أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - الطبقة الوسطى كما البروليتاريا، كلتاهما تنفيان الرأسمالية















المزيد.....


الطبقة الوسطى كما البروليتاريا، كلتاهما تنفيان الرأسمالية


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 2802 - 2009 / 10 / 17 - 14:55
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


منذ انهيار الإتحاد السوفياتي، بل قل منذ أن أخذ من يشغل مركز قائد الثورة الاشتراكية العالمية في الكرملين، ليونيد بريجينيف، يتساءل .. " لماذا يكرهوننا !؟" ــ يقصد الغرب الرأسمالي، والتساؤل ينطلق بالطبع من الإفتراض بأن الإتحاد السوفياتي لم يعد دولة اشتراكية ! ــ ويناشد قادة معسكر الرأسمالية في مؤتمر هلسنكي، يوليو/تموز 1975 قائلاً .. " تعالوا نتلاقى في منتصف الطريق فلن يكون كلانا من الخاسرين "، منذ ذلك الحين وقع الشيوعيون المصطفون وراء المرتدين السوفييت، كما العالم التقدمي بمجمله، فريسة الضبابية وعدم وضوح الرؤية وفقدان الخط السياسي . لماذا قوى " الاشتراكية " أخذت تستخذي لقوى الرأسمالية لتسمح لها بالاصطفاف في صفها ؟ أيعقل هذا !؟ ما الذي دهاها !؟ أين قوى الثورة الإشتراكية العالمية !؟ وأين قوى التحرر الوطني في العالم الثالث !؟ .. ليس في الوعي العام للبشرية الإجابات على مثل هذه الأسئلة بعد، وربما لن يكون فيه لأمد طويل .

لماذا لم تستطع البشرية بوعيها العام والشامل أن تتوصل للإجابة على مثل هذه الأسئلة المرتبطة بحياتها وبمستقبلها ومصيرها ارتباطاً مباشراً !؟ ليس من تعليل لهذا العجز الخطير سوى الغياب التام الذي اعتاده الناس للوحدة العضوية التي لا تنفك بين السياسة من جهة والإقتصاد من جهة أخرى . لو خبر الناس جوهر السياسة ومما تكون لما كانوا اليوم فاقدي الرؤى وفي ضياع تام . اعتاد الناس أن يتجاهلوا حقيقة أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي ينتج حياته، وعليه فإن كل نشاطه العقلي والجسماني مكرس دائماً للعمل في تحسين شروط إنتاجه وتطويرها، أي تطوير حياته، ولولا ذلك لما بدأ فعل الأنسنة وافترق عن الحيوانات الأخرى . تتمثل السياسة بخطط تبحث في تحسين وتطوير شروط الإنتاج الخاص بكل طبقة من طبقات المجتمع، ولذلك يمكن تعريف السياسة بأنها أدب الصراع الطبقي ؛ إنها الأعشاب التي تنبت في حرث الإقتصاد . ثمة عرف قديم خاطئ يقول بأن السياسة هي مهنة الطبقة المثقفة الراقية حيث كان أول من امتهنها هم أبناء الطبقة الأرستقراطية ولذلك كان الإعتقاد بإن ربط السياسة بشروط الإنتناج وبالصراع الطبقي إنما هو تدنيس لها . من هنا جرى الإعتقاد بأن السياسة إنما هي التعبير عن معتقدات وطموحات جماعات لا هوية طبقية لها ؛ إنها مجرد معتقدات مجردة من كل نزعة اقتصادية . لهذا تفتقد الشعوب اليوم البوصلة التي تحدد لها مسار التقدم .

