أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد علي ثابت - سيميترية التطرف - الجزء الأول















المزيد.....

سيميترية التطرف - الجزء الأول


محمد علي ثابت

الحوار المتمدن-العدد: 2717 - 2009 / 7 / 24 - 05:45
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


1 من 2
التمهيد للنموذج
---------

"من الدلائل على ان مجتمعنا فيه عيوب هيكلية جذرية بتعيد باستمرار إنتاج منظومة التخلف وإقصاء الآخر إننا بعد سنة تانية فايسبوك وحرية إلكترونية بقينا نعاني من ديكتاتورية وغوغائية أصحاب الأصوات الثقافية المغايرة، والأقليات، والجماعات النسوية، بالضبط زي ما بنعاني منذ عقود من ديكتاتورية النظام الحاكم وغوغائية الجماعات التكفيرية - والمحصلة الطبيعية لده كله إن أي حوار في المناخ ده لازم يتحول لحوار طرشان خالي تماماً من التسامح والتبادل الفكري الحقيقي المفيد"


حسناً.. كنتُ قد استخدمتُ تلك العبارة العاميِّة الطويلة كـ "ستاتيوس" لي على الفايسبوك منذ بضعة أيام. وقد ذيَّلتها بالتعقيب التفصيلي التالي، الذي كتبته بالعاميّة أيضاً:


"جرّب تخوض حوار في أي قضية جدلية مع عينة عشوائية من الناشطين الإلكترونيين: الليبراليين، أو اليمينيين المحافظين، أو الماركسيين الجذريين، أو العلمانيين العلميين، أو الملحدين، أو البهائيين، أو الأقباط الأصوليين، أو المدافعين أو المدافعات عن حقوق المرأة وعن مبدأ المساواة بين الجنسين، أو النوبيين أو الأقباط في الخارج، أو ... الخ الخ - جرّب وانت تلاقي إن أكثر من نصف اللي ناقشتهم متطرفين إقصائيين شتّامين مفيش فرق حقيقي بينهم وبين متطرف تكفيري أو منافق سلطوي حكومي"


