب أكثر الشباب خارج العراق بسبب البطالة، وضغوط الدولة، ثم توقف كثير من المشاريع بسبب الضرائب، ومحاصرة الفرد في شتى مجالات حياته، وظهور الدجالين والمشعوذين والبغاء، وتدني الرواتب المدنيَّة خصوصاً في مجال التعليم والصحة، وإغراء الشباب العاطلين للتطوع في الجيش باسم الحرس الجمهوري، وتفشي الرشوة، وظهور أمراض جديدة مع عدم توفر العلاج، كل هذه الخروقات في تزايد، لا وجود لمن يعمل على علاجها، فراق الأحباب علمَ القسوة، وصادر الوهم كل جمال، تحول عند كل فرد إلى نوع من العذاب يدفنه في داخله كشيء من الظن والوسوسة تجاه الآخر، ولا يقدر على التصريح به، لكنه يحمله كعبء يريد أن يتقيأه في لحظة عاصفة، كلّس على الأضلع كل ما هو بعيد عن معاني القيم. في كثير من الأحيان يقودني للتفكير في قامات البشر، التي اصبحت تموج كسيقان ضعفت من عصف الريح، وأثّرت فيهم سنون الحرب والحصار. يغالبني شعور بالخوف إلى ما ستؤولُ إليهِ حياتي، وكثافة الجهد الذي أبذله ينهك قواي الجسدية. أمشاطي سكبت أوجاعها في حقائب سفري القابع في مرآة المسافات، مستقبل مجهول يحتلنا كثعبان يزحفُ تحت وسادتي، يغافل رموش عيوني المسيسة بالانتظار، كلما حاولت رسم فتوحات جديدة للحظات الأيام لا أجد مفتاحاً يناسب خساراتنا التي لا تنتهي، فأمنع أبواب دموعي من الانفتاح لحين آخر.
يقال: فاقد الشيء لا يعطيه. "رضوان" ينهك صحته المتبقية لنا في مشروعه الخيري، أيام الأسر والغربة حفرت بإبر الشوك، جرف كبير من الألم المعيش عند كل إنسان، حين يحرم من الحصول على حاجاته الضرورية، يتعلم ببطء شديد يشبه طرق تجفيف الفخار، الاحتراق بصمت ومرارة، لذا أصبح "رضوان" مثل نار تلتهم غيوم القلوب المنكسرة من حوله مع خشخشاتها، لزمن يمر في جسدهِ الألم والموت. أذكر يوم ناقشنا فكرة مشروعهِ لجعله واقعاً ملموساً، حينها قال لي: لكي ينجح المشروع لا بد أن يكون في أطراف المدينة، المزرعة التي إلى حافة النهر، من الجهة اليسرى قبل بادوش، يعتبر مكاناً ملائماً، النقود موجودة والحمد لله، العلاقات الطبية مع الناس الحقيقيين مثل بعض الأصدقاء.
درسنا سوية منذ شهور كل مقومات نجاح المشروع المتاحة بين أيدينا، لم يبق غير التنفيذ، "رضوان" دائم التفكير في المعوزين من النساء، والشباب، والأطفال، الذين لعبت الحرب دوراً في تحطيم آمالهم، ناسياً نفسه وصحته. ما لم يتوقعه، انقلاب كبير في الدينار، وتدهور العملة العراقية، حول المليارات إلى الوفاة لا تذكر كقيمة، مثل سفح جبل جليدي حاد الحافة شرخ حلمهُ ذلك التحول، مع سماعه الخبر، أصيب بجلطة، اقعتده في الفراش وسارعت في إنهاء حياته، دفنت آماله الكبيرة معه، الصدمة ساعدت على إسقاط حملي الثالث في شهوره الأولى، تحطبت أوجاعي من بعد فقدان "رضوان"، لشهور بقيت غارقة في عتمة الضيق الذي مررت به، لمَا أحاطني من خطوط سوداء ممسكة بحبال مصيري أنا وطفلي، فاقدة القدرة على تحديد أبعادها، عمّت خسارتي جدودها، سقت ابتسامات طفلي البريئة جفاف الغصون الراكعة من حزني، امتزاج لونين يبرق عنهما لون آخر، في أحلك الظروف يقود للأمام، تركت صدى الأنين يتناثر متشظياً من حولنا، في بعض الأحيان تحيط لحظات الخوف نقوشاً معقوفة، أعمل على إزاحتها، ما أن أنظر إلى طفلي حتى أجد نفسي كعملاق له جناحان، ألغي جغرافيا قارات الماضي من وجهي، أنشر شروق براءة طفلي، وأستعيذ بقوة أسكنها الله في قلبي.