في منتصف القرن الماضي وصل المشروع اللينيني في عبور الإشتراكية إلى منعطف مصيري وحاسم . كان المشروع منذ البداية قد اقتضى، نظراً لتخلف روسيا في الإنتاج الرأسمالي، تنمية الطبقة الوسطى بما يوازي تنمية طبقة البروليتاريا . في العام 1950 ظهرت الطبقة الوسطى تشكل عبئاً ثقيلاً على طبقة البروليتاريا ومعوقاً لمسيرتها الاشتراكية . في ندوات متلاحقة عقدتها قيادة الحزب وضمت أخصائيين وخاصة في الإقتصاد الزراعي بحثت بصورة رئيسية في أنجع السبل نحو تحجيم الطبقة الوسطى بدءاً بطبقة الفلاحين التعاونيين . ارتفعت أصوات عالية في الندوات تطالب بإلغاء طبقة الفلاحين دفعة واحدة بقرار من قيادة الحزب، غير أن ستالين تدخل ليخفف من غلوائها وخطب في الندوة النهائية معترفاً بضرورة معالجة جملة التناقضات الطبقية في المجتمع السوفييتي إلا أنه أكد على أن تلك التناقضات لم تصل بعد إلى حدودها النهائية، حد التصادم والإنفجار، ونبّه إلى أن إلغاء طبقة الفلاحين بقرار فوقي يشكل خطراً حقيقياً على دولة البروليتناريا، وأشار إلى خطته في الإلغاء التدريجي لطبقة الفلاحين عن طريق إغراق إنتاجها الزراعي المحدود بطبيعته بفيض من السلع الاستهلاكية الصناعية . انتحاءً لمحو طبقة الفلاحين قرر المؤتمر العام التاسع عشر للحزب أكتوبر 1952 إلغاء صفة (البولشفي) من اسم الحزب التي اتصف بها منذ العام 1903 تعبيراً عن مبدأ إشتراك فقراء الفلاحين بالثورة الإشتراكية الذي عارضه المناشفة . ولذلك أيضاً اتجهت الخطة التنموية الخماسية التي أقرها الحزب في ذلك المؤتمر إلى التوسع في إنتاج السلع الإستهلاكية .

ليس من شك في أن مقررات المؤتمر التاسع عشر للحزب في أكتوبر 1952 قد دفعت بالتناقضات الطبقية إلى حدود الحسم والوصول إلى مفترق طرق رتّب على المجتمع السوفياتي أن يخطو الخطوة التالية إما عبوراً نحو الحياة الشيوعية من خلال تنفيذ برنامج الحزب القاضي بالتوسع في إنتاج البضائع الاستهلاكية لرفاه المواطنين من غير الفلاحين، وإما نكوصاً إلى الوراء من خلال تعطيل برنامج الحزب وهو ما اقتضي قبل كل شيء التخلص من ستالين، العين الساهرة على أمن وسلامة المشروع اللينيني . تبعاً لاستقصاءات عديدة فإن شبهة القتل والاغتيال لباني الإشتراكية ودولة دكتاتورية البروليتاريا اللينيني الفذ الرفيق ستالين تحوم حول لافرنتي بيريا وعصابة الأطباء اليهود في الكرملين، واعتراف بيريا نفسه بأنه رأى ستالين يموت دون أن يستدعي الأطباء لإسعافه يؤكد الاشتباه بالقتل ؛ ويشتبه مولوتوف، كما في مذكراته، في أن خروشتشوف وهو الصديق الأقرب لبيريا كان على علم خفيّ بخطط بيريا في قتل ستالين ولذلك كان خروشتشوف هو من قاد عملية تصفية بيريا بسرية مطبقة لم تعرف تفاصيلها حتى اليوم على العكس من محاكمات رجال الطبقة الأولى في الحزب المحفوظة في أرشيف الحزب من مثل محاكمة بوخارين أو زينوفييف أو كامينيف، الأمر الذي يكذب صيحة خروشتشوف الديموقراطية ويشير إلى استعداد في شخصه للتآمر . وما يؤكد هذا الاشتباه أيضاً هو الإنقلاب في الحزب على جيورجي مالنكوف، تلميذ ستالين والذي حلّ محله حال وفاته في قيادة الحزب والدولة . فعندما طالب مالنكوف بتنفيذ برنامج ستالين في الخطة الخماسية بزيادة إنتاج البضائع الاستهلاكية وهو ما اقتضى بالطبع خفض النفقات العسكرية حاك نيكيتا خروشتشوف مع جنرالات الجيش مؤامرة لإسقاط مالنكوف والحلول محله، خروشتشوف الذي فاخر بأنه الإبن البارّ للفلاحين، الطبقة التي خطط ستالين لمحوها خلال بضع سنوات عن طريق إغراق إنتاجها بالبضالئع الاستهلاكية .

