أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صلاح الداودي - في سارترية المقاومة الراهنة وضدها















المزيد.....


في سارترية المقاومة الراهنة وضدها


صلاح الداودي

الحوار المتمدن-العدد: 2771 - 2009 / 9 / 16 - 16:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كيف يحكم علينا بأن نقاوم؟
" على وجه الدقة يجعل الإنسان المدن قابلة للتدمير، ذلك أنه يضعها في صورة هشة وفاخرة ولأنه يتخذ ضدها تدابير وقائية (....) إن المعنى والمغزى الأولين للحرب لمحمولان في أدنى تشييد بشري".
جان بول سارتر
" للفكاك من العدم، يلزمنا الكثير من القوى والإبداعات (...) والتدرب على الإقتدار".
بول نِيزُنْ
ما ذا يحدث لو عادت سيمون دي بوفوار اليوم من رحلة لأمريكا الراهنة، وهي التي عادت ببدعة على إثر زيارتها للإتحاد السوفييتي أيام ستالين: " محور الشر". يحدث بلا شك إجماع لدى قرائها حول عبارة محور العدم، وهل للعدم محور؟ إنها إمبراطورية العدم.
ماذا لو عاد سارتر اليوم من الولايات المتحدة الأمريكية من الرحلة التي قام بها بالفعل؟ Villes d’amérique, Le Figaro, 1945, New-York, Ville Coloniale, Town and country , 1946 .
لسوف يُمضي لا محالة بيان بورتو ألغري 2005 برفقة ساراماغو، هوتار، إسكافلدو، تراوري، إليانو، سمير أمين وغيرهم بعنوان جديد، أو بتوصية أخيرة ، " إنه لمحكوم علينا أن نكون مقاومين". إننا متهمون بالمقاومة. ونحن محكومون بالسجن أو بالموت، ونشتغل بالعناية المركزة بالراهن.
إننا نحاكي الأطروحة رقم 11 لماركس حول فيورباخ حين نقول: لقد اكتفى الناس لحد الآن إما بعبادة أمريكا، وإما بالرغبة في إستعبادها، في حين أنه ينبغي علينا تحريرها. سنكون إذن سارتريين من دون سارتر، أو لنقل كذلك من دون ماركس، ولكن كيف النظر؟
ماذا لو عادت فلورانس أوبينا من بعد طول إختطاف بالعراق، والتقت مؤسس "Libération" انذاك (سارتر)؟ سيقول من دون شك : " لهم الحق في أن يتمردوا ولهم الحق في أن يقاوموا " ولكنك على حق حينما كتبت صحبة Benasayag بأن عدم إبداع عوالم جديدة من هنا والآن يظل " فشلا للمقاومة مهما كانت صلابتها وبطولتها". نحن، بلغة ماركس عن " كومونة باريس"، معهم لسنا معهم، واقعا وفكرا، ولسنا ضدهم. إنه لمحكوم علينا بأن نكون معهم إيجابا وسلبا، ( والإيجاب قبل السلب واوفر منه)، وخارج الراهن كله لسنا معهم، إيجابا فقط. لا يجب علينا بناء على ذلك، أن نكون سارتريين بالسلب. إننا في الوضع الذي صرخ فيه ماركس (إذا كانت هذه هي الماركسية فأنا لست ماركسيا)، فكيف نكون مقاومين مقاومة موجبة؟
كيف العمل؟
سنتدبر الامر كالتالى:
1- فهم الوجود كمقاومة، والمقاومة كوجود.
2- المقاومة الحياي، المقاومة من دون عدمية.
3- المقاومة حياة.
يهمنا، هنا، أن نشير الى سارتر سارتريا، والى سارتر من دون سارترية. ومن ثم الى المقاومة من دون سارتر لأنه ليس آخر فيلسوف.
في المستعمرات، يشير سارتر (عازف البيانو)، في تمهيده لــ" المعذبون في الأرض" لفرانز فانون Cahiers libres N° 27-28 / 1961 الى أن " الحقيقة تتبدى عارية في المستعمرات"، وفي الحاضرة " تعرض نفسها متلبّسة ". ومرد هذا التناقض هو أن المستعمر " يجعل منا وحوشا" ذلك ان إنسانوية، يضيف سارتر، " تزعم أننا كونيو ممارساتهم العنصرية"، تجثم علينا في محليتنا.