لم أعد أعطي للذاكرة الخشبية فرصة كي تطفو فوق حياتي الجديدة، بعد أن انتقلت إلى بيت والديَّ العجوزين مع طفليّ الصغيرين ما جعلني قريرة العين معهم، ما أن استقر وضعي في بيت أهلي، حتى دبّ الفرح في قلب والديّ، بوجود حفيديهما، لم يعد يصارعنا صفير الهواء، لفت انتباهي سائق والدي الذي تجاوز عمره الستين سنة بوحههِ السمح مع بسمتهِ الرطبة، تواضعه الجاد يجعلني أحسهُ يشبه المخلوقات المائية، سابقاً كنت ممنوعة من الحديث معه، الآن ما الذي يمنعني من السؤال عن أحواله. اليوم بعد عودتي من العمل، حدثتني نفسي أن أدعوه لشرب الشاي بعد الغداء، والتحدث معه حول شؤون حياته، فهو أولى من غيره في المساعدة، يقول لي وهو واقف أمامي رافضاً الجلوس بعد كل سؤال أسأله إياه: الحمد لله، كل شيء بخير، الله يحفظكِ. حتى أنني كدتُ أصرخ به: ماهذا التواضع القاتل؟! لكني تريثت، تماسكتُ أعصابي، صمتّ لحظات سحبت نفساً من جوف الارض، وبهدوء قلت له: اجلس يا رجل نحن عائلة واحدة، تكلم معي بصدق.. أنا لا أريد أن أعطف عليك، أنت لك حق علينا بإخلاصك وأخلاقك، أريدكَ أن تساعدني، حدثني عن وضعك، لنمدَّ جسوراً متينة بيننا.
جلس مستبشراً، وأخذ يشربُ الشاي كمن عاد إلى رشده، حالماً بمثل هذه الساعة:
- من أين أبدأ يا ابنتي؟
كم أسعدني سماع كلمة ابنتي من فمه، قلت له: حدثني عن أولادك، وضعك المادي، زوجتك؟ بقي ساكتاً. قلت له كم من الأولاد لديك؟ ماذا يفعلون في هذا الزمن الشارد؟! أجاب:
- أكبر أبنائي فُقد في الحرب، الأصغر منه عامل في معمل النسيج، لم يخدم في الجيش، هو كريم العين وأخرس، الآخر لم يتخرج بعد من الجامعة، فهو أملنا، أصغرهم، ما زال طالباً في المتوسطة، ويعمل ليلاً في أحد الفنادق منظفاً، أما البنات ثلاثة، الكبيرة خرساء لكن سمعها ضعيف، الأصغر منها متزوجة، والصغيرة في المدرسة.
- ماذا عن بيتك؟ هل ملك لك؟
- لا والله، وصاحب الدار كل يوم يهددني بالطرد.
- زوجتك كيف احوالها؟
- بخير والحمد لله، لي طلب صغير، أرجو أن لا تعتبريني متطفلاً فيه، قبل أن تنتقلي إلى هنا، طلبت من والدك أن يزيد راتبي، وأنا أنتظر جوابه.
- لا تحمل أي هم، أنا موجودة.
بعد انتهائه من شرب الشاي، وقف مستأذناً في السماح له بالذهاب، ودّعته طالبة منه عدم التحرج من أي طلب، ليعتبر نفسه من أهل البيت بعد اليوم، كم قنوع هذا الرجل، ويلبسه الحياء، لماذا لم أفكر به من قبل وأتفقد حاله، كما كان يفعل "رضوان" مع الناس، الآن أنا مسؤولة عن هذا البيت لتواجدي فيه، موافقة والديّ ورضاهما، سمحا لي التصرف بكل شؤونهم، قررت أن يسكن مؤقتاً بيتي الفارغ حالياً لحين شراء بيت له، بعد يومين طرحت عليه ما فكرت به، لكي ينهي مشكلة السكن، مع زيادة راتبه، لم يسعه الفرح حتى أنه حاول تقبيل يدي منعته، قائلة له: اذهب بشّر أسرتك، واعمل على نقلهم.