منذ أن نجحت البورجوازية الوضيعة في اغتيال أو تغييب قائد مسيرة البروليتاريا الثورية الرفيق ستالين في مارس/آذار 1953 وحتى يونيو/حزيران 1957 احتدم الصراع بقوة وظهر على السطح، بين الطبقة الوسطى يقودها خروشتشوف وأزلامه في اللجنة المركزية للحزب وجنرالات الجيش من جهة ــ كان اسند إلى خروشتشوف بعد رحيل ستالين مركز الأمين العام المسؤول عن بنية الحزب التنظيمية ــ ، وبين البروليتاريا السوفياتية يقودها البلاشفة في المكتب السياسي للحزب من جهة أخرى . في يونيو/حززيران 1957 نزع البلاشفة في المكتب السياسي ثقتهم من خروشتشوف الذي بدل أن يعلن تنحّيه عن الأمانة العامة للحزب، كما يقتضي النظام الداخلي للحزب، تآمر مع صديقه المارشال جوكوف ذي النزعة البونابرتية، كما وصفه، وحاكا معاً إنقلاباً شبه عسكري في الحزب تم إثره طرد جميع البلاشفة رفاق لينين وستالين من المكتب السياسي وإلغاء قرار المكتب السياسي بنزع الثقة وهو ما حدث لأول وآخر مرة في تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي . وبعد ذلك بعشرين شهراً فقط أعلن خروشتشوف انتهاء دكتاتورية البروليتاريا وقد استبدلها بدولة بورجوازية مسخ اسمها " دولة الشعب كله "، بمعنى دولة الطبقة الوسطى بالإضافة إلى البروليتاريا التي تم طرد ممثليها من قيادة الحزب !!

منذ الإنقلاب البورجوازي على مالنكوف مارس/آذار 1954، أخذ الإنكماش يلحق بنمط الصناعات البروليتارية المدنية لحساب الصناعات العسكرية التي تنعكس استنزافاً لقوى البروليتاريا، وكذلك لحساب طبقة الفلاحين . وهكذا بتنا نرى الزيادات السنوية الكبيرة في الإنفاق العسكري على حساب انتاج البضاعة الاستهلاكية والحاجات الحيوية للناس تحت حجة كاذبة تدعي تحصين أمن الإتحاد السوفياتي وزيادة منعته، بينما هي في الواقع تحصين الطبقة الوسطى ووقف مسيرة البروليتاريا الإشتراكية وهو ما يؤدي بالتالي إلى تهشيم أسس الدولة السوفياتية . ورأينا أيضاً في العام 57 مشروع خروشتشوف الذي قاتل طويلاً في الدفاع عنه تحت اسم "إصلاح الأراضي البكر والبور" ليزيد أعداد الفلاحين 300000 فلاحاً دفعة واحدة وهو مشروع أبرز ما فيه أنه يثير الضحك والسخرية كما وصفه هو نفسه في مذكراته، وكلف الإتحاد السوفياتي خسائر قدرت حينها بثلاثين مليار دولار، بالإضافة إلى أنه ضد المخطط العام للحزب القاضي بمحو طبقة الفلاحين التعاونيين . وما يجدر ذكره هنا هو أن حجة خروشتشوف في طرد البلاشفة من المكتب السياسي هي اعتراضهم على برنامجه الزراعي المسخرة حقاً . لقد خان خروشتشوف طبقة البروليتاريا السوفياتية وارتد على مسيرة الإشتراكية فبدل أن تكون فترة إعداد قصيرة يتم خلالها محو الطبقات لدخول الحياة الشيوعية، عَكَسَها خروشتشوف فنحا سياسياً نحو توسيع الطبقة الوسطى من فلاحين ومهنيين من مختلف الشرائح وخاصة العسكر مقابل التضييق على الطبقة العاملة . من مثل هذا الطراز هم أعداء الإشتراكية . لمثل هذا العدو صفقت الأخزاب الشيوعية عالياً وطويلاً وانتهت لذلك إلى التلاشي .