جدير بالدقة أن هذه العنصرية ماهي بعرقية ولا دموية: إنها عنصرية مصالح إقتصادية تحديدا. لا أحد منا نحن الأهالي الهادئين، الزنجي والأسود يرغب في التمرد ويرمي الى " تقتيل أطفال أوروبا الناعمين من أجل أن يصبح أوروبيا لا غير"، أو أمريكيا الآن.
يوجه سارتر دعوة صريحة على لسان أحد هؤلاء العتيقين: " أهليو كل البلدان المتخلفة إتحدوا". على أن قلب المشكل يكمن في هذا: ثمة إستقلالات وهمية. ها هنا، يلهث البعض نحو السيادة الشكلية فيما يظل البعض الآخر تحت تهديد الإمبريالية الكومبرادورية ( الوساطة والإستشارة الإستعمارية) الدائمة.
بهكذا واقع، علينا ألا نخفي شيئا. وبالفعل لا يخفي فانون أي شيئ من هذا. حيث أن الحقيقة الساطعة هي هذه: (على المستعمرة القديمة أن تصارع نفسها لتصارعنا"، حتى تتحرر من المستبدين القدماء وتسير نحو الإشتراكية الثورية في إفريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية...إلخ.
يعترف سارتر بشكل فذ وخلاق، (وفاء المبدع للمبدع) باننا سنعلم بعد هذرنا الفاشي بأن فانون هو أول من أسطع بعد انجلس " ولادة التاريخ".
إنه عليهم أن يقاوموا رغم الجوع والمرض والجهل. إنهم إن يقاوموا " يطلق الجند النار" وإن الذي يتخلى " يفقد إنسانيته" ولذا عليهم أن يقاوموا ولو بالموت، هنا إيجابية فعل المقاومة. على أنّه ليس: أن تموت اليوم أفضل من ان تموت غدا. " إننا لا نصير نحن أنفسنا إلا عبر النفي الحميم والجذري لما فعلوه بنا". تبدوا المقاومة أول ما تبدو غير منظمة، ذلك هو أيضا نظامها الخاص بها. وذلك أن المؤرهِب الكولونيالي المعنِف يبعث رهبة ويغرزها صلب المستعمر، هذه الرهبة تمزق قلبه، وهي إذ تمزق تتحول الى غضب، لا يتردد سارتر في دعوتنا المجددة لقراءة فانون الذي يعلمنا بأن " زمن الضعف" لهُوَ جنون قتال، إنه اللاوعي الجماعي للمستعمرين (سيكولوجيا المقهورين)، وللعنف عمر ثالث: المرتد، الخلفي والذي يخص الغيرية The boomerang of alterity علينا إذا أن نختار بين أن نظل مؤَرْهَبين َ أو نصبح قطيعيين.
يتأكد لدينا مرة أخرى بانه لا وجود لإرهاب و لإرهاب مضاد ، بل إن الامر يتعلق بالمُؤَرهِب المُؤَرهَب مثل المستعمِر والمستعمَر، ولذلك نحن فهمنا المسألة على أنها نسقية وأفهمنا على نحو تَرُّوقْرَاطِي. ثمة في السياق الإمبراطوري الحالي (تَرُّوقْرَاطِيون وجماهير مقاومة إيجابا وسلبا). مثلما ثمة في النمط الرأسمالي برجوازية وبروليتاريا و أمرهم صراع وليس بروليتاريا فقط أو رأسماليين فقط ( في التعبير الشائع)، بل أرباب عمل وعمال، وربما ثمة مكان لثالث والكل ليس سواء.