قدّمت له مبلغاً مكافأة على إخلاصه طوال سنين عمله عند والدي، سلَّم عليّ وخرج مرحاً كخفة النسيم منتعشاً بما سمع، صحيح عندما تركت البيت كان في نيتي تأجيره والاستفادة من المبلغ الذي سيدره، بعد أيام أخبرني أن ابنه مقدم على الزواج، فرحت وأعلمته أن ذلك سيتم في بيت ملك لهم، ساعدته في شراء بيت متواضع سجلته باسمه، امتناناً لإخلاصه وصبره، حضرت زفاف ابنه، يومها زوجته قدمت لي ابنتها الكبيرة "صبيحة"، ثم قالت لي: لاتردي طلبي.. خذي معك "صبيحة" لتساعدك في البيت، تبقى مع الأولاد وجديهم المسنين، ربما تخفف عنك بعض التعب. لم أرفض طلبها، بل على العكس أسعدني. قلت لها: ستكون بمثابة ابنتي، ويسعدني وجودها معنا.
وجود "صبيحة" في البيت خفف عني بعض الأعباء، فهي فتاة طبية وخجولة تذكرني بـ"أم يتول"، أحياناً أجلس معها أبثها همومي، بينما هي ترمي في بئرها كل ما يرد إلى سمعها، لا تبوح لأحد بسر مخاوفي، كجهاز يلتقط ويخزن، في يوم سألتها: بماذا تفكرين أوتحلمين؟
أجابتني حدقتا عينيها السالبة، بعد أن ارتكز فوقهما بعض التصميمات المرتجفة من قوة ارتفاع الموج الغاطس في أعماقها، حملت نظراتها الباحثة في المدى عن جواب لسؤالي، فلم تجد، بقيت صامتة كعهدها، ثم نهضت متجهة إلى المطبخ، واتجهت انا إلى غرفتي.
مرت الأيام، صدقت أمريكا في تهديداتها، أعلن سقوط نماذج كانت تظن أن الظلم يدوم، أيام كانت تسقي هموم الناس قشور الوهم، وتتلف نمنمات الحب في خلايا ذاكرتهم ها هي الحرب عادت منحرفة بشكل أقسى، يقودها جيوش الأوباش، محتلون لا ضمير لهم تناثرت شهب النار مع دخولهم. قناديل السماء تركت كبرياءها لضجيج الأرض ومن عليها، يمارسون الجنون بكل أشكاله الممزقة، عهد استباحة ما لم نعهده من قبل، انفلات يثير الفزع، كانهيار شلال، انفجار بركان، سقوط نيازك ضاق بها الكوكب، هياج بحر، في ليلة وضحاها انقلبت موازين الحياة ومفاهيمها، نهبت دوائر الدولة، كسرت أفقال المخازن، اعتداءات على بيوت الشخصيات المهمة، سرقة الممتلكاتها وقتل من فيها، عكف الحال لهذا المنوال أياماً، أعلن انحلال جيش النظام السابق، وقوات أمنه، مع تعطل الكثير من مفاصل أمور الحياة، دب الخوف بكل ملابسه الثقيلة في جسد ممتلئ بالضغائن.
ظهرت فئة من الناس تدعي ضلوعها في تكوين دولة جديدة، يحملون سياسات ملعونة، لا تعرف غير خدمة مصالحها الذاتية، قد رأوا بأم أعينهم، الأب القائد الذي هز شرق العالم ومغربه، بأفعاله يقاد إلى حتفه، أخذ مكانه المحتل كزوج أم مجون، صعقتهم قوائم الأخلاق، لذا بدون حياء أو خجل تجد أشباحهم متناثرة فوق الأحداث، لوطن فقدت أمواجه الاستقرار خارج حدود الخطوط الحمراء، ماجت به الأقدار إلى بالوعة المثلث المرعب، يبتلعه الموت، قتل، اغتصاب، اعتقالات، حائمة حول سفرة الطعام، غصة تدفن اللقمة في ظهر المعدة، تموج تقرحاتها فصولاَ سابحة بلهب يتراقص عطشاً لموت انحناءاته بلهاء.