* * *

في الواقع أن تلك القضية تشغلني كثيراً هذه الأيام. تشغلني لمدى أبعد بكثير من أن تصبح مجرد "ستاتيوس" مؤقتة لي على الفايسبوك أو "تيمة" رئيسية أو محور يدور حوله كثير من حواراتي الإلكترونية و"الحقيقية" في الفترة الأخيرة مع الأشخاص القلائل الذين أستحبٌ الحوار معهم بانفتاح. إنها قضية التسامح الغائب، أو فريضة التسامح الغائبة، غياباً تاماً أو شبه تام عن حياتنا الثقافية في اللحظة الراهنة وعن حواراتنا الثقافية وعن الكيفيات التي نفكر بها في الآخر – على اختلاف أنواعه وتصنيفاته – ونتصرف بها تجاهه، والمعايير التي نبني عليها تصنيفاتنا تلك المختلفة له وأحكامنا المختلفة عليه. نعم، وللأسف، التسامح الحقيقي خصلة تكاد تكون مفقودة ومفتقدة بيننا اليوم تماماً.. لا أحد لديه استعداد حقيقي لأن يستمع إلى الآخر، أو لأن يسعى لكي يتفهَّم رأي الآخر، أو لأن يضع نفسه مكان الآخر وينظر إلى الأمور من وجهة نظر ذلك الآخر ووفقاً للظروف المحيطة به أو التي كانت محيطة به وتساهم وساهمت في تشكيل مواقفه، أو لأن يسعى للتقارب مع رأي الآخر ومواقفه أو للعثور والتركيز والبناء على نقاط التفاهم المشترك المحتملة معه عوضاً عن اللعب على أوتار الاختلافات الجذرية عنه وما تؤدي إليه من سباب وشجار وتناحر يعدم الحوار أي فائدة مرجوة منه. الواقع المؤسف اليوم هو أن لا أحد – أو دعوني أكن أقل تشاؤماً، وأكثر موضوعية، فأستخدم التوصيف "غالبيتنا العظمى" بدلاً من التعميم "لا أحد" – نعم: الواقع المؤسف اليوم هو أن غالبيتنا العظمى أصبحت تؤمن بأن اختلافي في الرأي معك لابد أن يحولنا إلى عدويَن، وأن يدفعنا إلى التشاجر وتبادل الشتائم والاتهامات والتهديدات، أو على الأقل إلى أن ينعزل كلٌ منا عن الآخر ويتحاشاه تماماً وأن يشعر كلٌ منا - في عزلته - بأنه أفضل من الآخر وأن مواقفه وآراءه أكثر صحة وصلابة وتماسكاً وعمقاً وقيمة وربما "طُهراً" و"وطنية" أو "إنسانية" وتحضراً من مواقف الآخر وآرائه. غالبيتنا العظمى، بما في ذلك نسبة كبيرة جداً ممن يمكن وصفهم بالنخبة المثقفة، أو ممن يصفون أنفسهم أو يسعون إلى أن يصفهم الآخرون بأنهم من النخبة المثقفة، تعاني من صعوبات جمّة في تقبّل مجرد وجود الآخر والتعايش معه والاستعداد للانفتاح عليه والتفاهم أو التعاون أو مجرد التحاور السلمي معه. وإذا كان الانحدار إلى مثل تلك الهاوية الفكرية والحضارية المقززة من فرط تطرفها ولاإنسانيتها أمراً مؤسفاً في كل الأحوال وبالنسبة إلى جميع من ينتسبون إلى جنس البشر المفترض فيه العقل والتمييز والترفع عن كثير من الغرائز البدائية، فإنه لا يثير دهشة واستغراب المرء الحقيقيين إلا حين يكون المتورطون فيه من النخبة المثقفة أو ممن يحاولون الاقتران بها والانضمام إليها، ولا أقول التمحُّك بها. فالتطرف بطبيعته سمة من سمات من لا يفكرون كثيراً ولا يُعملون عقولهم كثيراً ومن يسمحون للغير الأقدم أو الأكبر أو الأعلى سلطة بأن يفكر بالنيابة عنهم وأن يرشدهم إلى الصواب وإلى الحق وإلى الإجابات المعلبة الجاهزة السهلة حتى عن أعوص الأسئلة والمعضلات الوجودية الجدلية؛ التطرف سمة من سمات من لا يملك حداً أدنى من المعلومات والخبرات والأدوات العقلية التحليلية والثقة بالنفس وفي القدرات الذاتية والجمعية اللازمة لتكوين رأي مغاير للرأي الذي نشأ فوجده مفروضاً عليه أو متاحاً بالمجان لكل من هم مثله ومن نشأوا في ظروفه ومن يفضلون بحكم العُرف أن يعيشوا بعقول عليها مغاليق لا يملك مفاتيحها سوى كاهن من الكهنة أو واحد ممن هم على شاكلة الكهنة في كل العصور؛ والتطرف أداة دفاعية شهيرة جداً ومتواترة يستخدمها كثيرون ممن لم يفكروا كثيراً في ما تم توريثهم إياه من معتقدات ومبادئ، أداة دفاعية يهاجمون بها وبشكل استباقي عصبي ومتحفز كل من يفتح المغاليق أو من يكاد. هذا كله مفهوم ومتوقع ومتصور بين "العوام" الذين لا يفكرون "خارج الصندوق" أبداً.. لكن كيف استطاعت آفات التطرف ورفض الآخر والاستعلاء عليه والسخرية المستمرة منه وادعاء "أننا وحدنا نملك الحقيقة المطلقة" و"أن الآخر إنْ هو إلا على خطأ تام وفي ضلال مبين" – كيف استطاعت تلك الآفات الكريهة وأساليب التفكير والتصرف السطحية تلك أن تتغلغل إلى الجماعات النخبوية حتى أصبح السواد الأعظم من أعضاء الأخيرة ومن الطامحين في الانتساب إليها في مجتمعنا يعانون بشكل أو بآخر منها (من تلك الآفات أقصد)ا؟ كيف يستقيم أن يتحول المثقف القارئ المطّلع إلى متطرف صِدامي بل وأحياناً إرهابي في أساليب حواره تماماً كالجاهل الذي يستميت دفاعاً عن معتقداته الدينية أو السياسية أو الأيديولوجية عموماً أياً كان نوعها التي لم يخترها بنفسه أو لنفسه ولم يُكوِّن موقفه منها بناء على فكر وقراءة وتحليل ذاتي ونقاش جمعي وإنما بناء على قوى الوراثة والعُرف والتقليد والاتباع التلقائية المفروضة؟