نتطرق إلى كل هذه الوقائع التاريخية لنكتب، بناء على طلب أحد القرّاء، حول الفرق بين الإنتاج المجتمعي أو الجمعي (Associated Production) كما في الصناعات الرأسمالية أو الإشتراكية وبين الإنتاج الفردي (Individual Production) كما في الإنتاج السلعي ما قبل الرأسمالي (المانيفاكتورة) وكما في انتاج الخدمات حصراً سواء في النظام الرأسمالي أم الإشتراكي . كنت قد كتبت عن هذا الموضوع في يونيو من العام الماضي مؤكداً أهميته القصوى، وقلت .. " بغير الاستيعاب التام لعلاقات الإنتاج وتقسيم العمل سيبقى العمل الشيوعي يعاني من اختلالات بنيوية طالما عانى منها خلال عمر التجربة السوفياتية 1917 ـ 1991 . وليس لدي أدنى شك في أنه كان السبب الرئيسي في انهيارها على يد الطبقة الوسطى السوفياتية " . استطاع البلاشفة تحطيم الطبقة الرأسمالية الهشة خلال الحرب الأهلية 1918، وتمكنوا كذلك من تصفية طبقة الكولاك، الفلاحين الأغنياء، الكبيرة والمتجذرة في الحياة الروسية، خلال الثورة الزراعية 1929ـ 1931، لكنهم ولأسفنا الشديد عجزوا تماماً عن مواجهة طبقة الفلاحين التعاونيين وهم الشريحة الأقوى والأكثر تجذراً بين شرائح الطبقة الوسطى والتي انتاجها يظل محتفظاً بطبيعة بورجوازية كونه انتاجاً فردياً يعود ريعه إإلى المنتج الفرد ذاته . أسباب عجز البلاشفة كثيرة ومتنوعة لكن أهمها هو الطبيعة البورجوازية لإنتاج الطبقة الوسطى سواء بشكل الإنتاج الفلاحي السلعي أو إنتاج الخدمات المهني . لماذا إنتاج الطبقة الوسطى ذو طبيعة بورجوازية بعكس إنتاج البروليتاريا ذي الطبيعة الشيوعية ؟

كي نتمثل الطبيعة الحقيقية لإنتاج كل من الطبقتين، البورجوازية والبروليتاريا، نشير إلى أقرب الأمثلة المعروفة جيداً لدى العامة . العامل (البروليتاري) في مصنع الأحذية الرأسمالي مقارنة بالحذّاء (صانع الأحذية، البورجوازي) المحترف في مشغله الخاص . البروليتاري يبيع قوة عمله لثمان ساعات يومياً يشتغل خلالها حركة واحدة بعينها من جملة حركات كثيرة يقوم بها آخرون تنتهي بصناعة الحذاء، بينما الحذّاء المحترف يقوم هو نفسه بكافة الأعمال المطلوبة لصناعة الحذاء في مشغله . الفرق شاسع وواسع بين الحالتين بالرغم من أن الطرفين يعملان في صناعة الحذاء، نفس القيمة الإستعمالية، ويتمثل ذلك فيما يلي ..
1. البروليتاري مأجور وتابع للرأسمالي مالك أدوات الإنتاج، أما الحذّاء فهو حر يمتلك أدوات مشغله ويبيع انتاجه لمن يشتريه .
2. البروليتاري لا علاقة له بالحذاء موضوع شغله ولا علاقة له به حالما ينتهي من الحركة التي عليه تنفيذها، بعكس الحذّاء إذ يظل الحذاء حذاءه إلى أن يبيعه .
3. البروليتاري يبيع قوة عمل مجردة لا تستبدل إلا مع الرأسمالي الذي يحولها من خلال توفير عدة شروط أخرى إلى قيمة استعمالية بينما الحذاء يبيع في السوق سلعة تجسد جهوده غير المحسوبة .
4. البروليتاري يعرض نفسه في سوق العمل بينما الحذاء يعرض إنتاجه في سوق السلع .
5. بضاعة الأول (قوة العمل) ليست صنمية بينما بضاعة الثاني(الحذاء) صنمية (السلعة الصنم) بمعنى أنها تعرض في السوق وتدخل في علاقة متبادلة مع سائر السلع المعروضة .
6. البروليتاري يشتغل ثمان ساعات لكنه لا يقبض إلا قيمة نحو ست ساعات، والساعتان الأخريان تجسدان فائض القيمة الذي يحتفظ به الرأسمالي بمثابة الربح، لكن نظيره الحذّاء يبيع حذاءه بثمن يعود إليه بالكامل أي بدون فائض قيمة ؛ فالأول يُستغل ويستنزف بينما الثاني لا يستغل ولا يستنزف، وهو الفرق الأساس بينهما .
على الباحث ألا يتوقف عند تناظر الحذائين، الحذاء من إنتاج المصنع الرأسمالي والآخر من إنتاج المانيفاكتورة، فيساوي بين الحذائين من حيث أن لهما ذات القيمة الإستعمالية ويتشكلان من نفس المواد الخام ولهما ذات القيمة التبادلية تقريباً ؛ عليه أن يتجاوز كل هذا ليتوقف طويلاً أمام الطبيعة المختلفة تماماً لكل من الحذائين حيث أنهما حذاآن من عالمين مختلفين بل متعاديين حتى الموت، وعليه فإن كل جزء في أحد الحذائين إنما هو حكم بإلغاء الجزء نظيره في الحذاء الأخر . تأكد ذلك في الحرب الهمجية التي شنها الرأسماليون على صناعات المانيفاكتورة طيلة قرن طويل 1750 ـ 1850 إذ تم تدمير صناعات يدوية كانت قد موّنت العالم القديم لقرون طويلة، وانتهى أصحابها وعائلاتهم إلى الفناء ــ قارن كارل ماركس بين تلك الحرب الطبقية الوحشية التي شنها الرأسماليون على الصناعات الحرفية والحرب الطبقية التي ستشنها البروليتاريا على الرأسماليين وأعدائها الطبقيين وأكد أن دولة دكتاتورية البروليتاريا سترأف بأعدائها وستظل مسؤولة عن معاشهم ــ في السوق يتم استبدال الحذائين لنفس القيمة الإستعمالية وربما بنفس القيمة التبادلية غير أن مبادلة الحذاء الأول تعيد إنتاج العالم الرأسمالي بينما مبادلة الحذاء الثاني تعيد إنتاج العالم ما قبل الرأسمالي، وكل من العالمين ينفي الآخر .