إن تحليليّة الكولونيالية دليل أكيد وصارم على ذلك، وإنه لمن الوجاهة والجدية بمكان، إستئناف التفكير على قاعدة الديالكتيك لتجاوزه، على ذلك نفهم الطبقية الثنائية في إطار الكولونيالية القديمة، ولقد تغير الشكل فهل استفدنا من ذلك؟
يبدو أن النفي أقرب ما دمنا نقيم في الخلط والبعثرة والتلطيخ، في التسويقيّة اللفظية التي للكولونيالي الجديد (التروقراطي). يستفيد ناغري وهارت في " الإمبراطورية" من هذه التحليلية التي تخص فانون، ونيزن Paul Nizan وآلبَرْ مَامّْي وسارتر وإدوار سعيد وباتريس لوممبا وغيرهم.
لقد كتبا يقولان “The work of numerous of authors, such as Jean-paul sartre and Franz Fanon, who have recognised that colonial représentations and colonial sovereignty are dialectical in form has proven useful in serval respects ».
إنه علينا أن نقلب المنطق الكولونيالي لأنه يمشي على رؤوسنا. وعليه لا شك أن العنصرية المضادة للعنصرية هي الطريق القاصدة إلغاء الفوارق العنصرية، وذلك من خلال " الوحدة الجامعة كل المقهورين": الوحدة في النضال، وحدة الفكاك من السلب، (orpheo Negro, situations) ينطلق الفيلسوفان (نافري وهارت) مرة أخرى منذ سارتر معلنين ضرورة " المقاومة الجماعية" ( Collective resistance) ضد " الطبقة اللإقتصادية" المشكلة بدورها كــ" أفعال جماعية للمقاومة" ((Multitude 2004 .
بيد أن حدود هذا الفهم ليس أبدا الجماعية في حصريات محلية وإنما، على العكس في الذهاب الى أقاصي الإنفتاح الجماهيري، بل فتح الجماهير نفسها بنفسها مع بعضها بعضا بما أن مفهوم الجمهور هو دائما تعدّدي لا محدود، أي سعة العالم باسره حيث يكون الجمهور جماهير هكذا : multitude) multitudes = ). لنتأمل هذه الصياغة لسارتر: " إصابتان بحجر واحد" " ومن ثم " القضاء على المضطهِد والمضطهَد في آن واحد" بحيث يفضي الشق والقطع الى " إنسان ميت وإنسان حر". من هذه الجهة من الجذرية ينشأ الحر فيتغلب على الميت وعلى الموت مرة واحدة وبلا رجعة. يندحر الباقي بعد موت الآخر الذي هو مجرد قيد حياة أو قيد فقط باق، ناج، متخلف (Restas, reste)ليس ذلك هو المقاوم والصامد، بل هو سلب وكل ذلك لفائدة مَحْيَا الإنسان.
علينا أن نذهب لأقاصي حدود الفهم حتى نحصن خطتنا، حتى نلغمها وننضجها فتصير غير قابلة للإبطال ولا للمساس. إننا ندحر السلبي وننتصر للإيجاب الدائم وليس للإيجاب المطلق. يبين لنا سارتر كما بين فانون بيان الضرورة في موضعها، حدود العفوية، حدود الضرورة ومخاطر التنظيم. إن في ذلك بيانا في صميم الديالكتيك الذي يصاب بحجر واحد في الصميم. يقسم صدره أو إنه يصاب بضربتين في القلب من حجر واحد وذلك إما بفعل خلفي، وإما وجها لوجه وإما في الظهر، سيان.
وحده منطق المقاومة يصمد، يجسر وتطول أنفاسه أمام نفسه. إنه يتحدى ضده الداخلي، تناقضه الذاتي والموضوعي لانه بلا ضد وهو لا يعترف بنفسه بالسلب، أي بإعترافه بضد خارجي يعرّفه.
إن منطق المقاومة هو مطاولة، منطق مترحّلات وليس أبدا موطنا للمراحل والدرجات، أو موطنا لتراكم السلب حوله. وحده منطق المقاومة ينقذنا، إذ فيه المقاومة وجود والوجود مقاومة: وجود صيروري ولاّد، كون حر طليق. إنه جذموري، شبكي، عنكبوتي، راديسالي، تفريعي، تكسيري، تشقيقي، تقصّفي، غير قابل للهز من الداخل والأخذ من الخارج، غير قابل للإنجراح والإنثلام، لا تكتيكي ولا إستراتيجي، بل هو صمام لوجستياته الخاصة بكل ما فيه، وبكلمات، جماهيري لا سلطة تكسر فيه كمقاومة. رُبَّ منطق هذا الذي إذ علمناه نلنا به.