وإن شئنا تحليل الأمور بمزيد من الدقة والعمق لقلنا أيضاً إن المشكلة – تلك التي تشغلني الآن لأقصى مدى ما كنت أستطيع تصوره لقضية عامة غير أيديولوجية أو وجودية بالدرجة الأولى وإنما اجتماعية، أو بالأصح مجتمعية، بالمقام الأول – هي في حقيقتها لا تقتصر على مجرد انعدام التسامح أو نُدرته في حياتنا الثقافية المعاصرة حتى فيما بين أعضاء الجماعات النخبوية ومن هم في حكمهم. لا تقتصر المشكلة على ذلك البُعد أو الملمح الهام، ولكن تتعداهما لتتخذ ملمحاً إضافياً متصلاً بسابقه ولا يقل عنه أهمية في تأطير ظاهرة التطرف الأيديولوجي التي نعانيها.. ذلك الملمح الإضافي الذي أعنيه هو انعدام، أو فلنقل نٌدرة، الاعتدال في الآراء والمواقف. فعلى أي خط متواتر يمتد من أقصى اليمين المحافظ إلى أقصى اليسار الشيوعي، أو من أقصى الثيوقراطية السلفية إلى أقصى العلمانية العلمية الملحدة، أو حتى من أقصى الانتماء لـ "الوطني" أو لـ "الأهلي" أو لـ "جروب محبي نجم الجيل تامر حسني" إلى أقصى الانتماء لـ "الغد" أو لـ "الزمالك" أو لـ "محبي الهضبة الكينج عمرو دياب"،، على أيٍ من تلك الخطوط المتواترة، وغيرها، التي يقف دائماً نقيضان على طرفيها المتنافرين فإنك نادراُ جداً في أيامنا هذه ما تجد هنا أو هناك منتمياً متحمساً ذا مزاج معتدل وآراء متوازنة غير حادة وغير ميالة لممارسة الإقصاء والاستعلاء والسخرية المفرطة والتحقير على من هم على الطرف أو النقيض الآخر. لا تصدقني؟ حسناً، ادخل على أي منتدى حواري إلكتروني أو على أي جروب من جروبات الفايسبوك يناقش أي قضية في أي مجال، أو اذهب إلى أحد المقاهي الثقافية التي يكثر بين مرتاديها الناشطون محبو الحديث المستفيض في أي مجال من المجالات بوسعك تخيله، من السياسة إلى الكرة، ومن الأديان إلى الفنون.. حاول وابحث وناقش بنفسك، وسوف لن تجد صعوبة تٌذكر في العثور على عشرات ومئات وآلاف اليمينيين المحافظين الذين يرون – ضمن ما يرون – أن الفقراء لا يستحقون من المجتمع أي مساعدة أو نظرة عطف أو محاولة لدفع مسببات الفقر المجتمعية المصطنعة عنهم وأن أمريكا لها مطلق الحق في أن تغزو ما تشاء من الدول وأن تغير أنظمتها الحاكمة طالما كان ذلك يخدم المصالح العليا الأمريكية؛ وسوف لن تجد صعوبة تٌذكر في العثور على نظرائهم في التطرف من اليساريين الشيوعيين الذين يرون أن الدولة عليها أن تؤمم كل الممتلكات الخاصة وأن تمنع القطاع الخاص الاستغلالي الأناني من اللعب بمقدرات ومصالح الناس ومن استغلال القوى العاملة والتنكيل بها والذين يرون أن الحزب الشيوعي الأوحد ذي