أخذنا الحذّاء مثالاً للإيضاح رغم اندثار هذه المهنة منذ زمن . اندثر المهنيون منتجو السلع بنمط المانيفاكتورة بفعل التمدد الرأسمالي وحرب الرأسماليين الهمجية عليهم . غير أن الرأسماليين ظلوا بحاجة للمهنيين منتجي الخدمات لأجل خدمة انتاجهم الرأسمالي وتسهيل جريانه في دورته الكلاسيكية، وتسهيل استغلالهم للطبقة العاملة كذلك . ما يجدر التوقف عنده في هذا السياق هو القصور الرأسمالي للخدمات بما يتجاوز قصور الإنتاج السلعي الفردي للطبقة الوسطى كإنتاج الفلاحين من السلع الغذائية . فالخدمة منتوج عاجز لا يستطيع الوقوف على قدميه ليصل إلى السوق . ليس هناك سوق للخدمات إذ يباع القسم الأعظم من الخدمات عشوائياً خارج السوق وهو ما يعني أنه يجري تبادلها بالمقطوع (Lump Sum) بعيداً عن مفاعيل قانون القيمة الرأسمالية، مثل خدمات الأطباء والمحامين والمهندسين وغيرهم . وأما الجزء الذي يصل منها إلى السوق فلا يصل إلا متخفياً في جوف السلعة، يدفع ثمنها الزبون دون أن يراها أو يتحقق منها ودون أن يستعملها على الإطلاق مثل خدمات النقل والتحميل والتخليص والتخزين والمصرفية والتأمين وغيرها .

المكتسبات التي حققتها الطبقة العاملة في العالم الرأسمالي خلال فترة الصراع بين المعسكرين، الرأسمالي والإشتراكي، وارتقاء مستوى حياة العمال وعائلاتهم وبالتالي الشعب بعامته، أدت بصورة ملموسة إلى التوسع في إنتاج الخدمات خصوصاً في الخدمات الصحية والتعليمية . مع كل ذلك فإن التطورات الكمية المتعاظمة في إنتاج الطبقة الوسطى من الخدمات فيما قبل إعلان رامبوييه 1975 لم تصل إلى حد الإنقلاب النوعي ليؤدي بالتالي إلى انقلاب في الوظيفة الإجتماعية المنوطة بالطبقة الوسطى ألا وهي إنتاج الخدمات لخدمة الإنتاج المادي السلعي . في العالم الرأسمالي كان الإنتاج البضاعي الرأسمالي يحدد بصورة آليه حدود الخدمة اللازمة له وهو السيد المكلف بدفع تكاليف تلك الخدمات التي تثقل على دورة الإنتاج الرأسمالي كلما تعاظم حجمها وازدادت كلفتها . لذلك كنا نرى خلال النصف الأول من القرن المنصرم إبّان إزدهار النظام الرأسمالي، نرى الطبقة الوسطى رفيعة للغاية على عكس ما هي عليه اليوم، فمثلاً كان عدد عمال المناجم في بريطانيا في الخمسينيات 600000 عاملاً وهم اليوم 4000 عاملاً فقط وذلك يعني أن 596000 عاملاً لم يعودوا عمالاً بل انزاحوا إلى الطبقة الوسطى كعمال خدمات في الغالب ينتجون بوسائل الإنتاج الفردي البورجوازي، ويترتب على البروليتاريا أن تتكلف بكامل تكاليف إنتاجهم . وهم لذلك في تناقض أساسي مع البروليتاريا، تناقض أعمق من تناقضهم مع الرأسماليين .