لا بد إذن من تنشيئ وتوليد حق وليد واطفاله العادل ووليد الحق ومشرّع العدل، وكلها تشخّصات إسمية لأبنائنا غدا، بدلا من إعتباطيات اليوم التي لا فن سياسي فيها. مفهوميات هذه التشخصات في تجاربها الآتية وأما أفعالها ففي موارد النظر اليوم، والحق عندنا أنه علينا أن نعبّئها بالأنظار، بالحياة النظرية (Bios theoretikos)من أجل الحياة السياسية. (Bios politicos)
إن لأبنائنا غدا حق الحياة من دون أسف على الراحلين. إننا كما يقول سارتر ميتون لا محالة بالقوة بالمعنى الأرسطي، وليس بالمعنى القتلي الراهن، أو بالفعل بالمعنى الراهن وليس بالمعنى الأرسطي. الأمر من ذلك أننا نموت في التناقضات ما بين الإثنين بدلا عن الحياة في رهانات مخالفة وعلى جدة طريفة." إن تعب القلب هو أصل جسارة لا تصدق" يكتب سارتر. ومن أجل أن لا تموت أمهاتنا وأطفالنا ونساؤنا عليهم هم أن لا يغيروا سقف المقاومة، ولكن علينا نحن أن نغير منطقها لعلنا نحيا بالفعل، "إذا ما استطعنا الى ذلك سبيلا" (محمود درويش). هَبْ أن حياتنا أصبحت دون معنى ودون مضمون وأصبحنا الإنسان العديم (l’homme sans contenu, Giorio Agamben, cicré 2000)
فأي معنى لحياتنا إن لم تكن دون الموت وأبعد منه في الفينات كلها مختلفات. لا بد من أن لا تكون المقاومة " حالة حصار" (درويش)، ولا أن تكون " سرير" غربة مطلقة، ولا مجموعة إعتذارات للمضطهِد، وأعذار مزعومة لتوضية ما يسمى " الذات" وتيميمها. يعني كذلك " أن نقاوم يعني: "التأكد من صحة القلب والخصيتين، ومن دائك المتأصل: داء الأمل" درويش.
تكمن ديالكتيكية سارتر في أن المستعمر يفك المستعمر، ينزع عنه الإضطهاد ويحرره، لكن ذلك حد لا غير. أَنَّى له أن ينجح في إدامة الخروج عن الكولونيالية. فبدءا لا بد من تحرير الكولونيالي الذي هو في أنفسنا، وبعدها إبداع أول بربري سلمي جديد ياتي من خارج " الذات"، وتبرئة أصغر بربري من كذبة الأصلي والمركزي والمطلق السامي، وبإختصار، الخروج عن كل أكاذيب الإنسانية وبخاصة دجل الأليف وشعوذة الوحش نحو حيوان سياسي فني لا يأخذ أكثر من حقه ولا يعطي أكثر من حجمه ولا يملك شيئا بشكل مؤبد. لا بد من التواضع على هذا الحيوان بالمعنيين المنطقي والإيطيقي والطبي كذلك، لكن دون التخلي عن أدوات وشروط الصراع حتى ينضج أكثر بحيث يصبح مشروعنا بالمعنى السارتري وضده بدائل المقاومة غير المقاومة يعني البدائل التي هي بدائل (ضدية خارج الدائرة متقدمة في التاريخ أو في تقدم (Trialectique).
البدائل المغايرة للصراع السلبي، ولكن ليس قبل بدائل المقاومة التي هي مقاومة في الراهن وماهي ببدائل في غير زمانها. والصراع الذي هو صراع وليس ببدائل دون نرجسية، يحدثنا فانون، نفكر بانه لا سلطة لأحد على أحد، و " لا فضل لأحد على أحد). لكُلّ يؤكد سارتر " كل الحقوق" وعلى الجميع. أين المتوحشون إذن، يتسائل أين البربرية؟ فليرحل العبيد أو فلنحررهم.