الممارسات السلطوية القمعية التي تضع مصحلة الجماعة فوق مصلحة الفرد لحد إفناء الأخيرة تماماً هو الحل لكل مشاكلنا ولكل التشوهات السوقية التي نعاني؛ وسوف لن تجد صعوبة تٌذكر في العثور على نظرائهم من المتطرفين الذين يرون أن الحزب الوطني هو أفضل الأحزاب المصرية والوحيد بينها الذي يستحق وصف "حزب" وفقاً للتعريف الأكاديمي السليم، أو الذين يرون أن أيمن نور هو السياسي الوحيد الشريف في مصر حالياً وأن كل من بخلافه هم مجرد لصوص ومدّعين، وبالتأكيد لن تجد صعوبة تٌذكر في العثور على عشرات ومئات وآلاف من الناشطين الذين يرون أن المجتمع كافر كفراً مطلقاً ولابد من إبادة الأغلبية الفاسدة فيه عبر العمليات "الاستشهادية" الموصلة يقيناً إلى الحور العين أو الذين يرون أن الأهلي لا يفوز بالبطولات إلا بدفع الرشى للحكام أو الذين يرون أن تامر حسني ما هو إلا قرد وقزم مقارنة بعمرو دياب، والعكس بالعكس طبعاً، ... الخ الخ الخ. سوف لن تجد أدنى صعوبة في العثور على المتطرفين على هذا الجانب (أقصى يمين الخط الأيديولوجي المتواتر، أي خط) أو ذاك (أقصى يسار الخط، أي خط)، ولكنك ستجد كل الصعوبة، وأشد الصعوبة، في العثور في أي نقاش أو ملتقى أو ساحة أو مجال ولو على عدد أصابع يديك فحسب من المعتدلين الوسطيين الذين لا يرضيهم أن يحبسوا أنفسهم في قبوٍ فكري عقائدي مظلم على هذا الطرف الأقصى أو ذاك لا يتيح لهم فرصة استنشاق هواء النقاش الحر والقدرة على رؤية كيف يفكر الآخر ولماذا يفكر على ذلك النحو ويؤمن بالتالي بتلك العقائد المختلفة عما يؤمنون هم به. نعم، وللأسف من جديد، الاعتدال والوسطية أصبحا بدورهما من العملات النادرة في حياتنا الثقافية المعاصرة، والغالب على الأمور لدينا أصبح التشدد لطرف أقصى أو لنقيضه في كل قضية من قضايا العقل والرأي والميول والتعبير. وبطبيعة الحال، فالعلاقة بين الآفة الثقافية والمجتمعية الأولى (انعدام التسامح) والآفة الثانية (انعدام الوسطية) هي علاقة طردية مباشرة بشكل مؤكد، بل ويمكنني الزعم بأنها علاقة تبادلية تمضي دائماً في اتجاهين ذهاباً وإياباً: فلولا تطرف آرائي وانعدام خصلة الوسطية فيّ لما كنتُ عديم التسامح مع الآخر ومع آرائه، ولولا أنني بطبيعتي ميال إلى الصدام مع الأخر والتحقير من شأنه وادعاء أنني على صواب مطلق وهو دائماً في ضلال مبين لما كنتُ قد ارتضيتُ لنفسي السُكنة كالجهلاء في حارة قذرة على أقصى يمين الطريق العام أو أقصى يساره فلا يتسنى لي الاطلاع إلا على جانب واحد فقط أو قدر يسير جداً من الصورة الكاملة لمجريات الأمور ومستجداتها.