لا نعتقد بأن نائب الرئيس ليندون جونسون شارك من بعيد في مؤامرة اغتيال الرئيس الديموقراطي جون كندي لكن ما يمكن تأكيده أن الجهات اليمينية التي حامت حولها الشبهات في مؤامرة الإغتيال لعبت دوراً رئيسياً في توجيه السياسة الخارجية لولاية جونسون 1963 ــ 1969 . تمثل ذلك في تورط الولايات المتحدة في حرب طويلة وشاملة ضد الشعب الفيتنامي وفي أنشطة عدائية أخرى مثل المساهمة في حرب 67 ضد مصر . تمويل حرب فيتنام الشاملة كشف الدولار الأميركي وتسبب في تدهوره المريع فكان أن انسحبت الولايات المتحدة في العام 1971 من معاهدة بريتون وود التي تتطلب غطاء 20% من العملة الوطنية بالذهب، ثم في تخفيض قيمة الدولار رسمياً مرتين في العام 1973 . حدث كل ذلك بعد أن تعذّر تصدير الأزمة إلى الخارج حيث كانت مختلف مراكز النظام الرأسمالي قد فقدت محيطاتها بفعل حركة التحرر الوطني في العالم . في العام 1975 اكتمل انهيار النظام الرأسمالي وأعلنت الشهادة بوفاته في إعلان رامبوييه . توفي النظام الرأسمالي بمرض الجلطة، أي أن فيض الإنتاج الرأسمالي الذي لا ينقطع لم يعد يمر إلى البلدان المحيطة، المستعمرة والتابعة، التي استقلت جميعها ما بين 1946 و 1972 .

الإنتاج الرأسمالي الكثيف (Mass Production) لم يعد ممكناً بعد انسداد مجرى دورة الإنتاج الرأسمالي فكان على الشغيلة الذين عملوا في الإنتاج الرأسمالي أن ينتقلوا إلى أسلوب الإنتاج الفردي غير الرأسمالي كيما يستمروا في الحياة . الإنتاج الفردي ينحصر في الحقبة الرأسمالية وما بعد الرأسمالية في إنتاج الخدمات، والخدمات لا سوق لها وتستبدل اعتباطاً وبعيداً عن مفاعيل قانون القيمة الرأسمالية طالما يدعي أصحابها أن المعرفة هي العامل الحدي في قيمتها، والمعرفة ليست منتوج ساعات عمل لتحديد قيمتها إذا كان لا بد من تخصيص أي قيمة لها ! ثمة أسباب كثيرة تحول دون اعتبار الخدمة منتوجاً رأسماليا ومنها أن الخدمة تُنتج فردياً وتُستبدل فردياً ولذلك ينتفي في قيمتها التبادلية أي فائض للقيمة الذي هو الهدف الوحيد للإنتاج الرأسمالي .