إن الكولونيالية رهبة ورعب و " الرهبة تعم الأرض بتمامها" (سارتر، تمهيد، " وجه المستعمر" ، Albert Memmi, Pauvret 1966 يتحول الإنسان الى ما دون الإنسانية إلاّ أنه للمستعمَر سرّ: الإجهاز على الإستعمار.
إن ذلك بالنسبة للفيلسوف والمسرحي نسق وليس وضعية...يلزمنا من أجل ذلك " قلب متمسك" والكثير من القوة والإبداع والإقتدار (بول نيزن Aden-Arabie, Maspero 1973. يذكر سارتر في تقديمه لهذا الكتاب بأن القتيل (نيزن) "كان يعلم الرعب والشراسة أكثر من علمه طيّبات اليأس". يعتقد الشيوعي في العدم وليس في جهنم والحق أنه لا يجب الإعتقاد في الإثنين.
يستلخص سارتر من تحليلة الكولونيالية التي يواصلها مع لوممبا بأن ثمة نيوكولونيالية كلما تبين أن الإستقلالات الوطنية كانت مزعومة لأنها لم تنجم عن تشابك الحرية والإ بداع، وهما شيئ واحد مثلما بيّن ذلك في "الحرية الديكارتية".
يطلق سارتر العنان لفكرة الحرية التي يصبح بمقتضاها الذي يكون ما هو من أجل ذاته. يصبح بوجوده بهذه الحرية المطلقة بالذات ذلك ما يعني به الوعي الخاص بما هو وعي بالوجود. بالنسبة إليه، يساند الفعل الوجود، الفعل في الوجود. يفكر سارتر في " الوجود والعدم" من خلال الحرية المحض، العفوية النشيطة التي لا عبث فيها، فلولا الوجود لما كانت الحرية .لذلك نحاول عبر مسألة الحرية فهم الوجود بالحياي، والمقاومة بالحياة. إن الحرية هي " نشاط وهي ليست شيئا آخر غير النشاط". هي كذلك توازن خاص، توازن الفعل، الإعتماد على الفعل، هذه هي أنطولوجية الحرية بالطريقة التي حددها بها L. Pareyson, ontologia della liberta) يحيرنا سارتر بالحكم بالحرية وإلزامها. يذكرنا بأنه مهما كان وجودنا، فإنه لا محالة إختيار، وإن ذلك ليتبع طريقة إنتاج أفعالنا. لا يتوانى صاحبنا في " الوجود والعدم" في التأكيد على أنه بما هو حر فهو " المصدر الأم لإمكانيته " وذلك " إختيار أصلي"، أو بعبارات أخرى " أساس أنطولوجي"، إذ يختار الإنسان نفسه إختيارا تاما في " العالم بأسره"، على أن الإختيار بالنسبة إليه هو " الظاهرة الاولى للوجود في العالم" . وعلى ذلك فإختياره ضمن هذه الوجهة لا يكون الا إستقلالية وهو بالتالي غير مشروط، إنه يختار عبر " تركيب شاذ بين الذي لذاته والعدم"، وإن ذلك عبارة عن " سلطة عارية" و" سابقة" على الإختيارات.
إن الحكم علينا بالحرية هو مكمن الصعوبة كلها ومنبت التحير كله. إذ كان للحرية أن تكون فإما راهنة على الدوام وإما لا تكون أصلا بذلك، لأنها ليست أساس نفسها. في الواقع يشدد صاحب " كراسات لأجل الأخلاق" " نحن حرية تختار ولكننا لا نختار بان نكون أحرارا". " نحن محكومون بالحرية". نحن محكوم علينا بالحرية وكاننا مجبولون عليها. " إننا لسنا أحرارا في أن نكف عن الحرية". مع ذلك كله يظل الحد لا يلامس الموت وذلك إختيار واع شفّافي تماما، أو " نصف شفوفي لذاته". يعترف كاتب " الوجودية انسانوية" بأنه " ليس بوسعنا الأمل في وعي تحليلي ومفصل لما نحن عليه". لعل طريق الوجود والعدم هو هذا: " المستحيل لا ينجم منطقيا عن الممكن". هو لا ينتج ولا يتبع الطريق نفسه.