* * *

كنتُ أفكر منذ نحو أسبوع في الأسباب التي أوصلتنا إلى تلك الهاوية العقلية الكريهة أو إلى ذلك التردي الفكري القميئ، فوجدتني أخطُّ بشكل تلقائي على مفكرة صفراء صغيرة من نوع "ستيكي نووتس" كانت أمامي على سطح مكتبي (الحقيقي، لا الإلكتروني!) نقاطاً تلخص بعض الأسباب التي دفعتنا وتدفعنا – في رأيي – إلى حالة التطرف الحاد والتطرف المضاد الأكثر حدة تلك التي بسببها بتُّ أكره خوض النقاش، أي نقاش، مع غير أعضاء فئة محدودة جداً من الأصدقاء الذين أحترم عقلياتهم وفي نفس الوقت – وربما كان ذلك هو الأهم – أثق في اعتدالهم وتسامحهم. فماذا كانت تلك النقاط التي خططتُها على تلك الورقة الصفراء؟

بحد أدنى من التنقيح الذي لم يستهدف سوى جعل الأفكار المخطوطة على الورقة الصفراء بعشوائية وارتجال من يكتب لقارئ واحد فحسب (هو نفسه) مفهومة لغير كاتبها، تمثلت تلك النقاط فيما يلي:

غياب التنشئة السياسية على يد "المطابخ السياسية" للأحزاب – حظر الممارسة السياسية في الجامعات – رد فعل محتقن وحاد لفعل محتقن وحاد، أو تطرف على مستوى الأقليات نتيجة لقمع النظام أو الأغلبية للآراء وحظرهما في أحيان كثيرة التعبير الحر عبر القنوات التقليدية المشروعة حتى وإن كان ذلك التعبير المعارض معتدلاً – الاختيار بين نقيضين كريهين، هما الفساد السياسي والرجعية الدينية، لا يفرز إلا متطرفين صغار على الأطراف – انفتاح عصر التعبير الإلكتروني على المدونات وعلى الفايسبوك والآن على التويتر وغيره ربما يكون أدى إلى زيادة الصخب وإعطاء "المايك" أو القدرة على التأثير والجذب للمتطرفين على هذا الجانب وذاك على نحو يوحي بحالة استقطاب وتطرف هي أسوأ بكثير من الأمور في الواقع – وأخيراُ: المسببات "الماكروية" أو الكليّة، مثل انحدار مستوى الثقافة وانعدام فعل القراءة خارج إطار النخبة تقريباً والاعتماد على الثقافة التليفزيونية والإلكترونية والسمعية والاستعاضة بالثقافة الدينية عن كل ما عداها بالنسبة لكثيرين، وانعدام حرية التعبير والاختلاف بمعناها الحقيقي في البيت والمدرسة والجامعة والعمل – وانتشار الفقر والبطالة والتفاوت الحاد في توزيع الدخل والثروة وفي عدالة توزيع فرص الحراك والارتقاء، بما يغذي حالة الاستقطاب ويزيدها عمقاً - ... الخ الخ الخ