مع تقدم الأهلة تفرُّ الناس خارج البلد من ويل ما يحدث، وجع سنوات تحول من رعشات يحفها الخوف إلى رصاص أعمى، مفخخات لا تعترف بوجودك، مداهمات مع اصفرار الشمس أو طلوع الفجر، دبابات لها الحق في اجتياز كل شيء، أسلاك الشائكة، حظر تجوال زائل وبعد دقائق قائم، مستشفيات عامرة بالجثث، الأحياء السكنية أصابها الخواء، الطرق الخارجية ملغمة.
الأيام تدفع بعجلتها إلى الوراء، بينما أنا أبث كتابي رموز مدينتي، تأكيداً لوجود "رضوان" الذي لم يبق منه غير الذكريات، طفليّ لحقا بوالدهم الذي لم يعش الحياة بعزها، عانى الكثير ومات دون تحقيق الامل الذي أرد به أسعاد بعض البشر في بلد يقال عنه بلد الخيرات، بل الحق ما عاشه العراقي في بلده اعنف واقوة قسوة عرفها الانسان في زمن أثناء دهم مدرستهم من قبل جهات مجهولة، لخطف بعض المعلمين، والديّ انفجر لغم تحت سيارتهم وهما عائدين من زيارة أقارب لنا اغتيل ابنهم الذي يعمل في سلك الشرطة، بقينا أنا و"صبيحة"، كزنجي يتألم في أعماق غابات أفرقيا جوعاً، لسنتين لم نشاهد التلفاز، في يوم، وجوف الليل يناطح ألمنا، فتحت التلفاز "صبيحة"، كان المشهد لسيدة أمريكية يؤلمها أكل الآيس كريم، بينما الرصاص يخترق جدران بيتنا حينها، ختم البث باعتقال فتى في الثانية عشر من عمره، يقود دراجته، فكر أن يكتب اسمه على الارض مستخدماً دراجته كأداة مثل القلم، في محاولته تلك؛ دخل حديقة مقر سالب الموجة، ألقي القبض عليه؛ كمتسلل، يحاول اغتيال خلية خاملة من زمن الشعارات، انهالوا عليه بالأسئلة: ما.. وماذا.. ولماذا؟ وهو يقول: ضاقت المسافة.. بقي لي حرف من اسمي... انتهى شحن البطارية، عمت الليل عتمة أخرى...
لذا يوم طلبت مني "رشا" ابنة أختي، الهجرة معهم إلى سوريا، رفضت قائلة لها: الوطن والذكريات، لا يمكن لهما السفر، من أجلهما أبقى.



#رحاب_حسين_الصائغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجزء الرابع من رواية (عادت منحرفة)
- الجزء الثالث من رواية ( عادت منحرفة)
- الجزء الثاني من رواية( عادت منحرفة)
- الجزء الاول من رواية ( عادت منحرفة)
- الجزء الرابع من كتاب الشعر( رحلة في قعر الشيء)
- الجزء الثالث من كتاب ( رحلة في قعر الشيء)
- الجزء الثاني من قصائد كتاب الشعر ( رحلة في قعر الشيء)
- قصائد من كتاب الشعر ( رحلة في قعر الشيء)
- جهد الفكر ورقي وسائل الاعلام
- زمان المحدثات ونوافل الحلم
- المالك الحزين
- تهنئة الى احبائي اينما كانوا وحلوا
- حفلة اعتبارية
- العلاقات المنطقية وتنازعات الانتماء
- المطرقة والانحناء
- المرأة ومواسم استباق لحظات التيه
- لاهوتية اللغة والشكل الانثوي
- المرأة ومسارات شاردة في العراء
- تفتح النص الأزلي في جوهر الفكر
- الحقائق واقفال الاسئلة


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحاب حسين الصائغ - الجزء الاخير من رواية ( اعدت منحرفة)