رُب متاهة لا قول فصل فيها. إنها على ما يبدو المنطقة التي يتفلسف فيها سارتر وجوديته، وأنه يشترع لنفسه " التحويل الدائم" لمشروعه الأصلي. فالحرية تقحم في الزمن " إنكسارا معدما".
يبدو أن للمقاومات مفهوما سلبيا لديه، فهي كالعوائق، وهذا الفهم لا يتجاوز حدود مقاومة المواد الفيزيائية.
يعترف سارتر بأن في فعل الحرية إبداعا للحدود، ولكنه لا يتورع عن التعمق بعيدا في صنعيتها الإطلاقية، حيث ان المتفحص لكتاب " الوجود والعدم" يصطدم بالضرورة بالحتمية، بالمصير وبالقدر أي بالإغتراب المطلق، ويصبح عليه أن يغير مفهوم المقاومة الى إيجابية. إنطلاقا من هذه الجهة بالذات: نقد القدر، نقد المصير، مواجهة معدومية الصائر، عصيان العدم والمروق عن المقدر...إن مقاومة القدرية والجبرية هي أساس كل مقاومة.
يوافق سارتر جيل رومان الزعم بانه لا وجود لأبرياء في الحرب. ونحن نرى أن لا شيئ يستحق الحرب، وأن إستحقاقهاهو من باب دفع الضرورة الى الحتمية ومن ثم الى العدمية. نعم ثمة أبرياء في كل حرب، أبرياء يعني مقاومين. لعل مقاومة لا تتمرد على السلبية ليست مقاومة. ومقاوما لا يتمرد على الموت ليس مقاوما. إن مقاومة لا تحقق وجودا لا تستحق أبدا هذا الإسم وبالمثل، لا حاجة لنا بوجود غير مقاوم وغير مشرف والموت ليس لا استثناء ولا حادثا ولا لغزا عجيبا ولا شيئا عزيزا.
رب مقاومة هي تحقيق الوجود الذي تستحقه ويستحقها. أَلاَ ما أقل ذلك وأرفعه.
قصدنا الوجود الذي تكون به القيم وطريق القيم ليس القيم- الشعارات وإنما المقاومة. كما أن طريق المقاومة ليس الثورة- الشعار وإنما المقاومة الدائمة. إن وجود المقاومة الحقة في طريقها، وطريقها الحق في قيامها وصيرورتها ودوامها. نكون بذلك مداهمين بكمون سارترية مضادة للسارترية الراهنة المقدرة (بالمعنى التاريخي).
لا فائدة بعد ذلك من إنتظار تحول المقاومة الى ثورة. المعادلة التي نراها إذن: من المقاومة العالمية الى المقاومات المحلية على أن تكون هذه المقاومات متحايثة، متزامنة ومشتركة بين الجماهير، ألا نكون بذلك في ثنايا الحرية؟
الحرية التي نتحدث عنها من بعد سبينوزا وسارتر هي حرية كلية الحضور في كل مكان. ولكن كيف للحرية أن تكون على نمط الوجود هذا. يطرح سارتر في " نقد العقل الجدلي" السؤال التالي: بأي شروط تكون الممارسة المشتركة ممكنة؟ إن ذلك ليمكن عندما يتجاوز العملي الكامن في العطالة. وذلك بتصريف تناسب التعارض بين الأفراد والوحدة المحض عندما يتماهى أحدنا بالآخر معترفا أنه مكون من طرف الآخرين. كمغاير لنفسه وكفاعل في الآخرين. ذلك لو أكون في كل الناس ويكونون كلهم في ما أكون. يصير على إثر ذلك تجماع تسلسلي، إلا أن هذه الوحدة تظل سلبية ومعطلة ليس إلا.