ثم قمتُ بنزع تلك الورقة – بعد ان امتلأ وجهها وظهرها بالكلمات و"النقاط" – من المفكرة الصغيرة ولصقتها على غلاف كتاب قانون ظل أمامي على جانب المكتب الأيسر لنحو شهر. وبعد أن شربتٌ كوب "تانج" مثلجاً بطعم البرتقال، راودتني فكرة أنني في النقاط السابقة كنتٌ أفكر بشكل أكثر نظرية وتجريداً مما يجب وأقل ارتباطاً بالواقع العملي من الحد الأدنى الذي يجب (وحقيقة لا أدري من ذا الذي يوجب علينا كل تلك الواجبات!)، وأنني قادر على تحليل الأمور بشكل أكثر عملية وواقعية وتدليلاً بالأمثلة والنماذج التقريبية لأنني قابلتُ وعرفتُ وحاورتُ كثيرين على هذا الطرف وعلى ذاك، على الطرف الذي أنتمي أنا إلى أحد تنويعاته أو درجاته الأيديولوجية وعلى الطرف الآخر الذي لا أظن أنني أنتمي إليه. نعم، أستطيع أن أعرض لهاتين الآفتين (انعدام التسامح، وانعدام الوسطية، وخصوصاً فيما بين مثقفي هذه الأيام) بشكل أكثر وضوحاً وبتحليل أكثر واقعية وأكثر تعبيراً عن "الخبرة" لأنني - أيضاً، وفضلاً عن مقابلاتي مع كثيرين من التيارات المختلفة - كنتٌ دائماً أحب الرصد والملاحظة وحتى التدوين الموجز بعد وأثناء مقابلاتي ومحاوراتي مع كثيرين من ممثلي هذا التيار أو ذاك. أنا يساري وعلماني، وأعرف وقابلتٌ يساريين حزبيين وهواة وعلمانيين علميين ومؤمنين كثُر، والخلاصة هنا: أنني "داخلي" بين هذين الطرفين. وبالمثل، أنا أيضاً كذلك، أو أكاد أكون كذلك، بالنسبة لمن يجتذبهم نموذجي بشدة ويدعوهم إما إلى التحاور المستمر معه أو التصادم المستمر معه أو إلى السعي للتحالف معه أو السعي لإقناعه بتغيير مفاهميه وعقائده. والخلاصة هنا أيضاً أنني "داخلي" بالنسبة لكثيرين من المنتمين لطائفة الليبراليين أصحاب التوجهات اليمينية المحافظة، وأحياناً أصحاب المرجعيات الدينية المعتدلة وربما المتشددة. وسرعان ما وجدتُ صوتاً بداخلي يكاد يهتف قائلاً: "إذن فهي سيميترية للتطرف! هيكل متطرف شديد التناسق! نعم، المتطرف الليبرالي والمتطرف العلماني والمتطرف اليساري والمتطرف الديني والمتطرفة في دفاعها عن حقوقها النسوية والمتطرف في دفاعه عن حقوق جماعة الأقليات الإثنية التي ينتمي إليها ويمثلها، هؤلاء هم جميعاً انعكاسات لنفس الكائن المسخ القبيح ولكن في مرايا مختلفة. لا فرق حقيقياً أو جذرياً يُذكر بينهم جميعاً. كلهم ينطق بلسان واحد متطرف استعلائي وإقصائي ومدعٍ لامتلاك الحقيقة المطلقة، أما الاختلافات الطفيفة بينهم فلا تعدو أن تكون اختلافات في الشعارات، الممارسات، الأساليب، الأولويات، أو المظاهر.. تماماً كالسيارة تويوتا ياريس التي كان إعلانها يقول إنها من فرط سيميترية أو تناسق تصميمها قادرة على أن (تعكس عالمك). نعم، هم جميعاً كذلك، انعكاسات لنفس المسوخ في مرايا مختلفة، ولا يستطيع أن يكشف عن ذلك وأن يدلّل عليه بنماذج وأمثلة وملاحظات خبيرة إلا من كان (داخلياً) بالنسبة إليهم أو بالنسبة إلى كثيرين منهم، وأنا أزعم في نفسي ذلك".


والحق أن التفكير بمنطق الخط المتواتر ذي الطرفين النفيضين هو الذي أوحى إليّ بفكرة أو تشبيه التطرف الانعكاسي المتناسق هذا. أما عن تفاصيل ذلك التشبيه، أو ذلك النموذج، فسوف أعرضها يوم الاثنين، في الجزء الثاني من هذا المقال. ولحين نشر الجزء الثاني، سأمتنع عن التعليق على أي مداخلات أتلقاها رداً على هذا الجزء الأول حتى لا أعلق بشكل مجتزأ على مداخلات قد تكون مجتزأة بدورها لعدم اطلاعها بعد على الصورة الكاملة. لكني بالطبع أرحب وبشدة بالمداخلات على الجزءين، وسوف أعقب عليها في النهاية. وأظنني لستٌ بحاجة إلى التأكيد على أن عرضي القادم لن يكون شخصياً على الإطلاق ولن يكون محدداً أو دالاً بأكثر مما يجب (ومازال نفس تساؤلي عمن يوجب الأمور في مثل تلك الحالات سارياً!). فلستٌ أكره في الحوارات بعد التطرف وانعدام التسامح أكثر من "الشخصنة" المبتذلة.



#محمد_علي_ثابت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيميترية التطرف - الجزء الثاني
- وداعاً مروة
- ديالوج - قصة قصيرة
- لو زارني فرح ساعات
- حالاتي
- هي (قصة قصيرة)
- رهانات متفاوتة
- دفقات
- عم أونطة
- بعضٌ مما نعرفه لاحقاً
- على مُنحنى السواء
- لكُلٍّ يَمٌّ يُلهيه
- مَحْض صُدَف - قصة قصيرة
- تصرفات شتى إزاء الريح
- أقصُوصة من سِفر الإياب
- فعل الأمر في رؤيا
- فصل العلم عن الدين.. لماذا؟
- متوسط المتوسط
- حالات
- انتصار الهاء


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد علي ثابت - سيميترية التطرف - الجزء الأول