ثمة وهم يسكن أفهام الكثيرين يقول أن لا مستقبل لأسلوب الطبقة الوسطى في الإنتاج، الأسلوب الفردي، وأن مصيره هو الإنتقال إلى الأسلوب الرأسمالي، وهذا مجرد فهم أخرق للتطور وقد انتهت إلى النظام الرأسمالي أن مصير السيادة الحالية للطبقة الوسطى بانتاجها الفردي الخدماتي سينتهي مرة أخرى في نظام رأسمالي . الطبقة الوسطى في القرن الثامن عشر كانت تنتج بالأسلوب الفردي لكنها كانت تنتج السلع التي تسد احتياجات الناس، أما اليوم فالطبقة الوسطى لا تنتج إلا الخدمات التي هي ليست من أسباب الحياة الأساسية . صحيح أن الطبقة الوسطى لا مستقبل لها فالتاريخ لن يعيد نفسه هذه المرة ولو بصورة ساخرة . الخلايا الرأسمالية التي تفككت بعد الحرب العالمية الثانية لن تعود لتلتئم، مراكز ومحيطات، من جديد . كانت قد تكونت مراكز ومحيطات بفعل مستوى تطور المجتمعات المتخلف في القرن التاسع عشر والعلاقات الدولية السائدة آنذاك . الرجل الأخرق ظاهرة نهاية القرن العشرين، بوريس يلتسن، ظن أنه سيعود بروسيا إلى النظام الرأسمالي فكان أن سمح لمدراء مؤسسات الإنتاج الإشتراكية أن ينهبوا تلك المؤسسات أو أن يبيعوها كيما يكون هناك رأسماليون روس، فكانت النتيجة أن هرب أولئك المدراء يحملون مليارات الدولارات إلى خارج روسيا وباتت شعوب روسيا تأكل التراب . في كل الأحوال لن تعود روسيا إلى الوراء وينتظم شغيلتها في إنتاج رأسمالي .

في البيان الشيوعي (المانيفستو) أشار ماركس وإنجلز إلى أن التناقض الرئيس الفاعل في التطور الإجتماعي والدولي هو التناقض القائم بين قوى الإنتاج من جهة وعلاقات الإنتاج من جهة أخرى (رأسماليين/عمال)، وظل هذا التناقض فاعلاً إلى أن انهارت الجبهتان الرأسمالية والإشتراكية في ذات الوقت دون أن تعبر الإنسانية إلى المحطة التالية على سكة التاريخ . خرجت القاطرة عن سكتها وقفزت الطبقة الوسطى إلى قمرة القيادة . وطالما كان الإنحراف قائماً فإن التناقض الرئيس الفاعل قائم بقوة بين منتجي الخدمات (الطبقة الوسطى) من جهة ومنتجي السلع (البروليتاريا) من جهة أخرى . التناقض الصعب الذي يحاصر الطبقة الوسطى، صاحبة السلطة والسيادة، هو أنها لا تستطيع الإستغناء عن الإنتاج السلعي حيث أن منتجي السلع، البروليتاريا، هم المشترون الوحيدون لإنتاجها المتزايد والفائض عن المطلوب من الخدمات . التناقض الذي لا تستطيع الطبقة الوسطى تجاوزه أو الإنفكاك منه هو أن انتاجها (الخدمات) لا يمتلك القدرة على إشغال موقع السيادة في هيكل الإنتاج القومي . الطبقة الوسطى بحكم طبيعة إنتاجها هي دائما فقيرة بالرغم من كل ادعاءاتها حول اقتصاد المعرفة ومزاعمها المماثلة فالخدمات لاتصنع الثروة .

الطبقة الوسطى وهي تقبض على مقاليد السلطة اليوم في كل أطراف الأرض فإنها، وبالرغم من أنها لا تستغني أبداً عن الإنتاج السلعي، فهي لا تستطيع أن تتسامح في توسعه وتطويره الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى انهيارها سواء جرى ذلك على النمط الرأسمالي، وهو المستحيل، أم الإشتراكي .

فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا عن راهنية البيان الشيوعي (المانيفستو) ؟
- فَليُشطب نهائياً مراجعو الماركسية !
- الحادي عشر من سبتمبر
- إشكالية انهيار النظام الرأسمالي
- ما الذي يجري في إيران ؟
- من هو الشيوعي الماركسي ؟
- القول الفصل فيما يُسمّى بالعلمانية
- اليسار لا يملك إلا الخداع والخيانة
- كيف انهار النظام الرأسمالي في العالم ولماذا ؟؟
- أثر التخلف السياسي في حركة التاريخ
- صمت الشيوعيين التقليديين
- العمل البورجوازي والعامل البورجوازي
- لا علاج للأزمة الإقتصادية الماثلة
- ضعة البورجوازية الوضيعة
- لماذا العودة إلى الأممية الأولى
- تتكامل الديموقراطية في ظل دكتاتورية البروليتاريا
- العولمة والعولمة البديلة
- الجهد الضائع لطارق حجّي
- السقوط المدوّي لطارق حجّي
- الماركسية الفجّة لدى طارق حجّي


المزيد.....




- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - الطبقة الوسطى كما البروليتاريا، كلتاهما تنفيان الرأسمالية