بل هي علاوة على ذلك وحدة اللاقدرة. نفهم أن الإجتماعية الطبيعية التي للكل تتغلب على عدم إجتماعية البعض، وذلك بإتجاه تكوين قوة جماعية موحدة أو تكوين الهوى الكوموني للجماهير بحسب تحليلات المتفلسف اللبناني هادي رزق (Ubiquité de la liberté, Futur antérieur 9/1992/1)
لعل أهم هوًى (affect) هو الغضب بحسب سبينوزا لأنه " يقوّض الدولة". في فرضية خصبة، يقول رزق: " إن العلل نفسها تساهم في تكوين الدول كما في ذوبانها". تبدو تحليلية سارتر للأيام الثورية ذات قرابة أصيلة مع تحاليل سبينوزا الأعرق في هذا المستوى بالذات. يشهد على تأويل سارتر ان الباستيل لم يكن ليأخذ لولا حالة التسييج والمحاصرة التي تنذر بالخطر اللابشري وتجعله ملموسا، لأن هذه الحالة تحدد المدينة على أنها كلية قابلة وجاهزة للقمع. أمام هذا التسييج ينشأ في الجماعات الشخص الكوموني، او لنقل الشخص العام أو الشخص المشترك، فتتحقق وحدة في الغيرية وتلتحم بالمغايرين. ينتج عن ذلك أنه لا وحدة حقيقية وفعلية تحصل عبر الوسائل الخارجية.
رب وحدة فعلية تكون إقتدارا تركيبيا. إن المفهوم الأكثر قدرة على أن يكون أداة تحليل قوية بما لديه من كوامن تكتيكية وإستراتيجية لهو " تعددية البؤر" حتى لا نقول المراكز. يدل على ذلك أمران اثنان أولهما أنه لا يمكن محاصرة ومراقبة التحرك الفردي، وثانيهما أن كلا منا هو " نتيجة الضرورة الجماعية" وهو يندمج في المجموعة بما هو ثالث. تبدو لنا الاهمية البالغة لسارتر في أنه ينبهنا الى الهلع ويحذرنا من عدم فعالية بعض التجمعات السلبية ودورانها بشكل خاطئ وسيئ يؤدي الى العنف المفاجئ. الهرب ثم معاودة التجمع. إن كل ما يمكن للمرء أن يخشاه هو أن تصبح الوحدة في الغيرية أداة للهروب وتقليدا هروبيا. الهروب بفعل هرب الآخر، الذي يأتي من الآخر، كان أمرا قطعيا يتشكل على هذا النحو: إهرب من الآخر، تراجع إذا تراجع الآخر. نظن أن هنا مفتاح الأسرار الفاتح للغز " جهنم هي الآخرون" لسارتر، على عكس الفهم السطحي والمشوه لهذه الفكرة: الآخر العدمي، الآخر العدم والمعدوم، كذلك هو على الدوام على ما بينته التجارب التاريخية ذلك الصفي، الغوغائي، العبودي وبخاصة المطيع.
" إن المجموعة الحقيقية، يكتب رزق، لا توجد إلا كوسيلة تنشأ من الإقتدار البناء للممارسات الفردية المتعددة"، وليس جزءا من كل pars totalis . يكون المشكل التحريري إذن، أي الحل مواجهة الوحدة في الغيرية بالتواجد الحر للذات في كل مكان، هذه هي الحرية التي لابد من عزفها لأنه " في كل موسيقى عنفها الداخلي" (سارتر). هي حرية الممارسة الكومونية لكل فرد: التركيب الحي، جماهيرية الأفعال الفردية. فالوحدة ليست أبدا معطاة. إنها دوما في دور التكوين والإنعطاء. وتلك أخص خصوصيات الإجتماعي السياسي ضد غوغائيات الشعارات ، لأن " الشعار هو مقولة الإنسانية التي افتقدت الى التجربة" ، وبالتالي افتقدت الى الحرية , Giorgio Agamben, Enfance et histoire ، إن " للحياة المُعَرَّاة فضلا متفردا، إنها ما به يؤسس الإقصاء مدينة الجماهير"،G.Agamben, Homo Sacer I , Le pouvoir souverain et la vie nue. Seuil 1997).
وعليه، فإنه علينا أن نشترع أشكال الحياة الجماهيرية التي تخصنا لنشترع إبداعاتنا وإقتداراتنا وفضاءات صراعاتنا أي الفضاءات النقدية، فضاء المشترك بعبارة أعلم. ذلك أن " الحياة العارية التي تشرع الأساس المخفي للسيادة أصبحت شكل الحياة المهيمن علينا أينما ولّينا وجوهنا" G. Agamben, Moyens sans Fins, Rivages, 2002,) .
إن الأمية القصوى لهكذا مشروع هو مواجهة ما سنكون عليه كبشر للتضحية والقامرة والقربنة، إننا بالفعل أحياء على شاكلة الإنسان الضحية المقدسة Homines sacri Homme Sacer ، والإنسان المقدس هو المحكوم عليه بأنه مجرم يجب التضحية به بحيث لا يعتبر قاتله قاتلا. والمقدس هو السيئ. المسخ، عديم الجنس، يجب قتله تقربا من الألوهية الجهنمية. وهو محرم ومحضور، أي أن دمه مباح للجميع تقربا للآلهة وتعجيلا لتقريبه.
حصل إنقلاب في القانون الروماني، يقول فوكو، بحيث تحولت القاعدة من "أقتله ودعه يعيش" إلى " أحييه ودعه يموت". هذه هي القاعدة من هتلر الى غوانتانامو (Homosacer II, 2003).
إنهاعودة الغْلاَدْيَاتُورْ وبقوة واستفحال شديدين، " أصبحت الحياة هي منبوذ العصر". (Peter Sloterdijk Spheres l, Pauvret, 2002.) الحياة ولو في فقاعة صابون.
لا أحد اليوم يهتم للحياة العارية. في العمق أغلب الحيوات تحت خط العراء، ومن حق الجميع الرنو الى " حياة رفيعة".Peter Sloterdijk Spheres III, Ecumes, 2005(
فكيف يمكن أن نحكم على أعداء الحياة – القتلة بالمقاومة الرفيعة من أجل الحياة الرفيعة؟
"المناضل هو الوحيد القادر على التعبير بأفضل شكل عن حياة الجماهير: إنه المبدع البْيُوسِياسي ومقاوم الإمبراطورية. (ناغري – هارت).
صلاح الداودي،
المعهد العالي لفنون الملتيميديا،
تونس.
1 نشر هذا النصّ أوّل كَرّة بمجلّة الفكر العربي المعاصر، العدد134-135 إحتفاء بمائوية جان بول سارتر شتاء 2006 ونظرا لان هذه المؤسسة لا توفر للقارئ العربي اية فرصة للقراءة فانني قررت نشره في الحوار المتمدن، فشكرا له.
2الجمل المُسطّرة على سبيل التحيين الطفيف.





#صلاح_الداودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوطن الآن
- الحب، درجة أولى
- أنصار الرّماد
- مدى الحياة
- بطاقة ناخب
- ما فوق اللذّ ة
- اُنظر إلى الشمس
- فحم الهويّة
- تجريب
- صَحيحُ الشاعر
- في نثر ودّكِ
- عَودُ الحواس
- ذراعٌ ميّتٌ
- الولادة الصّفر لمفهوم -بيُوبُوليطيقا-
- الله يعلن جنونه
- الله يقرر الدخول الي جهنم
- بمناسبة 24افريل
- في ذكري الفاتح من مايو / إلي كل جماهير العالم:
- برتقالة أمي
- حديث الشاعر مع نفسه


المزيد.....




- كاميرا مراقبة ترصد ما فعلته دببة عندما شاهدت دمى تطفو في مسب ...
- شاهد: خامنئي يدلي بصوته في الجولة الثانية من انتخابات مجلس ا ...
- علاج جيني ينجح في إعادة السمع لطفلة مصابة بـ-صمم وراثي عميق- ...
- رحيل الكاتب العراقي باسم عبد الحميد حمودي
- حجب الأسلحة الذي فرضه بايدن على إسرائيل -قرار لا يمكن تفسيره ...
- أكسيوس: تقرير بلينكن إلى الكونغرس لن يتهم إسرائيل بانتهاك شر ...
- احتجاجات جامعات ألمانيا ضد حرب غزة.. نقد الاعتصامات وتحذير م ...
- ما حقيقة انتشار عصابات لتجارة الأعضاء تضم أطباء في مصر؟
- فوائد ومضار التعرض للشمس
- -نتائج ساحرة-.. -كوكب مدفون- في أعماق الأرض يكشف أسرار القمر ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صلاح الداودي - في سارترية المقاومة الراهنة وضدها